شهادات ومذكرات

علي حسين: رحيل ألان تورين المدافع عن الذات الانسانية

عن 98 عاما رحل في باريس عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي "ألان تورين" اليوم الجمعة، لتفقد الساحة الفكرية في العالم، واحداً من أبرز فلاسفة العصر الحديث.. أعلنت ابنته الوزيرة الاشتراكية السابقة ماريسول تورين خبر وفاته لوسائل الاعلام لتطوى صفحة مفكر وعالم اجتماع ومشاغب سياسي منذ ان شارك باول احتجاجات لعمال مصانع السيارات وحتى كتاباته الاخيرة حول تحولات الرأسمالية، حيث لم يتوقف هذا الباحث المتحمس عن الحقيقة أبدا عن مراقبة العالم، وتحولاته الاجتماعية العميقة، وانقساماته الجديدة، ومصادر السخط والحرية. قال لصحيفة " اللوموند " في عام 2017: "ما يهمني، ما أحاول تسليط الضوء عليه في كل مكان، هو الصراع. سرد قصة المجتمع وسرد صراعاته".

ومن المصادفات انني انتهيت قبل ايام من قراءة كتابه المترجم حديثا الى العربية " نحن ذوات انسانية " الذي صدر عن المركز القومي للترجمة في مصر. وفي هذا الكتاب يرى تورين أن المجتمع المعاصر حسب تورين هو مجتمع يميل إلى الهيمنة والتسلط والسيطرة على الفاعلين، وأن الحركة الاجتماعية باعتبارها الذات الفاعلة، ما هي إلا تعبير عن رفضها لهذه الهيمنة والتسلط والسيطرة بمختلف أبعادها، فهي عبارة عن تمرد اجتماعي يتم في هامش المجتمع حينما تكون هناك أزمة بين الطبقات الاجتماعية، حيث تبنى كفاعل في النزاعات والصراعات الاجتماعية. ويضيف تورين انه إذا أردنا أن نختبر ذواتنا كذوات فاعلة، فإنه يظهر من خلال التزاماتنا ومسؤوليتنا " تجاه حق كل فرد في العيش بكرامة والاعتراف له بهذه الكرامة؛ أي بما يستحيل انتزاعه من دون أن تفقد الحياة كل معناها".

في الثالث من آب عام 1925 ولد آلان تورين في بلدة على شاطئ بحر المانش. والده طبيب ميسور الحال، ووالدته تعمل في التدريس، حاولت ان تعلم ابنها كيف يحب الحرية والعلم والمعرفة ، التحق عام 1945 بمدرسة المعلمين العليا في باريس، التي تخرّج منها جان بول سارتر وريمون آرون وسيمون دي بوفوار وميرلو بونتي وغيرهم من الاعلام ، لكنه بعد عامين يترك الدراسة، ليقرر السفر إلى هنغاريا ومن بعدها الى يوغسلافيا، ثم يعود الى فرنسا ليعمل عاملاً في احد المناجم، كانت تجربة العمل في المناجم مرحلة غنية في حياة تورين حيث قربته من المسائل المتعلقة بالصناعة وعالم رجال الاعمال، وتعرف من خلالها على الحياة الاجتماعية للعمال، الأمر الذي مكنه من أن يصدر اول كتبه عام 1955 وكان بعنوان " تطور العمل في مصانع السيارات " والكتاب هو اطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، بعدها يسافر الى تشيلي، يتزوج هناك وتصبح بلدان اميركا الجنوبية موضوع أبحاثه حيث اصدر كتابه الشهير "الكلمة والدم" عن معاناة عمال المناجم في تشيلي. ساهم عام 1959 في تأسيس مجلة "سوسيولوجيا العمل". وحصل عام 1964 على دكتوراه ثانية من خلال اطروحته "سوسيولوجية الفعل الاجتماعي". يذهب الى بولندا ليعايش تجربة العمال هناك، ويعقد صداقة مع رئيس نقابة التضامن ليش فاليسا،، الذي أصبح فيما بعد، رئيساً لجمهورية بولندا.

رفض طروحات صموئيل هنتنغتون حول صدام الحضارات، وسخر من مقولة فوكوياما " نهاية التاريخ "، والتي يرى فيها فوكوياما الإنتصار الكامل والنهائي للمعسكر الرأسمالي ولنظرياته الليبرالية، وفشل النظريات الاشتراكية، حيث يطرح تورين بديلا آخر يتعلق بـما اسماه "نهاية المجتمعات"، والذي عنون به أحد كتبه، حيث يجد تورين ان الازمة

الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انطلقت في عام 2008 لتشمل آثارها، العالم كلّه والتي لم يشهد لها مثيلا انما تمثل "قطيعة عميقة" بين الرأسمالية المالية التي تجد تعبيراتها البليغة في الأسواق المالية، وبين الاقتصاد بالمعنى الرأسمالي الإنتاجي. تلك القطيعة تمثل دلالة واضحة، برأيه، على نهاية المجتمعات الصناعية التي قامت قبل حوالي قرنين من الزمن.

عندما تندلع احداث 68 في فرنسا والتي سميت بثورة الطلبة يقف تورين إلى صفها ويصدر عن الحركة كتابا بعنوان "حركة مايو أو الشيوعية الطوباوية"، حيث وجد في هذه الحركة لحظة أساسية في دخول الثقافي والمعرفي والفني إلى ساحة التأثير السياسي، حين اعتبرها بمثابة هجمة الثقافة على القرار السياسي وشبهها بهيجان بركان يفرض حراكه الداخلي، وقد وجد في حركة الطلاب تعبيراً عن "حراك سياسي لم يعرف كيف يجسّده السياسيون في الأطر التقليدية للعمل السياسي".

