شهادات ومذكرات

ضياء نافع: وتذكّرت اصدقائي التورغينفيين..

تم افتتاح تمثال للكاتب الروسي ايفان سرغييفتش تورغينيف (1818 -1883) في موسكو، وذلك بمناسبة مرور قرنين على ميلاده، وقد افتتح التمثال في حينها الرئيس الروسي نفسه، وهو آخر تمثال لتورغينيف في روسيا، و يختلف هذا التمثال عن التماثيل الاخرى له تماما، اذ ان النحّات قدّم لنا تورغينيف في شبابه، عندما كان عمره 30 عاما فقط، وهو تمثال في غاية الرشاقة و الجمال، ويقف تورغينيف الشاب في حديقة بيت والدته، ويمسك بيديه عدة اوراق، وخلفه البيت الروسي الارستقراطي للوالدة، حيث كان لتورغينيف هناك غرفة خاصة يسكن فيها، اذ انه غالبا ما كان يزور البيت ويبقى فيه عدة أيام .

تذكرت الاسماء العزيزة على قلبي وانا أتأمل هذا التمثال غير الاعتيادي للشاب الرشيق تورغينيف، الاسماء التي ترتبط بتورغينيف نفسه، اي اصدقائي (التورغينفيين !) الراحلين، ولكنهم دائما وابدا في وجداني وتفكيري، ومنهم الدكتور محمد يونس، استاذ الادب الروسي في جامعة بغداد، وزميل العمر كله، منذ معهد اللغات العالي في الوزيرية، وعبر القسم الداخلي لجامعة موسكو والدراسة معا في كليّة الفيلولوجيا هناك، الى العمل معا بعد التخرّج في قسم اللغة الروسية في كليّة الاداب اولا، ثم في كليّة اللغات بجامعة بغداد، هذه المسيرة المشتركة، والتي استمرت منذ (الشباب الى المشيب !)، و من (فجر الحياة حتى المغيب!) يا أبا جاسم الحبيب ...

كتب محمد يونس اطروحة الماجستير في جامعة موسكو عن تورغينيف في الستينيات، وأصدر كتابا بالسبعينيات في بيروت عن تورغينيف، وهو اول كتاب عراقي شامل عن هذا الكاتب الروسي الكبير حسب علمنا المتواضع، ولا يزال هذا العمل العلمي الرائد – ولحد اليوم - واحدا من المصادر العربية المهمة حول ادب تورغينيف، بغض النظر عن كونه قد صدر قبل حوالي نصف قرن تقريبا، وليس ذلك بالقليل . وبالرغم من ان محمد يونس ابتعد قليلا عن تورغينيف وكتب اطروحة الدكتوراه في جامعة موسكو عن تولستوي، الا انه كان مشرفا علميا لاول شهادة ماجستير يمنحها قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، والتي كتبها آنذاك طالب الدراسات العليا حسين عباس (الدكتور حاليا والقائم باعمال سفارتنا في كييف باوكرانيا، ونحن في اواسط عام 2023)، وكانت هذه الاطروحة عن الادب المقارن بين الكاتب الروسي تورغينيف والكاتب المصري محمد عبد الحليم عبد الله، ولم يكن هناك تدريسي آخر في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، يمكن ان يكون مشرفا على اطروحة تتناول هذا الموضوع عدا محمد يونس.

ومن بين الاسماء العراقية العزيزة ايضا، والتي تذكرتها امام تمثال تورغينيف، اسم الدكتورة حياة شرارة، زميلة العمر كله كذلك، وهي البروفيسورة الاولى في تاريخ قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، فقد خططت حياة شرارة لترجمة المؤلفات الكاملة لتورغينيف عن الروسية، واستطاعت فعلا ان تنجز ثلاثة اعمال كبيرة من تلك المؤلفات واصدرتها في بغداد رغم كل الصعوبات الهائلة آنذاك، التي كانت امامها في ذلك الزمان الجهم، وتذكرت طبعا اصرارها على انجاز تلك الترجمات، وتذكّرت ايضا، انني لم أؤيدها في ذلك، و قلت لها، ان هذه الاعمال مترجمة، فقالت ضاحكة، انها ستطلّع على تلك الترجمات بعد انهاء العمل (..كي لا تؤثّر تلك الاعمال على ترجمتي ..)، واستمرّت ام مها فعلا في تنفيذ خططها، ولكن.....

ومن بين الاسماء الحبيبة لي اسم غائب طعمة فرمان، التورغينفي العتيد والاصيل، لأن اسمه يرتبط بترجمة المؤلفات المختارة لتورغينيف بخمسة اجزاء، والتي صدرت في موسكو بالنصف الثاني من القرن العشرين، وتذكرت كيف تعجب غائب عندما حكيت له قصة حياة شرارة واصرارها على ترجمة مؤلفات تورغينيف، ولكن تواضعة العظيم منعه آنذاك من ان يقول لي، انه يترجم مؤلفات تورغينيف المختارة بناء على تكليف من دار رادوغا للترجمة والنشر في الاتحاد السوفيتي .

وتذكّرت طبعا الدكتور أكرم فاضل، الذي ترتبط باسمه اول ترجمة عربية لرواية تورغينيف (الاباء والبنون)، والتي صدرت في بغداد عام 1950، وتذكرت نقاشي (الحاد!) مع المستشرقة الميرا علي زاده في المؤتمر الثالث لمترجمي الادب (موسكو 2014) حول ذلك، اذ انها اعلنت امام اعضاء المؤتمر بعد ان القيت كلمتي عن المترجمين العراقيين وتورغينيف ، ان محمود احمد السيد وليس اكرم فاضل هو اول عربي ترجم رواية تورغينيف (الاباء والبنون)، وقد قلت لها، ان المستشرقين السوفيت يشيرون الى هذه المعلومة، ويقولون، ان محمود احمد السيد قد نشر في احدى الصحف المصرية خلاصة لتلك الرواية في عشرينيات القرن الماضي، وان القارئ العراقي لم يطّلع حتى على هذه الخلاصة ولا يعرف طبيعتها، وأضفت، ان نشر رواية تورغينيف تلك (وليست خلاصتها !) قد صدرت كاملة ولاول مرة بالعربية في بغداد عام 1950، وان هذه حقيقة كان يجب على المستشرقين السوفيت ان يعترفوا بها في حينها، وان الاستشراق الروسي المعاصر يجب ان يصحح الان تلك النظرة غير الدقيقة للمستشرقين السوفيت ...

الرحمة والذكر الطيب لاصدقائي التورغينفيين - محمد يونس وحياة شرارة وغائب طعمه فرمان وأكرم فاضل. ***

أ. د. ضياء نافع

في المثقف اليوم