شهادات ومذكرات

علي فضيل العربي: الشاعر علي محمود طه والمسجد الأقصى

علي فضيل العربي: الشاعر علي محمود طه والمسجد الأقصى

المكان: باحة المسجد الأقصى، فلسطين الأبيّة.

التاريخ: التاسع عشر رمضان 1444 هـ الموافق للعاشر من أبريل / نيسان 2023 م.

صورة شباب من الفلسطينيين المرابطين؛ شيوخ، نساء، شباب، شابات، بعضهم يؤدي الصلاة، ويرفعون عقائرهم بالتكبير والحمدلة والدعاء، بينا كان جنود من جيش الاحتلال الصهيوني وشرطته، يحيطون بأولئك المصلين. وبالمقابل كانت هناك جماعات من اليهود والصهاينة (ذكور، إناث، اطفال، مراهقون، شيوخ) يقتحمون باحة المسجد الأقصى، وهم يمرّون على أولئك المصلّين، المرابطين، الذين يرتّلون كلام الله. ربّما كان الأولى بهم، ان يسمعوا كلام الله. لكن الظاهر أنّ على قلوبهم أقفالها، فهم يمرّون، كما تمرّ الأنعام والهوام، بل أضلّ.

كان المنظر، يوحي بأنّ مواجهات داميّة على وشك الاندلاع، بين المرابطين والمتطرّفين. لقد بلغ السيل الزبى، وتجاوز الصهاينة المدى، وحقّ الجهاد والفداء، كما قالها شاعرنا علي محمود طه منذ سبعة عقود من الذل والهوان والخنوع والاستسلام.

أجل، قبل أكثر من سبعين سنة صدح بلبل الشرق، الشاعر المهندس علي محمود طه،مغردا:

أخِي، جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى

فَحَقَّ الجِهَادُ، وَحَقَّ الفِدَا

أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ العُرُوبـ

ـةَ مَجْدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّؤْدَدَا؟

فِلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ الشَّبَاب

وَجَلَّ الفِدَائِيُّ وَالمُفْتَدَى

فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا الصُّدُورُ

فَإِمَّا الحَيَاةُ وَإِمَّا الرَّدَى

كانت تلك صيحة تحذير من شاعر حرّ، أدرك قبل فلول السياسيين الخطر المحدق بفلسطين والقدس والعرب والمسلمين أجمعين. لكنّ مرّت السنون والعقود، وازداد ظلم الظالمين عمقا واتّساعا، وتجاوز الآفاق، وبلغ مداه الجوزاء. كان ذلك عندما قسمت عصبة (عصابة) الأمم الظالمة خريطة فلسطين بين الطالم والمظلوم، بين صاحب الحق والمغتصب، بين ابن الأرض، أبا عن جدّ، وجدّ عن جدّ، وطائفة من شذّاذ الآفاق.

وكان هدف أوروبا النصرانيّة الكارهة لليهود والصهاينة، بشرقها وغربها وجنوبها وشمالها، التخلّص منهم – بعدما أعدمت وأحرقت منهم النازيّة الملايين في الحرب العالميّة الثانيّة - وذلك بإخراجهم من بلدانهم الأصليّة، وتسفيرهم إلى خارج الخريطة الأوربيّة، وبالضبط إلى فلسطين. ولم يكتشف زعماء بروتوكولات صهيون الخديعة، التي مازالت مستمرّة حتى الآن.

كيف انطلت حيلة التسفير على العقل اليهودي؟ كيف صدّق المواطن اليهودي بأنّ وطنه هو فلسطين، بينما ولد هو ووالده وأجداده في أروربا أو أمريكا أو إفريقيا أو آسيا؟ لماذا لم يدرك اليهود لعبة الغرب ضدّهم؟ كيف تحوّل العقاب والتهجير والتسفير والطرد المقنّن نحو فلسطين إلى سلوك إنساني وحضاري وعمل خيري وسياسة رحيمة في نظر اليهود المغفّلين؟ إنّ ما قامت به أوروبا وأمريكا في حقّ اليهود نوع آخر من التطهير العرقي، شبيه بالذي مارسته أمريكا ضد الهنود الحمر، ومارسته، أيضا، أوروبا الاستعماريّة في المستعمرات الإفريقيّة والأمريكيّة اللاتينيّة وفي البوسنة والهرسك وبورما.

لم يكن اليهود في حاجة ماسة إلى كيان دولة يجمعهم، بل كانت حاجة أوربا إلى طرد اليهود من القارة العجوز، وخداعهم، وذلك جمعهم – زورا وبهتانا – في فلسطين. لقد سعت أوروبا – بعد المحرقة الشهيرة – إلى تطهير المجتمعات الأوربيّة من اليهود، بحجة إقامة وطن لهم في (أرض الميعاد)، واتّخاذ القدس الشريف عاصمة لدولتهم اليهوديّة المزعومة. ومن حقّ اليهود – الذين خُدعوا بالتهجير والتسفير إلى فلسطين – أن يقاضوا أوروبا على إخراجهم من أوطانهم، التي ولدوا فيها ونشأوا، بوساطة إغرائهم بحلم الدولة اليهوديّة في (أرض الميعاد) المزعومة. وها هم حكام أوروبا اليوم، كما الأمس القريب والبعيد، يحرّضونهم على معاداة العرب والمسلمين – الذين أحسنوا إليهم في زمن العسرة - ويدفعونهم إلى الاعتداء عليهم ليل نهار، بالقتل والاعتقال والإبعاد والحصار، وغيرها من وسائل القمع والقهر والإرهاب المادي والمعنوي. وما اقتحام الفلول الصهيونيّة المتطرّفة باحة المسجد الأقصى المبارك إلاّ صورة من صور بثّ الكراهيّة بين أتباع الأديان السماويّة. وليعلم النصارى أن تدنيس المسجد الأقصى، واستيلاء الصهاينة عليه – لا قدّر الله – هو مقدمّة لهدم الكنائس والصوامع النصرانيّة، وفي مقدّمتها كنسية القيامة. فإن اليهود الصهاينة المتطرّفين لا عهد لهم، وكلّما عقدوا عهدا نقضوه. قال تعالى: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَه ُ فَرِيقٌ منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) {البقرة / 100}.

أَخِي، قُمْ إِلِى قِبْلَةِ المَشْرِقَيْن

لِنَحْمِي الكَنِيسَةَ وَالمَسْجِدَا

*

يسوع الشهيد على أرضه

يعانق، في جيشه، أحمدا

متى يستيقظ اليهود من دوامة الخديعة الأوروبيّة والأمريكيّة، ويدركون بأنّ تجميعهم في أرض فلسطين، كان بغرض التخلّص منهم، وإبعادهم عن القارتين.، وإيهامهم بدولة يهوديّة، دينيّة على (أرض الميعاد)، بل على أرض ستبتلعهم جميعا، أو ستفضي بهم يوما ما إلى التيه والشرود في آدنى الأرض وأقصاها.

لقد عاش اليهود، في كنف الخلافة الإسلاميّة، في المشرق والمغرب والأندلس عيشة كريمة، فقد أحسن إليهم (و هم أهل ذمة) المسلمون، واندمجوا في أوساط المجتمع، ولم يقيموا لهم محارق، كما فعلت بهم النازيّة، ولم يطردوهم من بلدانهم كما فعلت أوروبا. فلمّا سقطت (غرناطة) آخر قلاع المسلمين في الأندلس، لم يجد اليهود ملاذا لهم ومنجاة من بطش النصارى القشتاليين، سوى بلاد المغرب الإسلامي الكبير، فاحتضنهم المسلون وأجاروهم وأكرموهم، وعاشوا في سلام وطمأنينة.

بينما، نالوا من النصارى على مرّ العصور، في المشرق والأندلس وأوروبا، قديما وحديثا، ألوانا من العذاب والقهر والتطهير العرقي والتسفير نحو فلسطين بغية التخلّص منهم. فلماذا يتصهين أغلب يهود اليوم ويقابلون الحسنة بالسيّئة، يعادون من أكرمهم وآواهم وحماهم بالأمس، ويميلون إلى من أحرقهم بالأمس القريب، وقهرهم بالأمس البعيد؟

إنّ الفكر الصهيوني المتطرّف الحالي، بيمينه ويساره ووسطه، إن جاز التعبير، يشكّل خطرا محدقا على الأديان السماويّة كلّها بما فيها اليهوديّة نفسها ؛ وقد جاوز الحدود الأخلاقيّة، بعد أن ضمن سلامة الحدود واطمأنّ، وأدرك أنّ الغضب العربي، القومي والوطني والإسلامي قد خمدت ناره واستسلم لقرارات مؤتمرات العار في مدريد وأوسلو وكامب ديفيد.

و منذ أن صدح الشاعر الحرّ علي محمود طه، تمادى ضياع فلسطين، وتجبّر الظالم، ولم يبق من روح العروبة مجدا ولا سؤددا ولا أبوّة. وأصبح تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، قضيّة فيها نظر، بعدما اعترف العرب، سرّا وعلانيّة، بالكيان الصهيوني، تحت مسمّى (دولة إسرائيل) العبريّة.

فَفَتِّشْ عَلَى مُهْجَةٍ حُرَّةٍ

أَبَتْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا العِدَا

*

وَخُذْ رَايَةَ الحَقِّ مِنْ قَبْضَةٍ

جَلاَهَا الوَغَى، وَنَمَاهَا النَّدَى.

و كان يوم الاثنين 10 نيسان / أفريل 2023 م، شاهدا على تطاول الباطل على الحقّ، وطغيان الظالم على المظلوم. فلول من الصهاينة يطأون بنعالهم اسفلت باحة الأقصى ويدوسون على نواصي مليار مسلم، تحت رعاية الغرب الصليبي المنافق، وحماية جنود الاحتلال. كانوا يمرّون على جماعة المصلين المرابطين أمام البوابة، وهم يرمقونهم بنظرات عنصريّة. وكان الخوف باد على ملامحهم من خلال وقع خطواتهم وحركات رؤوسهم.

و إلى أن يجعل الله، لأمة الإسلام مخرجا، سيبقى المرابطون في المسجد الأقصى شوكة داميّة في حلق الصهيونيّة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. وأختم قولي، بما صدح به الشاعر الحر، الأبيّ علي محمود طه، رحمة الله عليه:

فِلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ الشَّبَابُ

وَجَلَّ الفِدَائِيُّ وَالمُفْتَدَى

*

فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا الصُّدُورُ

فَإِمَّا الحَيَاةُ وَإِمَّا الرَّدَى

***

بقلم الناقد والروائيّ: علي فضيل العربي – الجزائر

 

 

 

في المثقف اليوم