وضعت كتب آلان تورين ضمن قائمة أفضل مائة كتاب في مجال علم الاجتماع، وتورين الذي يبلغ من العمر 93 عاما لا يزال يواصل الكتابة وقد صرح لاحدى الصحف "اعتقدت أنه عند شيخوختي ستكون لدي رغبة، أقلّ فأقل، للتفكير الجدي، لكن من دون أن أنام، مع ذلك، أمام التلفزيون".

يصر تورين في كتابه "ما هي الديمقراطية" إلى القول أن الديمقراطية والتنمية لا يمكن ان تعيشا إلا متحدتين، لا مفترقتين، وهو يرى أن التنمية السلطوية تنتج أزمات اجتماعية متزايدة الخطورة، والديمقراطية التي تتحول الى محض سوق سياسية مفتوحة، ولا تتحدد بكونها تسييرا متوازيا للتغيرات التاريخية ولمصالح الافراد والمجتمع معاً، ستضيع في النهاية في متاهة بيروقراطية الأحزاب والفساد السياسي.

في كتابه السياسة يضع ارسطو هذه الكلمات التي تعد دسورا للنظام الديمقراطي الحقيقي: "حينما تستمد الحكومات سلطتها من الغنى، سواء كانت اقلية أم اغلبية، فانه حكم الاسر الغنية. وحين يَّحكم الفقراء، فانها الديمقراطية. وعلينا أن نقول إن الديمقراطية تكون حيث يكون البشر الاحرار هم الحاكمين ".

والآن ربما يسأل البعض: هل نحن نعيش في العراق في ظل نظام ديمقراطي؟، من حيث الشكل بالتاكيد فنحن نطبق الديمقراطية بحذافيرها: انتخابات، فصل للسلطات، جلسات البرلمان تُبث على الهواء، الشعب يتظاهر!!، مواقع التواصل الاجتماعي ساحة للجدال الديمقراطي. لكن الاجابة الحقيقية لهذا السؤال سنجدها عند السيد فوكوياما صاحب الكتاب الشهير " نهاية التاريخ " حيث يقول: " في الواقع ان التهديد الاكثر مكرا ضد الديمقراطية، يأتي من داخل الانظمة الديمقراطية نفسها، حيث يستغل الساسة الشعبويون المشروعية، التي يحصلون عليها في الانتخابات، لتقويض الاساسين الأولين للديمقراطية: سيادة القانون التي يلتفون عليها، ومؤسسات الدولة التي يفسدونها".

يخبرنا آلان تورين في كتابه "ما هي الديمقراطية"- ترجمة حسن قبيسي، وفي ترجمة اخرى "ما الديمقراطية" – ترجمة عبود كاسوحة - ان الديمقراطية رغم انها ممارسة قديمة، ألا انها كنظرية، فكرة جديدة، وهذه الفكرة نمت وتطورت فوق أنقاض فكرة الثورة. فبقدر ما كان القرن العشرين في نصفه الاول قرن الآمال الثورية، كان في نصفه الثاني قرن البيرقراطية والتسلط. ويؤكد تورين ان خيبة الأمل بالثورة، هي التي فرضت طوال حقبة مديدة تصوراً متواضعا للديمقراطية بوصفها محاولة للحد من سلطة الدولة وهيمنتها، ويعترف تورين ان هذا الحد الضروري لهيمنة الدولة ليس بحد ذاته ضمانة للديمقراطية، فهو قد لا يتأدى في نهاية المطاف إلا إلى هيمنة سلطة المال والاعلام، هذا ان لم يؤدي إلى تحويل الحوار السياسي الذي هو شرط لازم للديمقراطية إلى مواجهة عنيفة.

في كتاب " ما هي الديمقراطية " يعالج تورين مسألة مهمة ربما يعاني منها العراق الآن وهي: هل الديمقراطية بالفعل هي حكم الأكثرية؟، أم أنها إلى جانب ذلك هي ضمانات الأقلية، وتورين يدعو إلى نظام سياسي، يسعى إلى الجمع بين قانون الأكثرية واحترام الأقليات، وإلى إيجاد طريقة تمكن النساء من الوصول بصورة طبيعية إلى موقع القرار السياسي، وهو يرى ان قوة الديمقراطية تتاتى من النضال الذي تمارسه القوة المجتمعية الفاعلة، ضد منطق الأجهزة المسيطرة، حيث ينبغي لنا حسب تورين أن نضع شروطاً مؤسساتية تشكل تعريف الديمقراطية بذاتها، وتفضي إلى امتزاج التنوع الثقافي عبر انضواء الجميع تحت وحدة القانون والعلم وحقوق الإنسان..يعلن تورين بوضوح ان: " العالم الانساني قد تم اجتياحه من اللانساني وما فوق البشري كليهما معاً، ولم يعد الاجتماعي يمثل الانساني حصرا"، وهو ما دفعه إلى التاكيد بأننا الآن وبسبب سياسات الحكومات دخلنا مرحلة نهاية الاجتماعي وزواله وتلاشيه، فبدل أن يكون العالم الحديث مأوى للانسان ومسكناً له، تحول إلى معتقل.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم