شهادات ومذكرات

تعلمت من الكتابة أعمق من القراءة

بدأت تمارينُ الكتابة في المرحلة الثانوية، لم تنضج لغتي وتصطبغ ببصمتها المميزة إلا بعد سنوات من تلك التمارين المتواصلة. أخيرًا أضحت لغةُ كتابتي بمعجمُها تفرض عليّ نوعَ الكلمات وأسلوبَ التعبير، وتؤثر وتتأثر بطريقة التفكير، كأني وقعتُ في أسر هذه اللغة، ولم أعد قادرًا على انتزاع نفسي منها. عندما يكرّر بعضُ القراء الطلبَ بأن أكتب بلغةٍ بديلة أعجز عن تلبية رغبتهم، بعد أن وقعتُ في شباك هذه اللغة. لم أدعِ يومًا أن الأفكارَ الواردة في كتاباتي كلها مبتكرة، لم يكتبها أحدٌ من قبلي.كتاباتي خلاصةُ مطالعات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي ولم ولن تتوقف، وعصارةُ أسئلة ذهنية وتأملات فرضها عليّ عقلي الذي لا يكّف عن التفكير، وأوقدتها مشاعري وانفعالاتي، وما ترسّب من جراح بأعماقي في محطات الحياة المتنوعة، مما لا أراه ولا أدرك طريقةَ تأثيره في فهمي.

الكتابة داء ودواء، قبل الكتابة أقلق، حين أفرغ منها أهدأ، بعد النشر أسكن، وأخيرًا أنسى ما كتبتُ لحظة أنشغل بما هو جديد، وإن كنتُ أكرّر العودةَ إليها لو استجدت رؤيةٌ موازية أو مضادّة. لا أستطيع مغادرةَ النصّ الذي أكتبه مادام تحت يدي، أخضع على الدوام لضغطٍ نفسي يكرهني على العودة للنظر فيه بين حين وآخر، لا ينقذني منه أحيانًا إلا النشر. في الكتابة ‏اللغةُ ترهقني أكثر من الفكرة، أحيانا أكرّر تحريرَ النصّ الذي أكتبه عدة مرات. ‏حين أكتب أمارس وظيفةً تشبه وظيفةَ المهندس المعماري، الذي يهمّه الوجهُ الجمالي للبناء. ‏أغلب الأحيان لحظةَ أكتب أجد المعاني حاضرة، ‏ما يرهقني هو العثورُ على الكلمات المناسبة للسياق ‏في القاموس اللغوي المخزن في ذاكرتي، وأحيانًا تتعسر ولادةُ الكلمة في ذهني فالجأ إلى قواميس اللغة ومعاجمها. ليست هناك لغةٌ مكتفية بذاتها، ‏إذا اتسع أفقُ المعاني اختنقت الكلمات. أعرف أن كتابتي تلبث ناقصةً لا تخلو من وهنٍ في شيء من أفكارها وكلماتها وعباراتها، مهما حاولتُ إعادةَ تحريرها وتنقيتها، ذلك ما يحثّني على إعادةِ النظر فيها وتكرارِ تحريرها على الدوام. اللايقين يستولي عليّ حين أكتب، أعود إلى كتاباتي أتأمل ما تتضمنه من مفاهيم وآراء ومواقف، أحاول غربلتَها وتمحيصَها مجدّدًا، واستبعادَ ما ينكشف من هشاشتها واعوجاجها، أحيانا أعيد كتابةَ الفقرة مرات عديدة. أمعن النظرَ في لغتها، أحذف الكلمات الواهنة، أحرّرها من الفائض اللفظي الذي يستنزفُ طاقةَ المعنى وينهكها. أعرف أن الجملَ القصيرة أشدّ إيقاعًا من الطويلة، الكاتب المتمرّس يقتصد في الكلمات، ويكثّف النصَّ ما أمكنه ذلك. رأيتُ بعضَ الكتاب يربك إيقاعَ النصّ بالإفراط في حروف العطف وأدوات الوصل والربط والاستئناف، وربما تلبث لديه الكتابةُ سائبةً لا تصنع حدودَها. براعة الكاتب تعلن حضورَها في الإيجاز، في الكتب الخالدة كلُّ صفحة تختزل ألفَ صفحة، كلُّ عبارة تختزل ألفَ عبارة، كلُّ كلمة تختزل ألفَ كلمة. الكتابةُ فنُّ الحذف والاختزال.

كلُّ كتابة أنشرها مسودةٌ لكتابةٍ لاحقة، وهكذا تتوالى كتابةُ المسودات. الكتاب الذي أكتبه لا أراه نهائيا، أكتبه كتابةً أولية، وبعد تحريرٍ وتنقيح ومراجعات متعدّدة أبعثه لدار النشر، وعند نشره تتحوّل هذه الطبعةُ إلى مسودة لطبعة لاحقة، وهكذا تلبث كتاباتي مسوداتٍ مفتوحةً أعجز عن النظر إليها بوصفها نهائية، وكأني أحلم بكمال شيء يعاند الكمال. لا أصل للشعورِ باكتمال النصّ، ونقائه من الوهن والثغرات، وصفاء صوته، وقوة طاقة المعنى الذي يريد إبلاغَه للقارئ،كثيرًا ما أعود إليه لتقويمه وترميمه وإثرائه. الكتاب الذي أفرغ منه أتردّد في نشره، وأقلق لحظةَ صدوره، مثلما يقلقني إهمالُه ونسيانُه، ينتابي شعورٌ أحيانًا كأنِّي خنتُ ذلك النصَّ المؤجل، أو خنتُ القرّاءَ ممن يتطلعون أن يجدوا في كتابتي ما يبحثون عنه.

القارئ يبهجه الضوءُ بغضِّ النظر عن المصباح الذي يصدر منه. يهمني القارئُ المحترِف حين أكتب، أعرف أن القارئ المحترف ذوّاق، لا يطيق الكلمات المقعرة والعبارات المكرّرة والشعارات ‏المبتذلة لغةً ومضمونًا، ‏لا أريد أن أخون القارئَ الذي لولا دعمه واعترافه لنضبت لدي طاقةُ الكتابة. القارئ يتطلع أن تتكشّف له صورةُ الكاتب الحقيقية، وما يريد أن يقرأه في كتاباته، القارئ مولعٌ بكلِّ ما حجبناه عنه، فلو بادرنا للاعتراف بضعفنا البشري بشجاعة لا نحتاج إلى دعاية أو ترويج لما نكتب. أكثر الكتابات المنشورة تخفي أكثرَ مما تعلن، وتبرّر أكثر مما تعترف، وتتكتم أكثر مما تبوح، وتموّه أكثر مما تصرّح، وتخادع أكثر مما تصدق، أجد بعضَ الكتاب يبرع في صناعة الأقنعة، وهو يحاول حجبَ تضخم ذاته وراء تلك الأقنعة.

مضافًا إلى خوفي من ممارسة الكتابة كنتُ أخاف في البداية من عرض ما أكتب على أيّ إنسان، امتلكتُ شيئًا من الجرأة بعد مدة فقدّمتُ ما أكتب لبعض الخبراء. كنتُ أحذر بشدّة من أيِّ نقد، أدركتُ لاحقًا أن استمرارَ هذا النوع من الحذر يعيقني من الإقدام على النشر، وربما يعجزني من خوض مغامرة الكتابة. جربتُ أنه يمكنني التخفيفُ من ذلك وخفضِه بعد ترويض نفسي على الاعترافِ بأخطائي وضعفي، والإعلانِ عن استعدادي للتعلّم والإصغاء لحكمة وخبرة أيّ إنسان، والإصرارِ على المضيّ في تمارين الكتابة وإعادة الكتابة. الاعتراف بالخطأ في مجتمعاتنا ينظر إليه أكثرُ الناس بوصفه فضيحة، استطعتُ بمشقة أن أمتلك الاستعدادَ للاعتراف بالخطأ الذي كان مُحرِجًا جدًا أول الأمر، عبر المران صار أقل إحراجًا، كلما أعلنتُ عن أخطائي قبل أن يعلنها غيري تخفّفتُ أكثر، واستطعتُ أن أجعل منجزي أكمل. جربتُ أن ليس هناك ما ينقذ الإنسانَ من عبء الشعور بالعجز وخوف الفشل إلا سبقه للبوح بفشله وإعلانه بأنه فشل في محاولاته الأولى والثانية والثالثة وهكذا. أسعى أن تتضمن كتاباتي بوحًا بأخطائي ووهني وهشاشتي ما أمكنني ذلك في مجتمعٍ يسيء تفسيرَ ذلك.

