شهادات ومذكرات

ما أجمل العيش مع الكتب

دع الآخرين يتباهون بالصفحات التي كتبوها

انا فخور بما قرأته

بورخيس

في جولتي اليوم بشارع المتنبي التقيت العديد من الاصدقاء ومجموعة من الشباب العاشقين للكتب، وكان من بين الذين التقيت بهم الصديق الكاتب والقارئ الشغوف فراس زوين، وكالعادة دار بيننا حوار حول الكتب . كان الصديق فراس يشكو من الملل الذي تسببه له قراءة " البحث عن الزمن المفقود " لمارسيل بروست، كنت استمع اليه وفي الوقت نفسه تعود بي الذاكرة الى الوراء الى ذلك الشاب المتلهف لقراءة كل شيء، والذي وجد ضالته في العمل بمجلة الثقافة للراحل صلاح خالص، هناك كان يشاهد فؤاد التكرلي وجليل كمال الدين وغالب هلسا وعبد الغني الملاح، والدتورة حياة شرارة، في ذلك الوقت كنت اعاني من نفس الملل الذي اصاب الصديق فرس زوين وانا احاول حل الغاز ملحمة مارسيل بروست ، في ذلك الوقت كنت قد صممت أن اقرأ الاجزاء الخمسة من الرواية والتي كانت صادرة آنذاك دفعة واحدة، مثلها مثل الحرب والسلم او الاخوة كارامازوف، وكانت تجربة فاشلة لانني وجدت نفسي تائها، بعد اكثر من عام عدت الى البحث عن الزمن المفقود وهذه المرة، حددت لنفسي هدفًا يتمثل في قراءة خمسين صفحة في اليوم ، ووجدت ان مثل هذه القراءة  اشبه بانجاز شجعني على قراءة المزيد،  بعد ذلك اكتشفت أن أفضل طريقة لقراءة البحث عن الزمن المفقود   هي قراءتها ببطء، ولكن بصورة مستمرة من دون ان اضع أي موعد للانتهاء من الرواية . عندما يدور الحديث عن " البحث عن الزمن المفقود " كنت اتساءل :كيف استطاع مريض الربو هذا ان يجد له مكانة كبيرة في عالم الادب من خلال رواية واحدة لا تزال تُعد اشبه بلغز بالنسبة للقراء، ويقال ان قلة قليلة من القراء من واصل السير في دروب هذه الرواية حتى النهاية . وصف فلاديمير نابوكوف، البحث عن الزمن المفقود  بانها أفضل رواية في كل العصور، من خلال موضوعاتها الرئيسية وأسلوبها في تحويل الإحاسيس إلى عواطف، وتجذير الذاكرة والموجات من الرغبة والغيرة والنشوة، يكتب ناباكوف: "هذه هي مادة هذا العمل الهائل والشفاف بشكل فريد " وبالرغم من صعوبة  كتاب بروست وتعقيده، إلا أن الرواية ترجمت  إلى أكثر من 40 لغة، ولا يزال كاتبها يحافظ على وجوده بيننا بفضل القراء في جميع أنحاء العالم الذين يعودون إلى روايته مرارًا وتكرارا .

على مر السنين، نشرت العديد من الكتابات عن بروست وملحمته الروائية ، وكان هناك الكثير من القراء الذين يقولون إن بروست غير حياتهم من خلال منحهم طريقة جديدة تمل ثراءً أكثر للنظر إلى العالم، وجعل الرؤية الى الحياة مرئية، مثلما كان بروست يصف  عمل الفنان الحقيقي، في حالة بروست، أعتقد أنه يساعدنا على رؤية العالم كما هو، ليس فقط جماله الاستثنائي وتنوعه، ولكن ملاحظات الروائي تجعلنا ندرك كيف نتصور وكيف نتفاعل مع الآخرين، مما يوضح لنا عدد المرات التي نخطئ فيها في افتراضاتنا الخاصة ومدى سهولة الحصول على وجهة نظر متحيزة تجاه شخص آخر. وأعتقد أن علم النفس يجد شخصيات بروست غنية ومعقدة  مثل شخصيات شكسبير. تماما كما يصف الامر هارولد بلوم، فإن العديد من شخصيات بروست هي مخلوقات ذات "تنوع غير محدود".  يكتب الناقد الشهير جورج ستاينر وهو يضع مارسيل بروست في الطبقة العليا من الكتاب: "كان بروست الرجل الذي علق القمر من أجلي. إنه مع شكسبير استطاع امتلاك موهبة متنوعة. عندما تقرأ بروست، لبقية حياتك، يصبح جزء منك، بالطريقة التي يعتبر بها شكسبير جزءًا منك. لا أريد المبالغة، لكنني أشعر حقًا أنه الكاتب العظيم في القرن العشرين ".

