شهادات ومذكرات

خزعل الماجدي.. غواص في الفكر الديني

يعد الباحث العراقي خزعل الماجدي، واحدًا من أبرز المفكرين العرب، وهو مشغول بكيفية تشكل العقل الشرقي، لذا يبحث دائمًا في أصوله، الأساطير والأديان والحضارات، فهو يتقصى جذوره الأسطورية وبنيته الدينية وتشكّلاته الحضارية التي عرفتها المنطقة، يبرزها ويحلل ما فيها من معلومات، ويخرج بنتائج صادمة في أغلبها.

وعندما يُذكَر اسم الباحث الكبير، الدكتور خزعل الماجدي في مجالس الفكر، تخطر في بال المتخصصين بحقول عدة؛ الكثير من التساؤلات للحصول على إجابات متعمقة وشافية في مجالات اشتغل عليها الماجدي خلال سنين طوال، لا سيما في تخصص علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، فضلا عن كونه شاعر وكاتب مسرحي متفرد بنتاجاته. كل منتج فكري للماجدي هو بمثابة “موسوعة” بحالها.

بخطوات مدروسة، شق الدكتور الماجدي حياته نحو الإبداع منطلقا من الشعر ليغوص بعالم الحضارات والأديان والميثولوجيا، ولم يترك للفن والمسرح فرصة الهرب من تحقيق نجاحاته المبهرة، حتى بات اليوم ثروة فكرية كبيرة.

وخزعل الماجدي، باحث عراقي في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، وشاعر وكاتب مسرحي ولد في كركوك عام 1951. أكمل دراسته في بغداد، وحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم من معهد التاريخ العربي للدراسات العليا في بغداد عام 1996. عمل مديراً للمركز العراقي لحوار الحضارات والأديان في العراق ما بين 2004 - 2006، وما بين عامي 2007- 2014 حاضر في جامعة "لايدن" بهولندا، وعمل في عدد من الجامعات المفتوحة في هولندا وأوروبا، وهو يدرِّس تاريخ الحضارات والأديان القديمة.

ألف مجموعة كبيرة من الكتب في الميثولوجيا والتاريخ القديم والأديان القديمة والشعر والمسرح وتاريخ الأديان وعلم وتاريخ الحضارات، ونذكر منها مثلاً: سفر سومر، حكايات سومرية، ومثلوجيا الأردن القديم، ، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، جذور الديانة المندائية، الدين السومري، بخور الآلهة: دراسة في الطب والسحر والأسطورة والدين، متون سومر: التاريخ. المثولوجيا. اللاهوت. الطقوس، إنجيل سومر، إنجيل بابل، الآلهة الكنعانية، الدين المصري، المعتقدات الآرامية، المعتقدات الكنعانية، موسوعة الفلك في التاريخ القديم، مثلوجيا الخلود: دراسة في أساطير الخلود قبل وبعد الموت في الحضارات القديمة، المعتقدات الأمورية، أدب الكالا.. أدب النار/ دراسة في الادب والفن والجنس في العالم القديم، المعتقدات الإغريقية.. وهام جرا.

وفي تلك الكتابات تمكن خزعل الماجدي من أن يلقي الضوء على بعض من أفكاره النيرة في الميثولوجيا وتاريخ الأديان؛ فمثلا فيما يخص الحضارة وأصولها قال خزعل الماجدي: لقد صحّح العلم المعادلات الخاطئة في السحر والدين. وذلك بالاعتماد على أن هناك نوعان من المعرفة. الأولى معرفة حدسية لا تقوم على التجربة والاستدلال بل على الظن والاعتقاد، أنتجت “السحر والدين والفلسفة”، وحين ظهرت الفلسفة في الأديان التوحيدية، واجهها رجال الدين والفقهاء بقوة وحاولوا طردها من ساحتهم؛ لأنهم يعرفون أنها قد تؤثر على المتدينين وتحرفهم عن الدين. حصل هذا بقوة في كلا الدينين المسيحي والإسلامي.