الكتابة ليست عملاً فردياً بحتاً،كلُّ كتابة حقيقية تختزل سلسلةً طويلة من قراءة كتب متنوعة، وكلَّ ما تشبّع به وتمثّله وعيُ الكاتب، وترسّب في لاوعيه. لا يتكون الكاتبُ إلا بعد أن يقرأ كلَّ شيءٍ وينسى معظمَ ما قرأ، الكتابة منجز مشترك، تنصهر فيها عناصرُ مختلفة لنصوص طالعها الكاتبُ لتولِّد مركبًا مادتُه منها إلا أنه يتكلم لغتَه، وينصت فيه القارئُ لأنغام صوته. في كلّ نصّ ترقد عدة ُطبقات من النصوص، في كلّ نصٍّ تتجلى نصوصٌ متنوعة تحيل إلى معجمِ الكاتب اللغوي ومرجعياتِه ورؤيتِه للعالم، وتتكشّف فيها ثقافتُه وما أنتجته قراءاتُه وتفكيرُه وتأملاتُه. في كلّ نصّ ثري نستمع لصوتٍ تتناغم فيه ألحان عدّة أجناس من الكتابة، تتوحد ألحانُها وكأنها نغمٌ واحد. الكاتب الجادّ يلتقي الجميع، ويتعلّم من الجميع، يلتقي بما هو مشتَرك إنساني، ويتعلّم من المتفرّد فرادتَه.

كتاباتُ كلّ ِكاتب تغترف من نهرٍ واحد، بعضُها يغذّي بعضَها الآخر.كلُّ كاتبٍ يكتبُ كتابًا أساسيًا واحدًا، ما قبله تمارين ما بعده تنويعات. الكاتب الحقيقي تصنعه الكتابةُ بقدر ما يصنعها، وتعيد بناءَ ذاته من جنس ما يبنيها، البناء بمواد هشّة يبني كاتبًا وكتابةً هشة، البناء بمواد متينة يبني كاتبًا وكتابةً متينة. يتعلم الكاتبُ الصبور من الكتابة أكثر مما يتعلم من القراءة، بعد الفراغ من كلِّ كتابة جادّة يخرج بوعي أعمق لذاته ولغيره، وبرؤيةٍ أشدّ وضوحًا للعالَم من حوله، يجد ذاتَه في صيرورة وجودية تتغذّى بالكتابة وتغذّيها.‏‏

الكتابة لدي تمارينٌ على وعي الحياة، عبر اكتشاف أسرار الذات، وما يخفيه الإنسان، وكيف أستطيع أن أنجو بنفسي من هول هوس الناس وصخب الحياة من حولي، وأربح سلامي الباطني.‏‏ التحدي الذي يستفزني في الكتابة يؤلمني بقدر ما يعلمني، علمتني الكتابة أعمق وأدقّ وأثمن مما علمتني القراءة، مثلما علمني التعليم ما هو أثمن مما علمتني التلمذة. بعد الفراغ من كلِّ كتاب أخرج بوعي أعمق لذاتي ولغيري، وبرؤيةٍ أوضح للعالَم من حولي. لم أجد نفسي خارجَ الكتابة منذ أكثر من 45 عًاما تقريبًا، على الرغم من أني أحبّ القراءةَ أكثر من الكتابة، وإن كنتُ أكتشف المزيدَ من الطبقات العميقة لذاتي، وأشعر كأني أعيد تشكيلَها من جديد بالكتابة.

أكتب رحلتي الأبدية لاكتشافِ الذات واكتشافِ الناس من حولي، واكتشافِ أجمل تجليات الله في الوجود. أحاول تأملَ أسئلتي وإعادةَ النظر في إجاباتي، وتعميقَ البحث فيها والتعرّفَ على ثغراتها، والسعيَ للظفر بإجابات أعمق وأدقّ.

*** 

د. عبد الجبار الرفاعي

في المثقف اليوم