شهادات ومذكرات

شطحات إبن عيدان

المكان: مقهى الروضة.

الزمان: ثمانينات الشام المنصرمة.

الواقعة: لها أصل وجذر وفسحة واسعة من الخيال.

إبتدأت الحكاية من سطح منزل أحد اﻷصدقاء. فمع حلول ساعة اﻷصيل إعتدنا أن نتجه في أكثر اﻷحيان صوبه، متخذين منه مزارا وملتقى، بسبب قربه من بيوتنا ولسعته كذلك وسخاء وكرم ساكنه. نخوض خلالها ما يحلو لنا من الكلام. يتراوح في جلّه بين تداعيات الماضي الذي تركناه هناك والذي نجزم بأنه كان جميلا وهو حقاً كذلك، وبين الضحكة والمزحة وما تطيب له الخواطر وتأنس، أو لنقل هكذا أردنا ﻷماسينا أن تكون. هادفين التقليل ما إستطعنا من وطأة غربتنا التي طال أمدها كثيرا في مقاييس تلك الحقبة من الزمن، حيث كان وقعها ثقيلا بل ثقيلا جدا علينا، لا سيما وان أعوادنا لم تزل بعد طرية، غضة، سهلة الكسر، إذ لم نكن بعد من الجَلَد والقوة لنستعين بهما على الصبر والتحمل، وأن نقوى على ما حلَّ وآل بنا اﻷمر.

في إحدى اﻷماسي وعلى نحو غير متوقع ومن بين ما عَلِقَ في ذاكرتي، ما كان قد أتى عليه أحدنا من موضوع مثير للغرابة حقا، وعلى صلة بعنوان أحد الكتب، ذُكِرَ إسمه عرضاً، أسوة بغيره من الكتب التي عادة ما كنا نستعرضها، تزجية للوقت. ظنناه سيطوى بفض الجلسة كما كانت تطوى مثيلاته. غير أنَّ اﻷمر هذه المرة وللأسف لم يكن كذلك، فالقصة ستتفاعل وتأخذ بعدا آخر، لا يخلو من حرج لنا ولمضيفنا من قبلنا، وسيمتد وينتقل الحديث عن ذات الموضوع الى اليوم التالي، حيث إحدى المقاهي التي إعتدنا إرتيادها. أمّا ما الذي جرى هناك، فأليكم الواقعة:

معذبو الأرض لفرانز فانون، هذا هو إسم الكتاب الذي كان موضع خلافنا وحديثنا وأثار كل تلك الضجة، يوم كنّا في سطح المنزل إياه. وإذا كانت أحاديث اﻷمس قد دارت حوله دون أن نراه فهذه المرة سيختلف كثيرا ليأخذ منحى آخر، فصاحبه لم يكتفِ بالتطرق اليه كما جرى في اليوم السابق فحسب، بل أشفع قوله بعرضه على الحاضرين، مضيفا بأنه لم يحصل عليه الاّ بشق اﻷنفس. وفي اللحظة التي أنهى بها كلامه وإذ باﻷيادي تتلقفه وتتناقله فيما بينها بسرعة مذهلة، ربما كان ذلك بدافع الفضول أو هو تصرف أراد الجلاس ممن كانوا متحلقين على طاولة واحدة، إظهار مدى إهتمامهم بشأن كهذا، لا سيما وان المقهى الذي عادة ما يلتقون عنده، إعتاد الناس على تسميته بمقهى المثقفين، إتساقا وطبيعة رواده، حيث كانت نخبة منهم وكعادتهم وفي أوقات الظهيرة وما بعدها، أن يتخذوا من أحد أركانه البعيدة نسبيا عن المارة والضوضاء وعن ازعاج روادها، مجلسا لهم.

أخيرا وبعد أن دار الكتاب دورته، وإذ به يستقر بين يدي إبن عيدان ومن هنا ستبدأ الواقعة الكبرى التي لم نكن نتوقعها، حيث سَيُقدمُ الرجل وبحركة مباغتة على سحق سيكارته بقدمه اليمنى وهي لم تزل بعد في ربعها اﻷول، وهذا لعمري ما لم يقم به من قبل، لما لها من قيمة ودلالة ونشوة طقس. ثم ألحقها بحركة أخرى أكثر تعبيرا، حيث وقف وعلى طول قامته الفارعة، قاسما باغلض الإيمان وأقدسها بأن هذا الكتاب يعود اليه.

وزيادة في التأكيد وبهدف إقناع الحاضرين، فقد زعم بأنه كان قد اصطحبه معه ويقصد الكتاب إياه، في مسراته وأكثرها في أوجاعه، متسللا وعابرا به كل نقاط التفتيش وعيونها، ليظل برفقته مذ غادر بغداد وحتى فقدانه له، أمّا كيف إختفى وتوارى فهذا ما لا يستطيع القطع فيه. ثم راح مكملا: المهم بالنسبة لي وفي لحظات كهذه والتي أقَلُّ ما يمكن وصفها بالسعيدة والمفاجئة كذلك، أن عاد لي صاحبي، معافى الاّ من بعض خطوط وإشارات وطويات، كانت قد طالت بعض صفحاته، وهذا أمر سهل تجاوزه ويمكن جبره.

ردات فعل صاحب الكتاب أو لنقل مَنْ جاء به، والمفترض أن يكون هو مالكه وهو مَنْ قام بعرضه على الحاضرين، لم يلتفت اليه إبن عيدان، كما تقتضي اﻷعراف وشروط اللياقة، بل حتى ذهب أبعد من ذلك، حين شرع بتقديم عرضا ملخصا لما يحتويه، مستعينا بفهرسه، مقلبا صفحاته بشوق ولهفة، مركزا على تلك الفصول التي من الممكن إذا ما جرى الإلتزام بها على حد قوله، أن تؤدي دورا مهما، سيُسهمُ وبما لا يدع مجالا للشك والإجتهاد، في شحذ همم وتحريض وتعبئة أبناء العالم الثالث، ممن لا زالوا قابعين تحت سطوة قوى الشر والإحتلالات وسطوة الإمبريالية العالمية، وصولا الى تحقيق النصر الناجز لثورتهم، والتي كان من نتائجها على سبيل المثال أن قطف الشعب الجزائري ثمار نضاله، يوم توَّجها بطرد المحتل الفرنسي وليقرر مصيره بنفسه وإعلان الجزائر دولة حرة مستقلة، عربية الهوى والهوية والإنتماء(راح إبن عيدان مركزا على العبارة اﻷخيرة، واقفا عندها، حتى بدا كمن تَعَمَّدِ الكشف عن ميوله وإنتماءه السياسي والإديولوجي).

وإذا كان لنا من تشبيه ووصف لحالته لحظتذاك، فهو يذكر بأجواء تلك الإحتفالات المركزية التي كانت تقيمها اﻷحزاب (الثورية) من على منصات، تنصب خصيصا لمناسباتها، سواء القابضة منها على السلطة أو تلك التي لا زالت في منفاها الإضطراري. وعلى هذا المنوال والحماس راح إبن عيدان، مواصلا كلامه، مكرره: أمّا كيف فقدته وضاع فتاالله وبالله لست ادري، المهم فها هو الآن يعود من جديد، وفياً كما عهدته.

علامات الدهشة والذهول بدت جلية على محيا الحاضرين، مستغربين كلام إبن عيدان وما رافقه من إستعراض ملفت للنظر وربما مبالغ فيه ومفتعل، لم يراعِ فيه بعض الإعتبارات. المثير للغرابة أيضا أن صاحبنا لم يكتف بهذا العرض والخطبة العصماء التي قدمها، بل راح مضيفا عليها بأنه لم يقرأ اي كتاب منذ عام ١٩٦٧، أي منذ عام الهزيمة وحتى الآن. الإضافة اﻷخيرة وبإعتراف صريح كهذا، لم يكن مقنعا للحاضرين، ولم يجدوا له من علاقة تُذكر بالكتاب الذي هو حديث ساعتنا، لذا وعلى ما خلصوا اليه لا يمكن تصديق ما يدعيه، فالرجل يعد وبمقاييس معينة قارئا جيدا ومتابعا وملما إلى حد بعيد بالشأنين الثقافي والسياسي، هذا إن إستثنينا إهتمامته اﻷخرى وبشكل خاص صلته بالشعر الحر، وقدرته على كتابته، بالفصحى والعامية، وعلى طريقة وخطى الحاج زاير التهكمية في بعض من أغراضه ومفاصله. خلاصة القول فقد أخذنا ادعاءه هذا نحو من الدعابة التي عودنا عليها، آملين تجاوز هذه اللحظة الحرجة على خير.

غير أن القصة لم تنتهِ بعد، فصاحب الكتاب من جهته لم يَعُر للأمر كثير إهتمام، ولم تنفع معه أو تليّن من موقفه الثابت والراسخ حتى اللحظة كل مزاعم إبن عيدان وحركاته، والتي أراد من خلالها على ما يبدو ممارسة أقصى درجات الضغط والتأثير، من أجل إستعادة ما أسماه كتابه.

هنا بادر أحد الحاضرين بفكرة، سعى من خلالها حل الإشكال الحاصل، غير انه لم يوفق ولم تفضِ محاولته الى تسوية مرضية للطرفين، ولتنتهي الواقعة بتشبث مَنْ أتى بالكتاب بكتابه، معتبرا إياه بأنه (ملكاصرفا) له، وسوف لم ولن يحيد أو يساوم على ذلك أبدا. ثم راح مضيفا قولا آخر، ربما كان سببا في إثارة حفيظة غريمه: ليذهب إبن عيدان الى الجحيم، ويكفينا شَرّ تصرفاته هذه، وكاد أن يضيف عليها كلاما أكثر إيلاما وأمضى، الاّ ان الكلمة الفصل كانت للحاضرين، ولينفرط من بعدها عقد الجلسة ويذهب الجميع الى حال سبيله، بعد أن خَيَّم جو من الضغينة والتوتر. ومما زاد من قلقهم، ما يمكن أن تُنذر به القادمات من اﻷيام، فقد تحمل معها من المفاجئات ما لا تسر أحدا.

وهذا ما تحقق فعلا، فقد إنتشرت بين أوساط رواد مقهى الروضة وعلى نحو واسع وبعد مضي عدة أيام على تلك الواقعة، إحدى القصائد التي لا يشك أحد بأن كاتبها ومروجها هو إبن عيدان، إذ هي تحمل ذات اﻷسلوب واﻷفكار بل وحتى المفردات التي كثيرا ما كان يرددها في جلساته. أما عن طبيعة القصيدة، فقد حملت نقدا لاذعا وإستخفافا وتهجما صريحا على مَنْ بات يسميه غريما له، إثر مشكلة الكتاب التي نشبت بينهما ولمن له الحق في عائديته. مستغلا في ذات الوقت بعض ما كان يُعاب عليه وما أشيعَ عنه من تقولات، لم يجر التأكد من مدى صحتها، كإقحام نفسه وزجها وسط مجموعة من الكتاب والمحسوبين على الثقافة، في الوقت الذي لا تربطه بهم أي رابطة أو صلة، حسب ما يدعيه إبن عيدان.

ولعل نجاح ولنسميه نَدَّه، في إيجاد موطئ قدم له في إحدى المجلات الشائعة والمنتشرة آنذاك وعلى مساحات واسعة، عُدَّتْ سببا ودافعا آخر لإبن عيدان للإساءة له والنيل منه. فعلى ما يرى اﻷخير ويكرر بإستمرار بأن مدعي مالك الكتاب، لا صلة له بالكتابة والصحافة بشكل خاص، لا من قريب ولا من بعيد. ولولا وساطة فلان وفلان لما وجد له مكانا أو حتى موطأ قدم بين هذه اﻷوساط. أمّا عن القصيدة التي رُوِّجَ لها، فهي تشبه كثيرا تلك التي كان ينازل فيها الحاج زاير ومَنْ هو على شاكلته خصومهم.

أما عن القصيدة، فقد إستعان إبن عيدان بنص قديم، كان متداولا آنذاك وعلى نحو واسع، قد يجد البعض فيه خروجا وتجاوزا على الذائقة العامة، لإحتوائه على ما نسميه خدوشا، كان صاحبنا قد إشتغل عليه، محوّرا ما يمكن تحويره، ليبدو صالحا للمناسبة وللمنازلة التي نحن بصددها. أمّا ما بقي منه في ذاكرتي بعد مرور كل تلك السنين، فهي لا تتجاوز البضعة أبيات من الشعر العامي، وللقارئ الكريم الرأي الفصل فيها:

إبن رميض، فدوه الطوله

من يكتـب عشره يصلحـوله

جيب الدفتر، ودي الدفتر

والحاصل ُطرگ الهـلـهوله

واﻷعـوج ما ظن يتـعدل

والسوله تظـل ذيـچ السوله

لم نقف على تداعيات ما جرى لاحقا بين الطرفين اللذين باتا يعرفان بالمتخاصمين، فقد غادرنا الشام مجبرين إلى مغترب اخر، حيث بلاد الثلج والعتمة الشديدة القسوة والوقع على نفوسنا، واﻷكثر بعدا كذلك عن بلادنا وأهلنا وعن نسيم نخيلها العليل.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

في المثقف اليوم