شهادات ومذكرات

سُوف عبيد: أسئلة الكتابة

تحية وفاء إلى معلّمي الأوّل ـ سيّدي المنّوبي ـ وهو أوّل من علّمني الحروف والأعداد بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية بمقرين جنوب العاصمة تونس سنة 1958

دائما يخالجني شعور الحنين إلى البادية بما تمثله من فضاء شاسع على مدى البصر وقيم إنسانية باتت نادرة ...واحسرتاه على ذلك الجنوب الذي أمسى جنوبا آخر لا صلة له أو تكاد بما عرفته فيه. أنا عرفت في طفولتي قيمة قطرة الماء وعرفت مذاق الخبز من الفرن بأصابع أمّي التي كان غناؤها سنفونيات عذبة على إيقاع دوران الرّحى ورأسي يتوسّد ركبتها ونحن في غار حوشنا القديم.

أنا من جيل تجلّى وعيه على آخر وقائع النّضال للتحرّر من الاِستعمار الفرنسي وإنّ دويّ المدافع الفرنسية وهي تدكّ مواقع الثوّار في الأودية وفي ـ غارالجاني ـ و ـ أقْري ـ ما يزال صداها في مسمعي إلى اليوم وقبيل معركة ـ رمادة ـ بالجنوب التونسي كنت برفقة الصّبيان نجمع المؤونة والقِرب ونودّع الأقارب المتطوعين ثم في سنة 1961 خرجنا متظاهرين في حرب بنزرت وصائحين ـ الجلاء ….السلاح….الجلاء ...السلاح….وما زلت أذكر الفرحة العارمة التي غمرتنا عند إعلان اِستقلال الجزائر ولن أنسى أبدًا ذلك اليوم المشهود الذي رافقت فيه والدي رحمه الله إلى بنزرت في أكتوبر 1963عندما شاهدت عن قرب موكب الزعماء ـ بورقيبة وجمال عبد الناصر  وأحمد بن بلّة ووليّ العهد الليبي .

ولكن ماكادت سنة1967 تنتصف حتّى سادت في تونس وفي أغلب البلدان العربية وحتّى في الشّرق الأقصى وأوروبا وأمريكا حيرة حادّة اِستطاعت أن ترُجَّ كثيرا من الثّوابت بسبب التّأثير المباشر والحادّ للأزمات الّتي وقعت وقتذاك: فمِن هزيمة حرب جوان 1967 إلى حرب فيتنام ومن أصداء الثّورة الثقافيّة في الصّين إلى أحداث ماي 1968 في فرنسا وإلى حركات التحرّر العارمة في أمريكا وإفريقيا تلك الّتي كانت كالسّيل العارم أو كالنّار تشبّ في اليابس من الأغصان وفي ما تهاوى من الجذوع واِنشرخ من الأغصان وفي ما تناثر من الأوراق.

*

بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل ، كان ذلك يوم 5 أو 6 جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد ، ثم بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذب في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة ـ شعراء الرّيح الإبداعية ـ التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية والقومية العربية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات الاِشتراكية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر شعراء ـ الرّيح الإبداعية ـ عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة…لقد كان اِستشرافنا صحيحا فلم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة وردية من حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها وفي تلك الطفرة من الأنشطة ترشّحتُ لعضوية الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين باِقتراح من الأديب محمد العروسي المطوي فتحصّلت على أكثر الأصوات ونلت بالاِنتخاب أيضا مسؤولية الأمين العام وكانت تلك الهيئة تضمّ الأدباء محمد العروسي المطوي رئيسا والميداني بن صالح نائبا له والهاشمي بلوزة أمين المال وضمّت أيضا الأدباء أبا زيان السعدي وجلول عزونة وسمير العيادي وعبد الحميد خريف ونور الدين بن بلقاسم والتابعي الأخضر والطيب الفقيه وقد عمِلت تلك الهيئة خاصة على تنشيط النوادي في مقر الاِتحاد وعلى اِنتظام إصدار مجلة ـ المسار ـ وعلى فتح الفروع في الجهات التي يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الأعضاء وعلى المشاركة في اللجان الخاصة بالكتاب والسّينما والمسرح ضمن وزارة الثقافة وقد جعلنا هدفنا الأكبر هو اِستضافة مؤتمر الاِتحاد العام للأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس وقد ضمّ اِتحاد الكتّاب التونسيين وقتذاك أغلبية الأدباء والشعراء على اِختلاف مراجعهم الفكرية والأدبية وعلى تنوّع ألوانهم السياسية وتوالي أجيالهم ممّا أتاح لي التعرّف على الأدباء التونسيين وربط صداقات مع الكثير منهم وفي ذلك السّياق من النّشاط الزّاخر ومن بينه اِنعقاد مؤتمر الأدباء العرب ونيل تونس رئاسته في شخص الأديب محمد العروسي المطوي ثمّ تنظيم الملتقى الأوّل للشعراء العرب جاءتني دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور موكب اليوم الوطني للثقافة الذي اِعتبرناه حينذاك مكسبا للثقافة والمثقّفين ونحن نعيش غمرة حركة النشر واللقاءات الأدبية بعد سنوات عديدة من الكبت والتهميش التي لم يستفد منها إلا الأدباء والمثقّفون المُوالون للنّظام ولكن لم أكن أدري وأنا أدخل قصر قرطاج ثمّ وأنا أغادره بعد أن صافح بن علي الجميع ـ أنّ حليمة ستعود بعد سنوات إلى عادتها القديمة فقد أضحى حول نظام ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين الموالين هي التي اِستفادت من مجالات وزارة الثقافة ودعمها واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز

*

كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال و الشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم …كلام…..كلام !…

الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب و شاعر في مقامه الجدير به

*

كان من الممكن أن أنخرط في سياق السائد من الشعر الّذي كان يتراوح بين معاني الغزل والمديح والعنتريّات وبين معاني الرثاء والبكاء وجلد الذات، وكان من الممكن أن أباشر الكتابة بالعامّية مُتمثّلا مقولة أنّها أقرب إلى الجماهير وأسهل في التّداول والاِنتشار، بل كان بوسعي أن أنخرط حتى في الكتابة باللّغة الفرنسية باِعتبار أنّها اللّغة الثانية في تونس والّتي يمكن بها أن أتواصل مع مدى أوسع في العالم

ولقد بدأتُ فعلا في الكتابة بتلك اللّغة ولكنّني اِكتشفت أنّ في العملية

اِنسلاخًا واِنبتاتا فتراجعت ولم أنخرط في الكتابة بالعامّية التونسيّة عند تلك المرحلة وذلك لسببين اثنين أوّلهما أنّني علمت أنّها كانت ضمن سياق الدعوة إلى القضاء على الهويّة الوطنيّة ذات الأبعاد العربية، وثانيهما عدم اِمتلاكي لمفردات قاموسها الكبير وبالتالي عدم قدرتي على الإحاطة بها والتّعبير عمّا كان يخالج نفسي من المعاني الغزيرة والعميقة بتلك اللغة

ورغم ذلك فإنّي أرى أن الأدب العامّي شامل لرصيد تراثي غنيّ اِنصهرت فيه مختلف المكوّنات التاريخية تلك التي تتجلّى بوضوح من خلال الأمثال والحِكم والأزجال والأغاني والحكايات والخرافات والألغاز والنوادر وغيرها وإنّ النّهل من هذه التعبيرات إنّما هو إثراء للأدب العربيّ بل هو رافد مهمّ من روافد تجديده وتنوّعه. وقد لاحظت أنّه عندما تصبح الدّعوة إلى الاِستغناء عن العربية الفصحى وإبدالها بالدّارجة كتابة وتداولا فإنّ الأمر عندئذ ينقلب إلى قضايا تتعلّق بمكوّنات الشخصيّة الوطنيّة الّتي  أعتبر أنّ اللغة العربيّة هي اللّبنة الأساسية في بنائها وتماسكها وأنا لست مستعدا للمساهمة في هذا المشروع الخطير على الكيان الوطني الذي تمتدّ جذوره الثقافية والحضارية عميقا في التاريخ إلى ما قبل القيروان وقرطاج.

*

إلى اليوم لم أصادف كتابا في تاريخ الأدب التونسي يتناول بالجمع أو حتّى بالإشارة الى الأدب الذي كان في هذه الرّبوع قبل الحضور العربي الإسلامي في إفريقية ...إذن المسألة تحتاج الى بسط وتمحيص.

أنا أرى أن البحث في ذلك الأدب التونسي قبل الحضور الثقافي العربي أمر مهمّ الآن بعد أن زالت مخاطر الاِهتمام به وحيث ترسخت مفاهيم الاِنتماء الوطني التونسي عبر منطلقات المغرب العربي والتجذّر في الثقافة العربية ضمن البعدين المتوسطي والإفريقي وصولا الى ملامسة الثقافات الأجنبية الأخرى غير أن ذلك لا ينبغي ان يشطب من تاريخنا الحضاري إسهامات بلادنا قبل التعريب فهذه المسألة كانت تثير تحفظ بعض الذين كانوا يرون أن تاريخ تونس يبدأ مع تأسيس القيروان أما البحث في ما قبل ذلك فهو ضرب من الدعوة إلى الإقليمية والاِنعزالية والمحلية.

إن كتب التاريخ قد حوت نصوصا متنوعة باللغة اللاتينية واليونانية قد ترجم بعضها الى اللغة الفرنسية لذلك يمكن تعريب هذه النصوص والتعريف بها كمرحلة أساسية من تاريخ الأدب التونسي القديم الذي أراد الأديب محمد البشروش في الأربعينيات من هذا القرن أن يبدأ به مشروعه الضخم في كتابة تاريخ الأدب التونسي ذلك المشروع الذي ظل دون تحقيق غير أن الباحث والمؤرخ محمد حسين فنطر قد أكد في بحوث عديدة على الابداع الثقافي التونسي في العصور الغابرة قبل الفتح من ذلك توصّل إلى إثبات شهادات أدبية تتمثّل في الكتب المتنوعة التي تهم مواضيع الفلسفة والخطابة والشعر والقصة والحقوق أيضا قد صنّفها أفارقة كانوا فخورين باِنتمائهم إلى هذه الأرض الطيبة وأعربوا عن هذا الشعور النبيل بصريح العبارة فهذا أبُلُيّوس قد تعلّم ودرّس في جامعة قرطاج وذاع صيته في أركان الإمبراطورية الرومانية .

***

سُوف عبيد

في المثقف اليوم