وقد سئل خزعل الماجدي حول مصدر الأديان في المنطقة العربية، فقال بأن “المبدأ واحد في جميع الأديان، لكنه كان متعددا في الأديان القديمة، وواحدا في الأديان التوحيدية. ثم أن مصدر الأديان الأول قبل الأديان القديمة والوسيطة، كان في عصور ما قبل التاريخ، في العصرين الحجري الحديث “الماترياركية” والعصر الحجري النحاسي “الباترياركية”، ثم سارت الأديان على النهج “الباترياركي” حتى يومنا هذا.

وبشأن مستقبل الأديان، يبيّن الدكتور الماجدي، أن التوترات الأيديولوجية الحالية في الأديان ستخفّ في المستقبل، ولن يجد أصحاب التشدد السلفي لهم مكانا بعد قرن من الزمان مثلا، ولذلك سيضطر الجميع للتخلي عن هذا التشدد ويلجأ لإصلاح الدين روحيا، وهنا يقول: تتمتع الديانات القديمة بالتسامح على عكس الديانات الإبراهيمية التي احتكرت الله ونشأت الحروب في عصرها، والسبب لأن الديانات القديمة قومية الطابع، وكل شعب مسؤول عن دينه ولا علاقة سلبية له بالآخر، وهكذا تعايشت الأديان بقدر تعايش الشعوب ولم تنشأ حروب بين الشعوب لأسباب دينية".

ثم يردف الدكتور الماجدي ، أنه في ذلك الوقت سيكون غير المتدينين قد أنتجوا فسحة للنزعات الروحية الجديدة “كاليوغا والموسيقى والرياضة والشعر والفن”. حينها سيكون هناك تفاعل وارد بين الروحانية الدينية والروحانية اللا دينية، وسيجعل المستقبل أكثر قبولا بالروحانيات عموما، ومنها التصوف والغنوصية.

كما يشير إلى أن الأديان الإبراهيمية، وخصوصا المسيحية والإسلام، أديان شمولية تبشيرية تريد أن تُلغى الأديان التي قبلها وبعدها وأن تكون هي البديلة عنها، وهذا سبب كاف لنشوء التوتر والحروب والنزاعات والغزو باسم الدين.

ويعتبر الماجدي بأن المسيحية والإسلام تصادما ببعضهما بسبب هذا التنافس وتحاربا بأعنف الحروب -أشهرها الحروب الصليبية-. لا بل أن المذاهب التي نشأت في كلا هذين الدينين، كانت سببا لحروب ومعارك طاحنة، فهل هناك أدلة أكثر من هذه؟.

في كتاب "الدين المصري" يبيّن الماجدي، أن أى دين يتكون من مكونات أساسية هي "الأسطورة والمعتقد والطقس"، ويؤكد أن هناك أساطير كثيرة جدا في الإسلام، و"هذا يشمل جميع الأديان حتى الحديثة منها، والأساطير الإسلامية موجودة في كل الكتب الإسلامية وكتب التاريخ وقصص الأنبياء المعروفة، لكن الأساطير لم تعد عن الله لأن الله أصبح واحدا بعيدا ولا قصص أو حكايات عنه".

وفيما يخص صراع الأديان، يقول الماجدي إنه قائم منذ العصر الوسيط وإلى يومنا هذا، وهو ليس الأبرز في عصرنا، بل هناك اليوم صراع ثقافي واقتصادي وإعلامي وعسكري وسياسي… الخ، ويضيف بالقول "في مناطقنا الإسلامية يعمل صراع الأديان بشكل أقوى من غيره من الصراعات؛ لأن الأيديولوجيا الدينية هي المسيطرة على الدين الإسلامي بشكل خاص؛ ولأن الإسلام اليوم مصاب بداء الإسلام السياسي، ولذلك يجب أن ينشط الجانب الروحي فيه بشكل أقوى ليكون الصراع أقل"، بحسب الماجدي.

وفيما يخص الفرق بفكرة الخلود بين الحضارتين الرافدينية والمصرية، يوضح خزعل الماجدي، أن الخلود قبل الموت والبحث عنه، كان واضحا وجليا في تراث وادي الرافدين، أما الخلود بعد الموت والاستسلام له فى حياة الآخرة فواضح وجلي  في تراث وادى النيل، أي أن الخلود قبل الموت كان هاجسا ملحا عند العراقيين القدماء ولكنهم اعترفوا بعجزهم شبه الكامل عن الحصول عليه ولذلك اخترعوا بدائل جزئية عنه كالمعرفة والتكاثر والسم والشفاء.. إلخ.

وحول حقيقة الموت سئل الماجدي : كيف تعاملت الشعوب القديمة مع الموت وواجهت تداعياته عليها؟

فأجاب الماجدي قائلاً: كان الموت هو السؤال الأول في الدين، بل إن الهاجس الديني عند الإنسان ابتدأ بالموت؛ فمنذ العصر الحجري القديم والأوسط ظهرت مدافن الإنسان وقبوره وظهر معها السؤال الديني، واستمر في كلّ عصور ما قبل التاريخ. لكن الشعوب التاريخية القديمة طرحت الموت كموضوعٍ للتقصّي والبحث، فرأت أنّ الآلهة لا تموت، وأن الموت مرتبط بالإنسان والكائنات الحيّة فقط. وتفاوتت الديانات القديمة في معرفة طبيعة الموت، فالسومريون رأوا أن الروح تخرج من جسد الإنسان وتذهب إلى العالم الأسفل الذي هو تحت القبر، وتنحبس هناك بلا حساب ولا ثواب ولا جنة ولا نار. أما الجسد، فيتحول في القبر إلى تراب. أما المصريون القدامى، فقد رأوا عكس ذلك تماماً، فهم يعتقدون أن الجسد والروح يذهبان معاً إلى عالم آخر اسمه (دوات)، وهناك يجري وزن الروح بريشة العدل (ماعت)، فإذا كانت الروح خيرة فستذهب إلى حدائق أوزيريس. أما إذا كانت الروح مخطئة، فستذهب إلى عالم الجحيم المليء بالنار والأفاعي. وتؤمن الديانة الهندوسية بتناسخ الأرواح بعد الموت إلى حين تصفية أخطائها، ثم تعود إلى الهيئة البشرية. ويؤمن أتباع الديانة البوذية بدورة الموت والولادة بعدها باستمرار، حتى يعي الإنسان حقيقة الوجود بشكل كامل.

ويستطرد الماجدي فيقول : في الصين لم يبالوا كثيراً بعالم الموت، فقد كان كونفوشيوس يقول: "الإنسان لا يعرف ولا يفهم الحياة فكيف سيعرف أو يفهم الموت؟". ومثله، تقريباً، كان لاوتسي يقول: "الموت لا يفهم الحياة، والحياة لا تفهم الموت، المستقبل لا يفهم الماضي والماضي لا يفهم المستقبل، فلماذا سأفكر إذا كنت أنا أو السماء والأرض إلى زوال؟"... أما الديانات التوحيدية، فتؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، وتعتمد على الإيمان والأعمال التي قام بها الإنسان خلال حياته؛ حيث ينال النار عقاباً، أو الجنّة ثواباً.

تحية طيبة للدكتور خزعل الماجدي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

***

أ.د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

.....................................

المراجع

1-على الكرمني: خزعل الماجدي في حوار خاص لـ”الحل نت” حول تاريخ الأديان والحضارات القديمة والمسرح والشعر، تم النشر : 6:45 م, الأثنين, 12 سبتمبر 2022.

2- عبد اللطيف الوراري: حوار مع الكاتب والباحث العراقي خزعل الماجدي، مؤمنون بلا حدود ، 27 يناير 2023.

3-مؤلفات خزعل المادي عبر الإنترنت.

 

في المثقف اليوم