كانت الروائية  دوريس ليسينج تقول، أنها تقرأ بروست "من أجل الترفيه المطلق".، وعلى الرغم من أنني كقارئ اجد أن " البحث عن الزمن المفقود " ليس عملا سهل القراءة، لكنه كما قال ناباكوف  " فعل إيماني " ،  فكرت في مرات كثيرة التخلي عن مشروع قراءة " البحث عن الزمن المفقود"،  اعتقدت أنه بإمكاني قراءة الكثير من الكتب الأقصر والأكثر إمتاعا في الوقت الذي اقضيه مع هذه الرواية الطويلة ، وكنت أسأل نفسي باستمرار: ما الهدف من كل هذا؟  وكان هذا السؤال يرافق بروست اثناء كتابة الرواية  حيث كرس رسائل لا نهاية لها والعديد من المقابلات الصحفية لدحض منتقديه وشرح الحلقات التي ما زالت قادمة . لكنني أصررت وفي النهاية، كنت ومازلت ممتنا لارادتي التي  أتيحت لي الفرصة لقراءة الرواية كاملة . عندما وصلت إلى نهاية الجزء السابع " الزمن المستعاد " وانا اقرأ الجملة الاخيرة من الرواية " أن الازمنة التي عاشوها متباينة جدا، وتخللتها ايام وايام عبر الزمن "، سقطت جميع قطع اللغز، وقدم بروست نهاية تستحق كل هذا العناء .

فتحت قراءة بروست عيني : لن أنظر أبدًا إلى الاشياء  والناس بنفس الطريقة مرة أخرى . لن أفكر أبدا في الحب والوقت والذاكرة بنفس الطريقة مرة أخرى. وكان الكاتب الفرنسي يطل برأسه بين الحين والاخر  من خلال مؤلفين اختلفت ثقافاتهم وجنسياتهم ،مرة عند الروسي نابوكوف واخرى مع الياباني موراكامي وومرة مع التشيكي كافكا، والكولمبي غابريل غارسيا ماركيز والفرنسي باتريك موديانو، او مع النرويجي كارل أوف كناوسجارد،  لقد استطاع بروست ان يضع نصه بجدارة داخل المشهد الثقافي العالمي، وان يحطم ذكريات الطفولة ويتأمل في شأني الأدب والزمن، ليحاط بحشد من المعجبين لم يتوقفوا في دفاعهم عن الجملة البروستية الطويلة، فيما واصل بروست ملاحقة الذين يخافون الاقتراب من روايته،  مثل كابوس مؤرق.

كان ارسطو يردد بان القراءة توقظ داخل القارئ ما لايعرفه سابقاً في الحياة، ولهذا نجد ان قدر بعض الكتاب هو الاضطلاع بعبء الكشف عن دور الذاكرة في حياتنا . لعل من اكثر الاجزاء الملفتة للانتباه في رواية بروست هو ما يكتبه عن الذاكرة، حيث تذكر رواية مارسيل بروست نوعين من الذاكرة " الذاكرة الطوعية " وهي ما نتحكم نحن باختيار تذكرة مثل ما تناولناه على الغداء بالأمس " و" الذاكرة اللا إرادية " وهي اشياء تنعشنا فجاة من دون انذار وتكون صادمة وتأتي بقوة بحيث تجعلنا نتوقف للحظة قبل ان نكمل مسارنا .

لدى بروست مقطع شهير يتذكر فيه " كعكة مادلين " الفرنسية على الشاي، وبينما ينذوق الكعكة يتم نقله الى الحياة الماضية، ويختفي الواقع مثل نقلة مفاجئة في مشهد فيلم، كما يكتب " ذابت حالات الوعي الأخرى واختفت " وعاد فجاة إلى الوقت الذي كان فيه مع عمته يأكل الكعك نفسه ويشرب الشاي نفسه

يخبرنا بروست ان كعك مادلين هذا لم يُذكره بشيء قبلأ يتذوقه . بروستمثل اي شخص، ليس لديه اي سيطرة على اللحظة وعلى كيف ولماذا يحدث هذا، نعلم جميعنا الاندفاع الشديد للذاكرة اللا إرادية التي تخترق عقولنا . كلما كبرنا، ومضت الحياة يبدو الأمر لو أن وقتنا على الارض يتكون من سلسلة من الحلقات وليس فيلما موحدا احداثه مترابطة . يمكن أن تبدو ذكرياتنا عن حياة طفولتنا أو أيام شبابنا وكأنها اليوم مجرد ذكريات شخص غريب، وليست ذكرياتنا، عندما تظهر هذه الذكريات اللا إرادية فإنها تشبه شبح شخص آخر يأتي إلى ذكرياتنا.

يتالف عمل بروست من اشياء كثيرة، ولكن الشعور بالشفقة والحنين الى الماضي هو بالتاكيد العنصر الأكثر صدى بينها . تمضي الحياة، ونمضي قدما والاشخاص الذين نتركهم وراءنا مثل الغرباء الذين نقرا عنهم في الكتب .

دائما ما يتم الربط بين رواية مارسيل بروست وفلسفة هنري برغسون عن الذاكرة،  عندما بدأ بروست الكتابة كان برغسون المولود عام 1859 من ابرز الفلاسفة الفرنسيين، وكان الطلبة يستمعون باهتمام بالغ إلى دروسه  عن " التطور الخلّاق"، و" المادة والذاكرة " ، وكتبه تباع بشكل جيد وتقرأ في المقاهي والمنتديات الادبية، وكان بروست واحدا من الأدباء الذين ادهشتهم فلسفة برغسون، وكان يبدو قلقا من تاثير برغسون الكبير عليه، حتى انه يكتب في احدى رسائله : " لقد بذلت قصارى جهدي لأحول دون تحويل فلسفة برغسون إلى رواية!"، لكنه لم يكن قادرا على مقاومة اغراء كتاب " المادة والذاكرة "  . كان الفيلسوف الفرنسي الشهير يرى أن الذاكرة ليست ظاهرة فسيولوجية، بل ظاهرة نفسية تعبر عن صميم حياتنا الشعورية، فيميز بين نوعين من الذاكرة: الذاكرة الطوعية، والذاكرة اللا إرادية، فالذاكرة الاولى مكتسبة بالتكرار، ولها جهاز محرك في الجهاز العصبي، وتلك هي الذاكرة التي تَّنصب على الفعل، وهي تستعيد الماضي بطريقة آلية بحتة،.أما الذاكرة اللا إرادية  فهي تختزن الماضي كله، وتحيا في ديمومة مستمرة، إنها " الأنا العميق "، ذاكرة النفس، وهي تصور حادثة انطبعت في الذهن دفعة واحدة، واحتفظت بخصائصها وتاريخها.

كما اهتم برغسون بموضوعة الزمن وهو يقول : " ماذا عسانا أن نكون في الواقع، أو ماذا عسى أن يكون طبعنا، إن لم تكن تلك الحصيلة المركزة التي تجمعت من تاريخ حياتنا السابقة، منذ ولادتنا حتى الآن، إن لم نقل قبل ولادتنا، مادمنا نحمل معنا ميولا وراثية أو استعدادات سابقة على الولادة ؟ " ثم يستطرد قائلا: " صحيح أننا لا نفكر إلا بجزء ضئيل من ماضينا، و لكننا نرغب، و نريد، و نعمل، بماضينا كله، مع ما ينطوي عليه من اتجاه أصلي قد اتخذته نفوسنا منذ البداية. و إذن فإن من شأن ماضينا أن ينكشف لنا بأكمله من خلال قوته الدافعة على شكل ميل أو اتجاه، ولو أن جانبًا ضئيلًا منه فقط هوالذي يستحيل إلى تصور عقلي " – المادة والذاكرة ترجمة أسعد غربي - . ولكن برغسون لا يقتصر على القول بأن :" من شأن الماضي أن يظل حيا باقيا في الحاضر، بل هو يقرر أيضا أن من المحال الشعور أن يمر بنفس الحالة مرتين، وذلك لأنه مهما تكن الظروف متشابهة، أو مهما تكن الملابسات واحدة، فإنها لاتؤثر مطلقا على شخصية واحدة بعينها، مادامت تعرض لها في لحظة جديدة من لحظات تاريخها. و لما كانت شخصيتنا في تكون مستمر، لإنها تبني ذاتها في كل لحظة، مستعينة بما تجمّع لديها من تجارب، فإن شخصيتنا في تغيّر دائم دون أدنى توقف أو انقطاع. و هذا هو السبب في أنه لا يمكن أن تتكرَّر في أعماق شعورنا حالة نفسية واحدة، حتى لو بَدَا لنا ــ لأول وهلة ــ أننا بإزاء ظاهرة واحدة بعينها"  – زكريا ابراهيم دور الزمان في حياة الانسان  مجلة الفكر المعاصر -

لعبت كتابات هنري برغسون عن الزمن، دورا كبيرا في التاثير على تيار الوعي في الادب الحديث، وكان من ابرز من تاثر به مارسيل بروست حيث يؤكد نقاد الادب إن “ البحث عن الزمن المفقود”، رواية بروست الأساسية، ليست في نهاية الأمر سوى تطبيق أدبي لنظرية برغسون حول مفهوم الزمن.

بعد ان انتهيت من الحوار الممتع مع الصديق فراس زوين اقتنيت كتاب ممتعا بعنوان " " ما أجمل العيش من دون مكتبة " لم اصبرفقررت ان اقرأ الصفحات الاولى منه في مكتبة المدى، حيث جلست في زاوية لاستمتع بحديث عن الكتب والمكتبات التي كتب عنها بورخيس يوما بان الجنة ينبغي أن تكون مكتبة ضخمة .. مكتبات .. مكتبات هكذا يصرح مؤلف الكتاب الاسباني ثيسار انطونيو مولينا الذي يقول ان القراءة التي لن تتخلى عن الازدهار هي القراءة النقية الملخصة للحرية " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم