شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

عندما يسألني احد الشباب وانا اتجول في شارع المتنبي عن افضل الكتب التي عليه أن يقرأها. وهل هماك طريقة مفضلة للقراءة؟، اردد العبارة التي قراأتها في كتاب دانيال بناك " متعة القراءة " والتي يمنح فيها القارئ حقوقا غير قابلة للمساومة أبرزها:" الحق في قراءة أي شيء.الحق في القراءة في أي مكان. الحق في القراءة بصوت مرتفع. الحق في اعادة القراءة. الحق في عدم انتهاء الكتاب. كان بورخس يردد: " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا،اما اأنا فأفخر بتلك التي قرأت ". لكن هل القراءة الزامية؟. اعتقد ان مثل هذه العبارة ستكون قاتلة لمتعة القراءة، فالقراءة لا يمكن أن تكون الزامية.. فهل نتكلم عن السعادة الإلزامية. فالقراءة يجب ان تكون شكل من اشكال السعادة الشخصية..إنها الطريقة الوحيدة للقراءة.

اختارت وهي في العشرين من عمرها طريقا اتضح لها باطراد أنه سيجلب لها الوحدة.. تعرف أنها أتت من عالم كانت النساء فيه مقيدة. كان الرجال والنساء يقطنون عالمين منفصلين بحدة. تصورت نفسها ذات يوم مثل بطلة فلوبير " مدام بوفاري " التي اصرت أن تتمتع بكل ذرة من حياتها.عندما بلغت العشرين من عمرها، قررت أن تستقل بحياتها. استاجرت غرفة من جدتها التي عاملتها مثل المستاجرين الآخرين. اشترت سيمون دي بوفوار بعض الاثاث الرخيص. طاولة وكرسيين ورفوف للكتب. ساعدتها اختها في ترتيب المكان، وضعت على الطاولة بعض الكتب وقلم حبر، فيما امتلأت الرفوف بالكتب التي كانت قد خزنتها في صناديق. نظرت بنشوة إلى المكان تفحصت الكتب جيدا ثم قالت لشقيقتها:" اخيراً بدأت حياتي الجديدة ".

في بداية رواية دون كيشوت يصف سيرفانتس بطله بأنه شخص يقرأ حتى الاوراق الممزقة المرمية في الشارع، هكذا فعلت سيمون دي بوفوار مع الكتب، انها تقرأ كل شيء. في مذكراتها " وانتهى كل شيء " – ترجمة محمد فطومي – تقول ان القراءة لم تكن بالنسبة لها ترويحا عن النفس بل " النافذة التي كنت من خلالها أرى العالم ". قالت لسارتر ذات يوم أن الكتب تضيء لها مستقبلها. في مراهقتها كانت تتعرف على نفسها من خلال الروايات. في مذكراتها تنبهنا الى الكيفية التي تستطيع بها الكتب ان تنمي ارادتنا الواضحة والصريحة، فهذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة " تُوضح لقراء سيرتها كيف اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل االكتب.كانت دائما على وعي بقدرتها على تأكيد ذاتها. الفتاة التي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة ظلت تسعى الى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية، كانت تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان ".. وقد ساعدها هذا الموقف ان تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة ".. لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف:" كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها ان تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها المهم " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف، ووضع الفاتيكان الكتاب ضمن قائمة الكتب المحرمة، وكتب ألبير كامو مقالاً اعتبر فيه الكتاب رسالة سخرية صوّرت الرجل الفرنسي بشكل سيئ، وقال الكاتب الشهير فرانسوا مورياك:"لقد وصلنا فعلاً الى حدود الوضاعة"، كما هاجمه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتبره"إهانة للمرأة العاملة"،وكانت الاتهامات تلاحقها وستتنافس الصحف المحافظة على تحقيرها حيث وصفوها بانها " فتاة مسكينة، عصابية، مكبوتة، مسترجلة، محشوة بعقد ازاء الرجال والنساء، وكتب احد النقاد:" لقد اذلها ان تكون امرأة " وقد صرح البعض بانه لم يكن يحفق لها الحديث عن النساء لانها ليست امرأة. في حين وصفت فرانسو ساغان الكتاب الذي قرأته عندما كان عمرها 15 عاماً، بأنه واحداً من الكتب العظيمة القليلة في زمننا،، وفي عرضها للكتاب ذكرت المجلة الشهيرة اتلانتيك، إن الكتاب يتلاءم جداً مع الوجودية المثيرة للاشمئزاز، إلا أن الكتاب حقق نجاحاً هائلاً في الأسبوع الأول لصدوره حيث نفذت جميع النسخ المطبوعة والتي تجاوزت الثلاثين ألف نسخة، وعندما صدرت ترجمته الانكليزية بيعت منها مليونا نسخة، كما تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في اليابان لمدة سنة كاملة، وأصبح الكتاب المرجع الأساسي لرائدات تحرير المرأة في أوروبا وأميركا.

تعترف بأن القراءة منحت معنى لعملها ككاتبة، فرغم الشهرة التي حصدتها والمكانة التي وجدت نفسها فيها كواحدة من ابرز فلاسفةة الوجودية إلا انها لم تتخل عن عاداتها اليومية في القراءة:" استمر في القراءة كثيراً، في الصباح، في الظهيرة، قبل الشروع في العمل أو عندما اكون مرهقة من الكتابة. اقرأ ساعات باكملها. ما من انشغال يبدو لي طبيعيا اكثر " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.

في حوارها مع فرانسيس جانسون وهو يسألها عن الكتب المتناثرة في كل مكان وهل استطاعت أن تغير مصيرها؟ قالت:" دائما ما اسأل نفسي:لماذا التعلق باقراءة؟.. متعة القراءة لم تُمحَ، مازلت اندهش لتحول الرموز السوداء الى كلمة تقذف بي في قلب العالم ".

كانت كتابات سيمون دي بوفوار تثير السخط حتى بين اصدقائها، قال انها تعلمت من المركيز دي ساد كيف تجعل الآخرين يرمون بكتابها الى الجهة الاخرى " ليس امام القارئ التقليدي سوى النفور من كتبي " قالت لجان جينيه يوما أنها تمنت لو كانت قد كتبت كتابا مثل كتابه " يوميات لص " اخبرت سارتر ان كتاب جينيه " واحد من اجمل الكتب ".

ولدت سيمون دي بوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908،:" كان ابي في الثلاثين من عمره، وامي في الحادية والعشرين "، كانت إبنة لعائلة ميسورة الحال، والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد:" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".

دارت اعمال سيمون دي بوفوار حول مغضلة العثور على اخلاقية وجودية ايجابية " بعيدا عن الزيف والاستسلام ". وفي القراءة حاولت أن تطبق هذا المنهج:":" انا لا اقرأ أي كتاب، إلا إذا كان لا بد من دراسة نص اجتماعي ". في حوارها مع سارتر قالت انها كانت تقرأ منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، قصص مغامرات وكانت تسأل نفسها احيانا هل هذه القصص متخيلة ام حقيقية:" لم تكن لدي بعد فكرة الخيال المحض التي امتلكتها لا حقا بشكل سريع ".

حينما كانت سيمون دي بوفوار فتاة صغيرة لم تشرك المعرفة بالدراسة او التربية العائلية، بل قارنتها بالتهام الطعام. بالتهامها الكتب فانها تستحوذ على العالم وتجعله عالمها الخاص. في الوجود والعدم يكتب جان بول سارتر ان:" المعرفة يعني أن تأكل بعينيك ". في فترة المراهقة، اصبحت العلاقة بين سيمون ووالديها اكثر حدة، فقد شعرت وهي تنتهي من قراءة مؤلفات نيتشه بانها فتاة منفية في عالم من القيم المزيفة التي سعت للهروب منها قالت:" كانوا يحبسونني في هذا العالم الذي كلفني الهروب منه سنوات من عمري، عالم لكل شيء فيه اسمه، ومكانه، ووظيفته، عالم كل شيء فيه مصنف، ومحكوم عليه قطعيا " – مذكرات فتاة رصينة –

ظلت المقاهي بؤرة الحياة والقراءة بالنسبة لسيمون دي بوفوار.كانت افضل الاماكن بالنسبة اليها ولسارتر فيها تشعر بلذة الدفء، وبلذة القراءة او الكتابة، وغدت المقاهي ايضا اماكن للحديث والجدال الفلسفي " ولابقاء الذهن حيا منتعشا " على حد تعبير بوفوار في كتابها " المثقفون ". هكذا بدأعالم الوجودية المفعم بالاعاجيب والتجريب واعلاء سلطة حرية الفرد.تكتب بوفوار في أول مقال لها نشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1945:" أن البشر احرار، وأنا ملقى بي في هذا العالم بين هذه الحريات. أنني بحاجة اليها " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -. كانت الوجودية بالنسبة لسيمون دي بوفار طريقة لتصور العالم، وجدت ان افكار سارتر تتفق مع رغبتها في التخلص من عالم عائلتها الخانق، واخيرا وجدت فلسفة تشجعها على المضي قدما في مشروعها الثقافي – قراءة وكتابة – اصبح سارتر مصدر الهام اساسي في حياتها، وهو تأكيد سيتكرر في الكتب التي كتبتها عن سيرتها الذاتية:" لقد تبنيت صداقة سارتر ودخلت في عالمه، ليس لأنني كما يزعم البعض امراة، بل لأنه العالم الذي تطلعت اليه منذ رمن بعيد " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –

كان والدها جورج دي بوفوار يكره اختيار ابنته مهنة التعليم، وذلك لأن من شأن هذه المهنة ادخالها في فئة اجتماعية يحتقر قيمها " كان ينظر إلى الاساتذة بوصفهم متحذلقين، انهم ينتمون الى تلك الطائفة الخطيرة، المثقفين ". لم يطل العمر باأب ليرى اول رواية تنشرها ابنته، كان قد فقد أي أمل برؤيتها " متزنة ". في تلك الفترة كانت عائلتها واصدقاؤها يعتبرونها عقيمه، دمرت الكتب حياتها على حد تعبير والدتها. وكان والدها ينزعج من انكبابها على هذه الصفحات اللعينة كما كان يسمي الكتب. توفي جورج دي بوفوار في الثامن من تموز عام 1941، وعند نهاية شهر أب من نفس العام كانت ابنته سيمون قد انجزت اولى رواياتها " المدعوة " التي صدرت عام 1943.

ظلت القراءة ترافق سيمون دي بوفوار حتى اللحظات الاخيرة من حياتها، في كتابها " ذكريات باريسية " تصف الكاتبة الامريكية ديردر بير شقة سيمون دي بوفوار التي دخلتها عام 1981 حيث اثار انتبهها اريكة وضعتها الفيلسوفة الفرنسية في زاوية من الصالة، عندما لاحظت ان ديردر بير تطيل النظر الى الاريكة، قالت لها انها اريكة القراءة. أنه المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها. تصف لحظة القراءة على الاريكة بأنها لحظة ساحرة:" اسحب ستائر غرفتي، اتمدد على الاريكة، يُمحى الديكور، اتجاهل حتى نفسي، وحدها في الوجود الصفحة البيضاء المكتوبة بالاسود التي تجوس فوقها عيناي " – وانتهى كل شيء –، قالت لكاتبة سيرتها ديردر بير ان القراءة وحدها تخلق علاقة جيدة ودائمة بين الاشياء وبينها. فالكتاب جعلها تختار حياتها الحقيقية، عندما قررت ان لا تسمع سوى نفسها، واشتدت رغبتها بالمعرفة. اقنعت والدها الذي كان يتمنى لها حياة اخرى. ان مصيرها مرتبط بالفلسفة والكتاب، فما ما من تجربة تضاهي تجربة القراءة والعيش مع الكتب. تقرأ في المفهى او البيت واحيانا في السيارة " تاخذني الكتب بعيدا جدا. في حالات اقرأ للذة القراءة لا لأكون قد قرأت. انا نهمة فيما يتعلق بالقراءة " قالت لفرانسيس جانسون:" اقرا كثيرا لأعلم. كانت دائما لدي رغبة في المعرفة وفضولي لا حدود له. اردت أن اظل على درية بكل ما يثير اهتمام ابناء زمني " سيمون دي بوفوار مشروع حياة ترجمة ادوار الخراط.

عام 1929 حصلت سيمون دي بوفوار على المرتبة الثانية في امتحان الاستاذية، أي بعد سارتر مباشرة الذي حصل على المرتبة الاولى، ارتبطت بعلاقة مع الطالب المجتهد. كان قد اخبرها منذ البداية انه لا ينوي الزواج منها، لكنه لا يمانع ان تستمر علاقتهما مدى الحياة. قال لها ان الحب الذي يجمع بينهما جوهري واساسي وانهما متماثلات في الشخصية. ان اساس الفلسفة الوجودية التي اعتنقتها سيمون دي بوفوار، كانت ايضا الاساس الفلسفي لعلاقتها مع سارتر. عندما كانا يلتقيات في مقهى " الفلور " كان سارتر يقول لها " لقد توصلت الى نظرية جديدة ". وكانت بوفوار تنصت باهتمام، ثم تشير الى موضوعات اخرى، كان يقول " اعتدت ان تكوني مليئة بالافكار "، هذه الافكار التي كانت تراودها وهي تتمدد على الاريكة وبيدها كتاب يأخذها الى عالم مختلف، هكذا شعرت المرة الاولى عندما قرات مذكرات سارتر " الكلمات "، بهرتها كتب فرويد:" اعلق اهتماما كبيرا على الاعمال التي تظهر لي الانسانية تحت ضوء نهار جديد ".

ما هي الطريقة التي توصينا بها سيمون دي بوفوار ونحن نقرأ لكاتب معين حتى وان كنا نختلف مع افكاره:" القراءة لكاتب نختلف معه، امر عويص حقا، كي يتمتع نص ما بمعنى يجب ان نمنحه الحرية. ان نحسن الصمت في اعماقنا، وان نسمح لصوت الكاتب الغريب عنا بأن يصدح ".

تعترف ان القراءة بالنسبة لها ليست نشاطا لتجميع اللحظات الرائعة في كتاب، لكن في اقامة علاقة بين مختلف الكتب، علاقة تواصل وتكامل، ترى ان الكتب احيانا اكثر توهجا من الحقيقة:" إيما بوفاري حاضرة في حياتي اكثر من اشخاص عرفتهم حقيقة ". تصر على ان الكتاب الذي يجذبها هو الكتاب الذي يجيب على اسئلة طرحتها على نفسها.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

.................

* فصل من كتاب جديد بعنوان " العيش مع الكنب "

 

يذاع خلال هذا الشهر الفضيل مسلسلا بعنوان" الحشاشين"، على جميع قنوات التلفاز العربي، حيث يتصدر قائمة المسلسلات المصرية في رمضان 2024، ومنها استخدام اللهجة العامية بدلاً من الفصحى على لسان الشخصيات في سرد أحداث المسلسل التاريخي؛ المسلسل تدور أحداثه بين الأتراك والفرس، وحينما قدمه الأتراك استخدموا اللغة التركية، وكذلك النسخة الأمريكية منه كانت باللغة الإنجليزية.

وليس يهمني في هذه الورقة كل الحيثيات، يقدر ما يهمني أمر تلك الفرقة الأكثر دموية في التاريخ، والتي أرعبت العالم على مدى قرنين من الزمان، حيث اتخذوا من الموت طريقا للخلود فغيروا مجرى التاريخ باغتيال أهم الشخصيات وذلك بعد أن تخفوا في دهاليز الجبال الشاهقة، وتحصنوا في قلعة آلموت الغامضة التي تناطح السحاب، وتختفي عن الأنظار تحت قيادة أخبث حشاش عرفه التاريخ، فمن هؤلاء القتلة، وكيف غيروا مجرى التاريخ، وهل حقا ارتعد منهم حكام المسلمين.

والبداية جاءت في عام 485 هـ في بلاد فارس، حيث كان الوزير نظام الملك في رحلته من نهاوند إلى بغداد، وأثناء توقفه في إحدى القرى الهادئة، خرج من هودجه نحو خيمة زوجته، ولكنه لم يدرك أن الموت يتربص به، فظهر أمامه صبي فارسي، يرتدي زي الصوفية، ومعه خصله شعر، وعرض أن يقبل منه خصلة الشعر، فمد نظام الملك يده ليلتقطها، لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون آخر شيء يمسه، وفي لحظة غفل، وقبل أن يفكر طعنه الصبي بسكين في قلبه، ثم فر الصبي هاربا، لكنه تعثر بحبل الخيمة، فألقى القبض عليه، وتم إعدامه على الفور. أما الوزير نظام الملك فحمل إلى خيمته وما لبث قليلا حتى مات.

انتشر الخبر بين العوام كما انتشر النار في الهشيم، ومن هنا انتشر وجود جماعته منفذة للاغتيالات، ولكن سرعان ما اختفى الخبر عنهم من جديد بعد عشر أعوام من اغتيال نظام الملك شهدت بلاد الشام ضربة أخرى، لكن هذه المرة كانت أكثر تطورا، فلم تقتصر على فرد واحد، بل على ثلاثة أفراد مع الاحتفاظ بنفس الأسلوب، كان حاكم حمص الأمير جناح الدولة متوجها من القلعة إلى الجامع ليصلي صلاة الجمعة، وكان برفقته عساكر مسلحون لتأمين وبعد فروغ جناح الدولة من الصلاة تقدم إليه ثلاثة نفر من العجم، من بينهم شيخ وكان في زي الزهاد، فراحوا يدعون له ويحدثون في بعض المسائل فوعدهم بتلبية طلباتهم، ولكن في لمح البصر اقتربوا منه كفاية وانقضوا عليه بخناجرهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه.

من هنا عادت تلك الجماعة والتي عُرفت بالحشاشين للأذهان مرة أخرى،لكن كانت أكثر قوة وخطرا من ذي قبل، واتضح أنها حركة شيعية منفذة لعمليات الاغتيال تحت عباءة الدين، وقائدهم "الحسن بن الصباح" القاطن بقلعة " آلموت" الذي أعلن لأتباعه أنه يمتلك مفاتيح الجنة.

فمن هم الحشاشون؟، ومن هو قائدهم الذي يمتلك مفاتيح الجنة؟ ومنهم حشاشهم المزعوم الذي وصف نفسه بالشيطان الشيعي اللعين؟

ولد الحسن الصباح في مدينة " قم " الإيرانية عام 428 هـ والتي كانت مركزا للشيعة الاثني عشرية، ثم انتقلت عائلته إلى مدينة الري مركز نشاط الطائفة الإسماعيلية الفاطمية، فانتهج طريقتها وعمره 17 عاما، فكانت تدعو إلى التطرف والمغالاة وتأويل القرآن بشكل مبتذل، وذلك لأغراض سياسية وعنصرية بعد فترة من العمل على نشر المذهب الشيعي وإفساد عقول الآخرين، خرج ابن الصباح إلى مدينة أصفهان، وأقام فيها عامين ليكمل دعوته ثم خرج منها إلى مصر عام 471 هـ وهناك سرعان ما شمله الخليفة الفاطمي " المستنصر بالله" برضا وأغدق عليه وأمره أن يدعو الناس إلى امامته فقال له الصباح، فمن هو الإمام بعدك، فأشار إلى ابنه " نزار".

ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار ابن المستنصر، حتى جاء الحدث العظم التي تفرعت منه كل الأحداث التالية، وهو وفاة "المستنصر بالله"، فانقسم الإسماعيليون إلى جماعتين متنافستين هم: النزارية والمستعلية، نجح الوزير الفاطمي القوي " بدر الدين الجمالي" صاحب السلطة المطلقة والفعلية حين ذاك في تنصيب ابنه الأصغر ولقبه بالمستعلي بالله، حارما بذلك نزار الأبن الأكبر وولي العهد من حقه الشرعي في ولاية ابيه، ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن الصباح يدعو لنزار أكبر أولاد المستنصر.

فبدأ ابن الصباح بالدعوة لإمامة نزار وتوجهت دعوته إلى يزد وكرمان وطبرستان ودمغ وولايات أخرى من إيران فتمرس في الدعوة، واكتسب أنصارا كُثر، ومن الملاحظ اختياره مدنا شيعية معادية لأهل السنة أو قابلة لانتشار المذهب الشيعي فيها، فلكلما كان أهل المنطقة معادين لحكام السنة كان الأمر أيسر بالتلاعب بعقولهم وتجنيدهم واستمر على ذلك لمدة ثلاث سنوات حتى أصبح خطرا داهما على وجود السلاجقة في فارس، فصدر قرار باعتقال الحسن الصياح واتباعه وتقفى أثرهم.

هنا خطرت له فكره ستغير مجرى التاريخ، إذ فكر الصباح في الحصول على حصن منيع يحميه وأنصاره، ويكون مركزا لوضع الخطط الخبيئة، تمهيدا لعملية القتل، فاتجهت عيناه نحو الشمال، حيث هضبت الديلم، وقد كان لاختياره هذا سببان: الأول: إن غالبية سكان الديلم شيعة فهم أكثر الناس استعدادا لاعتناق " الإسماعلية النزارية".

علاوة على كراهيتهم الشديدة لأهل السنة وحكامهم، والثاني، تمثل في استراتيجية السيطرة على أكبر عدد من القلاع الحصينة في المنطقة الجغرافية المحيطة بالعراق مركز الخلافة الإسلامية السنية، فمن هذه القلاع ما أخذوه بالحيلة بواسطة دعاتهم، ومنها ما أخذوه بقوة سلاح ميلشياتهم بعد ارتكاب مجاز وتصفيات دموية ضد كل من عارضهم.

هنا وجد "الحسن الصباح" ضالته في حصن منيع يحميه من مطاردات السلاجقة ويستطيع تحويله إلى قاعدة مستقرة وآمنه لنشر المذهب الشيعي تمثل ذلك الموقع في قلعة آلموت المنيعة التي تقع على صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال وارتفاعها يزيد عن 6000 متر، حيث بُنيت القلعة بطريقة شديدة الإحكام، فليس لها إلا طريق واحد للوصول إليها ويصعب على الغراة اقتحام هذه الطريق الوعرة، لكن لم يعرف بدقة من بنى تلك القلعة، إلا أنه يقال أنها بنيت بواسطة أحد ملوك الديلم القدماء، وأُطلق عليها اسم " الوه اموت"، ومعناه " عش النسر".

وهنا قرر ابن الصباح بعد دراسة متأنية للاستيلاء عليها، وكانت مملوكة لشرف شاه الجعفري، فاستخدم ابن الصباح أسلوبه الخبيث لجذب المزيد من الأنصار والتأثير في صاحب القلعة، واستمال أهلها بفضل قدرته على الإقناع وإظهاره للزهد والتقوى، ففي يوم دخل ابن الصباح إلى القلعة، وأعطى للعلوى ثمنها وطلب منه الخروج، لكنه رفض، حينها أمر ابن الصباح رجاله بإخراجه بالقوة، ومن هنا عُرف الحسن بن الصباح بشيخ الجبل، وبذلك أصبحت قلعة آلموت معقلا تاريخيا للحشاشين، ومن ستدار الخطط حول الشخصية التالية في قائمة الاغتيالات.

وهنا نستعرض أسطورة غريبة ارتبطت بالقلعة، وتناقلت الأجيال، فيقال أن القلعة بها حدائق وجداول من لبن وعسل وحسناوات هن أجمل ما يكون أعدها ابن الصباح ليوهم أتباعه أنها الجنة، وأن مفتاحها معه، وذلك باستخدام حيلة ذكية لجعلهم يصدقونه، فكان يخدره عن طريق شراب من الحشيش، ثم يأمر بإدخالهم إلى الجنة، فيمكث بها عدة أيام قبل أن يأمر ابن الصباح بتقديرهم من جديد، وإخراجهم منها، ثم يكون شرط العودة إليها هو تنفيذ عمليات الاغتيال،وذلك في حال نجاح العملية، أما إذا ما فشلت وقتل، فتحمله الملائكة إلى جنة آلموت.

بيد أن كثير من الكتاب والباحثين أنكروا ذلك بسبب شدة برود المنطقة، وتساقط الجليد طوال نصف العام، فالرأي الراجح عند أغلب المؤرخين أن ابن الصباح نصب نفسه نائبا للإمام المعصوم نزار، ولا يمكن لأحد أن يعرف الدين، إلا من الإمام المعصوم أو نائبه، فقدسوه الحشاشون ودانوا له بالطاعة العمياء.

اختلفت الآراء حول سبب تلقيب الفرقة بـ" الحشاشين"، فقيل لأنها كانت تختفي وسط الحشائش لاغتيال معارضيها، وقيل لشربها الحشيش قبل عمليات الاغتيال، حتى لا تتراجع عنها وسط تأثير هذه المادة المخدرة، واشتهرت تلك الفرقة بالدموية الشديد ة والجرأة، فقد ارتكبوا تحت ستار الدين، وعرفوا بمهارتهم الغير متوقعة في الاجهاز والقتل ومنها صارت assasain (اساسن) بالإنجليزية وتدل على الاغتيال، ويقال أيضا أنهم عُرفوا بحسسان،نسبة إلى شيخ الجبل الحسن بن الصباح، وأيضا عساس وهي مشتقة من عساسون، وهي مشتقة العسس الذين يقضون الليالي في قلاعهم وحصونها لحراستها، وكذلك عرفوا بالملاح بالملاحدة الذين لا يؤمنون بالله.

وما سنذكره الآن يكشف حجم الرعب الذي أثارته هذه الفرقة على مدى قرتين من الزمان، فجاء في تقرير إلى الإمبراطور الألماني " بارباروسا " سنة 580 ه الوصف التالي:" له سيد يلقى أشد الرعب في قولب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين له لأن من عادتهم أن يقتلوه بطريقة تثير الدهشة".

لقد كان يتم تدريب الحشاشين على وسائل الهجوم على وسائل الهجوم، واستخدام الخناجر والقدرة على التخفي وتقمص الشخصيات، وبعد مرحلة تكوينهم وإعداد شخصيتهم الإرهابية، كان ابن الصباح يشرح لهم خطة العملية التي سيقدمون عليها، وكانت هذه الخطة تهدف إلى اغتيال شخصية ما في مكان عام، ويمر من الناس لإثارة الرعب فيهم، مثل الجامع في يوم الجمعة كعملية اغتيال لجناح الدولة أو موكبا عظيما وسط الحرس والجنود،مثل اغتيال نظام الملك، وعلى مقربة من الهدف،وكانوا يتخفون تارة في ملابس النساء، وتارة في ملابس الجنود، لكن في الأغلب، كانوا يتخفون بزي متصوفة، أو دراويش، حتى لا يتوقع منهم الحرس أي شر أو أذية، ووصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى أن القاتل كان يواظب على حضور دروس عالم الدين إذا استهدفه كضحية، فيظهر نبوغا وحبا في التعلم، ويتبعه حتى ينال ثقته، ثم يجهز عليه.

وكانت الشخصيات المستهدفة تتربع على قمة المجتمع السياسي والعسكري والعلمي، فقد تمكن الحشاشون من اغتيال الخليفة العباسي " المسترشد بالله"، ومن بعده الخليفة " الراشد"، كما اغتالوا الخليفة الفاطمي " الحاكم بأمر الله"،الذي دخل في صراع في حرب عقدية وإعلامية ضد الحشاشين، وألف كتابا بعنوان " الهداية الآمرية في إبطال الدعوى النزارية "، فهاجم الحشاشين، ودافع عن إمامة أبيه " المستعلي"، فما كان من الحشاشين، إلا أن قرروا اغتياله، فتربصوا له حين دخوله لجزيرة الروضة، وأجهزوا عليه ؛ ولم يكن الحاكم بأمر الله الأخير، فقد تعددت قائمته الاغتيالات، والتي كان من بينها ملك بيت المقدس الثالث عشر " كونراد اوف مونتفيري".

بيد أن الأقدار قد شاءت أن يهلك ابن الصباح عام 518 ه في قلعة آلموت،وأُشيع عنه قتله لأبنائه، لكن المصادر نفت ذلك، فقد خلفه ابنه "بزر جميد" في قيادة الطائفة، فدعا أتباعه إلى مواصلة الدعوة حتى ظهور الإمام المستتر وفقا لمعتقدات الإسماعيلية، والجدير بالذكر الإشارة إلى أن هناك شخصيات نجحت في صد هجمات الحشاشين، وكسر شوكتهم، وعلى رأسهم السلطان الناصر " صلاح الدين الأيوبي"، الحاكم السني، وكان ذلك في عهد رئيس الحشاشين "راشد الدين سنان"، حفيد ابن الصباح، وهي شخصية لم تكن تقل خطورة عن أبائه وأجداده، حيث حاول اغتيال " صلاح الدين" مرتين، فكانت الأولى عام 570ه أثناء حصار صلاح الدين لحلب بإيعاز من وزراء الصالح بن نور الدين زنكي، فاستعان الوزراء بالحشاشين، مقابل وعود ومكافآت عدة، فنجح الحشاشون في التسلل إلى خيمة صلاح الدين، لكن تعرف عليهم " ناصح الدين " أمير أبي قبيس ودخل معهم حينها في قتال، وقتل على أيديهم، ونشب عراك بينهم وبين صلاح الدين وجنوده، حيث قتل فيه العديد من الجنود ولم يصب صلاح الدين بأي أذن. أما المحاولة الثانية لاغتيال صلاح الدين كانت أثناء حصاره لمدينة " عزاز" عام 571ه حينها تخف الحشاشون في زي جنود صلاح الدين، فتربصوا له وضربوه على رأسه، لكن بسبب خوذته الشهيرة لم يصب إلا بجروح طفيفة، ودخل معهم في قتال عنيف هو وحراسه، فقتل صلاح الدين وجنوده كل الحشاشين، وبعد هذه المحاولة عزم على سحقهم وإيادتهم قبل أن يستفحل شر الحشاشين مجددا، فهاجم صلاح الدين قلعة "مصياف" معقلهم الرئيس، فدكها وحاصرهم حصارا شديدا.

طلب سنان شيخ الجبل من حاكم حماه، وخال صلاح الدين الغفران والتفاوض، وبالفعل انتهت المفاوضات بهدنة بين صلاح الدين وسنان، ولاشك أن صلاح الدين كان موفقا في هذا الإجراء، فكان يسعى لتحييد الشيعة للتفرغ للخطر الصليبي الأكبر.

لكن ظلت فرقة الحشاشين في طليعة الحركة الإسماعيلية في ارتكاب المجازر والانتقام من خصومهم، حتى جاء هولاكو فحاصر قلعة آلموت عام 1256 م، واستمر حصارها ثمانية أشهر، وانتهى الأمر باستسلام ركن الدين خورشاه زعيم الحشاشين، واشترط عليهم هولاكو تسليم جميع قلاع الحشاشين، وقتل جميع من تجاوز عمره العاشرة، وتم بيع الباقين في أسواق الرقيق محطما موقعهم في الشرق.

بيد أنه بعد هذه المأساة حاولوا النهوض مجددا متطلعين لاستعادة نفوذهم من خلال كسب ثقة ركن الدين بيبرس حاكم مصر والشام والتعاون معه، لكنهم واجهوا قرارا قاطعا من السلطان بيبرس الذي لم يسمح ببقاء طائفة مستقلة في قلب الشام، فأمر بتحصيل الضرائب والرسوم، فلم تكن لهم القدرة على الاعتراض على هذا القرار، ومع مرور الوقت أصبح الظاهر بيبرس هو الذي يعين قادة الحشاشين بعد سقوط قلعة آلموت     ، حيث تحول رئيس الحشاشين إلى مجرد ممثل لسلطة بيبرس، وبهذا الشكل وصلت الحركة إلى نهايتها الكاملة إلى أن انتهى إلى وجود تلك الحركة تماما.

***

أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري.

..........................

المراجع:

1- برنارد لويس: الحشاشون فرقة ثورية.

2- الحشاشين، سر الطائفة التي أرعبت العالم!! وشيخهم الصباح..

 

قيل الكثير عن الاستشراق والمستشرقين، وتباينت الآراء بين مستنكر متطرف يشكك بكل مستشرق، بغض النظر عما قام به من خدمات وتحقيقات وترجمات لكتب التراث العربي الإسلامي، وبين منصف ينظر بإيجابية إلى عدد من المستشرقين، الذين كان عملهم خالصاً للعلم، ولم يكونوا عملاء لمخابرات دولهم وفي خدمة اطماعها الاستعمارية تحت غطاء البحث العلمي، كما كان يفعل الغالبية العظمى من المستشرقين الأوروبيين، خاصة البريطانيين. غير أن ظلال الشك تكاد تتضاءل تجاه المستشرق البريطاني الكبير آرثر جون آربري " 1905-1969 " الذي زار البلاد العربية، وعمل في الجامعة المصرية بداية الثلاثينيات من القرن الفائت، أنجز خلالها كتاب "المواقف والمخاطبات" للنفَّري، وأصبح رئيساً لقسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج أفضل العلاقات مع تلامذته العرب والعراقيين من أمثال مدني صالح وحسام الآلوسي وكامل الشيبي وناجي التكريتي وعرفان عبد الحميد، وأشرف على العديد من الرسائل والأطاريح في الفلسفة الإسلامية والتصوف، فضلاً عن تحقيقاته وترجماته، ومنها ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم.

يصفه عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين بالقول " كان آربري هادئ الطبع، صافي الضمير، يحبه كل من عرفه. وكان مرهف الإحساس الشعري، رشيق الأسلوب، واسع الإطلاع على كل ما يتصل باهتماماته من أبحاث، أشبه ما يكون بأستاذه نيكلسون: إنتاجاً وأخلاقاً وذوقاً أدبياً وجمال أسلوب"، وهو بالطبع يعني في ذلك ضمن ما يعنيه ترجمة آربري للقرآن الكريم التي يعدها بدوي من أجلّ أعمال الاستشراق، ويرى أنها تعطي المعنى في أسلوب رقيق جميل، وهي أجمل في القراءة من أية ترجمة أخرى للقرآن إلى أية لغة. عدا ذلك فإن لآربري الكثير من الأعمال في الأدب العربي والفارسي والهندي، اشهرها ترجمته لمسرحية أحمد شوقي "مجنون ليلى" وخمسون قصيدة لحافظ الشيرازي، وعدد من قصائد محمد اقبال، تضاف إلى أعماله في التصوف الإسلامي ومنها تكملة مخطوطة كتاب اللُّمَع لأبي نصر السراج الذي حققه أستاذه رينولد نيكلسون. لكن من بين كل الآثار التي حققها آربري يبقى كتاب التَّوهُّم للحارث بن أسد المحاسبي، واحداً من أروع الأعمال الصوفية المُبتكرة المُتخيلة، فالتَّوهُّم هنا بمعنى التخيل، وقد تخيل المحاسبي وأبدع في وصف رحلة الانسان بعد الموت، ووصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب : " فتوهّم نفسك وقد صرعت للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربّك، فتوهّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك فوجدت ألم جذبه من أسفل قدميك، ثمَّ تدارك الجذب واستحثّ النزع وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه وعمَّت آلام الموت جميع جسمك، وقلبُك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله عزَّ وجلَّ بالغضب أو الرضا ".

هكذا يمضي المحاسبي بتكرار كلمة " فتوهم " في رحلة الخوف والرجاء والترغيب والترهيب حتى يبلغ المرء منتهاه في جنة أو نار، مما يذكرنا بجحيم دانتي في الكوميديا الإلهية التي جاءت بعد كتاب المحاسبي بما يقرب من خمسمئة عام.

***

د. طه جزاع

قام رجال أعمال بخدمة الثّقافة والبحث والأدب، دون قصد الرّبح، فلو نسأل: ما الأرباح التي ابتغاها سُلطان العويس(ت: 2000) من «جائزة العويس»، التي تمنح منذ (1990)، لأدباء وشعراء ومؤلفين، ما هي أرباح عبد العزيز البابطين (ت: 2023) مِن جائزة الشّعر، التي تمنح منذ (1989)؟

أعود إلى التّاريخ، ما مصلحة مسلمة بن عبد الملك (ت: 121هجرية)، في الزَّمن الغابر، مما فعله: «أوصى... بثلث ماله لطُلاب الأدب، فقال إنَّها صناعة مجفُوٌ أهلها» (الأزرقيّ، أخبار مكة).

كذلك، ماذا جني الوزير عليّ بن الفرات(قُتل: 312 هجرية) مِن إطلاق حصة من ماله لأهل الأدب، وبعد الاستغراب قال: «لعلَّ أحدهم يبخل على نفسه بدانق(سُدس الدّرهم) فضة، ويصرفه في ثمن ورق وحِبر، وأنا أولى مَن أعاونهم على أمرهم(ابن النَّجار، ذيل تاريخ بغداد). نُكبَ ابن الفرات ثلاث مرات، وقُتل ولم يفزع له أديبٌ. فكان الجميع على قول أبي الحسن الأنباريّ(ت: 390 هجرية): «ولكني أُصبر عنك نفسي/ مخافة أنْ أعدَّ مِن الجناةِ«(ابن خِلّكان، وفيات الأعيان).

نشأت مؤسسات رصينة، مِن قِبل حكومات وشخصيات، ليس لها غير تقدم شعوبها بدعم الثّقافة وإحياء الأدب، الذي قال مسلمة، عن غير المزيفين المحسوبين: «صناعة مجفوٌ أهلها»، لأنها غير التّجارة. أقول هذا، ولا يهمني مَن أمثال مَن أخذ الجوائز، ونال التقدير، و(ثوريته) أبت إلا الإساءة لهم.

ذلك مستهل للحديث عن الأديب محمّد الشَّارخ(1942- 2024)، في وقت لم نسمع به، في العديد مِن البلدان، بجهاز الكمبيوتر، أقام مؤسسته «صخر للمبرمجيات» (1982). أقصد البلدان المتخمة بالنِّعمة والغاصة بالنّقمة. سعى إلى مغامرة جعل الجهاز العجيب طوعاً للحرف العربيّ، وكان القلق غالباً، فأنتج كمبيوتر «صخر».

كانت، خلال الإنجاز، المنافسة حادةً، فالشّركة المنتجة للكمبيوتر أوقفت التّعاون(1990)، يقابلة عدم ثقة الحكومات ولا الشّركات العربية بمغامرته، ولما أدخل نص القرآن والحديث، ذهب لإقناع رجال الدّين بمشروعه، درءاً لفتوى قد يواجهها، في زمن صوت الصّحوة الدّينيَّة كان صاخباً مهيمناً، لأنه يعرف العوائق التي حصلت أمام طباعة(1530)، وترجمة (1743) النّص القرآني، فكيف إدخاله في الكمبيوتر؟

قبل سنوات كتب لي الباحث ناصر الحُزيمي: «إنَّ أرشيفاً عظيماً، للمجلات العربيَّة، متاحٌ على الإنترنت». هذا ما كتبتُ عنه، بعد الاستفادة منه: «مجلات العقود الخوالي متاح للباحثين»(مجلة المجلة 2016).

تذكرتُ أنَّ الشّارخَ سألني، قبل سنوات، مِن هذا التّاريخ، عن مجلة «لغة العرب»(1911-1931)، وأن أذهب معه إلى مكتبة «سواس» ليسجل عناوين المجلات العربيّة، واستعار مني «لغة العرب» لعدم العثور على مجلداتها التسعة، فترددتُ في إعارتها، لأنه سيبعثها إلى مصر، وأقنعني بالقول: «ستكون مجلات القرن التاسع عشر إلى اليوم متاحة لكم» نسيتُ الموضوع، حتّى رأيت المشروعَ في عالم الإنترنت منجزاً.

تكتبُ عنوان المقال، أو اسم الكاتب، يظهر أمامك طبق الأصل، والمجلة كاملةً. كنتُ قبل وجود الأرشيف أهدر الوقت بمراجعة المكتبات والمراسلات، كي أحصل على مقالة كتبها جواد علي العام(1939)، أو ما كتبه انستاس الكرملي العام (1911)، أو رأي لإبراهيم العريَض 1942، وغيرها مِن النّوادر.

يتضمن أرشيف الشَّارخ مليوني صفحة، أكثر من ثلاثمئة وعشرين ألف مقال أو بحث، كتبها أكثر مِن اثنين وخمسين ألف ومائتي كاتب. لا يُقدر هذه الثروة، إلا مَن جحظت عينه بحثاً، وضاعت أوقاته تفتيشاً عن معلومة، فأباحها له الأرشيف، وما صارت هذه الثّروة الثّقافيّة الهائلة، في متناول الطّالبين، إلا بما بدأه الشّارخ بتعريب الكمبيوتر.

أقول: إنْ لم يفعل هذا الرّجل، مُحب الأدب والموسيقى والفنون، غير ما تقدم لكفاه، أحسبها، بلا مراء ولا مبالغة، ثورةً ليست كبقية الثّورات، التي لو عاش، بظل انتصاراتها، الشّارخ، لقاده شغفه بالمعرفة والتَّقدم إلى السُّجن، لا التَّكريم.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: ساندرين بيرجيس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت ثورية فرنسية وزوجة سياسي. لكن ينبغي أن نتذكر مانون رولاند لكتاباتها الفلسفية:

في 8 نوفمبر 1793، تم اقتياد مدام رولاند إلى المقصلة. كانت امرأة من الطبقة المتوسطة تتمتع بصحة جيدة تبلغ من العمر حوالي 30 عامًا، وكانت تبدو لطيفة وكريمة وليست درامية في السيارة التي نقلتها عبر شوارع باريس. استقبلها الجمهور وأرسل لها تحيات التشجيع: لقد كانت محبوبة جدًا.

مثل العديد من أصدقائها وأعدائها، رأت مدام رولاند أن حياتها تنتهي بنصل المقصلة السريع والفعال. بعد أربع سنوات من سقوط الباستيل، حتى أكثر الممثلين حماسة في الثورة أصبحوا أعداء للثلاثي الحاكم: ماكسيميليان روبسبير، وجورج دانتون، وجان بول مارات. والمقصلة، التي تم اختراعها بغرض جعل العقوبة أكثر إنسانية، هيمنت على الفترة المعروفة باسم الإرهاب.

كانت ماري جين ('مانون') رولاند، واسمها قبل الزواج فيليبون، تنتمي إلى المجموعة المعروفة باسم الجيرونديين، المدافعين الأوائل عن النزعة الجمهورية والذين، بعد عدد من الخلافات مع روبسبير، أصبحوا بمثابة العدو الأول للأمة. وكان زعيمهم، جاك بيير بريسو، قد أُعدم قبل ثمانية أيام، مع 21 من زملائه الجيرونديين. وقبل خمسة أيام من إعدام رولاند، أُعْدمت سيدة جيروندينية أخرى في المقصلة: أوليمب دي غوج، التي أعربت صراحة عن خلافاتها مع روبسبير، مما أدى إلى سقوطها. على حين احتفظت رولاند بانتقاداتها الخاصة لمن حولها، لكنها أيضًا كانت تعتبر خصمًا خطيرًا. وكان المدعي العام قد كتب "عاجل" على أمر إعدامها، مشيرًا إلى أنها زوجة وزير الداخلية السابق، وأنه كان لا بد من إعدامها في نفس اليوم. لماذا كان إعدام مانون رولاند عاجلاً للغاية؟

حقيقة أنها كانت زوجة شخص ما لا تساعد في تفسير ذلك. ربما سعى أنطوان كوينتين فوكييه تينفيل، المدعي العام، إلى إثارة رد فعل من نوع "أوه، تلك السيدة رولاند!" سيكون هذا منطقيًا. كانت رولاند شخصية مركزية في الجيرونديين: فقد كانت تستقبل قادتهم بانتظام في صالونها، وتناقش معهم السياسات والتعيينات عندما كان زوجها وزيرًا، لدرجة أن دانتون قال مازحًا إنها وزيرة الداخلية الحقيقية. لقد كانت رولاند نفسها  فاعلاً مهماً في الثورة ، وعلينا الآن أن نتذكرها ليس فقط لدورها في السنوات التي سبقت الإرهاب، ولكن أيضاً للكتابات السياسية التي تركتها وراءها.

خلال حياتها، لم يدرك سوى القليل أهمية رولاند ككاتبة. أشهر أعمالها، مذكراتها (1795)، مثل معظم أعمالها، نُشِرت بعد وفاتها (الترجمات التالية هي ترجمتي). القطع القليلة التي كتبتها والتي نُشرت في حياتها ظهرت بشكل مجهول. إن أسباب عدم رغبتها في النشر باسمها لا علاقة لها بما إذا كانت تشعر أنه من المناسب للنساء أن يصبحن مؤلفات -وكل ما يتعلق بالضرر الذي سيلحق بسمعتها، كانت تعلم أنها تتوقعه إذا أصبحت معروفة كمؤلفة:

لم يكن لدي أدنى إغراء لأن أصبح مؤلفة؛ وفي وقت مبكر جدًا، رأيت أن أية امرأة ستحصل على هذا اللقب خسرت أكثر بكثير مما اكتسبته. الرجال لا يحبونها، وجنسها ينتقدها: إذا كانت أعمالها سيئة، يتم الاستهزاء بها، وهذا صحيح تمامًا. فإن كانت جيدةأخذوا منها.  وإذا ما أُجبر المرء على الاعتراف بأنها أنتجت أفضل جزء منه، فسيتم تشريح شخصيتها وأخلاقها وسلوكها ومواهبها إلى الحد الذي يمكن فيه موازنة سمعة ذكائها مع الثقل المعطى لنقاط ضعفها.3546 رولاند تكتب مذكراتها في السجن

رولاند تكتب مذكراتها في السجن. رسم توضيحي من كتاب "صناع التاريخ" لجون إس. سي. أبوت: مدام رولاند، ١٩٠٤.

على الرغم من مخاوفها بشأن التأليف، نشأت مانون وهي تقرأ وتكتب. عندما كانت طفلة، كانت تدير مكتبة والدها - وهي مكتبة ليست كبيرة - وكان لديها مدرسون خاصون: وقد أدرك والداها إمكاناتها ولم يدخرا أية نفقات. لقد حفظت تعليمات دينها المسيحي عن ظهر قلب لكنها لم تكن مقتنعة بما تعلمته. وفي أيام الأحد، كانت تخبئ كتابها المفضل داخل غلاف كتابها المقدس: حياة بلوتارخ الموازية. بدأت تتمنى لو أنها ولدت رجلاً حتى تتمكن من المساعدة في تأسيس الجمهورية. كان لديها زاوية في مشغل والدها حيث كانت تختبئ وتقرأ.

عندما كانت مانون في العاشرة من عمرها، تعرضت للاعتداء الجنسى من قبل أحد المتدربين لدى والدها. لقد صدمتها التجربة بشدة، وفي هذه المرحلة لجأت إلى الدين. وافق والداها على السماح لها بمواصلة تعليمها في مدرسة دير قريبة. أخذت حجرتها الصغيرة دور زاوية القراءة في منزلها، واهتمت بالكتابة والقراءة أيضًا؛ وبحلول الوقت الذي خرجت فيه من الدير، كانت كاتبة بارعة.

إن مكانة المرأة في المنزل أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية للمجتمع

عندما كانت مانون في الحادية والعشرين من عمرها، توفيت والدتها، وبسبب حزنها، وجدت نفسها مسؤولة عن رعاية منزل والدها. واصلت القراءة والكتابة في أوقات فراغها. وقد وصفت عادات عملها في رسالة كتبتها إلى صديقتها في الدير صوفي كانيه في 25 ديسمبر 1776 (الساعة الواحدة صباحًا):

أقضي صباحي في أعمال المنزل. أقوم بأعمال التطريز في فترة ما بعد الظهر، وأحلم، وأبني كل ما أتخيله في ذهني، من قصائد وحجج ومشاريع وما إلى ذلك. وفي المساء، أقرأ عادة حتى وقت العشاء، وهو أمر غير مؤكد لأنه يعتمد على وقت عودة السيد [والدها]   إلى المنزل... عادةً ما يعود إلى المنزل في الساعة التاسعة والنصف، ولكن أحيانًا في الساعة العاشرة أو بعد ذلك. انتهى العشاء سريعًا... يجثم والدي على سريره، وأذهب أنا إلى غرفتي، حيث أكتب لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات.

خلال هذه السنوات، كتبت مانون مقالات، نُشر العديد منها بعد سنوات قليلة من وفاتها، بما في ذلك مقالتان على الأقل عن الفلسفة السياسية: "Rêverie Politique""الحلم السياسي" (1776) و"De la Liberté""الحرية" (1778).

في عام 1777، اقترحت أكاديمية بيزانسون مسابقة في كتابة السؤال التالي: "كيف يمكن لتعليم النساء أن يساهم في تحسين أداء الرجال؟" وكانت مثل هذه المسابقات شائعة في ذلك الوقت. انطلقت مسيرة جان جاك روسو المهنية ككاتب عندما فاز في مسابقة أكاديمية ديجون بكتابه "خطاب عن العلوم والفنون" عام 1749. دخل كتاب مشهورون آخرون في ذلك الوقت في مسابقات أكاديمية وفازوا بها، مثل بريسو ومارات وأبيه غريغوار. قدمت مانون بالكاد قطعة إلى المسابقة.

إذن ماذا كان في المقال؟ وماذا يخبرنا هذا عن مانون كفيلسوفة شابة؟ كانت الحجة التي قدمها في مقالتها الأكاديمية محافظة ومبتكرة. وتؤكد أنه في أفضل دستور، يجب أن تبقى المرأة في المنزل. لكن وضع المرأة في المنزل، كما تقول أيضًا، أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية للمجتمع لأن الحياة المنزلية هي أفضل بيئة ليس فقط للسعادة ولكن أيضًا للتعلم. وتقول إن المرأة تسمح بنشوء المجتمع:

ولذلك فإن المرأة، بحكم مصيرها الطبيعي، مسؤولة عن جعل الرجل أفضل؛ إنهن وحدهن يستطيعن أن يولدن العواطف التي تقربهم من بعضهم البعض... لقد رأينا في الانطباعات التي ينتجنها أصول المجتمع وكل الخيرات التي تجعله مرغوبًا، وفي ازدراء سلطتهن أو نسيان حقوقهن،مصدر الأهوال التي تمزقه وتشوهه.3548 رولاند

في عام 1780، عندما كان عمرها 25 عامًا وبعد خطوبة طويلة، تزوجت مانون من جان ماري رولاند، وهو أرستقراطي صغير من ليون. أمضت الكثير من السنوات التسع التالية في الكتابة لزوجها ومعه،وكان لديه العديد من المشاريع أثناء التنقل، بما في ذلك موسوعة صناعة المنسوجات. عندما ولدت ابنتها يودورا، قررت عدم إرسالها إلى مرضعة. بصفتها تلميذة لروسو، أرادت أن تكون هي التي ترضع ابنتها وتعلمها. تظهر رسائلها من تلك الفترة أنها استمتعت بإدارة منزلها بقدر ما استمتعت بالبحث والكتابة:

أولئك الذين يعرفون كيف ينظمون عملهم لديهم دائمًا وقت فراغ. أولئك الذين لا يفعلون شيئًا ليس لديهم الوقت لفعل أي شيء.

وتقول إن الزوجة والأم في القرن الثامن عشر يجب أن تكونا منظمتين بما فيه الكفاية حتى تتمكن من الوفاء بواجباتها المنزلية والقيام بشيء مفيد في حياتها، مثل كتابة الفلسفة. لدى مانون رولاند أفكار ثابتة حول ماهية واجبات ربة المنزل هذه:

أتوقع من المرأة أن تحافظ على بياضات أسرتها وملابسها بشكل جيد، وأن تطعم أطفالها، أو تطلب الطعام، أو تطبخ العشاء بنفسها، هذا دون التحدث عن ذلك، لكن كل هذا، كما تقول لقارئ مذكراتها، لا ينبغي أن يأخذ الكثير من وقت المرء بحيث يمنعنا من أن نكون كتابًا منتجين. هي نفسها، حتى في أوقات انشغالها، لم تقضي أبدًا أكثر من ساعتين يوميًا في القيام بالأعمال المنزلية. مع إبقاء عقلها حراً وتنظيم وقتها لتتمكن من الحديث عن شيء آخر، وأخيراً من خلال روح الدعابة التى تتمتع بها، فضلاً عن مفاتن جنسها.

"لا أستطيع البقاء في بيتي وأزور كل معارفي لإثارة حماستنا لأعظم الأعمال"

ما تزال ساعتان في اليوم وقتًا طويلاً بالنسبة للمرأة لتقضيه في الأعمال المنزلية إذا كانت تعمل أيضًا بدوام كامل. وبالنسبة للمرأة التي تتمثل وظيفتها الرئيسية في رعاية أطفالها، ما لم تكن غنية بما يكفي للتعاقد على معظم واجبات رعاية الأطفال، فإنها لن تحصل على الكثير من أوقات الفراغ. إن نصيحة رولاند قديمة للغاية، فهي تنطبق على الطبقات المتوسطة في القرن الثامن عشر. كما أنها تأتي من مكان يتمتع بامتيازات عالية - حيث تضطر النساء العاملات أو الطبقة المتوسطة الدنيا في كثير من الأحيان إلى العمل في وقت متأخر من المساء لكسب ما يكفي لإطعام أسرهن. لقد احتاجن إلى إرسال أطفالهن إلى المرضعات وتمكن  من تنظيف المنزل بمساعدة بناتهن كلما استطاعن ذلك؛ لكن وجود جدول يسمح بالدراسة الخاصة لم يكن على جدول أعمالهن.لكن الروح العامة لنصيحة رولاند كانت تتلخص في أن القليل من التنظيم والوعي بالكيفية التي يقضي بها المرء وقته ــ ما لم يعيش المرء في ظروف قاسية ــ يقطع شوطا طويلا نحو توفير مساحة للأنشطة الأكثر قيمة وأكثر إثارة للاهتمام من الأعمال المنزلية.

على الرغم من أنها أصبحت مفكرة سياسية في سن مبكرة جدًا (إذا صدقنا مذكراتها، فقد اكتشفت بلوتارخ وقررت أنها أيضًا كانت جمهورية في سن الثامنة) إلا أنها لم تصبح مهتمة بالسياسة حتى ثورة عام 1789. ويبدو أن جزءًا من السبب أنها فقدت كل الأوهام بأن العالم سيُحكم بطريقة عادلة. في عام 1783، كتبت إلى صديقتها شامبانيو:

لا توجد الفضيلة والحرية إلا في قلوب عدد قليل من الناس المحترمين؛ إلى الجحيم مع الآخرين وكل العروش في العالم! … أبتعد عن السياسة … وكل ما أستطيع أن أتحدث عنه هو الكلاب التي توقظني، والطيور التي تواسيني لعدم نومي، وأشجار الكرز التي تنمو تحت نوافذ منزلي، والأبقار التي تمضغ العشب في الفناء.

ولكن منذ بداية الثورة، عندما كانت تتعافى من الالتهاب الرئوي وتكتب رسائل قوية إلى صديقاتها في باريس، تنصحهن وتنبههن إلى ما يجب القيام به، أصبحت رولاند منخرطة بشكل كامل. كتبت رسائل ومقالات صحفية (نشرتها صديقتها وزميلتها جيروندين، بريسو) وساعدت زوجها في العثور على منصب لنفسه يسمح لهما بالمشاركة بشكل كامل. وبمجرد أن أصبح ذلك ممكنًا، أي بمجرد تفويض زوجها من قبل مدينة ليون للتحدث أمام الجمعية، انتقلت عائلة رولاند إلى باريس. في يونيو 1791، كتبت إلى صديقتها بانكال تشرح فيها تحولها:

وبينما استمر السلام، حافظت على الدور السلمي والتأثير الذي بدا لي مناسبًا لجنسي. ولكن عندما أعلن  الملك الراحل الحرب، أذهلني أنه يجب علينا جميعًا أن نكرس أنفسنا دون تحفظ؛ ذهبت وانضممت إلى الجمعيات الأخوية، مقتنعًا بأن الحماسة والتفكير الصحيح يمكن أن يكونا مفيدًا جدًا في أوقات الأزمات. لا أستطيع البقاء في منزلي وأقوم بزيارة جميع معارفي من أجل إثارة حماستنا لأعظم الأعمال.

ما الذي ساهمت به مانون رولاند على وجه التحديد في الثورة؟ تصف مذكراتها - ولا سيما ملاحظاتها وصورها التاريخية - السنوات الواقعة بين سقوط الباستيل وسقوط الجيرونديين.  ساهمت رسائلها إلى بريسو، المنشورة في صحيفة Le Patriote français، في خلق صورة لفرنسا الثورية التي لم تكن باريسية بالكامل، وأعربت عن روح وحماس الجمهوريين الذين يمكن العثور عليهم في المقاطعات، وإلغاء الأحكام المسبقة بشأن عدم انضمامهم إلى الثورة. ربما تكون الكتابة التي قامت بها نيابة عن زوجها في الوزارة، ولا سيما صياغة خطاب استقالته إلى الملك عام 1792، قد ساهمت في نهاية النظام الملكي وولادة الجمهورية. لكن في الرسائل الخاصة التي كتبتها حول صياغة الدستور وإعلان حقوق الإنسان، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل كيف يمكن للأفكار الفلسفية حول الحرية والمساواة التي طورتها مانون في شبابها أن تكون مفيدة للجمهورية الجديدة.

كتبت إلى صديقها بوسك دانتيك، الذي كان في باريس مع اثنين من المقربين الآخرين من عائلة رولاند - بريسو وفرانسوا كزافييه لانثيناس - ما يلي:

لا، أنت لست حرا؛ لا أحد بعد حرا . لقد تمت خيانة ثقة الجمهور.الرسائل تُراقب أنت تشكي من صمتي. ومع ذلك فأنا أكتب مع كل مشاركة. صحيح أنني لم أعد أعرض أخبار شؤوننا الشخصية، ولكن من هو الخائن اليوم الذي لا يملك إلا أخبار الأمة؟ لقد كتبت لك بالفعل بقوة أكبر مما اعتدت. لكن إذا لم تكونوا حذرين، فلن تفعلوا شيئًا سوى رفع دروعكم... أنتم مجرد أطفال، وحماسكم ليس سوى وميض في المقلاة.  وإذا لم تعقد الجمعية الوطنية محاكمة مناسبة لاثنين من الزعماء المشهورين، أو ما لم يقتلهما ديسيوس الكريم، فستكون اللعنة.

لقد كانت قلقة من أن الثورة سوف تخمد لأن أصدقائها لم يتصرفوا بحزم بما فيه الكفاية. لكن مخاوفها كانت محددة أيضًا، وهي أن أعضاء الجمعية قد يعبثون بالدستور وإعلان حقوق الإنسان. وكان خوفها الرئيسي هو أن يتفق الأعضاء على بضع فقرات ويتركوا الأمر عند هذا الحد. وقالت إن الدستور والحقوق لا يمكن صياغتهما إلا من قبل الجمعية. ولكن بعد ذلك لابد من تعميمه في مختلف أنحاء فرنسا، وليس فقط في الدوائر الباريسية، وقراءته والموافقة عليه من قبل الجميع، ومناقشته في النوادي الإقليمية، بما في ذلك الأندية التي ترحب بالنساء، ومراجعته قبل أن يصبح نهائيا.

لقد جاءوا لزوجها، ولكن رولاند أرسلته بعيدا بمجرد أن سمعت أنه في خطر

كانت رولاند مترددة في النشر باسمها. لكنها لم تكن راغبة في نشر أعمالها، سواء بشكل مجهول (عندما كانت  تكتب في صحيفة بريسو)، أو باسم زوجها، "لمساعدته" في عمله:      لمدة 12 عامًا من حياتي، عملت جنبًا إلى جنب مع زوجي بنفس الطريقة التي أتناول بها الطعام، وكلاهما كان طبيعيًا بالنسبة لي.إذا تم الاستشهاد بجزء من مصنفه لأنه وجد أنه مكتوب بشكل أكثر رشاقة؛ إذا قبلت إحدى الجمعيات العلمية التي كان عضوًا فيها بعض الأشياء الأكاديمية التافهة التي يحب أن يرسلها، كنت أفرح له، ولم أهتم بشكل خاص بما إذا كانت القطعة من تأليفي أم لا. وفي كثير من الأحيان، انتهى به الأمر إلى إقناع نفسه بأنه كان في حالة جيدة بشكل خاص عندما كتب هذا المقطع أو ذاك، والذي جاء في الواقع بقلمي.

عندما عُين زوجها وزيرا للداخلية، واصلت رولاند الكتابة له، وصياغة الوثائق التي ساعدت في تعريف الجمهورية الجديدة. لقد وجدت الأمر سهلاً لأنها "أحبت بلدها" وكانت "متحمسة للحرية". تقول لنا  أنها سمحت لنفسها أن تستمتع بكتابتها الخفية مرة واحدة فقط، وذلك عندما كتبت رسالة من الوزير إلى البابا، تطالب فيها بالإفراج عن مجموعة من الفنانين الفرنسيين المسجونين في روما.

عندما كانت رولاند نفسها في السجن تكتب مذكراتها، الخاصة والسياسية، قررت ألا تكشف عن هويتها فليس هذا مناسبًا لها بعد كل شيء:

لو كنت على قيد الحياة، أعتقد أنه لم يبق لي سوى إغراء واحد: وهو إغراء كتابة حوليات هذا القرن وأن أكون ماكولاي بلدي.

كتبت كاثرين ماكولاي تاريخ إنجلترا في ثمانية مجلدات. كانت خطة رولاند غير المحققة هي كتابة تاريخ جمهوري للثورة. ولكن هذا لم يكن ليكون.

قُبض عليها في منزلها في الأول من يونيو عام 1793. وجاء الضباط الذين قاموا بالاعتقال للبحث عن زوجها، لكن رولاند أرسلته بعيدًا بمجرد أن علمت أنه في خطر. وبدلاً من ذلك، أُخذت أولاً إلى سجن لاباي، حيث أمضت أربعة أسابيع، ثم أطلق سراحها ثم اعتقلت  مرة أخرى ونقلت إلى سجن سان بيلاجي. وبقيت هناك حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، ثم نُقلت من هناك إلى مكتب الاستقبال، حيث نامت على سرير مؤقت لمدة ثمانية أيام لاختبارها. أخيرًا تم نقلها إلى ساحة الثورة، حيث تم سحب شفرة المقصلة إلى أعلى الإطار من أجلها.

كان لرولاند رفيق واحد في العربة التي قادتها: الجيرونديونى الخائف جدًا، سيمون فرانسوا لامارش. كان من المفترض أن يتم إعدام رولاند أولاً. لكنها أشفقت على لامارش، وعرضت  عليه أن يأخذ دورها حتى لا يضطر إلى مشاهدتها وهي مقطوعة الرأس.وعندما جاء دورها، وقفت مانون رولاند فخورة ونظرت إلى ما هو أبعد من الحشود إلى تمثال الحرية الضخم الذي تم تشييده قبل بضعة أشهر. صرخت: " أوه، أيتها الحرية!  كم من  جرائم ترتكب باسمك!"

***

.....................

الكاتبة: ساندرين بيرجي /Sandrine Bergès: أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. تشمل كتبها رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) والحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية (2022).

* الجيرونديون أعضاء حزب سياسي نشأ أثناء الثورة الفرنسية · وجاءت تسمية الحزب بهذا الاسم لأن معظم القادة المُنَظمين له ينتمون لمقاطعة جيروند · والجيرونديون جمهوريون، ويمثلون البراجوزَّية، ويؤمنون بالملكية الخاصة · ويخشون من سيطرة نوّاب باريس على فرنسا كلها، ومن أشهر أعضاء نوّاب باريس: جان بول مارا وجورج دانتون وروبسبير · ويكيبيديا

يمكن اختصار حياة عالم الفيزياء الامريكي روبرت أوبنهايمر بهذه العبارة القصيرة "إنسان طارده الشك بعد أن قدم للعالم اختراعاً غيّر تاريخ البشرية". مبتكر القنبلة الذرية يعود للواجهة من جديد بعد أن حصد الفيلم الذي انتج عن حياته ومواقفه سبعة جوائز أوسكار، وكأن هذه الجوائز تكفيراً عن الذنب الذي ارتكبته امريكا بحق هذا العبقري الذي قال عنه اينشتاين انه: "رجل يسبق زمانه وطالما تمنيت أن يكون ابني البكر".

ياخذنا الفيلم في ثلاث ساعات مليئة بالاسئلة والتشويف ليكشف لنا، اللحظات الأساسية في حياة روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي عَّجل بنهاية الحرب العالمية الثانية وادخلنا عصر الاسلحة الذرية، ثم بعدها سوف يعيش حياة مليئة بالقلق والشك والمعاناة ينتابه الشك بشأن ابتكاره الذي استحال أداة تدميرية فتاكة تهدد البشرية. الفيلم الذي حقق ايرادات تجاوزت المليار دولار وفاز مخرجه كريستوفر نولان باوسكار ايضا، اعتمد على سيرة روبرت أوبنهايمر التي اشترك بكتابتها كاي بيرد ومارتن شيروين وصدرت بعنوان " بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر".حيث تقدم هذه السيرة شخصية جمعت بين الحلم بتطور العلم وكابوس الحروب المدمرة، وقد فازت هذه السيرة بجائزة "البوليتزر" عام 2005، وصفتها صحيفة التايمز بانها:" حكاية تمنحك إحساساً بالرجل وتعقيده وتناقضه فيما كان يفعل"، فبعد أن عرف أوبنهايمر المجد بوصفه " عراب السلاح النووي "، أصبح غارقاً في الندم على عواقب اختراعه، ومتهما خطيرا تطارده الاجهزة الامنية.

عندما سئل المخرج كريستوفر نولان عن سبب اختياره أوبنهايمر قال لأن:" حكايته لا توجد فيها إجابات واضحة لقصته، فهي تحتوي على مفارقات رائعة ومؤلمة في نفس الوقت "

تُعد قصة روبرت اوبنهايمر من أغرب القصص في تاريخ العلوم. فقد بدأ العالم يسمع باسم اوبنهايمر للمرة الاولى عام 1945 عندما القت امريكا القنبلة الذرية على هيروشيما، وسمي آنذاك " ابو القنبلة الذرية " اعترافا بقيادته لمجموعة من العلماء الذين صمموا اول قنبلة ذرية في معامل لوس الاموس تحت اسم مشروع " مانهاتن " - اصر مخرج الفيلم نولان على اعادة بناء معامل لوس ألاموس في سهول جنوب غربي الولايات المتحدة –، بعد ان حصد أوبنهايمر التكريم والاوسمة يعود اسمه من جديد وهذه المرة باعتبارة متهما لا بطلاً ، حيث بدأت في ايلول عام 1953 محاكمته بتهمة معارضته لتطوير الاسلحة الذرية وانتاج القنابل الهيدروجينية، اتهمته المحكمة بأنه يمثل خطورة على أمن الولايات المتحدة الامريكية، فيما أصر المدعي العام الامريكي على ان أوبنهايمر كان ينتمي الى منظمات يسارية وانه عضو في الحزب الشيوعي. استمرت المحاكمة ثلاثة اسابيع، وقد انتهت المحكمة الى نتيجة اعتبار اوبنهايمر يمثل خطرا على أمن البلاد لأنه عارض بقوة انتاج اسلحة نووية جديدة، فقد كان ضميره يعذبه بسبب قنبلة هوروشيما.. في المقابل اتهمه البعض بالتردد في مواجهة القضاة، وأنه فقد شجاعته، وبدت محاكمته كأنها تكرار لموقف غاليلو عندما حاكمته الكنيسة لنظريته حول دوران الارض.3553 ابونهايمر

ولد يوليوس روبرت اوبنهايمر في 22 نيسان عام 1904، لاب مهاجر الماني وصل امريكا عام 1888، عمل في بعض الاعمال التجارية في نيويورك، ليصبح بعدها احد اثرياء المدينة، والدته لإيلا ني فريدمان عرفت بعشقها للقراءة واحترافها الرسم، كان الابن الاكبر للعائلة، انتبه الاساتذه في المدرسة الابتدائية الى نبوغه، في العاشرة من عمره اصبح عضوا في جمعية ابحاث نيويورك بعد ان قدم بحثا عن المعادن. درس الفيزياء في جامعة هارفارد، بعدها درس الفلسفة الطبيعية والكيمياء في جامعة كمبردج بانكلترا. سافر الى المانيا ليدرس الذرة في جامعة غوتنجن. عام 1927 حصل على درجة الدكتوراه، عين استاذا لمادة الطبيعة في جامعة كاليفورونيا، وفي الوقت نفسه يعمل على تأسيس اول مركز متخصص للطبيعة الذرية في بيركلي. ولم يكن اهتمام أوبنهايمر مقتصرا على العلوم، فقد كان شغوفا بالفلسفة والشعر وهواية الرسم التي ورثها عن امه، اضافة الى دراسة اللغات حيث كان يجيد ثماني لغات منها الاغريقية واللاتينية لولعه بقراءة كتب ارسطو والابيقوريين اضافة الى مسرحيات سوفوكليس، في هذه الفترة استهوته الحركات اليسارية وأخذ يتقرب من الحزب الشيوعي الامريكي ليتزوج عام 1940 من ارملة احد اعضاء الحزب قتل زوجها في الحرب الاسبانية، وكانت هي ايضا عضوة فاعلة في الحركات اليسارية، ألا انه بدأ يفقد حماسه للشيوعية بعد الانباء التي كانت تنشر عن حملات التطهير التي كان يقوم بها ستالين في الاتحاد السوفيتي. عام 1941 دعته وزارة الدفاع الامريكية للعمل في مركز ابحاث الدراسات الذرية، بعد عامين يقترح أوبنهايمر تاسيس انشاء معمل لوس لآلاموس للعمل على نصنيع القنبلة الذرية.. كان قبل هذا التاريخ وبالتجديد عام 1939 عبر اينشتاين عن الخوف من امتلاك المانيا الهتلرية القنبلة الذرية، وارسل رسالة الى الرئيس الامريكي روزفلت يبلغه ان المانيا استولت على الآف الاطنان من اليورانيوم عندما اجتاحت بلجيكا، وأن هتلر ينوي بناء مفاعل نووي كبير. استمر العمل ثلاثة اعوام كان فيها أوبنهايمر قلب المشروع وروحه، فهو الذي قام باختيار العلماء الذين يساعدونه، وبعد تجارب وعمل طويل فقد خلالها اوبنهايمر اكثر من 40 كيلو غرام من وزنه أعلن عن انتاج القنبلة الذرية حيث اجريت اول تجربة صباح يوم السادس عشر من تموز عام 1945 في صحراء مكسيكو، عندما حدث الانفجار العظيم ردد أوبنهايمر عبارة كان قد حفظها " البهاغافاد" كتاب العندوس المقدس والتي تقول:" الآن أصبحت الموت، أصبحت المحطّم للعوالم ". لم تكن تمضي اسابيع على تجربة نيو مكسيكو حتى فوجئ العالم بنبأ القاء اول قنبلة على هيروشيما اليابانية. وفي دقائق معدودة فقد مئات الالاف ارواحهم. وبعد يومين تكررت الضربة وهذه المرة في ناجازاكي لتعلن اليابان استسلامها.

بعد القنبلة الذرية شعر العالم بانه يقف على عتبة عصر جديد.. يكتب المسرحي الالماني برتولد بريشت في دفتر يومياته " لقد كان نصرا.. لكنه ينطوي على هزيمة "..فيما وجد العلماء انفسهم امام مسؤولية اخلاقية كبيرة فقرروا انشاء رابطة علماء لوس آلاموس كان هدفها " الدعوة الى استخدام التقدم العلمي في صالح البشرية ". وكان رأي العلماء ان الاسلحة الذرية سوف تتطور وتزداد خطرا وتدميرا، إلا ان محاولات العلماء لم تلق صدى عند القيادة الامريكية اعلن الرئيس ترومان ان:" وجود هذه القوة التدميرية في ايدينا ثقة مقدسة لاننا نحب السلام ". كان أوبنهايمر آنذاك اكثر العلماء تعاسة، فهو يرى ان السيسة تلعب لعبتها مع الطاقة النووية، ولم تنفع تحذيرات العلماء في وقف تطور الاسلحة، واعلن ان الحرب انتهت وعلى العلماء ان يتحرروا من سطو الساسة، الامر الذي دفع بعض المسؤولين الى التشكيك بولاء اوبنهايمر للولايات المتحدة الامريكية فاصدر ايزنهاور امرا يقضي " باسدال ستار كثيف بين اوبنهايمر والاسرار الذرية " وصدرت توصية بطرده من العمل، رفض اوبنهايمر الاتهامات وابدى استعداده للمثول امام المحكمة التي تولت البحث عن ارتباطات اوبنهايمر السياسية، امام القضاة الثلاثة وقف اوبنهايمر ليعلن انه رفض المساهمة في انتاج القنبلة النتروجيمية، لا رغبة منه لمساعة الاتحاد السوفيتي، او لأنه يساري، ولكن لانه ببساطة ضد هذه القنابل. صدر الحكم بعدم منح اوبنهايمر ترخيص امن وابعاده عن الاسرار الذرية، ورات المحكمة انه يعاني من بعض العيوب في شخصيته.

عاش أوبنهايمر في الظل حيث اتجه الى تاسيس مركز للاداب والفنون، واخذ يهتم بالفلسفة، بعد توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين الاتحاد السوفيتي وامريكا عام 1963، قررت رابطة العلماء منحه جائزة " انريكو فيرمي " والتي تمنح لمن يسهم بجهود كبيرة في ابحاث الطبيعة الذرية، قال اوبنهايمر وهو يتسلم جائزته:" لقد ارتكب الفيزيائيون خطيئة، في معرفة لا يمكنهم أن يفقدوها "، بعد عام سيبقي محاضرة بعنوان: "آفاق في الفنون والعلوم" بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لحق الإنسان في المعرفة، حيث أوجز فلسفته وأفكاره حول دور العلم في المعرفة.

بعد محاكمته تجنب أوبنهايمر الصدام مع الاجهزة الحكومية حيث رفض التوقيع على البيان الذي اصدره برتراند رسل واينشتاين عام 1954 ضد الأسلحة النووية . عام 1955، نشر أوبنهايمر كتاب العقل المنفتح، وهو عبارة عن مجموعة من ثماني محاضرات ألقاها منذ عام 1946 حول موضوع الأسلحة النووية والثقافة الشعبية.

اواخر 1965 تم تشخيص إصابة أوبنهايمر بسرطان الحلق، فقد كان مدخنا شرها، اجريت له جراحة خضع بعدها لعلاج كيميائي وشعاعي لم ينجح في وقف السرطان. في الثامن عشر من شباط عام 1967، اعلن عن وفاته عن عمر يناهز 62 عاما.

عند مشاهدتي فيلم " اونهايمر " تذكرت مسرحية الكاتب الالماني هاينر كيبهارت " قضية روبرت اوبنهايمر " التي صدرت ضمن سلسلة المسرح التي كانت تصدرها دار الفارابي في الثمانينيات، ثم صدرت بترجمة اخرى عن سلسلة المسرح العالمي الكويتيه عام 1991. كانت المسرحية بالنسبة لي آنذاك واحدة من الكشوفات المسرحية. كان مسرحا من نوع جديد يهدف الى وصف الواقع من اجل تغييره. وكان كيبهارت ممثلا بارزا للادب الملتزم فكريا وسياسيا السبعينيات، كان كيبهارت يقول:" تقنيتي التي استخدمها دائما تتمثل في اشراك القارئ والمشاهد في القضية التي تدور في نفسي "

هاينر كيبهارت مولود في المانيا عام 1922 وتوفي عام 1982.درس الطب والفلسفة والعلوم المسرحية. بعد قيام جمهورية المانيا الديمقراطية انتقل اليها، لكنه سرعان ما سيختلف مع المسؤولين فيعود الى مدينته دوسلدوف في المانيا الغربية ثم ينتقل ليستقر في ميونخ. عام 1964 اخبر اصدقائه بانه انتهى من مسرحية تتناول قضية عالم الذرة أوبنهايمر.. قدمت المسرحية في ميونخ وقام باخراجها اشهر رجال المسرح " بيسكاتور ". في مسرحية كيبهارت تفشل محاولات اوبنهايمر للتوفيق بين ولاءه للبلاد والولاء للبشرية. قال بيسكاتور ان هذه المسرحية تسلط تالضوء على عهد مكارثي وهو وجه مقيت من وجوه جياتنا. انعدام التسامح ازاء المتفاوت وصاحب الراي المختلف، والقضاء على وجوده. والميل محو دولة الرقابة

استخدم كيبهارت وثائق المحاكمة لعرض ومعالجة الصراع الأساسي بين العلم والحكم. لا أوبنهايمر في المسرحية بطل، بل هو يعيش تضارب كامل لأفعاله المتناقضة في شخصيته ونقاط ضعفه الخاصة، ومنها الغطرسة الحادة.

الموضوع الذي يناقشه كيبهارت ا هو دور العلم، والعلاقة بين الاكتشافات العلمية والأخلاق الإنسانية. إن تردد أوبنهايمر الأخلاقي في ابتكار أسلحة الدمار الشامل هي التهمة الموجه لرجل العلم: "هل ولاؤك للإنسانية أم للحكومة الأمريكية أكثر؟"، تطرح لجنة التحقيق السؤال. وهكذا، يفرض على أوبنهايمر الفصل بين آرائه الذاتية ومهمته العلمية الوظيفية، فيرد أوبنهايمر: "هذا الفصل معناه أن يتحول العالم والمخترع إلى آلة بلا ضمير، بلا قلب، بلا قدرة ذاتية على الحكم الأخلاقي أو الجمالي".

يمكن القول أن شخصية أوبنهايمر في فيلم المخرج: كريستوفر نولان إنما هي مرآة لعالم الفيزياء صاحب الشخصية التي تعاني من المتناقضات، فهو لا يشعر بالراحة تجاه القنبلة وإرثها، ورغم أنه لا يدفع باتجاه تطويرها كما فعل آخرون، ولكن من أجل الضوابط والتعاون الدولي، تذبل "هواجسه الأخلاقية" تحت الخوف من الاستجواب والمحاكمة، وحينما اعترف للرئيس الأميركي "هاري تومان" أن "يديه ملطختان بالدم"، يعطيه الرئيس منديلاً للوجه. يتقبل أوبنهايمر بصمت السقوط من موقعه المتميز، مثيراً غضب زوجته التي تعترض قائلة: "هل تعتقد أن العالم سيسامحك إذا سمحت لهم بوصمك بالعار؟" فيرد قائلاً بهدوء: "سوف نرى".

قبل مسرحية هاينر كيبهارت قرر المسرحي الامريكي الشهير ارثر ميلر كتابة مسرحية عن محنة اوبنهايمر، لكن المشروع لم يرى النور وبقى مجرد تخطيطات احنفظ بها ميلر.. وقد روى ميلر، تفاصيل لقاء أجراه مع أوبنهايمر أوائل الستينيات،. يقول ميلر إنه وجد أوبنهايمر شديد الحزن، يائساً من كل شيء. ولم يكن ذلك بسبب اكتشافه اصابته بمرض السرطان، فقد كان يعرف أنه سيموت قريباً لا محالة، بل لأن أوبنهايمر لم يبرأ أبداً من الحزن والاكتئاب اللذين أصاباه بعد أن أسقط الأميركيون سلاحهم النووي الفتاك على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. فأوبنهايمر، كان يشعر أنه صاحب مسؤولية في ما حدث، وكان يرى أن حالته تستدعي بحثاً معمقاً حول مسؤولية العالم إزاء النتائج التي يسفر عنها علمه. والحال أن ما كان يقلق أوبنهايمر طوال العقود الأخيرة من عمره كان يمكن تلخيصه في جملة واحدة العلم في مواجهة الاخلاق.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

هى أولى رحلاتى خارج مصر.. كنت حينها فى مقتبل حياتى الصحفية، وكان السفر لأقرب مصيف يمثل حلماً بعيد المنال فما بالك برحلة أُدعَى إليها ووسيلتى إليها طائرة هى أعلى وأجمل من أحلامى البسيطة المتواضعة!

  لهذا جاءت موافقتى غير المشروطة على الدعوة رغم التحذير الكبير من رئيس التحرير.. وكنت مدفوعاً منساقاً لفضولى الصحفى واعتدادى برأيي وحماسة الشباب التى لا تترك مجالاً للتردد؛ فكنت مصراً على الذهاب رغم نصيحة رئيسي فى العمل ألا أذهب!

لماذا حذرنى مرسي عطا الله؟

  المكان.. إقليم كردستان العراق فى بؤرة الصراع العراقى الحدودى وفى أوج عنفوان صدام حسين.

الزمان. خريف عام 2000 وبالتحديد شهر أكتوبر منه. عندما جاءتنى دعوة من إدارة مهرجان شاعر العراق الأشهر محمد مهدى الجواهرى فى دورته الأولى، ممهورة بتوقيع فخرى كريم صاحب دار المدى للنشر، وكانت تحوم حوله شائعات بأنه اختلس 9 ملايين دولار من خزانة الحزب الشيوعى العراقى الذى كان عضواً فيه، ثم انشق عنه وهرب فيمن هربوا من العراق إبان حكم صدام حسين، ولم أكن على يقين من تلك الشائعة، ولم أسعى للتحقق من صحتها فوراً ، وإنما أجلت هذا المسعى وأقنعت نفسي أنى أملك خمسة عشر يوماً كاملة هى زمن الرحلة أتحقق فيها من صحة المعلومة على مهل..

 رشحنى للسفر الصديق الشاعر أحمد الشهاوى مؤكداً أنها ستكون فرصة أتعرف من خلالها على العديد من خلاصة شعراء ومثقفي مصر والعالم العربي. قدمت الدعوة لرئيس تحرير جريدة الأهرام المسائى آنذاك مرسي عطا الله رحمه الله لكنه اعترض، وظل معى فى شد وجذب محاولاً بشتى الطرق إثنائى عن تلك الرحلة حتى رضخ لإصرارى ووافق مضطراً، ونصحني بالحذر إذ أن الأوضاع في هذا الإقليم خطيرة ، وقال إنه غير مسئول عما سيحدث لي لا قدر الله إذا وقع لي مكروه.

قبل السفر بأيام  توجهت لمكتب الطيران السوري بشارع طلعت حرب في وسط القاهرة حيث حجزت إدارة المهرجان تذاكر السفر لعدد من الكتاب والمثقفين والصحفيين المصريين للسفر عبر الطيران السوري، سارعت بتجهيز الحقائب فى سعادة لا تُوصف، منتظراً وقت السفر على أحر من الجمر.. قامت الطائرة من مطار القاهرة الدولي إلي دمشق.. وأثناء الرحلة قابلت أدباء وروائيين وشعراء لم أكن أعرف أنهم مسافرون علي نفس الطائرة وكان منهم شوقي جلال والطاهر مكي وصبري موسي وكارم يحيي وفاطمة خير و حسين عبد الرازق و جميل شفيق ورفعت سلام وآخرين سقطوا من ذاكرة أنهكتها الأيام.

يوم تم شحننا إلى شاطئ الفرات!

  ذهنى كان مشغولاً طوال الوقت بمحاولة فهم أسرار العلاقة التى جمعت بين وزارة الثقافة المصرية ممثلة فى المرحوم سمير سرحان وبين صاحب دار نشر تحوم حوله الشبهات..لكن الرحلة أخذتنى بأحداثها الفريدة الغريبة والمثيرة حقاً، فلم تترك لى مجالاً للتأمل والسؤال والتقصى إلا لمماً..

  مكثنا فى دمشق ليلة واحدة، ثم غادرناها صباح اليوم التالى فى حافلتين إلى مدينة القامشلى المتاخمة للحدود العراقية فى رحلة طويلة زمنياً قصيرة عاطفياً، قبل نزولنا لنواصل رحلتنا فى الوسيلة الثانية وهى سيارات نصف النقل!! هكذا تم شحننا فى رحلة قصيرة متعبة استغرقت نصف الساعة إلى شاطئ نهر الفرات.. وهناك استخدمنا الوسيلة الثالثة بل الرابعة بعد الطائرة والحافلة وسيارة النقل؛ إذ كانت بانتظارنا مراكب صغيرة مجهزة لتنقلنا إلي الضفة الأخرى ، وهناك فوجئنا بوفد كردي كبير استقبلنا استقبالا حافلا أنسانا متاعب الرحلة،وكنا أول مجموعة عربية تذهب إليهم بهذا العدد الكبير الذي بدا أنه يحمل لهم دلالات كثيرة..

  كان الاحتفاء بنا ودياً تعبّر عنه الكلمات والوجوه والأيدي، وكانت المسافات الطويلة على الأرض تقصر في وجدان الناس.هكذا بات العراق جغرافيا أو قل تاريخياً من الإخاء والاحتفاء العربي الكردي تستثيره أبسط الكلمات، وتبكيه أبسط المشاعر تأكيداً على وحدة أرض العراق وتعبيراً عاطفياً بالغ التأثير بقدر ما كان تعبيراً سياسياً.. ولكن أنّى لعروبي مثلي  ألا يفكّر بما يقال إلا عبر القلب!

مباريات شعرية فى دهوك

 ليلتنا الأولى فى دهوك كانت الأجمل والأشد دفئاً، ولم تعقبها ليلة فى مثل روعتها وثرائها..

كنا قد تلقينا دعوة من اتحاد الأدباء فى دهوك، أمسية ثقافية رسمية وليلة عراقية من ألف ليلة كان نجمها الأهم الشاعر والمترجم حسن سليفانى الذى لم يقدم نفسه وإنما قدم زملاءه من الشعراء الكرد من الحاضرين والغائبين، بينما كان رئيس الاتحاد فاضل عمر، الشاعر والطبيب، منزوياً في الظل، بهدوئه وتواضعه الجم..بدأ الشعراء بقراءة قصائدهم، ثم طلبوا أن يستمعوا لشعرائنا، فنهض فوزى كريم فقرأ ما قرأ، وتلا الدكتور الأعرجى أبياتاً من قريضه، ثم انبرى الدكتور رشيد الخيون، الباحث في التاريخ، ليقرأ لنا أشعاراً بالعامية المصرية سرعان ما اكتشفنا أنها أشعاره.. وتحول الأمر لمباراة مرحة ممتعة..

  مفاجآت فى أربيل

  أمسية دهوك الدافئة خير ما استهللنا به برنامج الرحلة الثرية، ثم أتبعها عدة أمسيات فى أربيل..

   تعددت الأمسيات فى أربيل وتضمنت العديد من مظاهر الفن الكردى من رقص وغناء وتمثيل وفن تشكيلي، برنامج حافل مكدس لم يدع لنا فرصة لاجترار نكهة تلك الليلة الأولى والأخيرة من نوعها تفرداً وجمالاً..مرت بنا الأيام والليالى فى أربيل سريعة ممتعة وسط أجواء فنية وليالى ثقافية استثنائية وتخللتها إزاحة الستار عن تمثال برونزي للجواهري في بارك أربيل، من صنع الفنان العراقي سليم عبد الله المقيم في السويد حالياً.

  أما مفاجأة أمسيات أربيل فهي الطفلة (كردستان إلهام)، القادمة من عقرة..صوت عبقرى صغير، قامت بأداء أغنية للسيدة أم كلثوم فأدهشت السامعين.. وكم بين العرب أصوات ومواهب تظهر ثم تختفى فجأة دون أن ينتفع بموهبتها أحد ولا يكتشفها مكتشف!

  أذكر أن من بين الأشياء التي استرعت انتباهي في أربيل الكتيب الذي أصدرته مجلة (مه لامه شهور) والذي احتوى على العديد من كاريكاتيرات رسامي المجلة المنشورة في أعدادها السابقة. تلك المجلة تتميز بجرأتها في نقد الواقع القائم، وهي واحدة من بين مطبوعات عديدة صدرت في كردستان إثر صدور قانون المطبوعات الذي أقر أن لا رقابة على المطبوعات في الإقليم وكل مواطن حر في إصدار أي مطبوع وفق أحكام هذا القانون.

 كاد الطابع شبه الرسمى للاحتفالات ينسينا الجواهري الحاضر أبداً،نجم الدعوة وصاحب المهرجان.. لولا الأمسية النقدية التي أقيمت في أربيل والتي أسهم فيها كل من: رواء الجصاني، مفيد الجزائري، فاطمة المحسن، عبد الكريم كاصد، جليل المندلاوي..ثم حدثت مفاجأة أخرى سيئة كادت تفسد أجواء الندوة المقامة على شرف نجم المهرجان ؛عندما انقطع التيار الكهربائى ولم يستطع كاصد ولا المندلاوى من قراءة المداخلة الخاصة بهما، واضطرت الزميلة فاطمة المحسن لقراءة مداخلتها على ضوء مصباح شحيح. أعقبت الأمسية النقدية أمسية أخرى أقيمت في قاعة ميديا أسهم فيها الشعراء: العراقيان فاضل العزاوي وعبد الكريم كاصد، والمصري رفعت سلام، والمغربي عدنان ياسين، والجزائرية زينب الأعوج، والشعراء العراقيون الكرد.. فوزي الأتروشي الذي يكتب باللغة العربية، وحسن سليفاني، وبيربال محمود الذي ألقى قصيدة عمودية بالمناسبة.

جمهور من رجال الفندق!

  غادرنا أربيل إلى السليمانية، ناقلين حقائبنا عند الحدود إلى سيارات أخرى، وكأننا ننتقل بين دولتين!

وقف فى مقدمة المحتفين بنا الشخصية الأدبية البارزة عز الدين رسول، المعروف بترجماته الشهيرة لقصائد كوران وملحمة (مم ألان)، ومتابعاته الصبورة لما يستجد في الأدب الكردي. ومما قرّبه إلي قلبي ملامحه الوديعة الطيبة واستقباله الودود المحتفي بي وبالشاعر فاضل العزاوي..ثم افتقدناه، فيما بعد، في زحمة انشغالاته في اليومين التاليين اللذين قضيناهما في السليمانية..

  البرنامج المكتظ لم يترك للجميع فرصة للراحة أو الاسترخاء، ففي اليوم التالي ليوم الوصول، وبعد تعاقب الخطب التي تخللتها عبارات مثل «الشاعر العالمي محمد مهدي الجواهري» أو « نقول متواضعين إن تجربتنا مثالاً يحتذي»، وغيرها من العبارات الطريفة الأخرى، وبعد مشاهدة عروض الرقص الكردية الرائعة المفعمة بالحياة بقاعة مركز شباب السليمانية، توجه الضيوف إلى إزاحة الستار عن تمثال الجواهري الآخر، وسماع الخطب ثانية. أعقب ذلك رحلة طويلة إلى مكان تناول الغداء ولقاء أطول مع الطالباني، وعودة إلى قاعة (ره زى) لسماع الشعراء وهم يلقون أشعارهم أمام الموائد المهيأة للعشاء.

ويبدو أن الشعراء لم ترضهم الأمسية، ولا هم اكتفوا بما ألقوه من قصائد، وقد تملكهم الحماس وتغشتهم النشوة؛ فآلوا على أنفسهم استكمال أمسيتهم الخاصة في بهو الفندق.. وابتدرنا الشاعر رياض النعماني، الذي لم يشارك في الأمسية الشعرية، بقصائد قصيرة جميلة من شعره الشعبي. وقرأت الشاعرة الإمارتية حمدة خميس قصيدة مثيرة لما احتوت من مفارقات ذكية، ولأول مرة أسهمت الشاعرة الجزائرية آمال بشيري التي تكتب الشعر باللغة الفرنسية في إلقاء شعرها، فقمت بترجمة ثلاث قصائد من ديوانها الذي جلبته معها، فكانت ليلة طريفة جمهورها الشعراء أنفسهم وضيوف المهرجان.. ولعل أهم وأعجب جمهور فى تلك الأمسية التلقائية هم العاملون في الفندق أنفسهم الذين استهوتهم الأمسية وأعجبتهم القصائد وجذبتهم الأجواء.

لماذا حلبجة؟

  كان المقرر طبقا للبرنامج جلستين صباحية ومسائية حول الجواهرى..فضلت أنا ورفعت سلام انتهاز فرصة تأخير موعد الجلسة الصباحية للذهاب إلى حلبجة، واستغرقت الرحلة أطول من المتوقع واكتشفنا أن الجلسة المسائية ألغيت.. هكذا قضينا ليلتنا فى حلبجة مختارين ومضطرين !

  أرهقني بؤس منازل حلبجة، وفقرها الذي لم يطرأ على بال أحد وهي المدينة الشهيدة.. المدينة الرمز.. مدينة الأطفال الموتى في أحضان أمهاتهم وآبائهم.. حلبجة القبر الكبير الذي لم تتسع له أرض.. العينان الدامعتان أبداً.. خمسة آلاف قتيل وأكثر من عشرة آلاف متشرد في يوم واحد كأنه الطامة الكبري.. تلك الأرض التي شهدت من القتلى والمدفونين أحياء عدداً ضخماً كضحايا لأكبر هجوم بالأسلحة الكيماوية عرفه التاريخ فيما سمي بحملة الأنفال باطلاً، فى مأساة تحض الوحوش لتبكي على البشر. إنه الهجوم البشع الذى حدث ضد الأكراد عام 1988 بالأسلحة الكيميائية وغاز الخردل، الجريمة التى اعتبرتها المحكمة الجنائية العراقية نوعاً من الإبادة العرقية ضد الشعب الكردى على عهد صدام حسين.

أية مغفرة اتسع لها صدر هذا الشعب الذي تآخينا معه تحت شجرة الآلام! وأية حصافة جعلته مدركاً أن المسافة نائية بين الضحية والجلاد .لم نجد غير قبرين جماعيين ونصب لم يكتمل ومقبرة حائلة، وتمثال لأب ينحني على طفله الميت. أهذه مدينة كوران العظيم الذي أمضى طفولته بين أحضانها!

هروب إلى وسط المدينة

لم نجد الوقت ولا القدرة على التحدث مع شهود المأساة من سكان حلبجة، ولا لقاء هؤلاء الذين هجروها ليأنسوا بالسكنى إلى جوار التكايا والمساجد..رجعت حزيناً وقد تملكنى الزهد فى اللقاءات والخطب والقصائد والأمسيات، فوجدتنى أفر منها إلى وسط المدينة، أسواق العراق العريقة العامرة لعلنى أجد ضالتى بين وجوه البسطاء، الأزقة بنورها الخافت وظلها الممتد، البائعين الطيبين بابتساماتهم وتلقائيتهم..وددت شراء غرض فبالغ البائع الابن فى سعرها فإذا بأبيه يستدرك عليه بخفض السعر إلى أقل مدى، ثم ترك متجره واصطحبنى إلى سوق الهرج ..بعد جولة فى السوق صادفت الشاعر فوزي كريم ومعه الشاعر الكردي الشاب كورش قادر فذهبنا إلى مقهى شعبي لتناول الشاي العراقي (السنكين).

  هكذا بدا أننى تخلصت قليلاً من غصة الأسي التى حملتها فى ضلوعى فى حلبجة..ثم جاء الليل، وعلى هامش مأدبة عشاء أقيمت في أحد الفنادق، تم عرض فيلم سينمائي لأحد الشباب هو هاوري مصطفى ..كان الفيلم جريئاً فى نقده الهادف يحكي قصة زبال يصارع أكوام الزبالة وهي تنمو باطراد في المدينة.. افتقدنا فى السليمانية دفء الليلة الأولى فى دهوك..كما افتقدت صديقي الشاعر شيركو بيكس الذي كان خارج السليمانية للعلاج.. كم أحن إلى السليمانية، إلى أسواقها ومقاهيها، إلى باعتها وسكانها، إلى أكرادها الذين لا يعرفون العربية ولكنهم يذكرونك جيداً!

وجاء يوم الوداع ..

فى يوم الرحيل كانت لنا وقفات ومواقف..

تلكأنا عند دوكان المنطقة الساحرة الخلابة لتناول الغذاء والمسامرة..مررنا فى طريقنا بكويسنجق وتعجبت من حالتها البائسة وسألت كردياً بجانبي : لماذا كويسنجق على هذه الحال من الفقر؟ فقال: إن تغييراً لم يطرأ عليها منذ الستينات، ثم أشار إلى أعمدة علق عليها أربعة أو أكثر من الشباب الكرد! وحين سألته ثانية: لماذا؟ أجاب لأن كويسنجق أنجبت خيرة المثقفين الكرد!!هكذا كان يتخلص العرب من أفذاذهم!

نقلنا الأمتعة من سيارات السليمانية إلى تلك التى ستقلنا لأربيل..لا أدرى لماذا كل هذه الحواجز والحدود؟! لكنها السلطة وحب التحكم وموروثات المستعمر القديم.

ما بين السليمانية وأربيل كان الود موصولاً من الذين ودعونا بهذه والذين استقبلونا بتلك.عدنا إلى أربيل واختلطنا بالجميع من الأصدقاء والمعارف وما أشد ما وجدناه من مشاعر ود صادق وألفة خالصة..

 قال الطالباني (رئيس العراق فيما بعد) في لقائه بالضيوف: «إننا مازلنا جاثمين على صدر الشعب الكردي» ولعله كان على حق. قالها مازحاً شكلاً جاداً في أعماقه. متى سيتاح لشعبينا العربي والكردى، مثل بقية الشعوب الأخرى، الاستمتاع بطيب الحياة ورحابتها؟  فلقد رجعت بقناعة، ربما تكون خاطئة، أن لقاء الطرفين الكرديين لن يكون سهلاً. وإذا ما تساءل القارئ لماذا؟ فإن الإجابة في غاية البساطة.. ألا وهي: حب السلطة..من سيتخلى عن السلطة؟ تلك السلطة التي سبق أن دفعت بحاكمين من أصل كردي هما عبد الكريم قاسم وأحمد حسن البكر إلى شن حملات الإبادة ضد الشعب الكردي!

  في طريق عودتنا شاء مضيفونا ألا يسلكوا الطريق التي قدمنا منها بل سلكوا طريقاً أخرى.. طريقاً أجمل.. تبدأ بشلال (كلي علي بك) بشجرته الوحيدة في أعلى قمة الجبل وإنسانه الواقف بين صخرتين، وتتوقف عند (بيخال) حيث مسارب المياه وهي تنساب عبر الشجيرات الخفيضة والصخور المائلة إلى السواد، وتمر عبر (راوندوز) بمدخلها الجميل، و(مدكسور) بأطفالها النظيفين رغم الفقر، وقرية (دوري) ببيوتها الجديدة وأطفالها العائدين من المدرسة، ثم قرية (ريزان) بنهرها الذي تتوسطه جزيرة بهيئة سمكة أو طير، ثم قرية (بللي) الوادعة والطريق المتعرجة التي تبدو فيها السيارات البيضاء وكأنها أسراب بجع تتقاطع.

لا شواهد لأنفال أو لحرب.. فقط الحياة تنبض ساخرة من الحروب وقادتها.. من الجيوش العابرة والقتلة المارين وسط ابتسامة الطبيعة الخالدة.حتى صمت الموت وسط حياة الطبيعة يبدو صاخباً تاركاً لأصداء التاريخ فسحة الانبعاث من جديد، ربما لاستقبال أمل يأتى مع كل حياة جديدة تولد.

***

عبد السلام فاروق

كان لوالدي (رحمه الله تعالى) الفضل في حب العربية وسبر اغوارها البعيدة ومعرفة اسرارها، ففي الاول المتوسط بدأت اقرأ ديوان المتنبي، والرحلة مع العربية الفصحى (أعني الجاهلية) فكسرت حواجزها وصرت اتذوق جمالياتها، حتى ترسخت في نفسي وصارت ميزانا أو (مسطرة) أقيس عليها اللغة والادب في كل العصور. وأعطتني الجامعة حب منهج البحث العلمي ووجدته السبيل الوحيد للوصول الى المعرفة الحقة، وفي رأيي انه ميدان انتصر فيه المحدثون على القدماء في كل مجالات المعرفة. وقد ألفت بناء على هاتين الركيزتين مجموعة من الكتب والبحوث المتميزة أخذت مداها فدلت على نجاحها. والبحث او الكتاب عندي يجب أن يأتي بأشياء جديدة، وغالبا ما يأتي الجديد بنتائج خلافية شديدة.

- أنا الشعر- دراسة في أساسات الشعر العربي

ذكرت أن الاسس التي وضعها الجاهليون للشعر هي التي تبقى تمثل الشعر العربي الى الابد، والابداع الحقيقي يكون في القرب منها وليس الابتعاد عنها. فتناولت تلك الاسس في هذا الكتاب وما اجرته عصور العرب التالية من تعديلات واضافات، وهي: نظام الشطرين، الاوزان، القافية الموحدة، الاغراض الشعرية ثم اهم الاساسات اللغة الشعرية.

- سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي

المثقفون العباسيون كالأصمعي وابن سلام والجاحظ تنبهوا على ان الشعر الذي اجترحه المولدون كبشار وابي العتاهية وابي نواس يختلف عن الشعر العربي قبله، وهو قطع وبداية جديدة وليس امتدادا كما يقول اكثر الدارسين غير الباحثين بجد. وهؤلاء المثقفون وضعوا اسس النقد الذي قام على مناقشة الشعر الجديد لرفضه جاعلين الشعر الجاهلي هو المقياس. وقد ظهر نقاد عرب رافضون للشعر الجديد كالأصمعي وابن سلام الذي طرد العباسيين من طبقات فحوله، وابي عمرو بن العلاء والجاحظ، ودافع عنه نقاد اكثرهم (غير عرب) مثل قدامة بن جعفر وابن قتيبة وابن الأعرابي والمرزباني والثعالبي وعبد القاهر الجرجاني وعبد القادر الجرجاني. ودافع عنه عرب قلة مثل ابن طباطبا العلوي. وارى ان النقد العباسي فشل في الموازنة بين الشعر العربي والمولدي فتعريف قدامة للشعر (كلام موزون مقفى يدل على معنى) وصف لأغلب الشعر العباسي غير المبدع، حتى نظرية عمود الشعر لم تستوعب الشعر الجاهلي الذي ظل بعيدا عن تصور كامل للنقاد العباسيين الاوائل، وللمتأخرين صار اكثر بعدا. وارى اننا نحتاج وضع (نقد النقد العباسي) وهو مشروه كتابي ينتظر من يقوم به. وفي كتابي اذكر كيف مارس النقاد والادباء وحتى بعض الخلفاء سلطة على المولدين بغية ارجاعهم عنوة الى مثابة الشعر الجاهلي. وفي كتابي (الخلاصة في الادب العباسي) تناولت بشكل مفصل الادب العباسي الجديد بشقيه الشعر والنثر.

- تفسير لقب المتنبي من خلال شعره

في هذا البحث أوضحت سبب تلقيب المتنبي بهذا اللقب وهو امر لم يوضحه قبلي احد، اذ توصلت الى انه لقب بالمتنبي لشدة ذكائه الى درجة التنبؤ بالمستقبل، وذكرت خمس نبوءات وردت في شعره: تنبأ وهي صغير بصيرورته الى العظمة والمجد فتحقق ذلك، وتنبأ بموت احد ممدوحيه (الاوراجي) وهو معافى يجلس على دست الحكم فمات في ليلته وهو يردد بيت النبوءة. وتنبأ بالأسلحة الحديث التي تقتل فورا كالشظايا والقنبلة الذرية دون ان يمر المقتول بمرحلة الالم فتحققت، وتنبأ بموته راجعا الى العراق وقتل بالفعل. وقد حقق هذا البحث صدى واخذ مدى، اخبرني الدكتور نوفل ابو رغيف انه نوقش في ندوة في لندن، واتصل بي الدكتور فاروق مواسي وهو شاعر من جيل محمود درويش وقال لم اقرأ بحثا بهذا المستوى منذ عشرين سنة. كما نشرته المجلات الالكترونية في الخليج العربي وغيره.

-  سلامة اللغة العربية في الكتب الادارية

من الكتب التي حققت انتشارا واقبالا، وقد وزع على جامعات العراق كافة، وبعد نشره قام الوزير الاسبق الدكتور حسين الشهرستاني بتشكيل لجنة لإصدار كتاب مثله من الوزارة ووضعني في اللجنة ولكن خروجه حال دون اكمال المشروع، وكان رئيس واعضاء اللجنة لا يرون ضرورة لإصدار كتاب آخر وان كتابي يفي بالغرض جدا، وقد اتصل بي اساتذة من مختلف الجامعات للحصول على نسخ منه.

-  اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة

هذا الكتاب وليد تمكني من الفصحى ورسوخها في نفسي، واطلاعي على تدرجها في العصر العباسي وبعده. كنت محتاجا الى تقوية مستوى الانجليزية، فاتيح ذلك عندما صار الدكتور هادي دويج رئيسا للجامعة وكنت امين مجلس الجامعة، فكان الدكتور هادي يذكر مصطلحات انجليزية اثناء جلسات المجلس هي اقوى عنده من مقابلاتها العربية، فكنت ابحث عن معانيها، ثم تطور الامر الى تعلم الانجليزية بسيط وسماع الاناشيد والقصص باليوتيوب, وبعد اعفائه خلفه الدكتور حسام الزويني الذي كان اكثر منه استعمالا للانجليزية، وهنا تقابلت عندي اللغة الفصحى العالية والانجليزية بمستوى معين، فصرت كلما سمعت لفظة غير فصيحة ادرك بسليقتي انها غير عربية فابحث عنها فيكون حدسي صحيحا، حتى توافرت عندي الفاظ ومعان واساليب غير فصيحة لا حصر لها نتكلمها ونكتبها ونطلق عليها خطأ (اللغة الفصحى). مثل (العفو) تقال في ابتداء الكلام، والعفو الفصيحة يقولها المذنب طالبا المغفرة، وهي ترجمة لـ(beg your pardon)، (أنا آسف) تقال عند ارتكاب خطأ بسيط غالبا وهي ترجمة لـ(sorry)، وآسف الفصيح تعني (أنا حزين) و(لا تزعجني) نقولها لشخص ليكف عن شيء نكرهه، والفصيحة تعني (لا تحملني على السفر)، وهي ترجمة لـ(don’t bother me). والقواعد مثل تقديم المضاف اليه على المضاف مثل (علي مول بدل مول علي)، واشتقاق اسم الفاعل من المصدر وليس الفعل مقل (تدريسي وفدائي)، واضافة الباء لاسم الحال مثل (بصراحة) وغيرها. والكتاب يمثل قراءة للغة المعاصرة تضعها في مكانها الصحيح، ولكن مجامع اللغة العربية في الوطن العربي والعراق صمتت ازاءه واخذتها العزة بالخطأ ولكن لم اسمع نقدا من احد، واكتفى رئيس المجمع العراقي بعد الحوار معه ومغالطاته الى انهاء الحوار بحظري على الفيس.

- العروض الرقمي والعروض العلمي

 العروض والموسيقى ميدان كان يستهويني وانا طالب في الكلية، ومنذ بدأت كتابة الشعر بعد المتوسطة. كان الطلاب يشتكون من كيفية معرفة البحر، ولماذا نضع هذه التفعيلة وليس تلك. فضلا عن ان كتب العروض وضعت للمثقفين ثم الطلبة، فوضعت ثلاثة كتب في العروض تعالج المشكلتين: عروض بمستوى الطالب المبتدئ بمعرفة هذا العلم، وكيف يتوصل الى معرفة البحر بدون أذن موسيقية، فسنة دراسية غير كافية لمنحه اذنا موسيقية. وقد وجدت بعض الطلاب ينبغ في ذلك ويستطيع بالقوانين التي يلقنها أن يصل الى معرفة البحر بسهولة. وفي بحثي (عروض البحر وعروض القصيدة) كشفت عن حقيقة لم يتناولها أحد قبلي وهي ان وزن البحر لا يكفي لصنع موسيقى شعرية ناهضة ونابضة، وان الشاعر الكبير يجب ان يكون موسيقار كبير في صنع موسيقى داخلية هي (موسيقى القصيدة) وهذه الموسيقى حققها الجاهليون أكثر مما حققوه في الموسيقى العروضية فكثرت لديهم الزحافات التي خلت او كادت من شعر العباسيين ومن تلاهم ولكن هؤلاء لم يحققوا موسيقى الجاهليين. كما تميز الشعراء الاندلسيون بتحقيق هذه الموسيقى بتفرد.

- الثورات العلوية في العصرين الاموي والعباسي

سارت الثورات العلوية في العصرين الاموي والعباسي بخطين: خط (الرضا من آل محمد) التي تدعو (الامام المعصوم) والخط الزيدي الذي يكتفي ان يكون الثائر علويا. واستمرت 266 سنة من ثورة الامام الحسين 63هـ الى الغيبة الكبرى للامام المهدي 329هـ. قاد البحث في الثورات العلوية الى نتائج جديدة وحاسمة منها: ان الكوفة كانت محور الثورات والقادرة على تحقيق النصر بوصفها عاصمة التشيع. احد اسباب اختيار العباسيين بغداد عاصمة هو لتطويق الكوفة والسيطرة على الثورات العلوية كما حدث لثورة ابراهيم بن الحسن المحض. افرزت الثورات العلوية اشعارا ثورية ذات اغراض كثيرة واساليب فنية مختلفة.

- خصصتُ الفيليين بكتابين: (قصة الفيليين العراقيين) و(تعلم الكردية الفيلية). قصة الفيليين من كتبي واسعة الانتشار، فقط طبع ست طبعات آخرها في دهوك/ كردستان، ونقلت منه (الويكيبيديا) ونقل منه وكتب عنه مثقفون كورد في مناطق شتى. وقد حسم الكتاب اختلافات كثيرة كتحديد الفهلوية بأنها لغة الفيليين الام وليست فارسية، وان كسرى كوردي والدولة الساسانية كوردية، وتحديد معنى فيلي بشكل قاطع، واطلاقه من قبل حسين خان عام 1600م بالتحديد. وتناول الكتاب الاصول والدول واللغة والادب والشخصيات الفيلية، وتهجير الفيليين بالأعداد الدقيقة، ومحاربتهم بمنعهم من التعليم العالي ووظائف: معلم، مدرس، استاذ، قاض، ضابط، ورسمت مستقبل الفيليين، ووضعت اقتراحات لانصافهم.

أما (تعلم الكوردية الفيلية) فقد بدأت تعلم الكوردية اثناء العسكرية في كلار وسرقلعة وباوه نور وكفري، وتعرفت الى الادب الكردي وشعرائهم. كنت اعرف القليل من الكوردية الفيلية مما سمعته من والديّ، والفيلية تختلف عن السورانية. فعرفت المسار التعبيري لهما، في السورانية والفيلية يقدم الفاعل على الفعل وجوبا مثل (علي هات) = (جاء علي) اسوة باللغات الهندوأوربية: الهندية والفارسية والجرمانية والانجليزية مثل (Ali is came). وفي حالة الفعل المتعدي تشيه قواعد الفيلية القواعد العربية: فعل فاعل مفعول به مثل (دووم = اعطاني) بينما السورانية بالعكس (مفعول به فاعل فعل) فالجملة السابقة يلفظونها (مني دا). وقد استحضرت كل كلام فيلي سمعته سابقا، ونقلت من والدتي رحمها الله كلاما وقصصا وقواعد كثيرة لا ازال احتفظ بتسجيلاتها، وسمعت فديوات كثيرة للفيلية، كما اطلعت على كتب تعليم الكوردية السورانية لوجود شبه قليل بين الفيلية والسورانية، وراجعت مثقفين فيليين يجيدونها أفضل مني. ولم يضع أحد الفيليين كتابا في تعليم لغتهم وفيهم من يتحدثها بطلاقة، لذا قمت بهذا الجهد، وتفضل اقليم كردستان بطباعته مشكورة الطبعة الثانية.   

-  وفي مجال الابداع اصدرت بطبعتين (منامات ابن سيا) وهي (نص مفتوح)، تشبه في قالبها العام (مقامات بديع الزمان والحريري) وتختلف في الاسلوب والهدف، فهي تروي عن شاعر جوال سجل مستجدات الحياة في العراق منذ زمن صدام الى ايامنا هذه، وقد كتب عنه أدباء كثيرون مثل الشاعر الكبير طه ياسين حافظ والدكتور فاضل التميمي والدكتور صالح الطائي. كما اصدرت مجموعتين شعريتين هما (اليها فقط) و(قصائد خيرة)، ولدي مجموعة قيد الطبع في اتحاد الادباء هي (ادخليني جنان خلدك).

- وتحت يدي كتاب (المتنبي من الكوفة الى الكوفة) مع الدكتور عيسى جعفر الحركاني. وهو الخلاصة في المتنبي، وكما قدمت فان علاقتي بالمتنبي ترجع الى الاول المتوسط، وقد عايشته وآلفته حتى كأنه كان يملي علي واكتب حيا يرزق، وصديقا يصدقني في الكلام عن نفسه. ولي فيه سابقا دراسات كثيرة.

في الختام أتمنى على النشء الاكاديمي الجديد الافادة من تجربتي في الكتابة، واشكركم شكرا جزيلا على الاصغاء.

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

 

مر الأدب الروسي بعدة مراحل تاريخية، ممكن لنا تحديد مراحله على حقبات تاريخية متسلسلة، الفترة الروسية القديمة تبتدأ من القرن العاشر الى القرن السابع عشر، والفترة الروسية الحديثة تبتدأ من القرن الثامن عشر الى عام ١٩١٧ بواقع ثورة أكتوبر . والفترة الروسية ” السوفيتية تبتدأ من عام ١٩١٧ الى ١٩٩١ إنهيار التجربة الاشتراكية . وبعد هذا التاريخ تبتدأ مرحلة جديدة من عام ١٩٩١ الى وقتنا الحاضر .

في مطلع عقد الثمانينات، كنت طالباً في كلية الأداب جامعة بغداد في ذلك المبنى الأنيق والواسع والزاخر بالمعرفة والأدب والكتاب . يعزل بموقعه حي الوزيرية عن ساحة الميدان وباب المعظم . كانت بوابة مدخله تؤدي الى كلية التربية ومن ثم كلية الصيدلة وينتهي به الطريق الى بناية قديمة وعريقه بعدة طوابق سكناً داخلياً لطالبات الكليات، طريق واسع وأنيق يتوسط الكليات الثلاث تشعر بهيبته منذ اللحظات الأولى التي تطأ قدماك به . في مبنى كلية الآداب تتلمذت على يد أساتذة كبار في الأدب والمعرفة الأستاذ ضياء نافع، محمد يونس الساعدي، حياة شرارة، جليل كمال الدين، ناشئة بهجت الكوتاني.

قراءاتي السابقة عن يوميات الأدب الروسي، ومن خلال دراستي للأدب الروسي في مطلع الثمانينيات في الآداب جامعة بغداد واطلاعي على حياة ومسيرة الكتاب الروس من شعراء وروائيين ونقاد وكتاب ورسامين. بدءاً من عصر القياصرة إلى فضاءات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بقيادة مفجرها لينين، وحقبة حكم ستالين بقبضته الحديدية.

كان يرهقني في الأدباء الروس مصيرهم المحتوم إلى الموت انتحاراً أو بظروف غامضة في كلا الحقبتين من تاريخ روسيا وهم بعزّ عطائهم الإنساني ومعترك حياتهم الإبداعية. وبقيت لسنوات أتساؤل مع نفسي من خلال القراءة والمعرفة في مسيرة هذا السجل عن مصيرهم المستعجل إلى الموت.

هل أن قسوة الانظمة في قمع إبداعاتهم كانت سبباً في موتهم سراً أو إنتحارهم طوعاً ؟. وهل أن إبداعهم الإنساني في لحظات التجلي والقمة دفعهم إلى هذا المصير المفجع ؟. وهل أن مفهوم الموت في النتاج الإنساني والاخلاقي بحتمية الحياة قادتهم إلى الموت الزؤام ؟. هل هذه العوامل كافية وكفيلة تدفع شاعراً أو روائياً لم يتجاوز عمره العقد الثالث وفي قمة تألقه أن ينتحر أو يُقتل غيلة مثلما وقع مع الشعراء ألكساندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وفيدور دوستويفسكي إلى ماياكوفسكي وسيرغي يسينين.

الكساندر بوشكين. شاعر روسيا الأول وطنياً ووجدانياً ورمز من رموزها، نُفي مرتين من قبل قيصر روسيا نيكولاي الأول لنشاطه الثوري ضد أركان حكمه المتزمت من خلال نتاجاته الأدبية والإنسانية إلى أن رُتّبت له بدعة المبارزة السائدة آنذاك لينتهي ميتاً. ميخائيل ليرمنتوف نعاه بقصيدته ”موت شاعر ”هزت أركان روسيا من أقصاها إلى أقصاها، لينفيه القيصر إلى منطقة القوقاز. عُرف شاعراً وكاتباً مبدعاً في العديد من الروائع الأدبية التي جسد من خلالها إبداعات الإنسان ”بطل من هذا الزمان” كانت روايته الوحيدة، لكن ملحمته الشعرية التي رثى بها شاعر روسيا الأول ألكساندر بوشكين بعد موته، هي من أدخلته عالم النجومية والعالمية والشهرة، ومن ثم أدّت إلى قتله أيضاً.

كما نال الآخرون من الحيف والتهميش والنفي بدءاً من إيفان تورجينيف إلى الناقد الديمقراطي فيساريون بيلينيسكي ومروراً بليف تولستوي ونيقولاي غوغول وأنطون تشيخوف، أما فيودور دوستويفسكي فقد حُكم عليه بالإعدام لنشاطه الثوري ضد ممارسات وسياسة القيصر، وما زال سرّ موته المبكر لغزاً.

لم يكن حال الأدباء والشعراء والكتّاب الروس في ظل الوضع الجديد بقيام ثورة أكتوبر أحسن حالاً من الزمن الذي مضى، لقد مارس ستالين ونظامه سياسة الترهيب والترغيب بحقّ مبدعي روسيا وسلخهم من جلودهم الحقيقية وحولهم إلى مدّاحين وطبّالين لشخصه ونزقه، وإن من عارضه أو صمت تلقى حتفه الأبدي، ومن فضاءات ثورة أكتوبر ولدت منهجية تحزّب الفن الذي تلقفناه نحن أي بلدان الشرق وأحزابها الشيوعية. يقول أميل حبيبي :” نحن ربينا أجيالنا على مفاهيم ستالين. الشيوعيون جبلوا من طينه خاص”. وثمة من عاصر التجربة المرة واستنساخها على الوضع في العراق وسياسة البعث وصدام حول الابداع والمبدعين.

لقد ظل ستالين طيلة حقبة حكمه يعيش بهاجس الخوف من المبدعين الروس، فأغلب الذين ماتوا أو إنتحروا ظلت تدور حول قتلهم الشبهات . يقول سيرغي دوفلاتوف:” نلعن ستالين بلا إنتهاء نتيجة أعماله، ومع ذلك أريد أن أسأل من الذي كتب أكثر من أربعة ملايين تقرير ”.

الشاعرة المبدعة والكبيرة مارينا تسفيتايفا إنتحرت في ظروف غامضة بعد أن أعدم زوجها وإعتقلت أبنتها وأختها، ولم يعُر انتحارها اهتماماً في الاوساط الحكومية ولا حتى الأدبية وظلت قصائدها ممنوعة إلى أواسط الخمسينيات بما تمتاز به من ثقافة وتمرد ورفض في المعاني.

كان ستالين يتابع بنفسه جميع النتاجات الأدبية والفكرية، ويحضر شخصياً المسرحيات والأمسيات الأدبية ممن تنال إقبالاً جماهيرياً في الأوساط الشعبية، وقد حضر وشاهد مسرحية ”أيام تورين” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات على المسرح الأوبري في موسكو، وخرج بنتيجة مفادها أن هذه المسرحية ”سخرية من النظام الشيوعي وأن بولغاكوف ليس منا ” وبسبب ما تعرّض له هذه الروائي العبقري من سطوة سياط ستالين ورفاقه، مات بعد تعاطيه جرعة كبيرة من المورفين.

وعندما قرأ ستالين مسرحية ” في المخزن” للروائي أوليغ بلاتونوف كتب عنه قائلاً : كاتب موهوب ولكنه وغد ” ووصف المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا.

في عام 1934 أنشأ ستالين ” أتحاد الكتاب السوفييت”. وأختزل بهذه الخطوة كل المنتديات الأدبية، وبدأ العمل ضمن مفهوم الواقعية الاشتراكية والالتزام ببنودها وأن من يخرج على طاعتها يتعرض إلى العزلة والقتل .

كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس الاتحاد ومؤمناً بالاشتراكية وشديد الإخلاص للحزب الشيوعي ولستالين شخصياً. ويبرر ويدافع عن كل خطوات ستالين المؤذية تجاه رفاقه ومبدعي شعبه.

بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956 ورفع السرية عن الوثائق المطمورة بما سمي حينها ذوبان الجليد وحين أتضحت الحقائق المروعة عن جرائم ستالين وسياسته الدموية حزن حزناً عميقاً، وشعر بالألم والندم، ولم يتحمل الضغط النفسي الشديد وبات دائم القلق معذب الضمير، ويتمنى الموت اليوم قبل الغد، فأطلق الرصاص على نفسه ليرتاح إلى الأبد من عذاب الضمير كما جاء في الرسالة الموجهة إلى اللجنة المركزية للحزب، والتي كتبها قبل الانتحار.

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 هاجر عدد كبير من خيرة مثقفي روسيا من مفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين خارج روسيا، أما من بقي منهم فقد تعرض إلى المضايقات والتهميش وتقيد إبداعهم بالترهيب والترغيب وتحزيب نتاجاتهم .

مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد أن رفضوا بالسماح له بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج. ولقد كتب البروفيسور ضياء نافع في يومياته عن روسيا والسوفييت يروي قصة عيشه مع اللاجئين الروس في باريس في منتصف الستينيات، والذين غادروها بعد ثورة أكتوبر وتوقعاتهم بانهيار النظام الشيوعي في الوقت الذي تهاوى به الاتحاد السوفييتي.

أما فاجعة وسيناريو الشاعر سيرغي يسينين فهي جد مؤلمة، حيث شنق نفسه في فندق في لينينغراد عام 1925 وهو في الثلاثين من العمر في عز عطائه وشبابه، وهو الشاعر الأكثر شعبية من حيث تداول شعره في روسيا بما تتضمنه قصائده من غزل وشجن ووجدانيات، عربياً قد يكون قريباً جداً إلى شاعرنا الكبير نزار قباني من حيث دغدغة مشاعر الأنوثة والرومانسية النسوية. وقد ترك في الغرفة التي شنق فيها نفسه قصيدة مكتوبة بالدم، لأنه لم يجد حبراً، فجرح معصمه وكتب قصيدته التي يقول فيها «ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت، وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش».

ولشعبيته الكبيرة في روسيا بعد إنتحاره فقد أجتاحت روسيا موجه كبيرة من الإنتحارات وسط الشباب والمثقفين، مما أثار هلع السلطات للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وقد ترك بعد رحيله ثناء طيباً وكلاماً عميقاً من مبدعي روسيا. فقال عنه بوريس باسترناك: لم تلدُ الأرض الروسية من هو الأكثر وطنية وأفضل توقيتاً مما هو سيرغي يسينين.

أما مكسيم غوركي فقال عنه : «إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خُلق من أجل الشعر حصراً».

أما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه : «إن يسينين لم ينظّم أشعاره، بل لفظها من أعماقه».

وقال الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي : إن موته «مأساة أخرى في تاريخ روسيا مسّت الوجدان العالمي والإنساني»، حيث كتب قصيدته الشهيرة بعد انتحار يسينين يقول فيها : «في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت، أن تصوغ الحياة لهو أصعب بما لا يقاس»، بعدها أطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهدى إليه من مخابرات الكرملين.

وقال عنه الأديب الروسي فيكتور شكلوفسكي: «إن ذنب الشاعر ليس في أنه أطلق الرصاص على نفسه، بل أنه أطلقها في وقت غير مناسب».

مكسيم غوركي كاتب رائعة رواية الأم مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قد جرى تسميمه وإن ستالين شخصياً كان ضالعاً في قتله، لأن مكسيم كان مستاء وغاضباً مما يرى حوله من بؤس وظلم . وهناك العديد من الشعراء والأدباء تعرضوا إلى السجن والموت وهم في بداية شهرتهم الأدبية، لكن مواقفهم الإنسانية والوطنية هي التي حتمّت موتهم السريع والمرعب. فالشاعر كلوييف مات تحت التعذيب، أما الكاتبان المعروفان بيلنياك وإسحاق بابل فقد حُكم عليهما بالإعدام ونُفّذ فيهما الحكم سريعاً.

أمام هذه التراجيدية السوداء في تاريخ روسيا القيصرية والاشتراكية في التعاطي مع الأدب والأدباء والشعر والشعراء والحرية والإبداع، نقف عند قول فولتير: «إذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فأن العطف الأبوي يدفعني إلى أن ألوي عنقه». لقد مارس ستالين الإرهاب الفكري بحقّ مبدعي روسيا وقمع حرية التعبير، بل وقام بالتشهير بالمبدعين من الشعراء والروائيين ممن كانوا يكتبون بحرّية وإبداع خارج ما يسمى في حينها بالثورة الثقافية.

عندما حصل الشاعر بوريس باسترناك على جائزة نوبل للآداب ١٩٥٨ عن روايته ”دكتور زيفاكو” منعه الرئيس السوفيتي خروتشوف عن قبولها. وقد تعرض إلى حملة تشهيرية واسعة فأصيب بسرطان الرئة ومات عام١٩٦٠.

أما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر أعماله في الخارج وتم إحتجازه بمستشفى للمجانيين، وفي عام ١٩٧٢ طردته السلطات خارج البلد وانتزعت منه الجنسية السوفيتية، وهو شاعر مبدع يخط بقلم واضح نال جاهزة نوبل للاداب عام ١٩٨٧، وكان عمره٤٧ عاماً، أي أنه أصغر أديب حاصل على هذه الجاهزة الرفيعة.

في عام ١٩٦٨  حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايته  ”الدائرة الأولى” في الخارج، وصفته وسائل الإعلام السوفييتية بالخائن والعميل وعلى أثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام١٩٧٠، طرد من اتحاد الكتّاب السوفييت، وفي عام١٩٧٤ نزعت عنه الجنسية السوفييتية وطُرد إلى خارج البلاد.

إن أغلب الأنظمة السياسية في العالم لم تعُد تستوعب فكرة إبداع ونتاج مبدع لا يتعاطى مع مشاريعها السياسية ومصالحها . إن مفردة الديمقراطية كذبة ومؤسساتها حيلة من الحيل ضد توجهات المبدعيين الإنسانية والسياسية. في فرنسا مُنعت كتب كانت وفولتير لأنها كانت ضدّ توجهات النظام السياسي القائم في البلاد. وبعد أن استلم ستالين مقاليد الحكم والدولة والحزب والمبادئ، إثر موت رفيقه لينين عام ١٩٢٤، كانت الخطوة الأولى في برنامجه تصفية كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي بذريعة تطهير الحزب من العناصر المخربة. وينقل إنه بعد أن فاحت رائحة جريمة قتل رفاقه، هم الرسام بيكاسو برسم صورة بشعة له، فتعرض أي بيكاسو على أثر ذلك إلى العقوبة والتوبيخ من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي.

أما في فضاءات الحضارة العربية والإسلامية وقتل علمائها ومبدعيها، فالحديث عنها مرعب ومخيف، بدءاً من الخوارزمي ومروراً ببشار بن برد، وأمرؤ القيس، وليس إنتهاء ببدر شاكر السياب الذي مات مهموماً ومعزولاً ومتروكاً، وعبد الأمير الحصيري الذي مات فقيراً رثاً في حانات بغداد.

بعد هذا العرض التراجيدي لمصير أدباء وشعراء روسيا وما لاقوه من قمع وإرهاب ومصادرة لإبداعهم الإنساني، قد يصفني بعض من المتفهمين على أنني معادٍ للفكر الماركسي. لكنني أعلن وبزهو تام عن إيماني الكامل بهذا الفكر الخلاق نهجاً وأخلاقاً وفكراً، وأن حبي له هو حافزي الأول والأخير في تعرية ونقد الأخطاء التي أدّت إلى تدمير هذه التجربة الخلاقة.

***

محمد السعدي

 

في ظهيرة السادس عشر من تشرين الأول عام 1957، بينما كان يتناول طعام الغداء في مطعم وسط باريس، اقترب منه شاب ليبلغه أن الناشر غاستون غاليمار يبحث عنه، فهناك أنباء تقول أنه فاز بجائزة نوبل. الكاتب البلغ من العمر آنذاك " 44 " عاما اعتقد أن الأمر مزحة، فهو صغير السن على هذه الجائزة التي تُمنح عادة في وقت توشك فيه حياة الكاتب على الغروب، ثم أنه لا يتمتع بالمكانة التي يتمتع بها بعض معاصريه من كتاب فرنسا، مثل اندريه مالرو أو جان بول سارتر.

امام شقته تزاحمت وكالات الانباء ومحطات التلفزيون، الجميع ينتظر قدوم صاحب " الغريب " ليسألونه عن جدوى العيش بعد الجائزة، وهل لا يزال يعتقد ان الحياة الانسانية ليست ذات اهمية، وأننا لا نزال نحمل صخرة سيزيف على ظهورنا.عندما وقف امام لجنة جائزة نوبل طالب الأدباء والكتاب أن يركزوا على الناس المهمشين الذين يخذلهم التاريخ معلنا أن " الادب يُعبر ويُدافع عن تطلعات الإنسان إلى الحرية، والانسجام، والجمال، وهذا التطلع وحده يجعل الحياة ذات قيمة "، وعندما يسأله أحد الصحفيين: هل لازلت وجودياً رغم اختلافك مع سارتر، يجيب: " لست وجودياً، مع أن الفلاسفة بالطبع مجبرون على التصنيف، حصلت على انطباعاتي الفلسفية الأولى من الاغريق، وليس من المانيا في القرن التاسع عشر والتي هي أساس الوجودية الفرنسية الحديثة " – ديفيد شيرمان البير كامي ترجمة عزة مازن -.

كانت المشكلة الفلسفية التي واجهها البير كامو هي: لماذا الحياة عبثية؟، فرغم أننا ممتلئون بـ "التوق إلى السعادة"، لكن يقابلنا في كل مكان "الصمت غير المعقول للعالم". لقد كشفت لنا الحياة عن فراغ كبير. ومثلما قال صامويل بيكيت " النور يضيء لحظة، ثم يحل الليل مرة أخرى." هذا التناقض الأساسي، بين شغفنا بالحياة وما يقدمه الواقع، هو ما يجعل الحياة عبثية. قارن كامو بين الوجود البشري ووجود سيزيف في الاسطورة اليونانية، المحكومٌ عليه من قِبل الآلهة بأداء مهمة عبثية، وهو أن يدفع إلى الأبد صخرة إلى أعلى التل، بحيث يراها تنحدر من جديد إلى أسفل في كل مرة يصل بها إلى القمة، ومع هذا يجب أن يُعتبر سيزيف،كما يخبرنا كامو، شخصا سعيدا، بمعنى أن علينا أن نعي مأزقنا، ونقبل لأقصى درجة أيًّا ما كانت الحياة التي سيتحتَّم علينا أن نعيشها على الأرض يقول كامو ان:" لا عقاب اشد من واجب لا طائل فيه ولا أمل يرجى منه " فسيزيف في نظر كامو هو بطل العبث بسبب احتدام عواطفه وشدة عذابه معا، فازدارؤه الألهة، وكرهه الموت، وعشقه الحياة، كلها سببت له العذاب الذي لايوصف ليتحول في النهاية إلى رمز:" انني الآن اترك سيزيف عند الحضيض من جبله، فالمرء دائما ما يعود إلى عبثه، إلا ان سيزيف يُعلمنا ذلك الضرب السامي من الولاء الذي لا يعترف بالألهة ويرفع الصخور.. الكفاح صعداً إلى القمة كفيل بان يملأ قلب الانسان. فعلينا أن نتخيل سيزيف سعيدا " – اسطورة سيزيف ترجمة انيس زكي حسن -

يتساءل كامو: إذا تكشف لنا عدم جدوى الحياة كعمل سيزيف، فكيف نرد او نجيب؟. ماذا نفعل إذن؟ الانتحار ليس خيارا. لأنه لن يؤدي إلا إلى مضاعفة العبثية، وكان الخيارالوحيد المتبقي هو القبول بمأزقنا. كل واحد منا مدان. كل واحد منا لديه صخرة مطلوب منه أن يدحرجها. لكن "النضال نحو المرتفعات يكفي لملء قلب الانسان "، ولهذا فان كامو يرى ان بأمكاننا جميعا إيجاد طرق لنحمل صخورنا بابتسامة حازمة ومتحدية. ان كامو ينظر الى التكرار السقيم الذي تتسم به حياتنا، على أنه الصورة الحديثة لاسطورة سيزيف. كما ان العبث يستمد وجوده من الإحساس بالانعزال في عالم مغترب، وقد ينتج عن هذا الشعور بالانعزال الإحساس باننا إنما وجدنا بمحض الصدفة وبلا سبب معقول. عندها يتواجد لدينا احساس يسميه كامو بـ (العداوة البدائية تجاه العالم ) " – جون كروكشانك كامو وادب التمرد ترجمة جلال العشري -. يقول كامو إن العبث وليد التفاوت. إنه يرتفع أمامنا عندما تقف توقعاتنا قاصرة امام الواقع.عاش البير كامو باعتباره احد احفاد سيزيف في عالم غير مبال باعمال البشر وافعالهم. ان الحياة لا معقولة، لكنها في نفس الوقت ذات قيمة لا تقدر.

عندما قدم البير كامو كتابه " اسطورة سيزيف " الى دار غاليمار، وكانت الاكثر شهرة في فرنسا، وجد الروائي اندريه مالرو ان موضوعة الانتحار التي يتناولها كامو في بداية الكتاب مجهدة فكتب اليه:" قد تكون البداية متعثرة بعض الشيء "، وكان رد كامو انه لا يتبنى مفهوم الانتحار، بل يتناول الوضع العبثي الذي يعيش فيه الانسان الذي يجد نفسه في مواجهة " صمت العالم المطبق واللامعقول "، ان العبث يسمم حياتنا اليومية ويضفي على كل تجاربنا قدراً من اللاجدوى:" أن ما يهمني هو ليس اكتشاف (السمة العبثية للحياة)، بل ناتج وقواعد العمل التي يجب ان نستخلصها منها " - اسطورة سيزيف ترجمة انيس زكي حسن -.

قبل الشروع بكتابة " اسطورة سيزيف " كان كامو يعمل محررا ادبيا في احدى الصحف المستقلة، آنذاك لفت انتباهه كتابان صدر حديثا لجان بول سارتر، رواية بعنوان " الغثيان " ومجموعة قصصية بعنوان " الجدار " وقد وصف سارتر في هذين العملين عالما غارقا في الصدفة، عالم عالق في تيار من الاحداث التي تفتقر لأي مبرر. لهذا يغالبنا شعور بالغثيان بعد أن اصبح العالم غريبا وموحشا وعبثيا. يكتب كامو في يومياته ان الغثيان كانت قريبة جدا لشيء في داخله، ويعترف في مقالته ان " سارتر استطاع أن يصور الحياة اليومية تصويرا صادقا واقعيا ملموسا حتى ان شفافيته لا تدع مجالاً للامل. وان كل تأمل من تأملات سارتر عن الزمان صوره بوضوح وقوة تفكير الفلاسفة ابتداء من كيركغارد وحتى هايدغر " – كامي وسارتر ترجمة شوقي جلال -.

يرفض البير كامو أن يوضع في خانة الفلاسفة، ويصر على ان كتاباته لا يحكمها نظام فلسفي، فقد كان يريد ان يحتفظ بلقب رجل المسرح وكاتب الروايات والجملة وظل يردد:" إن أردت أن تصبح فيلسوفاً، اكتب روايات "، فالروائيين العظماء فلاسفة عظماء، واحيانا يجد نفسه كاتب مقالات مثل مونتاني وقد شرح ذلك في مقدمة كتاب " اسطورة سيزيف " معتبرا أن هذه الصفحات:" تعالج الحساسية العبثية التي يمكن العثور عليها بشكل متفرق، على امتداد القرن، وليس فلسفة العبث التي لم يعرفها عصرنا هذا ".بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ستؤدي التغيرات الجديدة في العالم الى أان يتراجع العبث عند كامو امام فكرة جديدة اسمها التمرد، فاصدر كتابه الشهير " الانسان المتمرد " عام 1951 وفيه تحول من التركيز على عبث سيزيف الى الوقوف ضد القتل باسم الثورة والحرية معلنا أننا نعيش " عصر القتل العمد والجريمة الكاملة.. ولن نعرف شيئا حتى نعرف ما إذا كان لدينا الحق في قتل اخواننا البشر، أو الحق في السماح بقتلهم " – الانسان المتمرد ترجمة نهاد رضا -.

عاش البير كامو المولود في السابع من تشرين الثاني عام 1913 في حي للطبقة العاملة في مدينة موندوفي التابعة لمديرية القسطنطينية بالجزائر طفولة شديد القسوة ، لا يتذكر صورة والده لوسيان كامو الذي عاش فقيرا يتنقل بين المزارع يعمل اجيرا، وعندما تزوج اختار امرأ ة " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية تعمل خادمة في البيوت، بعد عام من ولادة ابنهما الثاني " كامو " يُساق الاب للخدمة العسكرية، وبعد اشهر تستدعى والدة كامو الى المستشفى حيث يتم اخبارها أن زوجها قتلته شظية قذيفة . وجدت العائلة الصغيرة نفسها من دون مال، فقررت الأم التي كانت نصف صماء لا تعرف القراءة والكتابة مغادرة مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو إلى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة، مع والدة زوجها وشقيقه الذي كان يعاني من شلل في الأطراف. في السادسة من عمره يدخل كامو المدرسة الابتدائية، وفي نفس الوقت يلتحق للعمل صبي عند احد النجارين، في المرحلة المتوسطة يلفت نظر أستاذه لوي جرمان الذي اقترح له مِنحةً تُعينه على اكمال دراسته. في عام 1930 وبينما كان لا يزال طالبا بالمدرسة العليا اصيب بالتدرن، فاضطر الى ترك المدرسة فترة طويلة من العام والانتقال الى بيت عمه وكان جزارًا ذا اهتمامات أدبية معجبا بفولتير وينادي بالافكار الفوضوية، عام ۱۹۳۳ ينضم إلى حركة المناهضة للفاشستية التي أسسها هنري باربوس ورومان رولان. عام ۱۹۳٤ يتزوج لكن الزواج ينتهي بالفشل بعد نحو عام واحد. وفي أواخر عام ١٩٣٤ ينضم إلى الحزب الشيوعي.. درس الفلسفة في جامعة الجزائر، وفي نفس الوقت كان يعمل في محل لبيع قطع غيار السيارات، العام 1935 يؤسس فرقة مسرحية كتب لها بعض المسرحيات القصيرة وفي عام ۱۹۳۸ وضع مسرحيته الأولى كاليغولا وباشر بوضع مخطط لروايته " الغريب " عام ١٩٣٩ أصدر كتابه (أعراس)، يعمل مدرسا في احدى المدارس الخاصة في وهران، تصدر عام 1942 روايته الغريب ثم كتابه " اسطورة سيزيف "، وقرب نهاية العام قابل فرانسيس كامي في مدينة ليون وتزوجا، عام 1943 يلتحق بالمقاومة الفرنسية ليصبح مشرفا على صحيفة المقاومة.في نهاية عام 1943 ينتقل الى باريس يبدأ العمل لدى دار غاليمار، يلتقي جان بول سارتر للمرة الاولى عام 1943 عند افتتاح مسرحية سارتر الشهيرة "الذباب"، تقول سيمون دي بوفوار:" اقبل علينا شاب وسيم وقدم نفسه: انا البير كامو، كنت قد قرات له باعجاب روايته الغريب، وتضيف بوفوار:" لقد وجدنا فيه شخصا جديرا بالحب " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي -

عام ١٩٤٧ ينشر روايته " الطاعون " يتعرض الى هجوم من مجلة " الازمنة الحديثة " بعد نشر كتابه " الانسان المتمرد، وينشب النزاع الشهير بينه وبين جان بول سارتر لتحدث القطيعة بينهما. بسبب مرضه والاوضاع السياسية يقرر العزلة والصمت لمدة اعوام ، ولم يخرج عن هذا الصمت إلا بعد ان نشر روايته " السقطة" عام 1956، يهاجمه داء السل القديم من جديد .. يواصل العمل على روايته " الانسان الاول " التي لم يقدر لها الظهور اثناء حياته، في يوم الإثنين الرابع من كانون الثاني عام ١٩٦٠، وفي الساعة الثانية والربع ظهرًا، اصطدمَت سيارة تسير في سرعةٍ مجنونةٍ على طريق سانس باريس بشجرة اصطداما مُروِعا. وبين حُطام العربة عثَر الناس على امرأتَين في حالة إغماء، وسائقٍ جريحٍ مات بعد الحادث بأربعة أيام وكان هو الناشر ميشيل غاليمار ومسافرٍ رابعٍ مات للحظته، كانت عيناه قد برزَتا قليلا، والدم تناثَر على رقبته، وعلى وجهه أماراتُ الهدوء والدهشة. وحين فتشوا جيوبه وجدوا فيها تذكرة سفر بالسكة الحديدية لم يستعملها، كما قرؤوا في بطاقته هذه الكلمات: " ألبير كامي.. كاتب "

يكتب سارتر في رثاء كامو:" على من أحبوه أن يدركوا أن في أعماق كامو عبثية لا تحتمل. وعليهم كذلك معرفة أن أعماله التي تشوهت بالموت، هي في الحقيقة أعماله المكتملة".ويصر سارتر على وضع كامو في خانة الفلسفة الوجودية مؤكدا أن كامو قد شرع في عمل فلسفي وجودي مهم، وفي مراجعته لرواية الغريب يضعه الى جانب نيتشه.

في حوار اجري معه عام 1945، اكد البير كامو أن اسطورة سيزيف موجهة ضد من يسمون بفلاسفة الوجودية، معلنا بصراحة: أنا لست وجوديًا. وسخر من الذين يربطون بين اسمه واسم جان بول سارتر قائلاً:" أنا وسارتر نتفاجأ دائما برؤية اسمينا مرتبطين. لقد فكرنا في نشر بيان قصير يعلن فيه الموقعون أدناه أنه ليس لديهم أي شيء مشترك مع بعضهم البعض ويرفضون تحمل مسؤولية الديون التي قد يتكبدونها على التوالي. لقد نشرنا أنا وسارتر كتبنا دون استثناء قبل أن نلتقي. عندما تعرفنا على بعضنا البعض، كان ذلك لندرك مدى اختلافنا. سارتر وجودي، وكتاب الأفكار الوحيد الذي نشرته، أسطورة سيزيف، كان موجهًا ضد ما يسمى بالفلاسفة الوجوديين". ان كتاب اسطورة سيزيف كتبه كامو ضد بعض فلاسفة الوجودية مثل كيركغارد وكالرل ياسبرز، ورغم انه يعترف أنهم جميعًا يشهدون بطريقة ما على عبثية الحالة الإنسانية. لكنه يرفض ما يعتبره هروبهم المطلق وعدم عقلانيتهم، مدعيا أنهم "يؤلهون ما يسحقهم ويجدون سببا للأمل في ما يفقرهم. ذلك الأمل القسري الذي يتعلق بفكرة الدين التي يرفضها كامو.

وعلى الرغم من أن اسم كامو يرتبط دائما بسارتر، الذي أصبح اسمه مرادفا للوجودية، إلا أنهما كانا شخصين مختلفين. وصف سارتر الإنسان بأنه "عاطفة عديمة الفائدة". وصف كامو نفسه بأنه رجل العاطفة.تسعى الفلسفة الوجودية الى البحث عن معنى الحياة، فيما يصر كامو على ان الفلسفة يجب ان تعترف بان الحياة بطبيعتها لا معنى لها.

في خطابه امام لجنة جائزة نوبل يرفض كامو ان يوصف بالكاتب العدمي ويعلن ان على الكاتب:" أن يوفق بين فن يدعو الى الحياة وبين فن ترتعيه النكبات، كي يولدوا مرة ثانية ويقاتلوا بعدها بوجه مكشوف ضد بذرة الموت التي احتواها المؤلف في عصرنا ".

عاش كامو مثل سيزيف يعلن " ان الحياة لا معنى لها.. انه يسأل الوجود فلا يجيب، يفتش في ارجائه عن الوحدة ويطرح السؤال الذي رافقه في معظم كتاباته:" ماذا ستكون الحياة إذا كنا نعتقد انها عبثية، ولا معنى لها ؟، يؤمن كامو ان اهم مشكلة فلسفية هي: ما معنى الوجود ؟ هذا السؤال الذي طرحه في كتبه ورواياته ومسرحياته. لقد ظن كامو ان الحياة لا معنى لها، وانه لا يوجد شيء يمكن ان يكون مصدرا للمعنى، وبالتالي هنلك شيء عبثي للغاية حول السعي الانساني لايجاد المعتى.. ولهذا فان فلسفة كامو تتخذ من العبثية نقطة بداية لها، حيث نكتشف كيف يشكل النشاط البشري عالماً ذا معنى من الوجود الوحشي الذي لا معنى له. لقد بنى وجهة نظره على أساس الشعور بأن العبثية هي أمر لا يمكن تجاوزه في التجربة الإنسانية، إلا ان كامو يميل بشكل خاص الى وجودية هايدغر التي تبين ان الانسان ترك مهجورا في هذا العالم، لكن حين يقول هايدغر ان على الانسان أن يصنع معنى لنفسه، يرد سارتر ساخرا بان هذا العالم " سخيف "، فالعبث يلفي بظلاله على كل ما نقوم به، وحتى لو اخترنا أن نعيش كما لو أن الحياة لها معنى، فأن العبث سيستمر في عقولنا باعتباره شكا مزعجا. لكن برغم ذلك يجب ان نقوم بكل ما يمكننا القيام به في الحياة. علينا ان بالخلفية العبثية للوجود، كي ننتصر على اليأس:" سجب على المرء أن يتخيل سيزيف سعيداً". كان كامو ملتزما بجدية في الحياة العادية. قال أنه راى فلسفته " دعوة واضحة للعيش والابداع في خضم الصحراء " وفي من العبث، يصر كامو ان علينا أن " نصل الى درجة أكبر من التفاهم والصدق بين الناس "

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: فيرونيكا مينالدي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

قصة ابن طفيل عن الرجل الذي حزن على الغزالة التي ربته، ساعدتني على تقدير التواصل بين كل الأشياء.

توفيت والدتي بمرض السرطان في نوفمبر 2020، وبقدر ما قد يبدو الأمر مبتذلاً، لا يمر يوم دون أن أفكر فيها وأفتقدها. لقد أثار موتها حاجة في داخلي لمناقشة الموت والحزن. ومن خلال الحديث عنها، والتفكير فيها، ومواجهتها، ودعوة الآخرين للانضمام إلي في هذه المناقشات، تمكنت من بناء طرق للمضي قدمًا.3491 ابن طفيل

رغم أن تفاصيل خسارتي تخصني، إلا أنني أعلم أنني لست وحدي الذي يعرف الحزن. ربما يعرف الكثير منكم الذين يقرأون هذا أيضًا ثقله. باعتباري باحثًا في العصور الوسطى وباحثًا في الأدب، ليس من المستغرب أن أجد الراحة والعزاء في القصص والكلمة المكتوبة. أحد من النصوص التي يتردد صداها بشكل خاص مع رد فعلي على الحزن  الحكاية الفلسفية للعالم الأندلسي ابن طفيل في القرن الثاني عشر، "حي بن يقظان" ومن بين التفاصيل الأخرى، إنها قصة تعليم ذاتي يفكر فيها الشخصية الرئيسية في مكانه في الكون. هذه الرحلة الذاتية كانت مدفوعة بوفاة الأم الوحيدة التي عرفها على الإطلاق، وهي الغزالة التي ربته منذ الصغر. هذه الخسارة التي غيرت الحياة هي التي دفعت حي إلى استكشاف الفجوة بين الجسد والروح - أو المادي وغير المادي. إنه يتأمل كيف يجب أن تكون الروح جزءًا من طاقة خلق أعظم توحد كل شيء في الطبيعة، ويكتشف أخيرًا "الله" بدون أي نص موحي.

في "حي " رأيت جوانب من نفسي: شخص دفعه فقدان أمه إلى التشكيك في الوجود وإيجاد طريقة لتحمل العبء. هذه القصة لا "تحل" الحزن، ولا ينبغي لنا أن نريد أي شيء، لكنها تثير أسئلة وتأملات يمكن أن تساعدنا في التغلب على الضيق. ماذا يمكننا أن نفعل عندما نضطر لمواجهة الموت؟ هل نستمر في تجاهلها أم أننا ندمجها في فهمنا، وربما نخلق تقديرًا أكثر دقة لكل من زوال الحياة وطبيعتها المترابطة؟ أجد أن هذا النشاط بالذات هو الذي يمكن أن يزودنا بالأدوات اللازمة لمواصلة العيش في عالم لم يعد يضم أحبائنا جسديًا كما عرفناهم من قبل.

انتشر كتاب ابن طفيل "حي بن يقظان" على نطاق واسع في شمال إفريقيا وأيبيريا بلغته العربية الأصلية حتى القرن الرابع عشر عندما تُرجم إلى العبرية. وبحلول القرن السابع عشر، تمت ترجمته إلى اللاتينية والإنجليزية، وله العديد من الطبعات الحديثة اليوم. وبغض النظر عن اللغة، فإن الرسالة الأساسية هي كيف يمكن للمرء، من خلال الاستبطان، دون تدخل الأعراف الاجتماعية أو الدين، أن يصل إلى فهم باطني للكون. كعمل، فهو فلسفي إلى حد كبير، ولكنه قوي بشكل خاص بالنظر إلى علاقة الشخصية الرئيسية بالحزن والحب. نعم، إن رغبة حي في فهم دوره في الكون تنبع من وفاة أمه الغزالة. قامت بتربيته وبعد سنوات، بعد أن رأى جسدها الهامد، حاول إصلاحها. يفتش جسدها بحثًا عن انسداد لكنه لا يرى أي ضرر جسدي. ويخلص إلى أن هناك شيئًا مفقودًا وأن "التي رعته وأظهرت له الكثير من اللطف لا يمكن أن تكون إلا الكائن الذي رحل" وأن جسدها كان "مجرد أداة لهذا الكائن". تغير شكلها.

لقد فتح موتها عقله على تصور الوجود خارج العالم المادي ودفعه إلى رؤية الطبيعة الدورية للطاقة في العالم المتغير باستمرار. ومن خلال فهم هذه الأنماط، توصل "حي"  إلى إدراك أن "جميع الأشياء المادية، على الرغم من تنوعها في بعض النواحي، هي واحدة في الواقع". إذا كان كل شيء واحدًا، فلن يضيع شيء، بل يتغير ببساطة. وبتطبيق ذلك على الموت، كان هذا يعني أن الذين ماتوا «قد خلعوا شكلاً ولبسوا شكلاً آخر». وهذا يعني أن والدته، وبالتالي أي شخص، لا يموت حقًا بمعنى التوقف عن الوجود، بل يتخذ بدلاً من ذلك شكلاً جديدًا، متحررًا من قيود أي كيان مادي.3492 ابن طفيل

بالنسبة لي، كان هذا النوع من الاستنتاجات مريحًا جدًا. خسارتي تنبع من المظهر المادي للطاقة التي غذت أمي. سأشتاق دائمًا إلى الشكل الذي كانت تتمتع به ذات يوم، إلى طريقة الوجود هذه، لكن رؤية غير المادي كجزء من الطاقة الكونية الأكبر يهدئ كثيرًا من قلقي. ليس الأمر أنها تطفو الآن، كما كانت، بل أن الطاقة التي صنعتها تبقى قائمة، حتى مع فقدان شكلها المادي.

على الرغم من أنه مكتوب في سياق إسلامي، فإن الكثير مما يدركه حي من خلال الملاحظة والتأمل يعكس العديد من طرق التفكير الصوفية والأفلاطونية الحديثة والصوفية والمحكمية. تشترك هذه الأساليب المختلفة في موضوع مشترك وهو الوحدة. وبالفعل، فإن حي قادر على الوصول إلى بعض الاستنتاجات نفسها دون أي عقيدة رسمية. هذه العالمية هي التي لفتت انتباهي أكثر من غيرها. أحد استنتاجاته هو أن كل شيء مرتبط كونيًا من خلال الطاقة، وأن هذه الوحدة مدعومة بالحب - وهو أمر تم تعزيزه في الصفحات التمهيدية للقصة. في الواقع، تردد العديد من الرسائل السحرية في ذلك الوقت قوة الحب. يمكن أن تشكل هذه الأطروحة الدورية جزءًا من أنماط المعرفة الأكثر مؤسسية، ولكنها أيضًا في متناولنا بطبيعتها دون تعليمات مباشرة من خلال الملاحظة، كما يوضح حي. ضمن هذا الخط من التفكير، الخبر السار هو أن الحب، كشيء غير مادي، يبقى. علاوة على ذلك، فإن الطاقة التي تغذي الأحباب لا تزال باقية كجزء من الكون، وتتجلى بشكل مختلف. كل شيء متماسك معًا. في حين أن مادية الوجود تخلق الاختلاف والفردية، هناك راحة في رؤية الترابط بين كل الأشياء.

لا يتعين علينا أن نصبح متصوفين جامحين مثل حي ونعزل أنفسنا للاستفادة من التعرف على الطبقة المضافة من الوحدة داخل الاختلاف. في العديد من المجتمعات الحديثة، نادرًا ما تتم مناقشة الموت والحزن والخسارة بشكل علني. في مثل هذه المواقف، قد يكون من النادر جدًا مواجهة الميل إلى التفكير في كيفية تدمير أي شيء فعليًا، بل تحوله مع ترابطه، - في الواقع، شيء لا يواجهه كثير من الناس أبدًا - ولكنه يمكن أن يوفر أيضًا راحة ميتافيزيقية هائلة.

من الناحية العملية، ما يفعله هذا الإطار بالنسبة لي فيما يتعلق بوفاة أمي هو أنه يسمح لي بالمضي قدمًا معها في تغيير كيفية فهمي لما تعنيه "هي". أنا الآن انحرف قليلاً مع نهج أكثر علمانية تجاه اكتشافات حي وتعليق ابن طفيل على طرق معرفة "الله" أو الكون، لكنني أعتقد أن مثل هذه التأملات وغيرها من العقليات غير المزدوجة وحدة الوجود/وحدة الوجود هي ضرورية للمعرفة. احتضان الحزن في عالم غالبًا ما يخنق مثل هذه المناقشات باعتبارها من المحرمات. تمامًا كما في حالة "حي"، يمكن للخسارة العميقة أن تثير أسئلة وجودية لديها القدرة على دفع محادثات الموت والحزن إلى الأمام تدريجيًا، على الرغم من أنها أصبحت على الهامش.

طالما أنني أتماثل مع ذاتي المادية الفردية، فسوف أشتاق دائمًا لحضور أمى الجسدي كما عرفتها. إن الطبيعة الدورية للحياة والموت، وتحول الطاقات غير المادية التي تمنح الحياة للمادة، تساعدني على رؤية ما هو أبعد من نفسي، صورة للكون حقًا، مما يساعدني على التخلص ببطء من الخوف من الموت. ما زال هناك الكثير من الجهود الجارية. حتى الوعي العابر بزمنية كل ذلك يساعدني على الاستمرار في رؤيته في مشاهد الطبيعة الجميلة مثل شروق الشمس، أو انعكاس أشعة الشمس على أوراق الخريف بينما تطير الطيور، أو المراحل المختلفة للقمر في سماء الليل. هناك طاقة في كل مكان حولنا وطاقة في داخلنا. سواء واجهنا الحزن أم لا، فإن بدء هذه المحادثات يمكن أن يساعدنا في رسم المسار الذي سنسير فيه جميعًا حتمًا.

***

..............................

فيرونيكا مينالدي/ Veronica Menaldiis: أستاذة مساعدة للغة الإسبانية في جامعة ميسيسيبي. وهي مؤلفة كتاب سحر الحب والتحكم في الأدب الإيبيري ما قبل الحديث (2021). ومن استنتاجاته أن كل شيء متصل كونيًا من خلال الطاقة، وأن هذه الوحدة مدعومة بالحب.

تمهيد: صورتان تحضران كلما ورد ذكر الأديب والكاتب والصحافي الساخر والمتعدّد الانشغالات اللبناني جورج جرداق هما: الإمام علي وأم كلثوم، ولعلّ من يطّلع على سيرته يجد الجواب على هذه المفارقة، فبقدر شهرة موسوعته عن الإمام علي وذيوع صيتها، فإن أغنية أم كلثوم لقصيدة "هذه ليلتي" لا تقلّ شهرةً إن لم تزد عنها، خصوصًا وأن عشرات الملايين كانوا يستمعون إليها. وهكذا طغت هاتين الصورتين على اسمه، وربما جاءت على حساب العديد من الكتب التي ألفها وعشرات الأغاني التي كتبها لوديع الصافي وماجدة الرومي وغيرها، فضلًا عن عمله وتولّعه بإذاعة "صوت لبنان" التي كان يعتبرها بيته الثاني ويطلّ من خلالها على الناس في برنامجه المعمّر "على طريقتي" لمدة زادت عن 15 عامًا .

كنت قد تعرّفت على جورج جرداق (1931 - 2014) في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم، وكانت المحامية الصديقة هدى الخطيب شلق قد نظّمت هذا اللقاء، وتبادلتُ معه الرأي واستأنست بوجهات نظره وأفكاره بخصوص العديد من القضايا الفكرية والثقافية وشؤون الأمّة العربية بعامّة. وحين عرف موقع عائلتي الديني والروحي وخدمتها في حضرة الإمام علي لأكثر من خمسة قرون من الزمن بموجب ثلاث فرامين سلطانية من الدولة العثمانية (سرخدمة أي رؤساء الخدم / المرشدون الدينيون)، انفتحت أساريره ففاض في حديثه عن الإمام علي وكان ذلك جسر تواصل وصداقة .

سألته كيف اهتدى إلى الإمام علي؟ فروى لي ما دار بينه وبين شقيقه فؤاد الذي أهداه كتاب "نهج البلاغة" وقال له: ادرسه واحفظ ما تستطيع منه. يقول جرداق ما إن استلمت الكتاب حتى استلمني، فكنت أحيانًا أهرب من المدرسة إلى كنف الطبيعة لأجلس تحت شجرة في قريتي "مرجعيون" بقضاء النبطية في الجنوب اللبناني، لأستغرق في قراءة وحفظ نصوص من هذا السِفر الشائق والممتع والعميق والمزدان بالمعرفة والحكمة.

لم يكن ذلك الكتاب الذي طبع حياة جرداق هو الوحيد، بل كان يتأبّط معه كتاب "مجمّع البحرين" للشيخ ناصيف اليازجي الذي تتلمذ فيه على فقه اللغة العربية، كما تأثّر بأدباء وكتاب كبار مثل رئيف خوري وفؤاد افرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية وميشال فريد غريب أستاذ الأدب الفرنسي، إضافة إلى "ديوان المتنبي" الذي لم يفارقه فحفظ الكثير من شعره، وغالبًا ما كان يستشهد بالأبيات الآتية:

فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ

وَعُمرٌ مِثلُ ما تَهَبُ اللِئامُ

*

وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ

وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

وتعدّدت لقاءاتي معه عند إقامتي في لبنان بعد العام 2003، وكان آخر لقاء بيننا في العام 2010، حيث أهديته كتابي عن "الجواهري جدل الشعر والحياة" الذي صدر عن دار الآداب، وبعد أن تصفّحه قال لي سألتهمه التهامًا، مبديًا إعجابه الكبير بالجواهري. وكم كان حزينًا في آخر لقاء لي معه لما حلّ بالعراق وأهله، خصوصًا بُعيد صعود الموجة الطائفية المقترنة بالاحتلال الأمريكي وتفشّي النزعات التكفيرية وشيوع مظاهر جديدة من الإرهاب ارتباطًا بتنظيمات القاعدة حينها.

مقهى الحاج داوود

أتذكّر أنني في أحد المرات دعوته على العشاء وكانت برفقته مساعدته الحسناء في مطعم "مقهى الحاج داوود " الشهير في عين المريسة في بيروت والتي تغيّر اسمه إلى "الدروندي" وهو المقهى المشهور بتقديم وجبات السمك اللذيذ، الذي كنت قد تعرّفت عليه في أوائل الستينيات مع أخوالي جليل ورؤوف وناصر شعبان، وقد فاجأني بأنه نباتي وقال أنه يستغرب ممن يأكلون لحوم الحيوانات وكيف تعطيهم أنفسهم فعل ذلك، وكان العديد من روّاد المطعم يختلسون النظر إليه وجاءت إحدى الفتيات الجميلات لتستأذن منه بالتقاط صورة معه وبعد موافقته دعت أحد المصورين الجوالين ليقوم بذلك، وقد استدعى مساعدته ليلتقط معها ومع الفتاة التي اقتحمت مائدتنا صورة أخرى.

مدرسة العشق

قلت له هل أنت عاشقٌ؟ قال العشق تولّه وهيام وصبابة، فأنا أعيش بين عشقي وكتبي ولا أستطيع التفريق بينهما، فهما متلازمان ومترابطان عضويًا، وأضاف: العشق حالة إنسانية من لم يجرّبها فهو لم يتعرّف بعد على طعم الحياة.

وهل المرأة ملهمتك؟ سألته، فقال المرأة ليست بالضرورة ملهمة للإبداع، فليس في أشعار شكسبير أي أثر لها ولا في سمفونيات بيتهوفن أو منحوتات مايكل أنجلو أو غيرهم من كبار المبدعين. قلت له أين تضع كتابك الأول "فاغنر والمرأة"، قال لي اعتبرته سيرة قصصية في بدايات كتاباتي انطلاقًا من رؤية وحدة الفن بجميع جوانبه وأشكاله. وبالمناسبة فقد عرفت من خلال متابعاتي وقراءاتي أن طه حسين أدرج هذا الكتاب ضمن لائحة الكتب المقرّر قراءتها على طلبة الدكتوراه في الأدب بدقّة وإمعان. وكانت كتبه قد تُرجمت إلى العديد من اللّغات بينها الألمانية والفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية.

ربما كان العشق الحقيقي لجرداق قد تملّكه بحبّ الإمام علي، بما فيه من فضائل إنسانية ومناقب شخصية ومعان سامية مثلت بالنسبة له شعاعًا للقيم ونبراسًا للمثل، فقد وقف معه عند دين الرحمة والعدالة والإنسانية والحياة وهو ما وجده بصورته الأصفى والأنقى والأبهى.

خماسيّة جرداق

وكنت قد ذكرت في أكثر من مناسبة أنني كنت مهتماً في فترة الفتوّة بمتابعة سيرة الإمام علي، مثلما هو اهتمامي بالأفكار اليسارية والتقدمية الحديثة، واطلعت حينها على "نهج البلاغة" وقرأت فصولاً منه، ولكن ما استوقفني على نحو لافت للتفكّر والتأمل والاستشراف ما كتبه جورج جرداق في موسوعته الخماسية، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكانت بعنوان "الإمام علي ... صوت العدالة الإنسانية"، وهي: "علي وحقوق الإنسان" و"علي والثورة الفرنسية" و"علي وسقراط" و"علي وعصره" و"علي والقومية العربية" وأضاف إليها مؤلفاً سادساً بعنوان "روائع نهج البلاغة".

وكانت حين صدورها حدثًا كبيرًا شديد الرقي منهجاً وأسلوباً وتوجّهاً، وإن اختلفت بعض وجهات النظر بشأنها، خصوصًا مقاربتها لعدد من فلاسفة الثورة الفرنسية الكبار مثل: روسو ومونتسكيو وفولتير، والفلسفة عمومًا ابتداءً من سقراط أبو الفلاسفة، ناهيك عن روح العصر واستلهاماته في تأكيد السياق التاريخي، وتسليط ضوء على اعتزاز الإمام علي بأرومته وانتمائه ولغته، ناهيك عن بعض "جواهره" التي وردت في نهج البلاغة.

والشيء بالشيء يُذكر فأودّ هنا أن أشير إلى ثلاث كتب مرجعية إشكالية مهمة تناولت فصولًا من التاريخ الإسلامي، أولهما – كتاب "اليسار واليمين في الإسلام" لأحمد عباس صالح الذي قرأت حلقات منه نشرت في مجلة الكاتب (المصرية) التي كان يرأس التحرير فيها، وذلك في أواسط ستينيات القرن الماضي، ثم صدرت لاحقًا بكتاب بالعنوان ذاته، وثانيهما – كتاب: "علي إمام المتقين" لعبد الرحمن الشرقاوي الذي قرأته في العام 1986، وثالثهما – كتاب "علي: سلطة الحق" لمؤلفة المغدور عزيز السيد جاسم (1987).

قلت لجرداق لقد اتّهمتَ بالشعوبية وهو ما قرأته، قال ولذلك كتبت "علي والقومية العربية" وهي مرافعة للدفاع عنه وعني، وهي دعوة للاعتراف بالآخر خارج دوائر العرقية والفئوية والطوائفية والدينية والأيديولوجية، فقد امتاز علي بصفات عربية وإنسانية أصيلة كحب الخير ومساعدة المظلوم والعدل والإنصاف والمروءة والشجاعة والحكمة.

وسألته عن من يحاول إطفاء صورة الصحابة الآخرين بإضفاء صفات أقرب إلى الربوبية على الإمام علي، فقال الإمام علي بشر مثل سائر خلق الله، لكن قدرته في خلق وعي عابر لما هو قائم تُعطيه بعض المزايا، وهي التي تجعل منه إنسانًا كونيًا، فحديثه عن "الفقر في الوطن غربة" يتمثّل في رؤية مستقبلية اجتماعية عميقة. كما أن في تسامحه ردّ على أولئك الذين يتّهمون العرب والمسلمين بأنهم غلاظ القلوب وقساة ومتوحشون وبرابرة ودينهم يحضّ على ذلك، فحين ضربه بالسيف عبد الرحمن بن ملجم قال كلمته الشهيرة آنذاك: إن عشت فأمره لي، وإن متّ فضربة بضربة، وهو ما دعاه لاستذكار السيد المسيح عيسى بن مريم الذي تمتم بعبارات الاستغفار والترحّم لمن يعلّقونه على الصليب قبل صعوده إلى السماء.

وقد تناول المؤرخ اللبناني الكبير حسن الأمين كتاب صديقه جورج جرداق عن الإمام علي بقوله أنه وضع جرداق في قمة أدباء العربية وهو بيان متدفق أصيل كشف عن كنوز خبيئة.

وحين سألتني قناة الفضائية العراقية لماذا لم يكتب جرداق عن الحسين؟ كان جوابي كما سمعته منه، أن الحسين كان على خطى أبيه في الدفاع عن الحق والعدل، وهو يمثل رمزية جهادية شجاعة، وبما معناه "هذا الشبل من ذاك الأسد"، فعلي كان مشكاة للفلسفة والحكمة والأخلاق. وإذا كان قد ترك لنا تراثًا زاخرًا بالفكر وفلسفة الحكم وزهد الحاكم وعدله وشجاعته، فإن الإمام الحسين ترك لنا تراثًا غنيًا في مواجهة الظلم والدفاع عن الحق والعدل.

"هذه ليلتي"

سألته عن قصيدة هذه ليلتي التي تُعدّ إحدى تحفه الرائعة والتي يقول فيها:

هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي

بَينَ مَاضٍ من الزّمانِ وَآتِ

*

الهَوَى أَنَتَ كُلُّه والأمَانِي 

فَاملأ الكأسَ بِالغَرامِ وَهَاتِ

*

بَعدَ حِينٍ يُبدّلُ الحُبُّ دَارَا

وَالعَصَافِيرُ تَهجُرُ الأوكَارَا

*

وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا  

سَتَرَانَا، كَمَا نَرَاهَا، قِفَارَا

*

سَوفَ تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر

فَتَعَالَ أُحِبُّكَ الآنَ أكثَر

قال لي كانت أم كلثوم قد أعلنت في العام 1968 عن رغبتها في أن تغنّي قصيدة لشاعر من كلّ بلد عربي، وأنها اختارت قصيدة لشاعر لبناني، لكنها لم تفصح عن الاسم، وكنت أعلم ما دار بين الموسيقار محمد عبد الوهّاب وبينها، فقد أبلغني بذلك هاتفيًا، وحين زار محمد عبد الوهاب لبنان وأقام في فندق شبرد في مصيف بحمدون التقيت به، وطلب منّي إعادة قراءة القصيدة له، ثم التقينا في أوتيل أمبسادور مع فريد الأطرش ونجاة الصغيرة وإحسان عبد القدّوس، فأخذني عبد الوهاب إلى الشرفة المطلة على وادي لامارتين لأقرأ عليه مجدّدًا بعض أبيات القصيدة، فقال هذا ما أريده لأم كلثوم، وفرحت كثيرًا وكنت تعرفت عليها العام 1965، وقد لحّن محمد عبد الوهّاب القصيدة وغنّتها أم كلثوم. ولقت استحسانًا وحماسةً كبيرةً من الجمهور الذي اعتبرها من أهم أغانيها.

وسبق ذلك اللقاء أن اجتمع عبد الوهاب وأم كلثوم وجرداق في القاهرة في منزل أم كلثوم في شارع أبو الفدا (المطل على النيل) وأبدت أم كلثوم إعجابها بالقصيدة ذات الأجراس الموسيقية كما سمّتها، ووصفها عبد الوهّاب بالسهل الممتنع وكان كثير الإعجاب بجورج جرداق.

قلت له ماذا كان شعورك وأنت تسمع القصيدة مغنّاة، فأجاب أنها مثلت ثلاثية رائعة بين الأداء والموسيقى والنص، وكما اعتبرتها الصحافة حينها نتاج لقاء "ثلاث قمم". وقد دُعيت لحضور الحفلة التي ستغنّي بها أم كلثوم في القاهرة على مسرح سينما "قصر النيل"، وحضرت أنا وزوجتي، وقد عادت أم كلثوم وغنّتها في بعلبك العام 1970، وكانت تلك آخر حفلة لها في لبنان، فقد رحلت عن دنيانا في 3 شباط / فبراير 1975.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

تناولنا في الحلقة الأولى العقل المتعدد المواهب الراحل (جبرا ابراهيم جبرا) ونخصص هذه الحلقة للدكتور الفلسطيني المولد (علي كمال) فنقول.. ولد الطبيب النفسي الدكتور علي كمال عام 1918 بمدينة عنبتا - الواقعة بضواحي جنين في عائلة مثقفة شكلت لديه اهتماما مبكرا في الأدب اسهم في تنميتها خلال الدراسة الثانوية في القدس زميله الأديب الكبير جبرا ابراهيم جبرا. ويعدّ هو واثنان آخران اشهر ثلاثة اسماء بميدان علم النفس اسهموا بتأسيس وعي سيكولوجي مبكر في العراق بالامراض العقلية والأضطرابات النفسية، الأول هو الطبيب النمساوي هانز هوف.. احد تلاميذ فرويد، هاجر من النمسا الى العراق عام 1938 وعمل استاذا في الكلية الطبية الملكية ببغداد. والثاني هو الدكتور جاك عبود، طبيب يهودي عراقي شهير من اوائل الدارسين في الكلية الطبية الملكية ببغداد ومؤسس مستشفى الشماعية.

اما الثالث فهو الدكتور علي كمال، المتخصص بعلاج الأمراض النفسية والعقلية الذي دعي من بريطانيا عام 1951 للعمل ببغداد، وتم تعيينه بتوصية من تحسين قدري رئيس تشريفات القصر الملكي في الكلية الطبية الملكية، عمل ﻓﻲ ﻣﺮاﻛﺰ ﺗﺪرﻳﺴﻴﺔ وإدارﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، وعاش وعمل في العراق استاذاً ورئيساً لقسم الصحة النفسية في جامعة بغداد طوال اكثر من خمسة وثلاثين عاما.

اللقاء الأول

كنت طالبا بالمرحلة الأخيرة بقسم علم النفس ودخل الدكتورعلي كمال ليلقي علينا محاضرة في الصحة النفسية استهلها بتبيان اهمية الصحة النفسية ووصل الى القول بأن هناك علاقة بين قوية بين علم النفس والأدب بكل فنونه لا سيما الرواية والشعر. وتوجه لنا نحن الطلبة بالسؤال: من فيكم مهتم بالأدب ويكتب في الصحف؟

كنت جالسا في الخط الأول، التفت الى الوراء فلم ار يدا ترفع، فرفعت يدي.

كنا نحن جيل الستينات نحب القراءة ولدينا شغف كبيرة بالأدب.. وكانت مقهى (البرازيلية) ملتقى المثقفين تشبه تماما مقهى هافانا في دمشق الذي التقيت فيه بالراحل مظفر النواب واجريت معه حوارا.ودار نقاش بيني وبين الدكتور علي.. ادهشني انه ليس طبيبا نفسيا فقط بل وأديبا ايضا. ولحظة انتهى وقت المحاضرة ونهض .. مد يده لي واخذني الى غرفة الأساتذة، وكنت أرى اعجابه بي من تعابير وجهه. فدعاني الى زيارته بمركز الصحة النفسية الذي اسسه بجامعة بغداد وعرض عليّ اوائل السبعينات ان اكون معه عصرا في عيادته بشارع الرشيد وكنت في غاية الفرح أن يخصني بهذا التميّز.

كنت اجلس بنفس المكتب الذي يستقبل فيه المراجعين، واصغي الى طريقة حواره مع المريض ونوعية الأسئلة التي يوجهها له.وكان احيانا يصفن وينظر لوجه المريض عرفت بعدها انها (لغة الجسد) التي يستعين بها في فهم حالة المريض.

ومن المفارقات التي ما تزال مشفرة في الذاكرة، ان مريضا دخل عليه، وبعد ان وجّه له عددا من الأسئلة، نهض ومدّ يده لي وأخذني الى الباب يسألني (شلونك بالدراسة.. ولازم تكمل دراستك) وترك المريض يحكي لحاله.ولأنني لم اطق صبرا، سألته: دكتور.. اشو تركت المراجع يحكي لوحده، فاجاب: (عوفه.. هس يخلص).. والتفت الى المريض وقال له: (ها.. خلصت؟.. يلله تعال).فاخذه الى غرفة اخرى وأنا معهما ومدده على سرير وربط برأسه اسلاكا واعطاه رجة كهربائية وارتجفت بداخلي!. وحين عدنا الى مكتبه.. شرح لي حالة المريض بأنه مصاب بشيزوفرينيا وأن علاجه هو الرجّة الكهربائية التي اعتدت عليها بعد سنوات في عملي بمستشفى الشماعية (الرشاد حاليا).

طبيب نفسي.. غزير الأنتاج بجودة عالية

أغنى الدكتور علي كمال المكتبة العربية بعشرة مجلدات في مجال تخصصه، اهمها:

 النفس، انفعالالتها وأمراضها وعلاجها

 النفس والجنس

 أبواب العقل الموصدة - باب النوم والأحلام

 فصام العقل (الشيزوفرينيا)

 العلاج النفسي قديماً وحديثاً

 باب العبث بالعقل

ويعدّ كتابه (النفس.. أنفعالاتها وأمراضها وعلاجها) اهمها، او لنقل اقربها الى علم النفس والناس بشكل عام لأنه كتب بلغة عربية رشيقة سلسة مفهومة، مهد له بمقولة للشاعر الأنكليزي تي اس اليوت:

(كيف أستطيع أن أفسر لكم؟.. ستفهمون الأقل بعد تفسيرها.. كل ما يمكن أن ارجو أفهامه لكم.. هي الحوادث فقط، وليس الذي حدث). وختمها بتساؤلات ما هو المريض نفسيا؟ من هو المريض عقليا؟ ما هي الأمراض النفسية؟ وما مدى أنتشارها.

ولأنني كنت ادّرس بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة بغداد مادة علم نفس الشخصية، ورغم انني مؤلف كتابا منهجيا عنها فانني كنت ادعو طلبتي الى قراءة كتاب الدكتور علي (النفس.. .)ويركزوا على فصلين الآول الخاص بالأضطرابات النفسية والثاني الخاص بالشخصية.

خدمات علمية جليلة

بدءا من خمسينيات القرن الماضي الى تسعينياته، قدّم الدكتور علي كمال خدمات جليلة في ميدان تخصصه نوجز أهمها بالآتي:

 عالج عشرات الالاف من المرضى العراقيين بكل تفاني واخلاص،

 حث الدولة العراقية على ارسال الخريجين للتخصص في الجامعات العالمية،

 اشرف على تدريب الطلبة والاطباء حديثي التخرج مشجعا اياهم على الانضمام لهذا الاختصاص الذي لايشهد اقبالا كبيرا،

 له الفضل في ارساء نظام الابتعاث الحكومي للاطباء العراقيين من اجل نيل اعلى شهادة الاختصاص والتدريب في المملكة المتحدة، واستطاع بمكانته العلمية والاجتماعية المميزة كسب تاييد الدولة في الاهتمام بالطب النفسي.

 و تأسيسه للوحدة النفسية في مستشفى اليرموك التعليمي عام 1978 بدعم من الرئاسة العراقية انذاك وكانت تعد وحدة نموذجية من حيث المعمار والتنظيم والتجهيز"

يحب الحب والمرأة والفن وألأدب

في تسعينيات القرن الماضي كانت تصدر اشهر مجلة في العراق هي (الف باء) فحرصت على ان اجري حوارا معه نشر في العدد (15 آب 1990) بدأ هكذا:

(ان يعمل انسان لاربعين سنة طبيبا نفسيا فإن هذا وحده يكفي لان يجعله مشهورا فكيف اذا كان ايضا استاذا جامعيا وكاتبا مقروءا.لقد امتلك الدكتور علي كمال وسائل الشهرة الثلاث :العيادة الطبية والجامعة والكتاب فأصبح بين المعدودين الذين يحظون بشهرة واسعة) .

ودار الحوار حول موضوعات متنوعة.. الحب، الفن العراقي، المرأة، الكتابة.. وحين سألته عما يميز نفسه عن الأطباء النفسيين أجاب:

 انا على خلاف الاطباء، وجهت اهتماماتي منذ البداية الى محاولة اقامة حالة من التوازن في الحياة.فلسفتي ان اترك جزءا من مشاكلي للزمن كي يحلها، فترك المشكلة ولو لفترة سيسهل تناولها.

وعن الحب والمرأة .. أجاب:

 انا لم اتوقف عن الحب يوما فالحب لي وبمعانيه وعناصره الواسعة هو بمثابة الوسيلة التي اتحسس بها بالحياة، وأنه يقدّرالمرأة ويحترمها ويشعر ان الاهم في حياة الانسان هي أمه.ولابد ان يكون بين الزوج والزوجة حالة من السكن والايقاع النفسي الواحد والانسجام وأضاف:"تأكد ان 90% من الحياة الزواجية في مجتمعنا لايعيشون حياة مستقرة بسبب انعدام الايقاع النفسي فيها وما عاد الواحد منهما " يسكن للآخر ".

وعن رأيه بالفن كطبيب نفسي.. أجاب:

 الفن تسامي يؤدي الى الطاقة ويحول الطاقة الى نشاطات فيها الكثير من الابداع، والحركة التشكيلية العراقية حركة رائدة سبقت مثيلاتها في الوطن العربي زمنا وفاقتها زخما وابداعا وهو واقع تقر به البلدان العربية .وما يميز المبدع العراقي انه حريص وجاد ومثابر لكن باكورة نتاجه افضل من نهاياتها.

سألته عن مزاجه عند الكتابة فقال:

 " انا لا اعمل شيئا لا ارغب فيه، لا اكتب لمجاملة الكتابة .انا اكتب فقط عندما اشعر برغبة في الكتابة.. اجد فيها ما يشبه عملية الولادة عند المرأة. قد يسبق ذلك ان اقرأ لمدة اسبوع .. اسبوعين ثم اتوقف عن القراءة .. الكتابة هي ان اطاوع شيئا في نفسي .. لا اخط لكلمة واحدة الا ويكون لها معنى وسياق، وليس عندي مزاج خاص كمزاج ديستوفسكي مثلا في ان ترتب له زوجته مكتبه وتخلق له جوا خاصا .. الجو بالنسبة لي داخلي وليس خارجيا "

وفاجأني انه اعتبر القلق فضيلة بين الأدب وعلم النفس!

عليك .. بدستويوفسكي!

كنت أعرف ان الدكتور علي كمال أديبا، تجرأ وهو في بدايات شبابه بنشر مقالة بمجلة (الرسالة) قال فيها ان ترجمات العقاد عن اللغات الأخرى غير دقيقة، وأنه التقى العقاد في القاهرة وصارا اصدقاء. وقابل توفيق الحكيم، وذكر عنه معلومة غير معروفه ان "الحكيم طلب لي فنجان قهوة على حسابه وتلك من النوادر ان تحصل لأي كان لما عرف عنه من البخل!".

وذات يوم أدهشني الدكتور علي كمال لحظة قال لي: تريد تفتهم علم النفس زين وتحبه.. اقرأ روايات دستويفسكي! . فرحت اعيد قراءة رواية (الجريمة والعقاب) وشخصية بطل الرواية (راسكولنكوف) فوجدته يعاني عقدة الشعور بالذنب بعد ارتكابه جريمة القتل. ورحت اٌقرأ ما كتبه فرويد عن دستويفسكي فادهشني انه وصف دستويفسكي بانه معلم كبير في علم النفس وقال بالنص ( لا اكاد انتهي من بحث في مجال النفس الانسانية حتى اجد دستويفسكسي قد تناوله قبلي في مؤلفاته). لكن فرويد اعتبر رواية (الأخوة كارامزوف ) أعظم رواية كتبت على الاطلاق. ورحت اقرا الأبله والمقامر فوجدت ان معظم شخصياته تعاني من امراض نفسية: اكتئاب، قلق، شعور بالذنب.. .وان فرويد اعتمد على روايات دستويفسكي للعديد من الاستنتاجات التي تتعلق بمرض الصرع والقمار الذي اعتبره طريقة نفسية لمعاقبة الذات .

ترى كم من الأطباء النفسيين والأستشاريين العرب والعراقيين يجمع هاتين الصفتين الجميلتين في الدكتور علي كمال: الأهتمام بالأدب، ورعاية الطالب الذي ينبؤه حدسه العلمي بأنه سيكون متميزا؟ فضلا عن اثرائه المكتبة العربية بمؤلفات اصيلة تشيع ثقافة التفاؤل وحب الحياة بين الذين يتملكهم الشعور باليأس.

الذكر الطيب للعالم والطبيب والأديب.. النقي الوفي (علي كمال) الذي قال:

(فلسطين امي والعراق خالتي التي ربتني)

وشكرا لمؤسسة المدى التي استذكرته في امسية جميلة من أمسيات معرض العراق الدولي للكتاب كان لنا شرف التحدث فيها.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

والفلسطنيان هما (الدكتور علي كمال وجبرا ابراهيم جبرا) هاجرا الى العراق وخدماها ..علما وثقافة لأكثر من أربعين سنة. والمفارقة ان كليهما ولدا متقاربين (علي 1918 وجبرا 1919) وتوفيا متقاربين (علي 1996 وجبرا 1994) بعمرين متقاربين ايضا !( 78 و 75) سنة.

سنخصص هذه الحلقة للتعريف بجبرا فنقول انه ولد في بيت لحم بفلسطين (28 آب 1919) وتلقى علومه الابتدائية في "مدرسة السريان الأرثوذكس"، ثم انتقل مع عائلته سنة 1932 إلى مدينة القدس، حيث تابع دراسته في "المدرسة الرشيدية"، ودرس فيها اللغة العربية، انتقل بعدها إلى "الكلية العربية" ودرس فيها قرابة أربع سنوات.

وفي عام 1939أوفدته دائرة المعارف الفلسطينية في بعثة إلى إنكلترا، ودرس لبضعة أشهر في جامعة أكستر، ومنها انتقل إلى جامعة كامبردج لدراسة الأدب الإنكليزي، ونال فيها سنة 1943 شهادة بكالوريوس في الأدب الإنكليزي، وعاد إلى القدس ليعُيّن أستاذاً للأدب الإنكليزي في "الكلية الرشيدية"، ويترأس "نادي الفنون" (The Art club) الذي أسسه في "جمعية الشبان المسيحية في القدس" وتابع دراسته بالمراسلة ونال شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي من جامعة كامبردج سنة 1948.

هجرته الى العراق

في العام 1948 نسفت القوات الصهيونية عدداً من المنازل في حي "البقعة" العربي بالقدس الذي كان يسكنه فلجأ مع والدته وأخوته إلى بيت لحم ومنها هاجر بنفس السنة الى بغداد، وتم تعينه أستاذاً محاضراً في "الكلية التوجيهية"، ثم في "كلية الآداب والعلوم" التي أُنشئت في العام 1949 . وأسس في العام نفسه مع زميل بريطاني له قسم الأدب الإنكليزي في هذه الكلية، وكان يحاضر في " دار المعلمين العالية"، وفيها تعرف على الآنسة لميعة (ابنة الزعيم العراقي جعفر باشا العسكري) التي كانت تحاضر معه بنفس الدار لتصبح شريكة حياته عام 1952، وليصبح هو مسلما!

عقل متعدد المواهب

في العام 1951، شارك جبرا مع النحات والرسام العراقي جواد سليم في تأسيس "جمعية بغداد للفن الحديث". وبعد عودته من زمالة في في النقد الأدبي بجامعة هارفرد عام 1954، عيُّن في دائرة العلاقات العامة في شركة نفط العراق (IPC) ثم مديراً لدائرة مواصلات الإدارة والمستخدمين، ثم دائرة المنشورات في الشركة نفسها. واستمر في إعطاء المحاضرات في "كلية الآداب والعلوم" بجامعة بغداد حتى سنة 1964، لينقل في سنة تاميم النفط العراقي( 1972) إلى شركة النفط الوطنية العراقية رئيساً لمكتب الإعلام والنشر والترجمة، وفيها أنشأ مجلة "النفط والعالم"، و ترأس بين سنتي 1980 و1983 هيئة تحرير مجلة "فنون عربية"، التي أصدرتها "دار واسط" في لندن، و"رابطة نقاد الفن في العراق" لتكون محطته الأخيرة.. مستشاراً ثقافياً في وزارة الثقافة والإعلام عام 1977،  حتى تاريخ تقاعده عام 1984.

ليس هذا فقط بل ان جبرا كتب القصة، والرواية، والشعر، والمقالة، والمسرحية، وانشغل بالنقد الأدبي، وأتقن الرسم، وأبدع في الترجمة عن الإنكليزية في حقول الرواية والشعر والمسرحية والنقد بشكل خاص. وتُعد ترجماته لبعض أعمال وليام شكسبير من أروع الترجمات إلى العربية وأدقها، وقد تُرجم عدد من كتاباته إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وحاز على العديد من الجوائز والأوسمة، من بينها: جائزة "تارغا يوروبا" للثقافة (Targa Europa Award for Culture) من إيطاليا سنة 1983؛ جائزة الآداب والفنون من "مؤسسة الكويت للتقدم العلمي" سنة 1987؛ جائزة الإبداع في الرواية من بغداد سنة 1988؛ وسام القدس للثقافة والفنون والآداب من منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1990؛ وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من رئيس الجمهورية التونسية سنة 1991، وجائزة " ثورنتون وايلدر" (Thornton Wilder) للترجمة من جامعة كولومبيا الأميركية سنة 1991.

اللقاء بجبرا

في ثمانينات القرن الماضي، كانت تصدر مجلة عراقية رصينة يكتب فيها النخبة من العراقيين والعرب هي (آفاق عربية). وكنت يومها جالسا بمكتب سكرترير تحرير المجلة الشاعر بلند الحيدري (توفي في لندن عام 1996).. وجاء جبرا فقال له بلند: كنت قد سألتني عن كاتب المقالين (الأبداع في الفن عند فرويد وأثره في السريالية، وغوغان.. تحليل سيكولوجي لشخصيته واعماله) ..أعرفك به.. استاذ قاسم.

كانت من اروع لحظات حياة شبابي ان يصافحني جبرا الكبير.. وكان له تاثير كبير في ان تصدر لي وزارة الثقافة اول كتاب لي بعنوان (الأبداع في الفن) الذي تعددت طبعاته وما يزال مطلوبا بعد اربعين سنة على صدوره.

جبرا ابراهيم جبرا .. العقل الأستثنائي في تعدد المواهب ..عشق العراق ومات فيه (12 كانون اول 1994).. ودفن فيه بقبر مجهول يفترض فيه ان يكون مزارا للمثقفين ..وتلك مهمة وزارة الثقافة، فهل ستستجيب؟!.

الشكر والتقدير لمؤسسة المدى التي استذكرته في امسية جميلة من امسيات معرض العراق الدولي للكتاب، وكان لنا شرف المشاركة فيها.

يتبع

***

أ.د. قاسم حسين صالح

كتابة وترجمة: أورنيلا سكر

***

المقدمة

إن الهمجية والعنف والاستكبار الذي يخاطب بها الغرب الإمبريالي، وما يرتكبه من جرائم بحق الإنسانية، والإبادة الجماعية والتهجير القسري الذي يحدث في غزة الآن أوجدت أسئلة عمقيقة حول طبيعة الاستقواء الغربي الكولونيالي. وخلفيات العنف الممأسس الذي تمارسه منذ ثلاثة قرون من الاستعمار والهيمنة والمركزية، يجعلنا نبحث اليوم في سراديب هذه الورقة، حيث رمزية النضال ضد الإستعمار في إفريقيا وفي عالم الأدب الفرانكوفوني المقاوم ضد الإستعمار الفرنسي عبر تسليط الضوء على هذا الكاتب وأهميته، ودوره، وأثره على الادب الاستعماري؛ بهدف تعزيز ثقافة الانتماء والقومية والوطنية من خلال الادب في التصدي لكافة أوجه الإستعمار المغالي في سيطرته، والذي يكابر في الإعتذار عن ما ارتكبه من جرائم حرب بحق الانسانية والتاريخ والحضارة البشرية ، فمن هو أيميه سيزار؟

أيميه سيزار :السيرة والمسيرة

أيميه سيزار، الشاعر والسياسي المارتيني، كان له دوراً بارزاً في تشكيل الفكر الثقافي والسياسي للعديد من الاجيال. ولد سيزار في 26 يونيو عام 1913، وانطلقت حياته باتجاه الكتابة والنضال من أجل الحرية والحقوق والكرامة الإنسانية. لقد كان سيزار شاهداً على عصر استعماري ثقيل، وهو ما دفعه إلى النضال ضد الاستعباد والعنصرية التي كانت تمارس ضد الجماعات ذات البشرة السوداء أو ما يعرف بالحركة أو ملامح النيجريتود؛ أي الحركة التي تعارض التمييز العنصري والاستبداد، والتي كانت تسعى إلى إعادة تشكيل صورة الإنسان الإفريقي بعيداً عن الصور النمطية السلبية التي رسختها الثقافة الغربية؛ بهدف التأكيد على الهوية الإفريقية، والاحتفاء بالتراث الثقافي للقارة الإفريقية، سواء اللغة أو الفن أو التقاليد، عبر التأثير الأدبي والفني. حيث كان للنيجريتود تأثير كبير على الأدب والفن في العالم الفرنكوفوني، حيث ساهمت أعمال كتاب وشعراء مرتبطين بهم في تشكيل الفكر الإفريقي[1].

لقد كانت الحركة عاملاً هاماً في توحيد كتاب وفنانين من مختلف أنحاء العالم الفرنكوفوني، حيث جمعتهم قضايا مشتركة حول الهوية والحرية. إن هذا النضال لم ينفصل كذلك من أن يكون له تأثير سياسي ساهمت فيها حركة النيجريتود عبر أفكارها في تعزيز الوعي الوطني والسعي للاستقلال في بعض البلدان الإفريقية. ومن رموز تلك الحركة أيميه سيزار الذي يعتبر واحداً من مؤسسي النيجريتود، حيث كانت كتبه الشعرية والنثرية ذات تأثير هائل على الحركة، كذلك ليوبولد سيدار سنغور رئيس السنغال الأول والشاعر الكبير الذي كان له دور كبير في تشكيل فكر النيجريتود، وليون داما الشاعر الفرنسي الذي شارك في تأسيس الحركة وكتب قصائد تعبر عن هويته الإفريقية[2].

لقد استمرت فكرة النيجريتود في إلهام الأجيال اللاحقة من الكتاب والفنانين الأفارقة، وأثرت الحركة على الفكر الثقافي والأدبي في العديد من البلدان خارج العالم الفرنكوفوني، بحيث أسهمت الأفكار المطروحة في الحركة في إثراء الحوار الأدبي العالمي حول الهوية والتمييز ومفهوم الثقافة الأصلية أو المحلية، وتشكيل الوعي الإفريقي المقاوم ضد الاستعمار الغربي والفرنسي بشكل خاص[3].

أهمية أيميه سيزار وأهم أعماله

سيزار لم يقتصر على كتابة الشعر والأدب فقط، بل كان شاهداً وفاعلاً في النضال ضد الاستعمار. كان سيزار يؤمن بأن الكلمة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي أيضاً سلاح قوي في مواجهة الظلم والتمييز، وأن رسالته تعكس رغبته وإصراره على إعادة تشكيل الصورة الذهنية للشعوب الإفريقية. ففي أوائل الثلاثينات من القرن العشرين، شكل سيزار مع زملاؤه فخر الهوية الإفريقية ومقاومة التمييز العنصري، كمحاولة لتجاوز الصورة النمطية والسلبية التي ترسخت حول الثقافة الإفريقية. ومن أهم أعماله: "حجر العودة إلى بلد الأم" عام 1939. في هذا العمل الذي يعد محطة هامة في مسيرة سيزار، قدم تعبيراً شديد العاطفة عن مشاعره تجاه بلده الأم أي مارتينيكا. ويقدم فيه رؤية حول التحولات الاجتماعية والثقافية في موطنه. وفي كتاب آخر بعنوان "خطاب حول الاستعمار" الذي كتبه عام 1950، في هذا الخطاب الذي ألقاه في السوربون، قام سيزار بمهاجمة حادة للتمييز العنصري والأستعمار الاوروبي، وكشف فيه عن تأثير هذا النظام على الثقافة والشعوب الإفريقية. وفي كتاب آخر له عام 1966 بعنوان: "فصل في الكونغو"، وهي قصة مسرحية تركز على فترة الاستقلال في الكونغو بقيادة باتريس لومومبا، يتناول فيها سيزار قضايا الحكم والاستبداد والتحديات التي واجهت الكونغو قبل وبعد الإستعمار[4] .

ففي القرون الوسطى، كانت مملكة الكونغو واحدة من الممالك القوية في المنطقة، وقد قامت بتجارة العبيد والموارد مع التجار الأوروبيين على ساحل الكونغو. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، احتلت بلجيكا الكونغو، وأصبحت تديرها كمستعمرة. وكانت فترة استعمار بلجيكا آنذاك مأساوية للغاية، حيث تعرض السكان المحليين للعبودية والاستغلال الاقتصادي والتجارب البشرية القاتلة واللا إنسانية. وبعد استقلال الكونغو عن الاستعمار البلجيكي عام 1960، أصبحت جمهورية الكونغو الديمقراطية. ولكن سرعان ما اندلعت صراعات داخلية وتأثرت البلاد بالتدخلات الأجنبية، وبخاصة في عهد رئاسة جوزيف ديسيريه موبوتو عام 1965 الذي دام حكمه أربعة عقود من الفساد وانتهاكات حقوق الانسان. ثم جاءت الفترة الحديثة للكونغو حين تسلم جوزيف كابيلا الحكم عام 2001، والتي شهدت فيها فترات من عدم الاستقرار والنزاعات الداخلية وتدخلات خارجية، مما أدى إلى آثار خطيرة على أمن البلاد ووحدته مثل الإستعباد والتشرد للسكان الأصليين خلال فترة الاستعمار والتعرض لسياسات التفرقة والتمييز العنصري، ما أسفر عنها انقسامات طائفية وعرقية في المجتمع الكونغولي، وتشكلت فيها هويات اصطناعية، فضلاً عن الاستغلال الاقتصادي عبر استنزاف الموارد الطبيعية للبلاد دون مراعاة لاحتياجات السكان المحليين، مما أدى إلى فقر وتخلف اقتصادي في البلاد، إضافة إلى النزاعات الداخلية والتدخلات الأجنبية في استقرار الكونغو وتطورها الاقتصادي كما هو الحال اليوم في الشرق الأوسط أي لبنان وسوريا وفلسطين والسودان والعراق وليبيا. وساهمت الأوضاع الصعبة هناك في دفع الكثير إلى الهجرة والتشرد مما زاد من صعوبة التحديات الاجتماعية [5].

إن هذا الواقع، لا يختلف كثيراً عما يعانيه العالم العربي اليوم نتيجة الاستكبار والإمبريالية الغربية. إن استحضار هذه التجربة التاريخية الهدف منه إحياء ذكرى شخصيات أمثال أيميه سيزار ورفاقه من رموز الحركة الوطنية، كتعبير عن النضال الوطني المقاوم ضد الاستعمار لمنع تكرار التجربة الكولونيالية والاستفادة منها في علاقة الشعوب المضطهدة والمستعبدة في صراعها ضد الاستعمار الأجنبي. لقد كانت التجربة الإفريقية خير دليل على هذا الإرث النضالي التراكمي ضد الإستعمار الفرنسي والبلجيكي والأوروبي والتأكيد على أهمية هذا النضال من الناحية الفكرية والسياسية والقانونية؛ من أجل أن يتعلم العالم أن للاستعمار نهاية. وأن الشعوب يجب أن تؤمن بذاتها وبنضالها العنيد ضد الإستعمار والإمبريالية، وأن للتحرر مفهوم يقوم على فكرة التراكمات وعدم اليأس حتى ولو طال زمانه، برغم جميع الأدوات الشيطانية والخبيثة التي تغزوها، والتي تحاول اقتلاع وممارسة كل أشكال الاقتلاع من الجذور الثقافية والحضارية والفنية واللغوية؛ بهدف توطين ثقافة الحداثة الوثنية الجديدة والعلم المزيف والمأجور الذي هدفه القضاء على أصالة هذه الشعوب وهويتها المتجذرة منذ آلآف السنين عبر تصدير ثقافة الإلغاء والتطهير العرقي والإبادة وكافة أنواع الجرائم اللا إنسانية التي تهدف إلى تدمير المجتمعات وتقنينها من أجل أن تصبح عبارة عن سلاسل ترويض واحدة يتم إخضاعها والسيطرة والهيمنة عليها، وتحويل الإنسان إلى كائن مادي يحي عبادة الصنم من جديد، ويقوم على عبادة وتمكين الفردانية التي تستهدف الفكر المؤسساتي والعمل الجماعي وبناء المجتمعات وفق مفهوم التضامن الجماعي[6].

إن هذه الممارسات من قبل الدول المستَعمِرة لمستعمراتها، والتي تقوم على سياسات الإذلال والتخريب وإخضاع الشعوب وصولاً إلى يأسها واستسلامها عبر القوة الناعمة والسياسة الخارجية والعسكرية والدراسات الاستشراقية وعلوم الأنثروبولوجيا أدت إلى تفكيك تلك المجتمعات وتناحرها ودخولها في صراعات لا متناهية، وتقوم على تأييد الانقلابات والعنف المتوارث من أجل إبقاء هذه الدول المستضعفة والمتهالكة في أتون الفقر والانكسار واليأس وإشغالها بهموم طارئة بهدف إلهائها عن القضايا الوجودية والمصيرية؛ لتصبح غير قادرة على المواجهة والتصدي عبر نشر ثقافة الحداثة وما يعتريها من قيم ليبرالية ورأسمالية أغرقت الناس في المجاعة والفقر والتدمير المنهجي عبر صناعة الإنسان المتعالي والرجل الاقوى الذي يتحدى الله ويتحدى كل المعايير والقيم الأخلاقية على اعتبار أن إرادة البقاء هي للأقوياء. وهذا ما ابدعت الحضارة الغربية بنشره وتمكينه في العالم. والتعالي على جميع المقدسات والحرم القانونية والأخلاقية والحضارة الإنسانية لنصبح في ذلك عبارة أرقام. والإنسان الذي تم تشييئه أي سلعنته لا قيمة له سوى رقم يفيد بها الشركات العملاقة من أجل تحقيق الأرباح الخيالية وزيادة الفجوة الطبقية والاجتماعية بين الناس عبر تمكين ثقافة التفاهة والقطيع[7] .

الأدب كتعبير مقاوم

عندما فشل الخطاب الحداثوي في الهيمنة على الثقافات الأخرى وطمسها؛ بسبب أزماته وأخطائه المنهجية، انتقلت تلك الثقافات إلى المقاومة منتجة بذلك حركات تحرر وطني ألقت بمشروع التحديث والتحضير الغربي في أزمة جديدة، جعلته يعيد مراجعة تياراته الفكرية ومنهجياته البحثية، وفتحت النوافذ لتفكير جديد ينظر إلى العوامل الوطنية الذاتية بجدية على اعتبار أن دحض نظريات الفلاسفة الفرنسيين هي مراجعة ثقافية وسياسية واجتماعية باعتبار أن الفلسفة التي تقوم عليها فرنسا، تأتي نتيجة احتكاكها بالثورة التحررية الجزائرية ومعاينة معاناة المغتربين الأجانب في فرنسا، كمحاولة للعودة إلى الذات بالبحث عن مفهوم التماهي للكائن البشري في الثقافة الغربية، على اعتبار أن الذات مرتبطة بمجموعة آليات السلطة المختلفة داخل الحضارة الغربية التي لا تقوم فقط حول البحث عن المجال العلمي للأركيولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفة المقاومة، وحافزاً لفهم العلاقات السلطوية وتوضيحها. حيث تقول فريال غزول مواليد عام 1939، وهي أستاذة جامعية مرموقة متخصصة في الأدب العربي ولها إسهامات عديدة مهمة في المجال الأدبي، وقد ساهمت في اتاحة فهم اعمق للثقافة العربية للجمهور العالمي حيث تقول: "إن تخريب الاستعمار الثقافات التي يهيمن عليها وتشويهها دفع مثقفي الدول المستعمَرة إلى إحياء ثقافتهم وتمجيدها كرد فعل وكنهج مقاوم".

وتأتي هذه المحاولة من أجل تعرية الخطاب الغربي وحمولته الثقافية والمعرفية، حيث جاء في دراسة لأباراجينا ساغار "دراسات ما بعد الكولونيالية"، وهو بحث متعلق باللغة وثنائية المستعمرين اللغوية ونقد مشروعهم عبر كتابات وروايات عديدة باللغة الإنكليزية، كمحاولة لهجرها والسعي إلى التعبير الإبداعي بلغته الإفريقية، على اعتبار أن الأديب لا يكون مبدعاً إلا من خلال تبنيه للغته الأم، أي "أفرقة اللغة" كتعبير عن الهوية والمقاومة التي تقوم بها الثقافة المحلية حتى تنقرض. وقد أسس عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917) مفهوم الانقسامية في ميدان علم الاجتماع، حيث يبين أن المجتمعات الإنسانية تنتقل بالتدريج خلال صيرورتها التاريخية من أشكال التضامن الميكانيكي إلى أشكال التضامن العضوي. إن هذا البحث يحمل في طياته خلفية سياسية، الهدف منها تعبيد الشعوب من قبل الدول الغربية عن طريق السيطرة عليها وذلك عبر التركيز على ظاهرة السلطة في هذه المجتمعات. وهذا ما عبر عنه تجربة الانثروبولوجيا الإنجلوسكسونية والفرانكوفونية في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط بعد الحرب العالمية الثانية[8].

بالختام

إن تفكيك هذه الرواية الغربية تثير جدلاً واسعاً في الغرب وتحديدًا فرنسا التي ترفض الإعتراف بدراسات ما بعد الكولونيالية والإعتذار عنها على اعتبار أنها تغالي في نزعتها الإمبريالية والإمبراطورية كونها مؤسسة الأنوار ومهندسةً لفلسفة هذا التيار وصاحبة الثورة الفرنسية. الأمر الذي يجعل من الصعب عليها فتح تاريخها في الجزائر، خوفاً من إمكانية فتح ملف المحاكمات منعاً لنبش ماضيها الاستعماري وخوفاً على امتيازاتها الحالية في مستعمراتها القديمة، بالرغم من محاولات طرد الأفارقة لها من إفريقيا ومطالبتها بمخاطبتهم بلغة الكرامة بعيداً عن لغة الأمس. إن هذه الازدواجية التي تعتري فرنسا وباقي الدول الغربية، وبشكل خاص إسرائيل التي تقاسم الغرب النزعة الاستعلائية نفسها، تتحول إلى خطاب متأسسٍ على الانغلاق الذاتي، يرفض الاعتراف بجرائمه وإدانتها. فجاءت تلك الخطابات الإفريقية في محاولة لتفكيك السردية الغربية للمنظومة الكولونيالية، بدافع إثبات الذات والتعبير عن الكينونة، في مقابل الغيرية الكولونيالية وصناعة صورة الآخر بموضوعية ذات مواصفات علمية، تراعي ظروف الذاكرة الجماعية وتنصفها، بهدف تحقيق العدالة والحرية والمصالحة مع الآخر، والتأكيد على الهوية المحلية التي سلخت وتم تغريبها، ودعماً للتعددية والحوار والتسامح، وتصحيح الرواية الغربية تجاه العلاقات الأوروبية - الإفريقية[9].

***

.................

[1] الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ادوارد سعيد، ترجمة :د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2006م.

[2] إيميه سيزار، خطاب الاستشراق، دار الفرابي،بيروت، ترجمة وتحقيق عبد الجبار خمسة-رواند نكد، الطبعة الاولى، 2013، ص127

[3] Dominique combe, le texte postcoloniale n existe pas , theorie postecoloniale, etudes francophones et cretigue , Genisis, vol 33. (2001).

[4] Johannes angermuller, qu est ce que le post structuralisme francais ? a propos de la notion de discours d’un pays a l’autre, language et societe.vol.2, no.120, 2007,p.17

[5] صدر كتاب الشرخ الاستعماري: المجتمع الفرنسي مِن مِنظور الموروث الكولونيالي سنة 2005، وهو عمل جماعي يقع في 322 صفحة مِن الحجم المتوسّط تتوزّع على مقدّمة مشتركة بعنوان «الشرخ الاستعماري أزمة فرنسيّة»، أوضحوا فيها سبب تأليف الكتاب، الذي يعود إلى المِناخ الفرنسي العام؛ إذ «لم تتوقّف في السنوات الأخيرة المناقشات حول الماضي الاستعماري لفرنسا في الفضاء العمومي، وجاء هذا الانبثاق مِن أماكن متعدّدة وجمعيّات متنوّعة، منها المتّصل بالتاريخ الاستعماري، مثل المرحلين والحركي وقدماء محاربي ثورة الجزائر، ومنها ما يتصل بالدولة حين تشرع في التصويت على نصوص بناء الذاكرة الرسميّة، م.س، ص9؛ أنظر أيضًا: الأكاديميّون الجامعيّون الذين ينشرون بحوثًا تتعلّق بالفترة الاستعماريّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ثم تليها أربعة وعشرون بحثًا وملحقان في منهجيّة دراسة الذاكرات، الثالث، الكولونياليّة، الهجرة والحضريّة. وتناولت المقالات جميعها علاقة الاستعمار الفرنسي بمستعمراته المستقلّة، وانعكاس الوعي الوطني على الجمهوريّة مع ظهور الإسلام السياسي، إضافة إلى إشكاليّات الهجرة مِن حيث الاندماج والانقسام بين أرض الاستقبال وأرض الأجداد والأصول

[6] Bessone, Magali & Daniel Sabbagh. Race, Racisme, Discriminations: Anthologie de textes fondamentaux. Paris: Hermann, 2015. Blanchard, Pascal, Nicolas Bancel & Sandrine Lemaire (dir.). La fracture coloniale: La société française au prisme de l’héritage colonial. Paris: La Découverte, 2005. Boehmer, Elleke. «Écriture postcoloniale et terreur».Littérature. vol. 2, no. 154, (2009). Capucine, Boidin. «Etudes décoloniales et postcoloniales dans les débats Français.» Cahiers des Amériques Latines. vol. 3, no. 62 (Janvier 2009).

[7] Bessone, , meme reference,

[8] Bessone, Magali & Daniel Sabbagh. Race, Racisme, Discriminations: Anthologie de textes fondamentaux. Paris: Hermann, 2015. Blanchard, Pascal, Nicolas Bancel & Sandrine Lemaire (dir.). La fracture coloniale: La société française au prisme de l’héritage colonial. Paris: La Découverte, 2005. Boehmer, Elleke. «Écriture postcoloniale et terreur».Littérature. vol. 2, no. 154, (2009). Capucine, Boidin. «Etudes décoloniales et postcoloniales dans les débats Français.» Cahiers des Amériques Latines. vol. 3, no. 62 (Janvier 2009).

[9] "الحضارة باعتبارها أيديولوجيّة أوروبيّة"، في: الحضارة ومضامينها، تأليف: بروس مازليش، ترجمة: عبد النور خراقي، سلسلة عالم المعرفة 42 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2014)، ص61.

 

بعد السابع من أكتوبر، وبعد طوفان الاقًصى وما صاحبها من احداث، سلطت الصحافة في الغرب  الضوء على احد ابرز المناصرين للحرية في العالم وهو المناضل فرانز فانون مؤلف كتاب "معذبو الأرض" واحد الثوار الذين التحقوا بالثورة الجزائرية.  يعزى هذا الاهتمام الى تبني افكاره من القوى اليسارية والديمقراطية وخاصة بين صفوف الطلاب المناصرين للقضية الفلسطينية في الجامعات الامريكية.

السيرة الشخصية

ولد فرانز فانون في 20 من يوليو عام 1925 في جزر المارتينيك، من عائلة ميسورة الحال نسبيا. والده كازميرا فانون، كان مفتشا في الجمارك، ووالدته، الينور ميدليس كانت تملك محلا لبيع ألمعدات في مدينة فورت دي فرانس عاصمة المارتينيك. عادة يسعى افراد هذ الطبقة الى التعرف والاندماج في ثقافة الفرنسين البيض. نشأ فانون في هذه البيئة، وتعلم تاريخ فرنسا باعتباره تاريخه، حتى في سنوات دراسته الثانوية، عندما واجه لأول مرة فلسفة الزنوجه ( (Negritude، التي تعلمها من ايمي سيزير، الناقد الشهير الاخر للاستعمار الأوروبي في المارتينيك. كان فانون حائرا بين الاندماج بالثقافة الفرنسية مع الطبقة المتوسطة وبين الانشغال بالهوية العرقية التي تروج لها الزنوجه، غادر فانون المستعمرة في عام ,1943 وهو في الثامنة عشرة من عمره، للقتال مع القوات الفرنسية الحرة في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.

بعد الحرب، بقي في فرنسا لدراسة علم النفس والطب في جامعة ليون. هنا، واجه عنصرية تبسيطية محيرة ضد السود، تختلف تماما عن التمييز المعقد المتخلل للطبقات من الوان الجلد الفاتح الى الداكن التي يجدها المرء في الكاريبي. هذا التمييز البسيط كان سبب لغضبه الشديد الذي دفعه لكتابة "مقال لتحرير السود". الذي اصبح فيما بعد عملا أساسيا   "بشرة سوداء، اقنعة بيضاء" (1952). وهنا بدأ في استكشاف أفكار الماركسية والوجودية التي ستؤثر في تحوله الجذري عن ثنائية الاندماج والزنوجه التي افتتحتها بيو نوار المناهضة للعنصرية.

على الرغم من عودة قصيرة الى الكاريبي بعد انتهاء دراسته، الا انه لم يعد يشعر بالراحة هناك. وفي عام 1953، بعد فترة في باريس، قبل منصبا كرئيس للخدمة في قسم الطب النفسي لمستشفى بليدا- جوانفيل في الجزائر. شهد العام التالي، 1954، اندلاع حرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا، وهي انتفاضة قادتها جبهة التحرير الوطني (FLN) وقمعتها القوات المسلحة الفرنسية بوحشية. وبينما كان يعمل في مستشفى فرنسي، كان فانون مسؤولا بشكل متزايد عن علاج الضغوطات النفسية للجنود والضباط في الجيش الفرنسي الذين كانوا مسؤولين عن تعذيب وقمع المقاومة المناهضة للاستعمار، وكذلك لضحايا التعذيب الجزائريين الذين عانو من الصدمات النفسية. وبالفعل، ادرك فانون بحلول عام 1956 انه لا يمكنه مواصلة مساعدة الجهود الفرنسية لقمع الحركة المناهضة للاستعمار والتي كانت تحظى بتعاطفه السياسي، فاستقال من منصبه.

بمجرد استقالته رسميا من العمل لصالح الحكومة الفرنسية في الجزائر، اصبح فانون حرا في تفانيه لقضية استقلال الجزائر. كان خلال هذه الفترة يقيم في تونس حيث قام بتدريب الممرضات لصالح جبهة التحرير الوطني، بالإضافة كان يحرر صحيفة " المجاهد" الناطق الرسمي باسم الجبهة، كما انه ساهم في كتابة مقالات حول الحركة في منشورات متعاطفة، بما في ذلك كتاباته في "برزنس افريكان " ومجلة جان بول سارتر " الأزمنة الحديثة". نشرت بعض كتابات فانون من هذه الفترة بعد وفاته عام 1964 تحت عنوان " نحو الثورة الافريقية". في عام 1959 نشر فانون سلسلة من المقالات " العام الخامس من الثورة الجزائرية"، والتي تفصل كيف نظم المستضعفون الاصليون في الجزائر انفسهم في قوة ثورية. في نفس العام، تولى منصب دبلوماسي في الحكومة الجزائرية المؤقتة كسفير لدى غانا. واستخدم هذا المنصب للمساعدة في فتح طرق الامداد للجيش الجزائري. هناك في غانا تم تشخيص فانون بمرض اللوكيميا الذي كان سببا في موته. على الرغم من تدهور صحته بسرعة، قضى فانون عشرة اشهر من اخر عام في حياته في كتابة اشهر كتبه  "معذبو الأرض". وهو صحيفة اتهام للعنف والوحشية الاستعمارية الذي يختمها بنداء مشوق لتاريخ جديد للإنسانية يجب ان يبدأ من قبل العالم الثالث المنكوب بالاستعمار. في أكتوبر 1961، تم نقل فانون الى الولايات المتحدة حتي يتمكن من العلاج في مرفق المعاهد الوطنية للصحة في بشيدا، ميريلاند. توفى بعد شهرين، في 6 ديسمبر، .1961، حيث كان لا زال منشغلا بقضية الحرية والعدالة لشعوب العالم الثالث. بناء على طلب جبهة التحرير الوطني، تمت إعادة جثمانه الى تونس، حيث تم نقل جثمانه ودفن في الجزائر التي كافح من اجلها بتفان خلال السنوات  الخمس الأخيرة من حياته.

الظواهرية الافريقية

مساهمة فانون في علم الظواهر، والتي تم تسليط الضوء عليها كخطاب عرقي نقدي (تحليل لغوي لا واعي، تشكل الذات التي تنظم نفسها حول العرق كفئة مؤسسة). على الأخص استكشافه للتحديات الوجودية التي يواجهها  ذوي البشرة السوداء في عالم اجتماعي تم تشكيله للبشر البيض. هذا الموضوع يتم تناوله بالتفصيل وبالوضوح في Pea Noire Masques Blanc. الاستعارة المركزية لهذا الكتاب، هي ان السود يجب عليهم ان يرتدو "قناعا ابيض" حتى يتمكنوا من العيش في عالم ابيض، مذكرا بما كتبه W.E.B Du Bois بان الأمريكيين من اصل افريقي عليهم بتطوير وعيا مزدوجا لكي يعيشوا في ظل هيكل السلطة البيضاء. واحد  يتعايش مع هذا الهيكل (او ما شابه) ووعي اخر يتعايش فيه مع الامريكان من اصل اسود. ان تحليل فانون للطرق التي يستجيب بها السود للسياق الاجتماعي الذي يميزهم عنصريا على حساب انسانيتنا المشتركة تمتد ثقافيا عبر نطاق أوسع من مقارنة دي بويس. فانون يدرس كيف يشكل العرق (يشوه) حياة كل من الرجال والنساء في منطقة البحر الكاريبي الفرنسية، وفي فرنسا، وفي مناطق الصراع الاستعماري في افريقيا. عالم الاجتماع الافريقي باغيت هنري، يصف العلاقة بين فانون ودي بويس  في مجال الظواهرية كعلاقة امتداد وتوضيح، حيث يقدم فانون تحقيقا اكثر تفصيلا حول كيف تواجه الذات صدمة التصنيف من قبل الاخرين كذات اقل إنسانية، بسبب هوية عنصرية مفروضة، وكيف يمكن لتلك الذات ان تستعيد شعورا بالهوية وانتماء ثقافي مستقل عن المشروع العنصري لثقافة الهيمنة الاستعمارية.

فانون، يشرح في جميع اعماله الرئيسية المشروع العنصري والاستعماري للثقافة الأوروبية البيضاء، أي الرؤية العالمية الهرمية الشاملة التي تحتاج الى تصنيف الانسان الأسود باعتباره "زنجيا"، بحيث يكون لديه "اخر" يمكن تعريفه على أساسه. في حين يقدم كتاب " Peau Noire " نقاشا مستمرا حول الابعاد النفسية لهذا التصنيف "للإنسان الأسود" وامكانيات المقاومة لهذا التصنيف. بينما الابعاد السياسية تم تناولها في كتابيه "السنة الخامسة من الثورة الجزائرية" و"معذبو الأرض"  يتم فيهما تشخيص للأبعاد النفسية للعنف الظاهري ضد الزنوج، حيث يوثق الاثار المدمرة والمؤلمة للعنصرية : أولا، يعزز التعصب والمواقف السلبية تجاه السود الاخرين وافريقيا. ثانيا، انه يعمل على تطبيع مواقف الرغبة والانحطاط تجاه أوروبا، والبيض، والثقافة البيضاء بشكل عام.  وأخيرا، تقدم  نفسها على انها طريقة شاملة للوجود في العالم بحيث لا يبدو ان هناك بديلا اخرا ممكنا. ان صعوبة التغلب على الشعور بالاغتراب الذي يجعل "الزنجوه "مسالة ضرورية للإنسان الأسود تكمن في رؤيته لنفسه ليس كما يتصورها  ويقدرها (تقلل من قيمتها) من قبل الثقافة البيضاء المهيمنة ولكن في نفس الوقت من خلال منظور مبني على معارضة التيار الرئيسي العنصري، ومن منظور مواز حيث لا تكون الاحكام القيمية للرجل الأسود او المرأة السوداء -على نفسه وعلى الاخرين من مجموعته العرقية – من خلال المعايير والقيم البيضاء. يرى فانون انه فقط من خلال هذا المنظور الأخير يستطيع الرجل او المرأة السوداء التخلص من الاستعمار النفسي الذي تفرضه الظواهر العنصرية.

نظرية التخلص من الاستعمار

الابعاد السياسية للزنجوه والتي تدعو الى التحرر من الاستعمار تتصل بكتابيه "السنة الخامسة" و"معذبو الأرض". ولكن فانون لا يقوم فقط بتشخيص الاعراض السياسية للرؤية السياسية العالمية التي يتم فيها تجريم الرجال والنساء السود، بل يضع تشخيصه ضمن التزام أخلاقي واضح بالحق المتساوي لكل انسان في ان تكون كرامته الإنسانية معترف بها من قبل الاخرين. هذا التأكيد، اننا جميعا مستحقون للاعتبار الأخلاقي وان لا احد يمكن الإستغناء عنه، هو الجوهر المبدئي لنظريته المتعلقة للتحرر من الاستعمار، التي مازالت تلهم العلماء والنشطاء الملتزمين بحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.

كما يوحى العنوان الفرنسي، L’A Cinq الاستعمار يحتضر، وهو سرد شخصي لفانون عن كيفية تعبئة الشعب الجزائري لنفسه في ثورة مقاتلة، والنضال المسلح ضد الحكومة الفرنسية الاستعمارية.  يعرض فانون الدروس التي يمكن للثورات الأخرى ان تتعلمها من تكتيكات واستراتيجيات  جبهة التحرير الوطني، والتي تعبر عن الوضع الجزائري الخاص، ولكن أيضا من الممكن للثوار الاخرين الاستفادة منها.  بينما تقدم "السنة الخامسة" الأفكار التي يتوقعها الشخص من وثيقة تاريخية،  ُفإن "معذبو الأرض" هو تحليل اكثر تجريدا للاستعمار والثورة. وقد وصف بانه انجيل للثورة السوداء. يعبر الكتاب عن الدور الضروري الذي  يعتقد فانون ان العنف يجب ان يؤديه في نضالات انهاء الاستعمار، والمسارات الزائفة التي تسلكها الدول التي تريد ان تنهي الاستعمار عندما تعهد بحريتها النهائية الى المفاوضات بين الطبقة المحلية والمستعمرين، في حين فانون لا يري بديلا من تعبئة الجماهير كقوة مقاتلة شعبية. ويؤكد الى الحاجة في إعادة انشاء ثقافة وطنية من خلال حركة الفنون والأدب الثوري. وهذا ما يرفضه التقليديون في موقف فانون. كما يتطرق فانون الى المشاكلات النفسية التي يفرزها القمع الاستعماري. جزء من روعة الكتاب هو عمقه الفلسفي الذي أشار اليه جان بول سارتر في المقدمة، حيث انه يتحدث بلغة فلسفية وينشر نوع من الحجج الماركسية والهيجيلية التي  يتوقعها المرء في فلسفة التحرير، لكنه لا يتحدث الى الغرب. ان فانون يتحدث مع زملائه من العالم الثالث ويقدم لهم النصائح.

***

علي حمدان

.................................

ترجم بتصرف من:

Franz Fanon: Internet Encyclopedia of Philosophy

من يريد أن يدخل عتبة روسيا القيصرية، تاريخها الموغل في القدم من يوم حكم القياصرة المتعاقب عليها ونظام القنانة السائد آنذاك، ومهاجمة نابليون وجيشه لها عام 1812وبحكم التاريخ والحروب، إنها حرباً وطنية. عندما هاجم نابليون موسكو، كان أهلها قد دمروها عن بكرة أبيها، تحوطاً ضد أي فرصة قد يتنفس من خلالها المحتل، مما تحمل هو وجيشه عبئاً كبيراً من الجوع والامراض والاوبئة، فتكبد خسائر بالارواح بحدود ٢٥ الف شخص، مما تركها مذعوراً مهزوماً والى الابد. وزحف الجيش الروسي الى أوربا وسقطت العاصمة باريس والقي القبض على نابليون ونفيه. عرفت روسيا تاريخياً من نافذة أدباؤها الروس.

سأل نابليون في منفاه عن سر هزيمته قال بألم: ”الاستهزاء بقوة عدوي روسيا القيصرية ”.

وقد أثرت تلك الاحداث التاريخية على الشاعر بوشكين في رسم ملامح شخصيته وتحديد مواقفه السياسية كشاعر ومواطن وأنسان، هنا تنبأ مشواره الشعري والنثري ” السياسي ”. قائلاً …

سيطوف ذكرتي في أرجاء روسيا العظيمة

ويلهج بأسمي كل مخلوق قد بلغته

ولد بوشكين عام ١٧٩٩ في موسكو في أسرة من النبلاء تعيش حياة ترف وأريحية، كان والده شاعر بارز فساهم في تكوينه الادبي والفكري. ترجع جذور الشاعر بوشكين الى أصول أفريقية، جده من أمه من الضباط المقربيين الى القيصر بطرس الاول من هنا ورث الملامح الافريقية في هيئته حيث تميز بشعر أجعد وشفتين غليظتين، أمه حفيدة إبرام غنيبال الامير الحبشي الذي أختطفه الاتراك وأرسلوه هدية الى القيصر الروسي بطرس الاول. كان بوشكين يفخر بجد أمه، الذي كان قائداً مشهوراً في عهد البطرس، وقد وصفه في روايته التاريخية ”زنجي بطرس الاكبر ”. يعتبر بوشكين شاعر روسيا العظيم وأمير شعراء روسيا وروائي وشاعر وكاتب مسرحي. قال في خضم مواقفه بالشعر والكلمة والوطنية معتزاً بأرثه.

وطويلا سيظل قومي يحبونني

فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرة

وغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي

وناديت الرحمة على المقهورين

كتب ” نيقولاي غوغول ”الكاتب الروسي وصديق بوشكين قائلاً : عندما تذكر أسم بوشكين تتحلى الطبيعة الروسية بأبهى صورها، إنه النفس الروسية. أتسمت أشعاره السياسية برفض الاستبداد والتسلط حاملاً شعلته المضيئة في دروب الناس المقهورة للتطلع والحرية، ولم يخفي أو يهادن السلطة القيصرية في أشعاره ونثره، مما دعا القيصر شخصيا أن يشرف على كتاباته قبل نشرها ويحذف ما يطيب له، ولم يهدأ عقل القيصر الا أن يطرده من وظيفته وينفيه الى جنوب روسيا بسبب أشعاره الثورية، وقد أتهمه بالخيانة الوطنية، لكن مواقفه أزدادت عناداً وهو في منفاه من خلال كتاباته بالتحريض على حكم القياصرة. فأجبر السلطات الى أعادته الى موسكو وقربه القيصر منه ليجعله شاعر البلاط المتمرد داخل البلاط القيصري.

بوشكين.. من رواد االمدرسة الواقعية في الادب الروسي جسد بأعماله الادبية والشعرية كل طبقات المجتمع الروسي، فمسرحيته التاريخية التراجيدية ” بوريس جودونوف ” نقل من خلالها العلاقة بين الشعب والسلطة ودورهما في بناء المجتمع، وأن السلطة لم تكون مهيأة، إذا لم تعتمد على الرأي العام الواعي.

أما رواية ” يفغيني أونيغين ” فتعتبر أول رواية شعرية واقعية في تاريخ الادب الروسي، وقد عبر بوشكين عبر كتاباته أنتقاده الحاد الى الثقافة الغربية والتي تغوص بمستنقع الجشع والاستبداد، وقد صور حياة المجتمع الغربي على أساس تجربة أمريكيا في ذلك الوقت. ” أذهلتني رؤية الديمقراطية بوقاحتها البشعة وتحاملها الساخر وطغيانها الذي لايطاق، ووقف ضد إستعباد الزنوج في ظل الحرية وأنتشار الثقافة والضمير ”.

وفي موقف آخر يذكر له هاجم سطوة الدولة العثمانية لطغيانها في التعدي على سيادة الشعوب بقصيدة سميت ” أسطنبول ”.

ولم يغفل في نتاجاته الابداعية ومواقفه الانسانية سيرة النبي محمد في قصائده والاشاره الى مواقفه وعبقريته في الدفاع عن رسالته المحمدية.

في عام ١٨٣٧ توفى بوشكين مقتولا عن عمر يناهز ٣٨ عاماً، وذلك في مبارزة سخيفة إستجابة لعقلية المجتمع آنذاك ، كما كان هو سائد مع أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو، أغرم بزوجته وحاول مغازلتها وشيع حول علاقة زوجته بالفرنسي أم لاربعة أطفال هي ناتالي. وأعتبر بوشكين هذا الموقف أهانه له ولموقعه وأنتقاماً لشرفه فتحداه وطلب منه المبارزة، وقد تمت المبارزة بالمسدسات لا بالسيوف، وتمكن الفرنسي بأصابته ومات بعد أيام معدودة، وراح بعض النقاد في تحليلاتهم، أن تلك المبارزة كانت من تخطيط بلاط القيصر الذي راح يحيك المؤامرات ضد الشاعر بوشكين للإنتقام من مواقفه ضده بعد أن عجز البلاط من أستمالة موقفه لوقعها النفسي على أهالي روسيا بما تحمله من قيم وطنية ومعاني ثورية وتحريض ضد سلطة القيصر.

بعد أن شاع خبر موته عم الاستياء والاستنكار والهجوم على القيصر وبلاطه. فهزت روسيا من أقصاها الى أقصاها قصيدة الشاعر ميخائيل ليرمنتوف بعنوان موت شاعر.

سقط الشاعر عبدأ للشرف

سقط وكان مفتريء عليه

بافتراءات خبيثة.

ودفع الشاعر ليرمنتوف ثمن موقفه وحجم تأثير قصيدته في أنحاء روسيا والعالم، والذي عرف من خلالها كشاعر ومناضل، فوزعت كمنشور حزبي بين الناس ضد سلطة البلاط القيصري، مما أغضب السلطات وقررت إعتقاله ونفيه الى القوقاز وأجريت تحقيقاً مطولاً معه حول قصيدته وسمي شاعر القوقاز ويعتبر أهم شاعر بعد بوشكين. فقتل على أثر ذلك بعمر ٢٧ عاماً وله رواية واحدة ” بطل من هذا الزمان ”.

بوشكين والقيصر

يحاول القوميون الأوكران في حربهم ضد الثقافة الروسية هذه الأيام، تصوير أمير الشعراء الروس الكسندر بوشكين شاعراً يحمل الفكر الإمبراطوري ومؤيداً للنظام القيصري، في حين ان القيصر كان يخشى ان يثير نشر قصائد الشاعر غضب الجماهير، ولهذا نصب نفسه رقيبا على كل ما يود بوشكين نشره من قصائد وأعمال أدبية آخرى.

في ٢٦ يناير عام ١٨٣٧، عشية المبارزة المميتة. كتب بوشكين رسالة الى الكونت كارل تول يقول فيها : " العبقري يكتشف الحقيقة في لمحة واحدة والحقيقة أكبر من القيصر، ولهذا السبب لا يمكن للديكتاتوريين ان يسامحوا الشعراء على تفوقهم الأخلاقي، وادراكهم الثمين لما هو صائب. ان الكل مهتم بالتحقق من نفسه من خلال التجربة، وافراد السلطة فرحون بخرافة معصوميتهم، وهم بكل الوسائل يبتعدون عن الحقيقة. السياسة بدمها الثقيل لا تقول لي شيئاً، وانا لا أحب الذين لا يهتمون بالحقيقة”. تلك بدعة المبارزة كانت سائدة في تقاليد وأعراف المجتمع الروسي، مما أودت بحياة العديد من أدباء ومشاهير روسيا، ولم تكن بعيده من دوافعها السياسية.

نبوءة فيدور دوستويفسكي.

رغم أن الأدب الروسي الكلاسيكي زاخر بأسماء عدد كبير من الأدباء العباقرة، من ذوي الشهرة المدوية، إلا أن الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين – مؤسس اللغة الأدبية الروسية – هو الذي يحتل أسمى مكانة في قلوب الروس جميعا. وفي الوقت الذي يختلف القرّاء الروس حول مدى إعجابهم بأعمال تولستوي أو دوستويفسكي، إلا أنهم جميعا يعشقون شعر بوشكين و أعماله السردية أكثر من أي أديب آخر.

أبدى تولستوي في رسالة إلى صديق مشترك بينه وبين دوستويفسكي إعجابه الشديد بإحدى روايات دوستويفسكي حتى أكثر من أعمال بوشكين، وطلب إبلاع ذلك إلى دوستويفسكي.وعندما سمع دوستويفسكي هذا الكلام من الصديق المشترك لم يفرح، بل أصيب بصدمة، لأن تولستوي وضعه فوق بوشكين. قال دوستويفسكي:"  أن لا أحد يعلو على بوشكين في الأدب الروسي ". وخطاب دوستويفسكي الشهير في حفل إزاحة الستار عن تمثال بوشكين في وسط موسكو في أوائل ١٨٨٠ معروف، حيث هز هذا الخطاب المؤثر مشاعرالجماهير الروسية.

ثمة مقولة شهيرة لدوستويفسكي تتردد على مر الأجيال على ألسنة الروس جميعاً:

" بوشكين هو كل شيء لدينا". وقد تنبأ بوشكين نفسه قبيل وفاته بمجده الأدبي قائلاً ". سيتردد إسمي في جميع أنحاء روسيا العظمى، وفي لغات جميع شعوبها”

يعتبر الشاعر بوشكين من أهم أعمدة الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد شهدت حياته القصيرة قصص ومغامرات حب جريئة دفع حياته ثمناً لها، وقد تميزت كتاباته بالنفس العميق في مكونات النفس البشرية وداخل الكيان الاجتماعي، ويعتبر رمز ثقافي وأدبي كبير لبلده روسيا وله الفضل الكبير في تطوير لغة الأدب والرواية الروسية ضمن أطر المفاهيم الحديثة، وتعتبر روايته ” يفغيني أونيغين ” تحولا كبيراً في العمل الروائي الروسي بما حملته من مضامين أجتماعية في اللغة والادب والأسلوب والمضمون. وتاريخ الأدب الروسي بدأ بالعمالقة ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف. ويعتبر بوشكين واضع الاساسيات اللغة الروسية وأدبها في الشكل والمضمون. وكان بوشكين من المهتمين بأدب الشرق وفي نهاية القرن الثامن عشر، عندما ترجمت حكاية ” ألف ليلة وليلة ”. أطلع بوشكن عليها وتركت أثرها على نتاجاته المستقبلية. فكتب ” روسلان ولودميلا ”. ” وليال مصرية ” نتاج تأثره بهذه الروائع وبلغة القرآن وكانت هذه واضحة في أشعاره وقصائده.

***

محمد السعدي

..........................

* من كتاب سيرى النور لاحقاً "مأساة الأدباء الروس بين الحقبتين القيصرية والشيوعية".

كلما أنوي الاتصال بأولادي وبناتي الموزّعين في أقاصي الأرض وشتاتها ألجأ لملاذي الذي اعتدت عليه في الهاتف الذكيّ وأنتخب نظام الاتصال "واتساب" ليوصلني إلى من أحبّ فيهدأ بالي وتطيب سريرتي .

في العام /  1992 رحل  شاب قرويّ، وحيد أمه وأبيه؛ طبعُه ساذج، ليس له مران في التعامل مع الثورة الالكترونية وعالم التقنية والميديا الاّ النزر اليسير؛ فتىً قليل الخبرة هاربٌ من الاضطرابات السياسية في بلاده الأم ّ، ضعيف الدربة  اسمه "جان كوم" مع أمّه القرويّة الساذجة ربّة البيت الأوكرانية مهاجراً الى الولايات المتحدة بعد ضنك عيشٍ في بلادها الأم  وتركا الأب  في أوكرانيا اذ كان هذا الأب  معاندا ولم يرغب في الهجرة وبقي في بلاده كمدير لمشروع إسكان الفقراء وبناء بيوت شعبية لهم وتشييد المدارس والمستوصفات الصحية لمواطنيه وأطفالهم  في قريته .

 كان عمر هذا القرويّ الوحيد لعائلته وقتذاك أربعة عشر عاما حينما حطّ رحاله في بلاد " اليانكي " واستقر في قصبة نائية ضمن ولاية كاليفورنيا اسمها " ماونتن فيو " هربا من النزعة المعادية للسامية وكراهية الأجانب النازحين الى الولايات المتحدة والتي كانت قائمة بين بعض سكّانها في تلك الولاية .

عاش مع أمّه في شقة صغيرة تحوي غرفتَي نوم حصلا عليها ضمن المساعدات الحكومية التي تمنح للمهاجرين  قبل ان تصاب والدته بالسرطان وتنتقل الى العالم الآخر سنة /  2000 .

 وقبل هذا التاريخ رحل والده ايضا سنة /  1997 ودفن في وطنه الأوكراني  الذي لم يغادره .

عملت أمّه في ردح حياتها الاميركية أوّل مرةٍ مربية وجليسة أطفال لدى إحدى العوائل الغنية رغم اشتداد أسقامها، كما حصل " جان كوم " على عمل رثّ في دكان بقالة متواضع ويقوم بنفسه في ترتيب البضائع وغسل أرضية البقالة وتنظيفها يوميا  وبعدها انتقل الى عمل آخر حارسا ليليا بإحدى الشركات حينما تم قبوله طالبا دارسا في جامعة سان خوزيه ستيت اذ كان يدرس نهارا في الجامعة ويعمل في الحراسة ليلا .

قبيل وصوله الى العالم الجديد؛ عاش الفتى قبلا مع والدته في قرية صغيرة خارج العاصمة كييف في أوكرانيا معيشة فيها من الضنك الكثير إذ كان مسكنه يخلو من الماء الساخن والكهرباء وأجهزة الهاتف، وبالكاد أكمل دراسته الابتدائية في تلك القرية وعُرف بشغبه وشراسته مع زملائه الطلبة ولم تظهر عليه علامات الفطنة والذكاء أيام التعليم الأساسي في بلاده ومحتده أوكرانيا .

وطوال إقامته في الولايات المتحدة  بدأت سمات الذكاء تظهر عليه خاصةً بعد ان فاز بعملٍ مهندس إلكتروني في شركة " ياهو " وتكليفه بتفقّد أنظمة الدعاية، وكان يجمع بين الدراسة وبين العمل والكدح المضني، وبسبب خلو جيبه فقد كان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن زملائه وأصدقائه ليلتهمها في اقصر وقت ويعيدها الى أصحابها  إذ صمم على تغذية عقله بتقنيات التكنولوجيا الرقمية وعلوم الحاسبات وعالم السوشيال ميديا وجهدَ على المثابرة لإغناء عقله باعتباره طريقا سالكا باتجاه إثراء جيبه وزيادة أرصدته المالية، وهو الذي عاش الفقر المدقع والحاجة القصوى للمال يوم كانت أمّه المريضة بأمسّ الحاجة الى الدواء والعلاج المكلف خاصة وانها لم تكن وقتذاك تمتلك تأمينا صحيا يتيح لها العناية بصحتها ومواصلة العلاج .

ولأن الحاجة أم الابتكار والاختراع  كما يقال في أمثالنا ؛ ففي عام 2009، قام مع شريكهِ  "بريان أكتون" بتأسيس برنامج التراسل للهاتف الجوال "واتس آب" والذي يعني ويترجم تساؤلاً في العربية: ما الجديد؟، والذي اشترتها في فبراير/ 2014 شركة فيسبوك التي سبق ان طردتْه عام / 2007 عندما قدّم على وظيفة تُعينه وصديقه على تحمّل أعباء الحياة وتدعم مشروعه  المجاني في عالم الاتصالات مثلما رفضت تعيينه شركة (تويتر) ايضا، ولكن بإصراره وقوة عزيمته حقق ثروة لا تخطر حتى في خيالات الأحلام وأوسع من حدود الأماني (19 مليار دولار) استلم دفعته الأولى البالغة أكثر من ستة ونصف مليار  وهو الذي كان يُمنّي نفسه بأن يملأ جيبه ببضع مئات من الدولارات ليسدّ رمقه ويقيم أوَده .

والمدهش ان الصفقة التي تمت بينه وبين مؤسس الفيسبوك قد حصلت في نفس البناية البيضاء التي كانت مركزا لاستقبال أمثاله المعوزين اللاجئين وكثيرا ما كان يستلم منها المعونات البخسة بين حين وآخر (بضع مئات من الدولارات وقليل من المساعدات العينية) وكوبونات الحكومة المدعمة لأقرانه المغتربين الفقراء باعتباره لاجئا هو وأمّه وقت شبابه وفتوته  ليقيم أودَه ويسدّ رمق أمه المعوزة المريضة .

تحدّث جان كوم بعد استلامه الدفعة الأولى البالغة اكثر من ستة مليار دولار: كنت في صباي ادخل مكاتب البريد لأتصل بوالدي في اوكرانيا وأبقى ساعات انتظر دوري في مكتب البريد وحالما انتهي عليّ ان ادفع أجرة الخدمات الهاتفية مما يرهق جيبي، ولا اخفي فان هذا الحال المدقع ودفع الدولارات من اجل مكالمة تُريحني كانت سبباً لابتكار الخدمة الهاتفية المجانية في الواتساب؛ لهذا عزمت مساعدة مستخدمي الواتساب بصورة مجانية وسعيِي ونجاحي في تحميل ما ابتكرت في جهاز (الآيفون) الذي امتلكته عام / 2009 بشقّ الأنفس، وهذه ضمن شروطي على إدارة الفيسبوك على إبقائه مجانيا وبدون دعايات إعلانية مفرطة بعد عقد الصفقة عسى ان أوفق في خدمة المعوزين وأخفف عنهم؛ وها أنا حققت ما أريد وكم أسعد حينما أرى مئات الملايين يستفيدون من خدماتي الهاتفية بلا مقابل مادي، فأنا الآن رغم ثرائي ما زلت اعشق الحياة البسيطة التي كنتها في بلادي قبل رحيلي الى الولايات المتحدة؛ وهل أنسى أمّي التي ملأت حقيبتي أقلاما وقرطاسية ودفاتر من مكتبات أوكرانيا حتى لا أضطر الى شرائها بسعر غالٍ في مهجري العالم الجديد .

كثيرا ما تختلج في رأسي فكرة ان المبدع – فنانا كان او أديبا، مخترعا او مكتشفا في أيّ حقل من حقول العلم – لا يصل الى قمة الإبداع والابتكار إلاّ إذا عاش الفقر وتذوّق مرارة الفاقة وقد يصل الى ذلك الفردوس الإبداعي والاكتشاف الذي يصبو إليه؛ لأن الفقر والعوز يعطي العالِم المخترع والأديب والفنان دفعا وزخما أعلى بكثير ممن لا يعيشون معاناة الفاقة وهذا هو حال السيد الأوكراني " جان كوم " مثار حديثنا الذي أقدّم له وافر الشكر والامتنان  كلما سمعت صوت نسلي وأحفادي وأروني شكلهم وجها لوجه عبر اللوح الالكتروني وهم كلّ ذخيرتي في الحياة  ولو استقروا في أقاصي الأرض.

***

جواد غلوم

 

(كي لا ننسى وللتذكير بتلك الأيام السود)*

كلما مر بي أو مررت به لسبب ما، يذكرني شاعر اسبانيا الكبير فيدريركو غارسيا لوركا في بعض من مفاصل شخصيته الرئيسية بالشاعر العراقي خليل المعاضيدي، الذي غيبته الاجهزة القمعية، قبل أكثر من ربع قرن من الآن. فكلاهما غادرا الحياة رغما عنهما وهما في منتصف الثلاثينات من عمرهما، وكلاهما كتبا ضد السلطة الفاشية الحاكمة، وكلاهما انتميا الى جبهة اليسار رغم اختلاف التسميات، وكلاهما قارعا ديكتاتورية الحكم والحاكم بأدوات ووسائل بعيدة كل البعد عن عقلية المراوغة والتستر أو المناورة، فأساليب التعبير عندهما كانت معلنة وواضحة ولا تقبل التأويل ولم تثنيهما عن ذلك او تحد من اندفاعهما أو حماستهما، سياسة البطش والقسوة التي اتبعت وقتذاك، فكانا من الشجاعة ما لا يمكن لأي متابع أو مراقب، نكرانها أو التغاضي عنها وبأي شكل من الاشكال.

قد يرى البعض في تلك المقاربة بأنها غير عادلة وغير متكافئة بسبب من اختلال واختلاف المكانة الشعرية والمساحة الشعرية التي يشغلها كل منهما على انفراد، ولهم في ذلك الحق والعذرا وانه لأمر مفروغ منه، وذلك صحيح الى حد كبير، رغم اني مازلت مقتنعا بأن شاعرية المعاضيدي وهو ابن بلد حافظته الشعر، لو قدر له الاستمرار على الحياة، لكان له شأن آخر، وان كان إفتراض كهذا غير واقعي ومبني على ضرب من المستحيل ولا يخلو من رجما بالتمني، وليكن كذلك مادام هناك انحياز مسبق، بُني كما أرى على معطيات ومؤشرات غيبها الموت المبكر.

ولكي لا نمضي بعيدا في عالم الفنتازيا والتي لا تخلو من بعض من المشروعية، فأن ما نويته من تلك المقاربة وهنا بيت القصيد، هو ذلك الظلم الذي وقع عليهما من ذوي القربى، وبالتالي سنصل بالنتيجة الى فتح موضوع ربما يُعدٌ الاهم حسب ما أراه في تلك المقاربة، الا وهو شكل العلاقة المفترضة والتي ينبغي لها ان تكون مجالا للبحث مستقبلا بين الفنان وانتمائه السياسي، ولا أظنهما أي لوركا والمعاضيدي سيعترضان على الخوض والغوص في رصد حقيقة تلك العلاقة، والتي فتحت فيما بعد الكثير من التساؤلات وأشَّرت كذلك في جوانب هامة منها الى الحيف الكبير الذي لحق بهما وهما في نومتهم الابدية.

ومن خلال تجارب الكثير من الاحزاب السياسية المناهضة للديكتاتورية، خاصة في بلدان العالم الثالث، فأنها ومع أي انتكاسة تتعرض لها وتهدد سلطاتها وبالتالي سطوتها على الشارع فتراها تقوم بجملة من الاجراءات التي تهدف من خلالها الى فرض قبضتها، ليس اقلها العمل على اسكات الآخر، مستخدمة كل الاساليب المتوفرة لديها.

ولأن المثقف المنتمي الى تلك الاحزاب المعارضة يشكل خطورة استثنائية عليها، فتجدها اي السلطات وقد ضاعفت من جهدها ونشاطها القمعي اتجاه هذه الفئة من المعارضين، خوفا من الدور الذي من الممكن أن تؤديه في تهييج وتثوير الشارع وبث روح التصدي والمقاومة ضد هذه السلطات. وتجربة فيكتور جارا في تشيلي وغيرها من التجارب الشبيهة لماثلة للعيان رغم مرور عقود عديدة عليها.

ودورة التأريخ يمكنها أن تعود كما قال الاولون، أما على شكل مهزلة وأما على شكل مأساة. وإستشهاد خليل المعاضيدي يذكرنا بتلك الطريقة البشعة التي صفي بها من قبله شاعر اسبانيا الكبير لوركا، حين جرى إعدامه في عام 1936 بإطلاق الرصاص عليه من قبل مجموعة وصفت حين ذاك بالمجهولة. ونفس الصورة والمشهد سيتكرران في النصف الاول من ثمانينات القرن المنصرم، حين تم خطف وتصفية الشاعر المعاضيدي ومن قبل نفس العصابة والجهة، مع اختلاف البعدين الزماني والمكاني بين الحالتين. ولا بأس من التوقف هنا لنقول، إنَّ ما جمع بين الجريمتين وما إشتركا فيه هي ذات التهمة التي وُجهت لهما من قبل جلاّدي السلطة الحاكمة:( انهما مثقفان .. صنعا بكتبهما ما لم تصنعه المسدسات). اعتقد ان اعترافا بهذه الوقاحة والصراحة، ربما يُعد الوحيد الذي سَيُسجل لصالح القتلة.

إذأً كما النبوءة، اختار مصيره مبكرا وبلغة لاتخلو من اليقين. وكما العارف أيضا بالطريقة التي سيرحل بها الى عالم الخلود ( عرفت انني قُتلت، وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن وسرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط ). بهذا النص كان لوركا يَشبه المعاضيدي في وداعه الاخير والعكس صحيح أيضا.

لذا بات من المؤكد وعلى ضوء ما مررنا به من تجارب وما سمعنا وقرأنا ونُقِلَ لنا، فإن هناك أعدادا كبيرة غيرهما قد لاقت ذات الحتف وذات المصير. وعن تلك النهايات المأساوية التي رافقت هذا النوع النادر من البشر فلا بأس من التذكير ثانية بأن طلقة واحدة كانت كافية لوضع حد نهائي لحياة الشاعر الاسباني العذبة. وبذات الخسة والنذالة، فإن القتلة وحسب الاخبار التي تسربت آنذاك فأن عملية تغييب خليل لسنوات عديدة يبدو انها لم تشف غليلهم، مما اضطرهم الى الاعلان عن تصفيته أخيرا، وذلك من خلال تسريب خبر خاطف، مخافة ردات الفعل والفضيحة، لم يراعوا فيه ولا ينسجم وجلال الموت مع شاعر بقامة المعاضيدي وما سيشغله في ذاكرة القادمين من بعده.

لَكَمْ كان التقارب شديدا مُذهلاً بين الشاعرين، فمن عاشر وصادق والتقى خليلا، سيجد كم هو مرهف، ناسك وأنيق، في ساعة الخمر أو دونها. سَيّان عنده الأمر بين ساعة السحر ونشوة المدام الاخير، وبين قصيدة يُلقيها بصحبة العاشقين للشعر وللحرية وللأحلام المشروعة البعيدة. لقد كان مُحقا ودقيقا روفائيل البيرتي في وصفه( كان لوركا يتدفق بشحنة من الرقة الكهربائية والفتنة، ويلف مستمعيه بجو أخاذ من السحر، فيأسرهم حين يتحدث أو ينشد الشعر ..). لا أعتقد ان البيرتي سيكون له رأيا آخر لو أسقطنا ما قاله بحق لوركا على شاعرنا خليل أو شعراء آخرين يشبهونه، سيأتون تباعا.

وفي العودة الى تلك الأيام وإذا كنّا قد نسينا فلا بأس من إعادة التذكير بها، والحديث هنا عن أواخر السبعينات المنصرمة وما تلاها. فشوارع وحارات العاصمة قد ضاقت بشاعرنا وسيد هذا المقال وكذلك مَنْ كان بصحبته من الحالمين، وعسس الليل تراهم يتجولون حتى في ساعات النهار بغطرسة وإستهتار وبغير حدود. هذا هو حال بغداد آنذاك وشقيقاتها من مدن العراق الأخرى، وهذا هو حال كل الرافضين للديكتاتورية، لذا ضاقت عليهم النوافذ ومخارج الخلاص والدروب الأمينة.

لقد غادر الرفاق قبل الاصدقاء وأول الهاربين كان كبير القوم، فإنفرط العقد الرابط بين الحق وخائنيه. تلَفَّتَ شاعرنا شمالا ويمينا فلم يجد غير جسده الذي لم يقو على التحمل، فأخذ معه بضع قصائد وجسد متهالك بانت عليه علامات التعب والهوان من طول فترة الانتظار، كذلك من كظم ضيم كان على سدنته حمله قبل الآخرين، ولم يبق له من وسيلة للنجاة وبعد أن إستنفذ كل الطرق الممكنة سوى العودة من جديد الى مدينته رغم كل الجراح وما يمكن أن يلحق به.

وهناك وما كاد يشم عبق البرتقال ورائحة الطلع، تم إلقاء القبض عليه وفي أول نقطة تفتيش، وليتوراى من بعدها جسده الطاهر عن الانظار وعلى يد حراس الضمائر ولم يعثر له على أثر حتى هذه اللحظة. تبارى على تخليده وإستحضار سجاياه ثلة من الحرس القديم، وراحوا يستعيدون عبق عطره وهو في الابدية وبعد فوات الاوان، بينما لاحقته التهم والكبائر ولم تُذكر محاسنه يوم ولد ويوم كان حيا ويوم غنّى لمدينته الفاضلة وانتمائه السياسي. إنه النفاق بعينه.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

........................

* خليل المعاضيدي شاعر عراقي من ولادة مدينة بعقوبة. استشهد عام 1984.

** لقد كُتِبَ هذا المقال ونُشرَ في وقته على نطاق محدود وذلك قبل قرابة الأربعة عشر عاما، ولأهميته وبمناسبة يوم الشهيد، إرتأيت إعادة نشره مع إجراء بعض التعديلات عليه.

بقلم: حبيب البدوي

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

إن ملحمة المؤلف النرويجي جون فوس الأدبية هي شهادة على القدرة الهائلة للغة على استكشاف أعمق فترات الاستراحة في الوجود الإنساني. منذ بدايته الميمونة في عام 1983، نسج فوس نسيجًا معقدًا من المسرحيات والروايات والمجموعات الشعرية والمقالات وكتب الأطفال. يمتد نطاقه الإبداعي إلى الأنواع الموسيقية، ويسلط الضوء على التنوع النادر الذي لا يحققه سوى القليل من صانعي الكلمات في حياتهم. تلقى أعمال فوس صدى على نطاق عالمي، وفي عام 2023، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الأدب، مما يمجد قدرته الاستثنائية على التعبير عما لا يمكن وصفه.

تتعمق روايات فوس في المشاعر الخام الصريحة التي تكمن في جوهر التجربة الإنسانية. إنه يواجه القلق وانعدام الأمن والارتباك ببراعة فنية تتحدث إلى القراء على مستوى شخصي عميق، وحتى حميمي. وتشير الأكاديمية السويدية على نحو مناسب إلى أن أعمال فوس "تعطي صوتاً لما لا يمكن قوله"، معترفة بمهارته التي لا مثيل لها في التقاط أدق الفروق الدقيقة في المشاعر الإنسانية.

بمنح جائزة نوبل في الأدب لجون فوس، يشيد عالم الأدب بشخصية بارزة يتجاوز تأثيرها الحدود. تُرجمت كتابات فوس إلى العديد من اللغات، مما مكّن الجمهور العالمي من المشاركة في استكشافه لجوانب الحياة الأساسية: الولادة، والوفاة، والإيمان، وضعف الإنسان. إن موضوعاته العالمية لها صدى عميق، وتقدم للقراء مرآة مؤثرة لتجاربهم الخاصة.

أستاذ أدب متعدد المواهب:

لوحة فوس الأدبية عبارة عن بانوراما لسرد القصص. تشكل الروايات والقصص القصيرة والشعر وأدب الأطفال والمقالات والمسرحيات والنصوص النسيج الغني لإنتاجه الإبداعي. يشهد هذا التنوع على إتقانه لتقنيات السرد، مما يسمح له بالتنقل بين البنيات الدبية المتنوعة بسهولة تامة. في هذه الرقصة المعقدة بين الأنواع، يعكس فوس تعقيد الوجود الإنساني ويتأمل أبعاد الحياة التي لا تعد ولا تحصى بدقة ملحوظة.

صوت ما لا يوصف:

ما يميز فوس هو قدرته على التعبير عما هو غير معلن، وهي ميزة تكمن في جوهر توقيعه الأدبي.إن اعتراف لجنة نوبل بقدرته على إعطاء "صوت لما لا يمكن قوله" يتجسد في أعمال مثل "Septology VI-VII". في هذه الأوديسة المتسامية، يجتاز القراء الحالة الإنسانية من خلال عينى رسام نرويجي مسن. إن نثر فوس، الذي يتميز بإيقاعه الواثق والتأملي، يدعو إلى التأمل العميق. في إيقاعه الهادئ، يمزج بين الذاكرة والروحانية والتأمل الفني، مما يخلق قصة آسرة ومؤثرة بعمق في نفس الوقت.

أهمية نينورسك

إن تفاني فوس في كتابة أعماله في نينورسك يمثل بمثابة تكريم للتقاليد الريفية في غرب النرويج. تعد هذه النسخة المكتوبة من اللغة الإسكندنافية جزءًا لا يتجزأ من التراث النرويجي، الذي يعتز به جزء متواضع من السكان. إن الاعتراف العالمي الذي تحظى به  كتابات فوس يرفع من شأن نينورسك، ويؤكد على أهميتها الثقافية المتميزة. من خلال اختيار نينورسك كوسيلة له، لا يحافظ فوس على تراث لغوي فحسب، بل يشيد أيضًا بالنسيج الغني للثقافة النرويجية.

الاعتراف والإرث

تعد جائزة نوبل التي حصل عليها فوس علامة فارقة في الأدب النرويجي ولغة النينورسك. وهو ينضم إلى كادر حصري من صانعي الكلمات النرويجيين الذين تم تكريمهم بهذه الجائزة المرموقة، مما عزز مكانته كرائد في المشهد الأدبي في البلاد. يعد هذا الاعتراف تأكيدًا واضحًا على التزام فوس الذي لا يتزعزع بالقيمة الجوهرية للأدب، الذي لا تحجبه دوافع خفية أو اعتبارات خارجية.

الإرث والتأثير:

من المقدر أن يتردد صدى إرث جون فوس الأدبي عبر العصور. إن أعظم ما أبدعه يقف بمثابة شهادة على القوة الدائمة للغة وسرد القصص. لقد تركت قدرة فوس على إلقاء الضوء على الحالة الإنسانية وقشرة طبقات الوجود بصمة لا تمحى في عالم الأدب. وستظل أعماله منبعًا للتأمل والإلهام للأجيال القادمة، حيث تقدم شهادة خالدة على قدرة الأدب على الوصول إلى أعماق التجربة الإنسانية.

البصمة الدائمة للحائز على جائزة نوبل:

بمنح جائزة نوبل في الأدب لجون فوس لعام 2023، العالم يعترف بإسهاماته التي لا مثيل لها في الأدب العالمي.إن قدرته على اجتياز أشكال سردية متنوعة وإضفاء الحياة على ما لا يوصف تدفعه إلى مجمع المؤلفين الاستثنائيين. من خلال ولائه للغة النينورسك ورحلته نحو موضوعات عالمية، ترك فوس علامة لا تمحى على الكون الأدبي. يقف إرثه بمثابة تذكير بليغ لقدرة الأدب المتسامية على فهم تعقيدات الوجود الإنساني، مما يترك بصمة دائمة في قلوب وعقول القراء في جميع أنحاء العالم .وأخيراً "دعونا نحلم حتى نحقق".

***

.....................

المؤلف: حبيب البدوى، حصل البروفسور حبيب البدوي على دكتوراه في الفلسفة في التاريخ من الجامعة اللبنانية. وكانت أطروحته عن التاريخ الياباني الحديث. في الجامعة اللبنانية، يشغل البروفيسور البدوي منصب منسق الدراسات الأمريكية ومستشار أكاديمي مطلوب. وقد حصل البروفيسور البدوي على جائزة "الشخصية الأكاديمية لعام 2018" من قبل "المركز الثقافي الآسيوي" لجهوده المتواصلة في تعزيز الدراسات اليابانية في جميع أنحاء العالم. نشر الدكتور حبيب البدوي العديد من الكتب والأوراق البحثية حول موضوعات معاصرة تتعلق بالعلاقات الدولية والجغرافيا السياسية.

 

(1902 – 1998) Theodore Schultz

هو استاذ الاقتصاد في جامعتي آيوا وشيكاغو لاكثر من أربعة عقود، بضمنها ترؤسه لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو لخمسة عشرعاما، جعل فيها القسم يرتقي لمرتبة متقدمة من بين اقسام الاقتصاد في عموم الولايات المتحدة الامريكية وكندا. وهو الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1979 عن مساهماته الهامة في علم الاقتصاد، وخاصة في حقل الاقتصاد الزراعي وتنمية الريف في البلدان الفقيرة والنامية، ولريادته في دراسة دور التعليم في النمو الاقتصادي ونظرية رأس المال البشري.

في كتابه المعنون "اعظم الاقتصاديين بعد كـَنز"، يقول مارك بلوگ: كان شُلتز في الحقيقة الأب الأول لنظرية رأس المال البشري. كما قالت البروفسورة بَومَن في مقالها المكثف حول مساهمات شُلتز في النظرية الاقتصادية، المنشور عام 1980: منذ مطلع الثلاثينات، كان لشُلتز دورا رائدا في نقل فرع الاقتصاد الزراعي نقلة نوعية اعتمدت النظرية الاقتصادية في التحليل وتبنت الاختبار بالبحث التطبيقي والتدريب والتأثير على السياسة الاقتصادية. أما گـَيل جونسن فقد كتبت في مقالها المنشور بعد وفاة شُلتز: لقد كان بروفسور شُلتز باحثا مبدعا ومعلما متفانيا واداريا ناجحا ومدافعا عنيدا عن الحرية الاكاديمية، وكان في بحثه الاقتصادي لايكتفي بمراجعة المصادر النظرية بل يحرص ان يرى بعينه ويلمس بيده ويسمع من الآخرين. وكان مؤمنا ان هذا المنهج هو الملائم في دراسة القطاع الزراعي، حيث حرص على زيارة مواقع البحث من اجل ان يلتقي بالمزارعين ليرى حالهم ويسمع مشاكلهم. ولهذا فقد تميز عمله الاكاديمي بالقيام بزيارات متكررة في داخل البلاد وخارجها، الى بلدان فقيرة ونامية عديدة.

ولد ثيودور شُلتز عام 1902 في حقل زراعي في قرية قريبة من مدينة آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية. کان متفوقا فی المدرسة ومثابرا على الذهاب اليها كل يوم وهي التي تبعد 2.5 ميلا عن بيته، يقطعها مشيا على الاقدام، في الاجواء المطيرة وقارسة البرد والعاصفة بالثلوج! وحين قامت الحرب العالمية الاولى (1914-1918) وتجند اغلب العمال الزراعيين، أقدم والده على اخراجه من المدرسة وهو في المرحلة المتوسطة من أجل أن يساعده في الحقل، وهو الذي واجه الأمر الواقع إذ لايستطيع لوحده انجاز مايتطلبه الحقل من مهمات شاقة. كان ذلك عام 1917 عندما قررت أمريكا دخول الحرب لمجابهة حليف ألمانيا النمسا-هنگاري.

بعد نهاية الحرب وعودة الامور الى مجاريها الطبيعية، واصل ثيودور دراسته ولو بشكل متأخر، الا انه أكمل كل متطلبات الدراسة ودخل كلية الولاية الحكومية عام 1924 واكمل البكالوريوس بثلاث سنوات ليتخرج عام 1927، ويُقبل في قسم الدراسات العليا في جامعة وسكنسن ويحصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1930. كانت اطروحته بعنوان "التعريفة الگمرگية على علف الحبوب". وفي نفس العام تزوج من احدى زميلاته التي انحدرت من عائلة فلاحية ألمانية الأصل. وقد شاركته فيما بعد اهتماماته في بحوث الاقتصاد الزراعي وعملت على تحرير وتصحيح مسودات بحوثه اثناء تهيئتها للنشر.

مباشرة بعد حصوله على الدكتوراه اصبح استاذا مساعدا في قسم الاقتصاد في جامعة آيوا. وخلال ثلاثة عشر عاما، لغاية 1943، كان استاذا جادا وباحثا مثابرا استطاع ان يرسخ تقليد البحوث الاقتصادية الزراعية على المنهج العلمي التطبيقي. ولأنه ابن عائلة فلاحية، ولد ونشأ في حقل والديه، فقد تجذرت قدماه في الارض وأدرك أهمية ما يزرعه الفلاح ويحصده من أجل نفسه ومن أجل الآخرين، وعرف اهمية العمل في الانتاج والمعرفة في العمل، وضرورة معالجة الفقر وتنمية الريف وتطويره. وهذا هو منشأ اهتمامه العلمي، ليس فقط بالاقتصاد الزراعي بل بالتعليم وقيمته واحوال المجتمعات الزراعية وتأثير الحكومات والقوانين المحلية والفدرالية على القطاع الزراعي. فمنذ البداية كان منشغلا بايجاد الجواب على السؤال: " لماذا يصبح المرء فقيرا؟ والاهم من ذلك لماذا تصبح مجتمعات ومناطق وبلدان كاملة في قائمة الفقر؟ وكيف يمكن تشخيص ذلك؟ وعند تقصي الامر بالبحث وصل شُلتز الى ثلاثة مؤشرات تدل على حالة الفقر:

- نسبة الدخل التي تنفق على الطعام، والقاعدة هي انه كلما ازدادت هذه النسبة كلما اشارت بوضوح الى حالة الفقر. والمعيار الكمي العام هو ان مؤشر الفقر يعني انفاق نصف الدخل أو أكثر على الطعام.

- معدل عمر الفرد المتوقع Life Expectancy

- حالة المعرفة ومستوى المهارات التي يمتلكها الافراد

وهذا يعني انه كلما تحسن المستوى الصحي العام للناس كلما ازداد معدل العمر، وكلما تحسن التعليم واتسعت دائرة المعارف وتقدمت المهارات كلما زادت الانتاجية وتسارع النمو وتحسن مستوى المعيشة. فالصحة والتعليم هي العجلات الاساسية التي تمكن القطار من مغادرة عالم الفقر والبؤس.

في السنوات الاخيرة من خدمته في جامعة آيوا، دخل شلتز في موجة من الصراعات الادارية والجدال الاكاديمي حول قضية اعتبرها مبدأية لايمكن ان يحيد عنها، وهي قضية التناقض بين دور العلم والجامعة من ناحية ودورالسياسة والشركات الخاصة من ناحية اخرى، وأيهما سيخدم مصالح المزارعين والمستهلكين في نهاية المطاف؟ واين الحرية الاكاديمية من كل ذلك؟ تصاعدت هذه الموجة من الصراعات بسبب كراس اشرف على تحريره شُلتز واعتبرته الشركات الخاصة بالصناعات الغذائية ضد مصالحها، وألّبت عليه المزارعين واقنعتهم بأن ما تنشره الجامعة عبارة عن دعوة لقطع ارزاقهم. وشيئا فشيئا دخلت اطراف أخرى فنشبت ما سمي بحرب الزبد والمارجرين.

حرب الزبد والمارجرين

إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبالذات في عام 1942، طلب وزير الزراعة الامريكي من شُلتز، الاستاذ في جامعة آيوا، وبمساعدة سلطات الولاية وادارة الجامعة، ان يقود نخبة من الاقتصاديين والخبراء الزراعيين لصياغة السياسة الغذائية لولاية آيوا في وقت الحرب، على ان تُعد وتنشر على شكل مطبوعات وتعمم على الدوائر المختصة. وبعد ان انهى شُلتز ولجنته اعداد الدراسة وحصل على موافقة رئاسة الجامعة وحكومة الولاية، حصل على منحة من مؤسسة روكفلر لانتاج وتوزيع الدراسة التي قسمت الى 15 كراسة تتضمن شروح وتعليمات ونصائح وتوصيات حول كل ما يتعلق بانتاج وتوزيع واستهلاك المواد الغذائية في ظروف الحرب. وكان قد استقبل مواطنوالولاية ومزارعيها واصحاب الصناعات الغذائية الكراسات الاربعة الاولى بحرارة وحماس، الا ان الكراسة رقم 5 جاءت كقنبلة موقوتة في بحيرة الرضا والوئام.

كان الهدف الاساسي من هذه الكراسة ترشيد استهلاك الحليب ومنتجاته، وخاصة الزبد الذي كان يتمتع بطلب عالي آنذاك، وتوفير مايمكن توفيره من المستهلكين وتحويله الى جبهات القتال. وقد أقترحت التوصيات ان يصار الى تعويض الاستهلاك المحلي من الزبد بمنتج بديل وهو المارجرين. وكان المارجرين آنذاك قد اجيز انتاجه قبل سنوات ونجح في الاسواق كبديل صحي ويشابه الزبد في صفاته وطعمه إلا انه ارخص بكثير من الزبد. كان ذلك الكراس بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير! فقد ثارت ثائرة اصحاب حقول تربية الابقار واصحاب صناعات منتجات الحليب والمزارعين واصبح الخبر يتردد في وسائل الاعلام مما حفز المواطنين ان يركبوا موجة السخط على لجنة شُلتز فاتسع الامر وتعقد وتحول الى ضغط على الجامعة من قبل دوائر الحكومة والشركات الخاصة، وكلاهما يساهم مساهمات مالية كبيرة في تمويل الجامعة. وابتدأت الجامعة تحول الضغط المسلط على دوائرها الى ضغط على فريق البحث ومحاولة اقناع شُلتز العدول عن تلك التوصيات واعادة النظر في الكراس الخامس، لكن شُلتز وفريقه رفضوا ذلك رفضا قاطعا. ثم حاولت الجامعة تشكيل لجان اخرى لتنقيح ماجاء في الكراسة الخامسة، الا ان هذه اللجان لم تنته بنتيجة مقبولة. وهنا تحول الامر عند شُلتز وفريقه من قضية الزبد والمارجرين الى قضية اكبر بكثير وهي الحرية الاكاديمية التي ينبغي ان تصونها الجامعة وحكومة الولاية، وقضية استقلال العلم عن السياسة التي ينبغي ان يحرص عليها كل مواطن يعيش في ظل النظام الديمقراطي الدستوري. وحين وصل الامر الى مفترق طرق ولم تسفر النتيجة عن اي حل يرضي الطرفين، قدم شُلتز استقالته الى الجامعة، وقد استقال معه 19 اقتصاديا. فكان ذلك الحدث قد هز الاوساط الاكاديمية في الولاية وفي عموم البلاد. وعلى أثر استقالة شُلتز من جامعة آيوا دعته جامعة شيكاغو لان يكون عضوا في الهيئة التدريسية لقسم الاقتصاد. فحقب حقائبه وذهب الى شيكاغو عام 1943 ليتسلم مهامه كاستاذ في الاقتصاد. وفي عام 1946 اُنتخب رئيسا لقسم الاقتصاد وبقي يعاد انتخابه لغاية 1961. بقي في جامعة شيكاغو لحين تقاعده من العمل الجامعي عام 1972، لكنه لم يتقاعد من العمل الاكاديمي فقد استمر يزاول نشاطه في البحث والدراسة حتى بعد التسعين من عمره.

الانتاج الزراعي واوضاع الريف

منذ الثلاثينات كان الاقتصاد الزراعي هو اهتمام شُلتز الاول في البحث، وحين عمل في جامعة آيوا واصل بحثه في هذا المجال فكان من المتحمسين الاوائل لادخال تحليل النظرية الاقتصادية لهذا الفرع من الاقتصاد الذي كان قبل ذلك عبارة عن خليط من الادارة والتسويق ومالية القروض. وحين ذهب الى جامعة شيكاغو وتمكن من الحصول على منح تمويل لمشاريع اقتصادية من قبل مؤسسات خاصة اهمها مؤسسة روكفلر، تمكن من السفر الميداني داخل وخارج البلاد ونشر مجموعة من الكتب الرائدة الهامة في الاقصاد الزراعي منها: النظام الاقتصادي في الزراعة (1953)، التحول في الزراعة التقليدية (1964)، الازمات الاقتصادية في القطاع الزراعي (1965)، النمو الاقتصادي في القطاع الزراعي (1968)، و الاختلال في الحوافز الزراعية (1978).  وعبر هذه الدراسات المستفيضة كان صوت شُلتز واضحا يقول ان تخلف القطاعات الزراعية وتفشي الفقر والاجحاف في الارياف هو قبل كل شئ بسبب عدم اعطاء هذا العالم الزراعي مايستحقه من اهتمام من قبل مخططي السياسات والحكومات المختلفة وتحويل كل القدرات التنموية الى القطاعات الحضرية. وفي كتابه "التحول في الزراعة التقليدية" الذي اُعتبر فيما بعد من الاصول في هذا المجال، رفض شُلتز بشدة الاعتقاد الذي ساد لدى الاقتصاديين آنذاك بأن تخلف القطاع الزراعي في البلدان الفقيرة والنامية ناشئ عن سوء القرارات الانتاجية التي يتخذها المزارعون المحليون والتي تتسم بعدم العقلانية والدراية والحصافة حيث توارثو رفض التوسع والتطوير وخشية الابتكار وادخال التكنولوجيا في حرث وري الاراضي وزراعة وحصاد المحاصيل الزراعية. وقد صرح شُلتز ان من يعرف اولئك المزارعين عن كثب سيرى عقلانيتهم ودرايتهم بالزراعة وان رفضهم التوسع والتطوير وادخال التكنولوجيا يأتي لاسباب حقيقية منها انتهاز الفرصة لزيادة الضرائب على اراضيهم ومحاصيلهم وتسيد الحكومة على تسعير اغلب منتجاتهم بما لايكفي لتعويض اتعابهم وتحفيزهم لمزيد من الانتاج وتطويره. والمعالجة المنطقية هي تقليل التدخل الحكومي واعطائهم الاعتبار المعنوي قبل المادي والفضاء الشخصي وحرية التصرف التي تمكنهم من اتخاذ قراراتهم بما تمليه ضرورات الانتاج ومايسمح به سوق المخاصيل الزراعية. عندذاك سنراهم يسعون لتبني التكنولوجيا ووسائل التحديث التي تقلل من الكلف وتزيد من ايراداتهم.

كما وقد كشف شُلتز بأن المساعدات الانسانية التي تقدمها البلدان المتقدمة للبلدان الفقيرة والنامية على شكل مواد غذائية او اموال لاتسهم في مساعدة تلك المجتمعات كما يجب بل تضرها في الغالب، ذلك ان المزارعين ومنتجي الغذاء لايستطيعون منافسة الاغذية الجاهزة التي توزع مجانا. ولذلك يصبح الانتاج المحلي متراجعا بمرور الزمن. ولهذا السبب كان شُلتز من أوائل من حثوا الولايات المتحدة على تغيير شكل المساعدات الى وسائل ومواد تعليمية وكوادر تدريب وارشاد زراعي ودعم البحوث والتجارب وتقديم المكائن والالآت والاسمدة والمبيدات التي تحفز الانتاج المحلي وتقلل من كلفته فيستطيع المزارعون من بيعه بربح ويتشجعوا لاعادة الانتاج والتوسع فيه وتطويره. وهذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يمكن المجتمعات الفقيرة من ان تعتمد على نفسها وتقف على ارجلها بعزة وفخر بدلا من اغداق العطايا والصدقات.

رأس المال البشري

بموجب مراجعة البروفسور بَومَن للمساهمات النظرية لشُلتز المنشورة في المجلة الاقتصادية الاسكندنافية عام 1980، فإن أول منشور حول رأس المال البشري بمعناه المعاصر كان عام 1958 في الدراسة التي نشرتها جامعة شيكاغو بعنوان "الوضع الاقتصادي والتعليم المدرسي". كانت هذه الدراسة المتأنية بمثابة البذرة الأولى لنشوء وتطور مفهوم رأس المال البشري عند شُلتز ومن تبعه من اقتصاديي مدرسة شيكاغو علما ان جيكب منسر قد طرق الموضوع بشكل مستقل. وقد طور شُلتز الدراسة الى بحث أوسع ألقاه في مؤتمر جمعية الاقتصاديين عند انتخابه رئيسا لها عام 1960، ثم نشره في مجلة AER عام 1961 بعنوان "الاستثمار في رأس المال البشري" فاصبح المذهب والمصدر الاساسي في هذا المجال. لكن الدراسة التنويرية الاولى بقيت في الظل مدة طويلة، علما ان شُلتز قد أكد فيها على نقطتين أساسيتين:

- ان النمو الاقتصادي يرفع من قيمة الوقت الانساني

- ان نوعية الوقت الانساني المبذول في اي نشاط مرهون بمعرفة ومهارة المرء التي ينميها ويصقلها التعليم والتدريب والمراس والخبرة.

جاءت هذه النقطة الثانية اجابة على تساؤله عن ما لذي يفسر ماتبقى من الزيادة في النمو الاقتصادي التي عزتها بعض الدراسات الحديثة المنشورة آنذاك: (Ambramovitz, 1956; Kendrick, 1956; Solow, 1957 )، والتي جاءت بما يلي:

- تعزى 1\2 الزيادة في الناتج المحلي الصافي الى زيادة وقت العمال المبذول في العمل اضافة الى دور رأس المال المادي.

- يعزى 1\8 الزيادة في الدخل الاجمالي لكل ساعة عمل الى زيادة كمية رأس المال المادي

وبذلك تساءل شُلتز لمن يعزى، إذاً، الباقي من الزيادة في نمو الناتج او الدخل؟ فكان جوابه ان الباقي لابد ان تفسره التحسينات في نوعية الموارد، وأول هذه الموارد هو نوعية الانسان المحكومة بمعرفته ومهارته وخبرته.

كما جاء شُلتز بطريقة لتقدير القيمة الاجمالية لرأس المال البشري بحساب مكونين هما:

- كلفة رأس المال البشري الاستثمارية

- ومعدل العائد لتلك الكلفة الاستثمارية

وقد اضيفت بعدئذ تقديرات لقيمة كلفة الفرصة او الكلفة الفائتة Opportunity Cost.

هناك ملاحظتان استوقفتا شُلتز، وعلى اثرهما بدأ بالتفكير حول موضوع رأس المال البشري:

1. عندما كان رئيسا لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو، قاد مشروعا يتمحور على الاجابة عن السؤال: لماذا استطاعت ألمانيا واليابان أن تعيد الحياة لاقتصاداتها بسرعة مذهلة بعد التدمير الشامل الذي حدث لهما خلال سني الحرب العالمية الثانية، بينما لم تستطع بريطانيا أن تحذو حذوهما فقد اصاب الاقتصاد البريطاني كساد قاس طويل اعتمد سكانها خلاله على العيش على الحصص التموينية الغذائية التي اقرتها الحكومة؟ والجواب يكمن في ان ألمانيا واليابان حظيتا بوجود نسبة عالية من السكان المتعلم تعليما جيدا والمنضبط والذي يتمتع بصحة افضل. وقد ثبت بالدليل العملي ان التعليم والصحة يرفعان من انتاجية العمل ومن معدلات الاجور وبالتالي يسرعان وتيرة النمو الاقتصادي. ومن هنا اتجهت الانظار الى الاهتمام بالاستثمار في رأس المال البشري، تماما كما يجري الاستثمار في رأس المال المادي من أجل رفع معدلات العائد الاقتصادي.

2. الحكاية التي صادفت شُلتز خلال احدى زياراته الميدانية للحقول الزراعية الذي كان بادارة زوجين مسنين. تعجب شُلتز على حالة التناقض الواضح بين فقر حالهما وبين علائم القناعة والرضا، ان لم نقل السعادة التي كانت تشرق على محياهما. أثار ذلك التناقض فضول شُلتز فبادر بالسؤال: ما سر هذه القناعة الطاغية وانتما في حال لاتُحسدان عليه؟ أجاب الزوجان بثقة عالية: نحن لا نشعر بالحيف او فقر الحال لاننا بعملنا الدؤوب في هذا الحقل المتواضع استطعنا ارسال اربعة اولاد الى افضل جامعات البلاد! سيتخرجون ويعملون من اجل منفعتهم الشخصية ومن اجل خدمة بلدهم، وهذا هو انتصارنا الاكبر على أية صعوبة.

معيار رأس المال البشري Human Capital Index (HCI)

هو المؤشر الذي يقيس كمية رأس المال البشري من ميلاد الطفل لحين بلوغه الثامنة عشر من اجل معاينة سير الحالة الصحية والتعليمية وتأثيرهما على العمل لدى الفرد، وما تفرزه من تأثيرات على الاجيال القادمة. يقوم البنك الدولي بتقدير هذا المعيار سنويا من اجل المقارنة بين البلدان.

تتراوح قيمة هذا المعيار بين واحد وصفر.  يعني الواحد ان البلد حقق ما يستطيع من تقدم في مجالي الصحة والتعليم قياسا بما هو مخطط له، فيما يعني الصفر انه لم يتمكن من ان يصل الى ما خطط الوصول اليه. وبينهما درجات متعددة من نسب التنفيذ. علما ان حساب هذا المعيار يقوم على ثلاثة مؤشرات:

- مؤشر البقاء الذي يقاس بنسبة الاطفال الذين يبقون أحياءً بعد سن الخامسة

- مؤشر التعليم ويقاس بـ:

1. عدد سنوات الدراسة المتوقع اجتيازها لحين بلوغ الطفل سن الثامنة عشر

2. نوعية التعليم التي يحددها أداء الاطفال عبر اختبارات معينة

- مؤشر الصحة ويقاس بـ:

- 1. عدد الافراد البالغين الذين يعمرون الى عمر 60 وأكثر

2. الحالة الصحية للاطفال مقاسة بالنمو الجسدي السليم ومدى حسن أو سوء التغذية والتعرض للامراض الشائعة

عندما تأكد شُلتز من ان تطور رأس المال البشري المتمثل بازدياد المعرفة والخبرة وتقدم مستويات التعليم والتدريب والصحة عوامل تعمل مجتمعة على زيادة الانتاجية وزيادة الدخل وبالتالي تنوع مصادر العيش والرفاه للمجتمع ككل، كان لابد من ملاحظة التأثير العكسي على ذلك المعزز بالبيانات المسجلة التي تفيد بانه كلما زاد دخل العوائل كلما ازداد الميل الى تقليل الانجاب والاكتفاء بعدد اقل من الاطفال قياسا بحجم العائلة الكبير المطلوب في المجتمعات الزراعية التقليدية. فاضافة الى السبب المتمثل بانتشار الصناعات الصغيرة والحرف والمتاجر التي قللت من الاعتماد الكلي على العمل في الزراعة، فان السبب الاهم هو ادراك الغالبية من العوائل ان عددا اقل من الاطفال سيتيح توفير مستويات اعلى من الرعاية لهم، أي ان نوعية الاطفال ستزداد متمثلة بقدرة العوائل على توفير التعليم الافضل لهم وتوفير كل ما يحتاجونه من وسائل المعرفة اضافة الى الاهتمام الافضل بالرعاية الصحية لهم. وهذا ما اصطلح عليه بالعلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعياتهم الذي درسه بعمق وطوره زملاء وطلاب شُلتز من مدرسة شيكاغو وعلى رأسهم گـَري بَكَر الذي تخصص باقتصاد العائلة وحاز على جائزة نوبل في هذا المجال.

واخيرا فان الاستنتاج الاخير هو ان مستقبل الانسانية الزاهر لاتحدده مساحة الارض الصالحة للزراعة ولا عدد السكان ولا كمية الموارد الجاهزة للاستغلال كما كان الاعتقاد سائدا من قبل، انما الثورة العلمية والانفجار المعلوماتي وتوسع المعارف وتطور التكنولوجيا، اضافة الى تنقية سريرة الانسان وتخلصه من الشرور ونبذه النزوع الى الصراعات والحروب والتمسك باشاعة السلام والمحبة بين الناس هو السر لتأمين مستقبل افضل للانسانية جمعاء.

وفي الختام لابد ان نذكر أن ثيودور شُلتز فاز بعضوية الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون وجمعية الفلسفة الامريكية عام 1958، وعضوية اكاديمية العلوم الوطنية عام 1974. كما انتخب رئيسا لجمعية الاقتصاديين الاومريكيين عام 1960، وحصل على ثمان شهادات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة. وفي عام 1972 منحته جمعية الاقتصاديين أعلى وسام بإسم Francis Walker Medal. كما قامت حكومة ولاية دكوتا الجنوبية بتشييد مجمعا من الاقسام الداخلية للطلاب الذين يتخصصون بالدراسات الزراعية واطلقت عليه اسمه T.W. Schultz Residence Halls

تـُوفي في إيفانستن – إلينوي عام 1998 ودُفن في مسقط رأسه في قرية باجر- آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية.

***

ا. د. مصدق الحبيب

طفلة، وجدتُ نفسي أحمل شموع الشعانين وأرتل مع المرتلين، ممسكة بفستان أمي المسيحية، بعد أن أكون قد استيقظتُ على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم، وهي القراءة التي عودتنا أمي المسيحية أن نبدأ يومنا بها، كلّ يوم تتجادل مع ابي المسلم الشيعي لتغيير محطة صوت العرب من القاهرة وتعليقات احمد سعيد.

هكذا تربيتُ على تعدد الأديان وممارسة طقوسها بمقاييس مختلفة، امي المسيحية تعتنق مذهب الروم الارثودوكس كانت قد قدمت من منطقة وادي النصارى في سوريا، من قرية صغيرة محافظة اسمها الجويخات - جنة الله على الارض- كانت امي المسيحية تضع منديلًا على رأسها، كانت تتحجب حسب التعبير الاسلامي، هكذا جاءت من سوريا من مجتمع مسيحي محافظ، والتقت في طرابلس بوالدي المسلم الشيعي القادم من الجنوب، مع كل ما في شخصيته من عروبة وثورة ونضال. هو لم يطلب من والدتي ان تتحجب ولكن اهله طبعًا كانوا مسرورين لمنظر أمي المسيحية المتحجبة، على فكرة الديانة المسيحية تدعو الى "السترة" ووضع الحجاب على الرأس، هذه التوصية ذابت مع الزمن واصبح الخوري يناضل من اجل وضع الحجاب فقط داخل الكنيسة، هذا الحجاب الذي تحول الى قطعة من الدانتيلا الشفافة الأنيقة المغرية. وهكذا اصبحت هذه الدانتيلا رمزا للمسيحية كما اصبح الحجاب السميك رمزًا للاسلام! لعلنا نسينا ان هذا الزي كان وقاءً لشمس الصحراء المحرقة التي كانت تلسع رأس اليهودي والمسيحي والمسلم، نساءً ورجالًا على حدّ سواء، ولعلّ غطرة الرجل في الخليج شاهد على كلامي؟

مع الأيام دخلتْ الى عائلتي ديانات اخرى، فأختي الوسطى تزوجت علويًا وانا تزوجت مسلمًا سنيّا، وبطبيعة الحال اولادي هم مسلمون سنيون، وابن اختي تزوج مسيحية مارونية وابنتي تزوجت مسيحي انجيلي. فقط الطائفة الدرزية استعصت على عائلتي وعلى فهمي فرحتُ أبحث في الكتب النادرة عن الاصول ما خفي منها وما ظهر.

هذه الحياة التي عشتها بين مسجد وكنيسة، وتعدد الاقارب من مشارب مختلفة جعلتني انظر الى الامور بمنظور مختلف واحيانًا محيير: فعند اعمامي الدين الحق، وعند اخوالي الدين الصحيح، وعند نسيبي الدين الاصح، وهكذا وجدتُ نفسي اجادل وادافع عن كلّ الاديان، كلّ يوم اتقمص  دينًا، البسه ويلبسني، واستبسل بالدفاع عنه، فكيف سيدخل اعمامي الى النار؟ وكيف سيحرق اخوالي بها الى ابد الآبدين؟ واحفادي كيف سيحرمون جنة الخلد؟ اذ أن كل فرد كان يعتقد، بكل ما أعطي من قوة ورجاحة فكر بان الجنة لطائفته فقط، وللطوائف الاخرى "جهنم وبئس المصير".

طفلة ضعتُ، انبهرتُ بالشموع وموسيقى القداديس، صبية ابتعدتُ عن الحجاب الذي سيخفي شعري الجميل، وجدت نفسي الجأ الى الفلسفة وعلم الأديان واخترت موضوع دبلوم الدراسات العليا: الاديان المقارنة، عندها غرقت في طوفان الأديان، فدخلتْ عليّ البوذية ومدارسها المتعددة، والشنتية والبابوية والبهائية والمورمونية والكثير الكثير من الملل والمعتقدات السماوية وغير السماوية.

وبعدَ التعمق والتبحرّ والتبصرّ، وتعلقي بحبال الموضوعية وتحكيم العقل، انتهيتُ الى حقيقة نسفتْ عندي كلّ ما تعلقت به من ستائر المقدّسات: الأديان هي واحدة، مصدرها واحد، تبدأ من أشور وآمون وتنتهي الى ما لا نهاية، مرورًا بالأنبياء بموسى وعيسى وخاتم الانبياء. فالعقل والدين خطان متوازيان لا يلتقيان مهما حاولتَ أن تضعف شطط العقل او أن توقدَ ومضات القلب، الدماغ للعقل والقلب للدين.

وبعد حياة امضيتُها بالجدال والدفاع، والاخذ والردّ والتنازع على الجنان، خلصتُ الى هذه الحكمة - لو سمحتُ لنفسي أن أسميها حكمة - : دعْ كلّ انسان على معتقده، لا تجادل ولا تحاول الاقناع، الاقناع بماذا؟ فكلّ الطرق تؤدي الى إحياء الانسانية في قلب البشرية.

الانتماء للانسانية هو الحلّ.

وما زلتُ حتى اليوم استيقظ على صوت الشيخ عبد الباسط وأذهب الى الكنيسة ايام الشعانين!

***

بقلم د. أميرة عيسى

النشأة، النشاط، الدور في تأكيد الهوية الجزائرية 1927-1962

بقلم: نسيم بلحاج صالح العقبي

23/01/2016

ترجمه من الفرنسية: حمزة بلحاج صالح

***

في نادي الترقي، انعقد مؤتمر نداء للهدنة المدنية و ذلك في 22 يناير 1956.. إن إسم مكان انعقاد المؤتمر" نادي الترقي " يبدو لأول وهلة لمن لا يعلم بأنه غير مهم أو يكاد يكون مجهولا وهو في الواقع اسم جمعية تم إنشاؤها في إطار ما يسمى بقانون عام 1901 ويقع مقرها الرئيسي في "9، ساحة الحكومة" (ساحة الشهداء اليوم)، بالجزائر العاصمة.

بدأ نشاط النادي سنة 1927 وتوقف خلال حرب الاستقلال، وهي الفترة التي استولى فيها الجنرال "ماسي" بالقوة على المبنى أي مقر النادي وطرد جمعية النادي، من أجل استخدامه كمقر ل" عمله النفسي السيكولوجي" ضد الجزائريين و أيضا لمبادرة نسوية مع زوجته "سوزان ماسي" و"لوسيان " زوجة الجنرال "صالان".

كان الهدف الحقيقي هو الإستيلاء على هذا المكان المهم وتحييده عن دوره الأول و حرمان الجماعة المسلمة منه في ذلك الوقت تحديدا والتي كانت بأغلبية ملتزمًة مؤيدة بشكل أساسي للكفاح من أجل الاستقلال.

إن جمعية نادي الترقي، التي أنشأتها عائلات جزائرية في القصبة السفلى حيث أماكن اجتماعهم الرئيسية، حددت لنفسها "هدف المساعدة في التعليم الفكري والاقتصادي والاجتماعي للمسلمين الجزائريين".

علما بأنه وفي هذا التوقيت كان إنشاء جمعية للجماعة المسلمة لا يختلف عن انشاء جمعية يهودية أو مسيحية، و كان أمرًا شائعًا و معهودا.

بدايات جمعية نادي الترقي في الجزائر

فور إنشائها و بدعم من شخصيات عديدة، نظمت جمعية " نادي الترقي" مؤتمرات متنوعة الموضوعات، حيث تم تناول، على سبيل المثال: "روح الإسلام"، " أهمية التعليم الثانوي للمسلمين الجزائريين"، "علم النفس التربوي (أو التعليمي) التطبيقي"، " داء الزهري آفة اجتماعية "، " عرض حول رابطة حقوق الإنسان أهدافها وفائدتها "، " داء السل وسيلة الوقاية منه "، " الزراعة "، " ممارسة الرياضة " "،.. إلخ

كانت العديد من الجمعيات تمارس أنشطتها جزئيًا أو كليًا داخل النادي ونذكر منها على وجه الخصوص جمعيات ذات النشاط الموسيقي المكثف بمقر النادي، مع الفرق الموسيقية الأندلسية التابعة لجمعية المطربية (لا ميلوديوز)، التي تم إنشاؤها حوالي عام 1911، والأندلسية (الأندلس)، المولودة في عام 1929، والتي كانت تقدم في عدة مناسبات حفلات موسيقية في القاعة الكبيرة . أما الجمعية الموسيقية الجزائرية التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1930، فمقرها الرئيسي كان بنادي الترقي ؛...

كما عقدت جمعية المدرسين من أصل جزائري "الأنديجان" (تسمية للاستعمار الفرنسي) مؤتمرها هناك يومي 3 و 4 أبريل 1928؛

كما استقرت الجمعية الرياضية " نادي مولودية الجزائر" أو مولودية الجزائر في نادي الترقي وبدأت نشاطها هناك سنة 1928، وكان سي محمود بن صيام رئيسا لها وسي الطاهر علي الشريف نائبا للرئيس. وردا على سؤال حول توافق ممارسة الرياضة مع الإسلام الذي كان يطرحه التقليديون، و غالبا ما كانت موضع استهجان من قبلهم في ذلك الوقت، حيث دعم الشيخ العقبي قادة مولودية الجزائر في نهجهم لتشجيع الأنشطة البدنية، وخاصة كرة القدم كرياضة جماهيرية، مقبولة بل متقبلة من قبل الجزائريين بل كانت من عناصر تأكيد الهوية[1].

وفي الوقت نفسه، كانت القاعة الكبيرة للنادي تُستخدم لتقديم العروض ومن الشخصيات الفنية التي قدمت عروضا هنالك، نذكر التينور محي الدين بشتارزي، ماري سوزان، ريجينا، بن شريف، رويمي، زميرو، فخارجي، رشيد قسنطيني، السلالي علي المعروف ب" علالو"، بوشارة، “الشيخ الموسيقار”، لي لي عباسي،... إلخ.

كان نادي الترقي مفتوحا أيضًا للعمل الاجتماعي كما يتضح من جمع التبرعات والاشتراكات الذي تم تنظيمه لصالح المتضررين من سوء الأحوال الجوية في الجزائر في نهاية عام 1927، وهو العام الذي تسبب فيه سوء الأحوال الجوية في أضرار جسيمة وحصد العديد من الضحايا وتشكلت بعد ذلك حملة تضامن وطنية انضم إليها النادي بحشد كل وسائله، حسبما أوردته صحيفة " ليكو دالجي " صدى الجزائر.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التنوع في الأنشطة، بدأ قادة نادي الترقي، وهم أشخاص أتقياء و متدينين يرغبون في تعميق تدخلهم، في البحث عن محاضر دائم يكون على دراية بالمسائل الدينية وهكذا تواصلوا مع الشيخ العقبي، بعد أن التقوا به في يناير 1930 في مدينة بوسعادة أثناء دفن الرسام و الفنان الذي اعتنق الإسلام، نصر الدين إتيان دينيه، حيث ألقى تأبينًا قويا ومثيرًا للإعجاب.

قدوم الشيخ الطيب العقبي الى نادي الترقي

ولد الطيب العقبي (1889-1960) في بلدة سيدي عقبة (بسكرة)، وهاجر وهو في الخامسة من عمره مع عائلته إلى الحجاز حيث، بعد تكوين متين في العلوم الإسلامية و اللغة كعالم، أصبح مستشارًا للشريف حسين الذي عهد إليه بشؤون تحرير(إدارة) الجريدة الإصلاحية الموسوم" القبلة" ؛ كما وضع تحت الإقامة الجبرية من قبل السلطات العثمانية خلال الحرب الكبرى، ثم عاد إلى الجزائر في عام 1920، وأنشأ صحيفة في عام 1927 بعنوان " الإصلاح" تميز و عرف بموهبته الخطابية وكفاحه ضد المرابطية والطرقية المنحرفة.

وبناء على اقتراح سي محمود بن صيام وسي محمد بن مرابط، تمت دعوته من قبل مجلس إدارة النادي  الذي كان يتولى رئاسته في ذلك الوقت سي المنصالي حاج "ماماد" و أظن يعنون به محمد وفور وصوله تمكن من اختطاف انظار وعقول و وجدان الجماهير.

ثم انتشرت الأفكار الجديدة للنهضة والإصلاح بقوة في العاصمة الجزائرية، مما مهد الطريق لإنشاء جمعية العلماء في مايو 1931، والتي أصبح مقرها هي أيضًا في نادي الترقي .

أصبح هذا الجمهور أكثر عددًا وأكثر تنوعًا، وسرعان ما تمتلئ القاعة الرئيسية للنادي، حيث تحضر جميع الطبقات الاجتماعية، من بسطاء الناس،و منهم لا على سبيل الحصر عمال الرصيف في الميناء، وعلى رأسهم مسؤولهم النقابي حاج نافع إلى الطبقات المتوسطة و الميسورة ماديا التي كانت في الأصل وراء تأسيس النادي بدعمها المادي و مبادرة بعض الأثرياء.

وتفيد الشهادات المختلفة إلى أن الشيخ العقبي كان يتنقل في حي القصبة ومحيطها لتشجيع الناس على عدم اليأس من الحياة؛ حيث في الواقع، كانت حالة معظم الجزائريين صعبة للغاية: الازدواج الضريبي الذي تواصل إلى غاية الحرب العالمية الأولى، والرواتب المتدنية والضعيفة دون رواتب الأوروبيين، مع حرمانهم من ممارسة بعض المهن والأعمال مما يساهم في إفقارهم أكثر.

أثار تأثير الطيب العقبي على الجماهير قلق السلطة الاستعمارية بدرجة كافية إلى أنه في فبراير 1933، تم منعه من الخطابة في المساجد بموجب ما يسمى بـ "تعليمة ميشيل". وعلى الرغم من هذه العقبة، فإن نادي الترقي كبر وذاع صيته و أشع و انتشر الوعي منه بعد فضل الله بفضل نشاط الطيب العقبي به ودعونا نذكر أن ذلك تم أيضا بفضل المؤسسين و المشاركين في تأسيسه.

تجدر الإشارة إلى ضرورة ذكر بعض الجمعيات التي تطور وأشع نشاطها مباشرة بعد تأسيسها و تنصيبها، وبعضها وجد العون والمساعدة من جهة نادي الترقي الذي اصبح مقرا رئيسيا لها أو مؤقتا نذكر من بينها جمعية الطلاب المسلمين في شمال إفريقيا، وجمعية وكلاء القضاء، والرابطة الإسلامية لمكافحة الكحول التي نشطها كل من الشيخ الطيب العقبي وعبد الرحمن جيلالي، وشركة الزكاة (التطهير) التي تم إنشاؤها في مايو 1931، والتي تهدف إلى تعزيز التعليم والتربية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين الجزائريين، والتي أنشأها بعض أعضاء النادي، وبالطبع نذكر أيضا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإصلاحية التي عقدت جمعيتها التأسيسية هناك في 5 مايو 1931 وكان الشيخ العقبي أحد أعضائها المؤسسين ثم إستقال منها عام 1938.

كما تم إيلاء أهمية خاصة لتنمية الشبيبة (الشباب)، وهي جمعية تأسست على مبدأ التربية الفكرية للشباب المسلمين دون تمييز طبقي، والتي كانت ملحقة ومرتبطة بنادي الترقي وكانت مدرسة مختلطة حيث أصر الشيخ الطيب العقبي على إدخال تعلم اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية. ومن تلاميذها نجد بوراس محمد الذي كان يحضر دروسا مسائية، علي فضي، الفنان حطاب محمد المعروف بالحبيب رضا، سيد علي عبد الحميد، المطرب عبابسة عبد الحميد، الفنان عبد الرحمن عزيز، الإمام قادة بن يوسف، عضو مؤسس مع سعد الله. بوعلام وعمر لاغا من جمعية "الكشافة الإسلامية الجزائرية" القطب (النجم القطبي)، الممثل سيساني، السيدة بوفجي شامة، معلمة ومديرة مدرسة حرة، السيدة بوزكري عزة أرملة عبان رمضان ثم زوجة سليمان. دهيليز، الخ.

أما جمعية مساعدة المحتاجين "الخيرية" التي أنشأها أعضاء نادي الترقي سنة 1933، فهي تقوم بأنشطة متعددة، مثل توزيع الوجبات على المحتاجين (التي بلغت، في فترة معينة، إلى 1200 وجبة يوميا)، مساعدات غذائية للعائلات، وصنع ملابس للكشافة المسلمة في ورش الخياطة للفتيات الصغيرات، وإنشاء ملجأ ليلي للمحتاجين في القصبة، وغيرها من الأنشطة الاجتماعية .

كما أن الشيخ الطيب العقبي هو في الأساس من كان وراء إنشاء “اتحاد المؤمنين الموحدين”[2]، المؤلف من المسلمين والمسيحيين واليهود، أي كل أهل الكتاب، بدعم من الأمين العمودي، رئيس تحرير صحيفة " لا ديفانس"  المقربة من العلماء، والصحفي هنري بيرنييه، إيلي غوزلان للجاليات اليهودية، والأب مونشانين والزوجين اللذين قام بتكوينهما كل من المهندس جان سيليس والمعمارية جين سيليس-ميلي للكاثوليك حيث تنظم الجمعية مؤتمرات ومناقشات في النادي حول مواضيع ذات اهتمام مشترك للديانات الثلاث أو ذات أهمية اجتماعية، على سبيل المثال، مؤتمر عقد عام 1939 حول خطورة استخدام "المساحيق البيضاء" والهيروين والكوكايين..

بعد الحرب، كان البروفيسور أندريه ماندوز والنقابي المسيحي ألكسندر شوليه من بين “أهل الكتاب” الذين زاروه.

وفي مقابلة أجراها يوجين مانوني مع صحيفة لوموند في يناير 1957، أكد الطيب العقبي مصرحا ما يلي: “ أود أن أشيد بالمبادرة و العمل الإنساني والأخوي البارز الذي قام به هنا [في الجزائر] ممثلو الديانات الثلاث ومنظمات المجتمع المدني”. ولا سيما  المونسنيور دوفال، الذي وصلت كلمته في الخطبة التي أعقبت أحداث 29 ديسمبر مباشرة إلى قلوب المسلمين ” [3].

وفي مقر النادي بساحة الحكومة أيضا تأسس "مؤتمر المسلمين الجزائريين" في يونيو 1936، والذي جمع كل التيارات السياسية، باستثناء نجم شمال أفريقيا مصالي الحاج، و حضره كل من العلماء ومنهم  الشيخ عبد الحميد بن باديس والحزب الشيوعي الجزائري مرورا بالدكتور محمد صلاح بن جلول الذي كان أول رئيس له، ولمين لعمودي، وعبد الرحمان بوكردنة، وفرتشوخ عمارة، وفرحات عباس، والدكتور شريف سعدان، ...إلخ.

ذهب وفد إلى باريس في يوليو 1936 لتسليم أرضية المطالب الى حكومة الجبهة الشعبية.

خلال اجتماع جديد للمؤتمر سنة 1937، برز الشيخ العقبي بهذا الإعلان: “ ضد هؤلاء المستغلين، لا يطالب الجزائريون المسلمون بمصادرة الملكية. إنهم يطلبون منهم فقط أن يعاملوا مثل الرجال. شئنا أم أبينا، هناك جزائر جديدة: إن الشباب الجزائري مصمم على الحصول على حقوقه ورضاه المشروع بكل الوسائل القانونية. و إذا استطاع المستوطنون الكبار أن يفهموا الشباب، فسنكون أصدقاء لهم. وفي كل الأحوال، فإن الإبقاء على الوضع الحالي أمر لا يطاق. فالموت بدل هذه الحياة الحزينة! »[4].

وخلال استقباله للوفد البرلماني بقيادة النائب الاشتراكي المارتينيكي، جوزيف لاغرو سيليير، شارك و أبلغ عن التطور الذي شهده الشعب الجزائري تحت تأثير العلماء ودافع عن هذه الإصلاحات التي يتعين تنفيذها في أسرع وقت ممكن: إلغاء قانون السكان الأصليين مع صيانة الأحوال الشخصية للمسلمين، حرية ممارسة العبادات الإسلامية، حرية تدريس اللغة العربية، احترام الحق في فتح المدارس المجانية.

كما عقد شباب المؤتمر الإسلامي الجزائري بقيادة لمين العمودي وحمودة أحمد وعمر عيشون أنشطته في نادي الترقي .

وقد دخل المؤتمر الإسلامي في حالة من السكون تدريجيًا بعد التخلي في نهاية عام 1937 عما يسمى بمشروع الإصلاح "بلوم-فيوليت" الذي كان يدعمه.

إن إنشاء القسم الكشفي للجزائر الفلاح (الخلاص) عام 1935 بمساعدة مشتركة من كل من الشيخ الطيب العقبي ومحمود بن صيام، قد شكل النواة والأساس لاتحاد أو فدرالية الكشافة الإسلامية الجزائرية.

كما انعقد المؤتمر و تم ذلك بالحراش أين حضر الشيخ العقبي مع صديقه التاجر سي عباس التركي، واختتم المؤتمر الأول في نادي الترقي الذي كان رئيسه في ذلك الوقت سي محمد بن مرابط[5].

عقدت الحركة معظم جمعياتها العامة هناك منذ عام 1936 حتى وفاة مؤسسها سي محمد بوراس عام 1941، وهو أيضًا عضو في مولودية الجزائر، والذي حضر مؤتمرات الشيخ العقبي ورافقه في رحلاته.

علماً أن غالبية الكشافة المنتمين إلى جماعة الفلاح جاءوا من مدرسة الشبيبة، وكانوا كثيراً ما يتواجدون في المناسبات التي يحضرها الشيخ العقبي مثل احتفالات المدرسة.

إن العديد من الأعضاء المؤسسين للفدرالية كانوا من المرتادين والمنتظمين في نادي الترقي، مثل عمر لاغا، الذي كان مشاركا مواضبا في مؤتمراتها، وأحمد مزغانة ومختار بوعزيز، مديري الجمعيات التي يرأسها الشيخ العقبي، أو أحمد حمودة وساتور حميدة، و هم غالباً المتحدثون و المتدخلون و المحاضرون في نادي الترقي ولنذكر أيضًا عمل شركة الكوكب للتمثيل المسرحي الجزائري، وهي جمعية لترقية المسرح الجزائري برعاية و تزكية و تشجيع كل من الشاعر المناضل مفدي زكريا و الشيخ الطيب العقبي و التي اتخذت من نادي الترقي مقرا لها.

وأخيراً تشكلت “لجنة الدفاع عن فلسطين” سنة 1949 برئاسة الشيخ العقبي، ومشاركة العمودي والمفتيان الشيخ بابا عامر والشيخ عاصمي محمد وسي محمود بن صيام والمندوب بشير بن يدجرة عضو اتحاد البيان الجزائري. (UDMA) للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

وتم إرسال برقية إلى روبرت شومان، وزير الخارجية وصاحب مبادرة بناء الاتحاد الأوروبي، لاطلاعه على عمل اللجنة.

كما حضرت اللجنة و أعدت للمهمة التي قادها الشيخ العقبي عام 1950 إلى القدس مع الصحفي محمد بن حورة، وولي الفنان و الرسام " بايا"، وعالم الإسلاميات لويس ماسينيون، بهدف الحصول على الحقوق المعترف بها على الحبوس الجزائري ل" سيدي بومدين " والتعبير عن تضامن الشعب الجزائري ودعمه للقضية الفلسطينية. وبمناسبة هذه الرحلة، ألقى الشيخ الطيب العقبي خطبة في مسجد عمر، في الخليل وعمان.

بعض مواقف الشيخ الطيب العقبي

وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق في نهاية الثلاثينيات، لم يكن بوسع الشيخ العقبي، رجل الدين، إلا أن يشجع الجهود من أجل الوئام والسلام؛ كما سيُظهر علنًا دعمه لجهود السلام التي كانت فرنسا تنشرها آنذاك بالنسبة لهذه القضية، وذلك بإرسال برقية موجهة إلى الشعب الفرنسي باسم " نادي الترقي "، وهي مبادرة ستؤدي إلى النأي بنفسها عن العلماء الذين يعتقدون أن الحرب لا تعني الجزائريين. وقد استلهم هذا الموقف من ذكرى الحرب الكبرى التي شهدت، في 11 نوفمبر 1918، تواجد 260 ألف جندي مسلم "تحت الأعلام"، ومقتل 35900 رجل هناك[6]. وإذا كان الشيخ الطيب العقبي قد شارك السراب و الأوهام التي وضعتها اتفاقيات ميونيخ، فإنه لم يبد قط أدنى تساهل او تعاطف تجاه النازية والفاشية، وهي مذاهب تتعارض في نظره مع قيم الإنسان، وهي مصدر صراع كلف حوالي 60 مليون من الموتى، مع كون السكان غير الأوروبيين في غير منأى.

بمجرد بدء الأعمال العدائية، أثناء محاولته الحفاظ على مصالح الجزائريين، رفض الشيخ الطيب العقبي بوضوح دعم تشريع فيشي المناهض لليهود على الرغم من طلب الحكومة العامة في هذا الإتجاه بل على العكس من ذلك، فهو يرغب في التوقيع على إدانة قوية معارضة للغاية كتبها المحامي أحمد بومنجل الذي دافع في ذلك الوقت عن نشطاء حزب الشعب الجزائري .

ويؤكد هنري أليغ أن الشيخ الطيب العقبي، إيمانًا منه بمفهومه للتضامن بين أهل الكتاب، عارض محاولة إدارة فيشي الاستعمارية تحريض المسلمين على القيام بأعمال ضد اليهود، وأمرهم على العكس بعدم المشاركة في الأعمال العدائية. التي أدانها الدين.

وقد كان هذا الموقف الأخلاقي متسقاً ومتوافقا مسبقاً مع المتطلبات التي كرّسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد عام 1948، حيث نص على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه" (المادة 1). 3)، وأنه " لا يجوز حرمان أحد من ملكه تعسفاً " (المادة 17).).

من نهاية عام 1943، شكلت و تكونت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني و في الجزائر بالعاصمة وفي يونيو/حزيران الماضي، تحت سلطة الجنرال جورج كاترو، لجنة للإصلاحات الإسلامية تُدعى إليها جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب الشعب الجزائري والذي أصبح في عام 1946حركة انتصار الحريات الديمقراطية مع مصالي الحاج، و اتحاد مع فرحات عباس والعلماء وشخصيات من المجتمع المدني. و كان عضو هذه اللجنة الشيخ الطيب العقبي و هو الوحيد الذي اقترح على السلطات إطلاق سراح مصالي الحاج " الذي يمثل حزبه أغلبية الشعب الجزائري" ويقدر أن غيابه سيكون ثغرة كبيرة في عمل اللجنة (و هو الذي استمعت اليه اللجنة في النهاية خلال دورتها و جلساتها التاسعة).

و لقد أيد الشيخ الطيب العقبي بدوره مقترحات فرحات عباس وهيئة العلماء والشيخ بيوض.

وفي جلسة الاستماع الى الطيب العقبي، دافع عن إلغاء القوانين الاستثنائية والوضع الأصلي" الانديجينا "، والفصل بين الدين والدولة (حيث ظلت العبادة الإسلامية تدار من قبل الإدارة، على عكس اليهودية والمسيحية التي استفادت من نظام قانون عام 1905)، والمساواة في الحقوق لجميع الجزائريين، والحقوق السياسية دون استثناء مع الحفاظ على الأحوال الشخصية للمسلمين، والوصول إلى جميع مناصب السلطة، والمساواة في عدد المندوبين مع الأوروبيين في المجالس الجزائرية، وحق المواطنين المتجنسين في العودة إلى الأحوال الشخصية الاصلية " مسلم"...

كما استلهم التقرير النهائي نهجاً مماثلاً، واستحضر أيضاً التفاوت غير المبرر في الرواتب أو الأجور العسكرية بين الأوروبيين والمسلمين المنخرطين في نفس الحرب.

إذا جاءت متأخرة خطوات التقدم المدني بالنسبة لأمرية 7 مارس 1944 "المتعلقة بوضع المسلمين الفرنسيين في الجزائر" و التي أبطلتها بسرعة (مجازر قسنطينة) في مايو ويونيو 1945، ثم بسبب التزوير الانتخابي الذي نظمته الإدارة الاستعمارية، فإن لجنة إصلاحات 1944، كما هو الحال مع المؤتمر الإسلامي لسنتي 1936-1937، كان لها على الأقل ميزة إظهار قدرة الشخصيات الجزائرية على تأكيد آرائها وتقديم مطالبها إلى السلطات من أجل النهوض بحقوق الإنسان بطريقة سلمية ومنظمة.

في عام 1947، كان للشيخ الطيب العقبي، في جريدته الإصلاح، السبق في مواصلة النضال من اجل حق تقرير المصير : “لا وصاية، ولا محمية، ولا استعمار، ولا حيازة، لبلد أو أمة دون رضاها […]، بل حرية”. اختيار المصير لجميع الشعوب، كما أن استقلال أي أمة، مبدأ ثابت في عالم اليوم، وهو حق مقدس في نظر أي أمة[7]. » .

لم يتم الاستماع إلى الفاعلين السياسيين في ذلك الوقت، وجاء جيل آخر وجعل صوته مسموعًا بطريقة أخرى في الأول من نوفمبر عام 1954.

من نداء الهدنة المدنية إلى الجزائر جزائرية

قبل يومين من مؤتمر 22 يناير 1956، وفي مواجهة التهديد المعلن بتدخل عدائي من قبل الألتراس، كان على اللجنة التي كانت أصل الدعوة إلى هدنة مدنية أن تلاحظ أن جميع القاعات الأوروبية كانت مغلقة أمامها. وكان المكان الوحيد الذي يمكن أن يلبي المتطلبات الأمنية ويتوافق مع روح هذا الاجتماع هو قاعة " نادي الترقي" التي اقترحها أعضاؤها من أصل مسلم على اللجنة.

ومما لا شك فيه أن الرمزية الفرنسية الجزائرية لهذا اللقاء تعززت بشكل كبير من خلال هذا الاحتجاز على حافة القصبة ومن خلال ذكرى المظاهرات المتعددة سواء للتأكيد على الهوية الجزائرية أو للحوار بين المجتمعات التي رحب بها النادي. كان عمر عيشون، عضو " نادي الترقي " وجبهة التحرير الوطني، مسؤولا عن الأمن في مكان انعقاد المؤتمر، يساعده في الخارج نشطاء جبهة التحرير الوطني. وعلى الجانب الجزائري، كل شيء جرى بهدوء، دون أي تجاوزات. وهكذا تمكنت خدمة الشرطة التي حشدتها الإدارة من احتواء المتظاهرين المناهضين للاجتماع هذا " الألتراس" .

ومن خلال الضغط الذي مارسوه على السلطات على أعلى مستوى خلال السادس من فبراير/شباط تباعا، فإنهم بلا شك قد نجحوا في حجر نداء للهدنة لم تبدي حكومة "موليه" أدنى متابعة له أو رد عليه. ومع ذلك، يبقى الفضل لأولئك الذين سمحوا على الأقل بإطلاق هذا النداء في 22 يناير 1956 والذين من بينهم الشيخ الطيب العقبي، الذي كان هذا آخر ظهور علني له.

وفي وقت مبكر من عام 1955، ومع عدم وجود و لو وهم و سراب لمنفذ و مخرج سلمي وحول احتمالات التوصل إلى نتيجة سلمية، أعلن الشيخ الطيب العقبي ل"روبرت بارات" قائلا: " إن وجود غاندي مستحيل في الجزائر... ولو وجد لقتلوه"

وفي بداية عام 1956، إنضم معظم أتباع الطيب العقبي و نادي الترقي إلى جبهة التحرير الوطني وبعد بضعة أشهر، في 14 و15 سبتمبر، انعقد بمقر نادي الترقي (وتحت مسؤولية هذه المرة سي محمود بن صيام) المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للتجار الجزائريين، وهو منظمة تابعة لجبهة التحرير الوطني يرأسها المقربون من الشيخ الطيب العقبي ومنهم سي عمر عيشون رئيسا وسي عباس تركي نائبا للرئيس.

من خلال التسخير و الاستيلاء على مقر" نادي الترقي" في 1 يونيو 1958، لم يستطع الجنرال ماسو أن يتجاهل بأنه كان يحرم الجزائريين مما كان منتداهم المدني والثقافي الرئيسي لمدة ثلاثين عامًا.

أما البقية فهي متوقعة وكانت منتظرة ومعلومة و هي: علي بومنجل، هذا المدافع عن القانون مثل شقيقه أحمد بومنجل، الذي تم طرده من النافذة من قبل الجنرال أوساريس الذي كان النائب المباشر للجنرال ماسو .

كان الجنرال راؤول سالان زعيم المنظمة العسكرية السرية سيئة السمعة ومن خلال سياسة الأرض المحروقة "، يريد خلق واقع مأسوي لا يمكن علاجه وتدمير كل العلاقات الطبيعية والإنسانية التي تربط ما بين المجتمعات، الأمر الذي دفع الأوروبيين في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد خيار آخر غير "الحقيبة أو التابوت".

كان رينيه سينتيس، أصغر أعضاء لجنة الهدنة المدنية، من بين ضحايا هذا المشروع الإجرامي الذي استطاع الأب سكوتو أن يقول عنه: " حتى أنفاسي الأخيرة، سأحقد و أكره المنظمة العسكرية السرية باعتبارها منظمة إجرامية. ليس فقط لأنها قتلت قلب الشعب الذي أنتمي إليه، بل قتلت قلب شعبي المكون من الأقدام السوداء.

بل لقد اغتصبتهم " المنظمة المسلحة السرية " هذا الشعب يستحق أفضل مما تعرض إليه" [8].

في 12 أغسطس 1962، أعاد نادي الترقي تثبيت مقره الذي أعيد إليه رسميا بالعنوان 9 ساحة الحكومة القديمة .

معرض سرد تاريخ هذا المكان، لن يفوّت عمر عيشون، الذي أصبح رئيسا له، أن يذكر، باسم الجزائر الجديدة، المؤتمر الأخير في الجزائر العاصمة، في عام 1956، لمواطننا الراحل ألبير كامو[9].

***

.....................

الهوامش

[1] انظر رابح سعد الله وجمال بن فارس، روعة المولودية 1921-1956، طبعة العثمانية، الجزائر، 2009؛ اسم النادي بالطبع يشير إلى مولود، يوم ميلاد النبي.

[2] إذا كانت الجمعية قد أنشئت عام 1935، فقد انعقدت مؤتمرات حول التوحيد، أي الإسلام والمسيحية واليهودية، في عام 1933، خاصة مع هنري بيرنييه.

[3] تأتي هذه الخطبة بعد أعمال انتقامية خلفت مئات القتلى من المسلمين. المواقف المتكررة للمونسنيور ليون إتيان دوفال، رئيس أساقفة الجزائر العاصمة، ضد العنف والدفاع عن حقوق المسلمين، أدت إلى زيادة الإهانات والتهديدات من قبل الألتراس الذين أطلقوا عليه لقب "محمد دوفال"."

[4] ومما يزيد من شجاعة هذه الكلمات أن العقبي كان آنذاك تحت المراقبة القضائية بتهمة التحريض على قتل المفتي الكبير بندلي عمر، الذي قُتل في 2 أغسطس 1936، وهي قضية لم تتم تبرئته فيها. من قبل المحكمة الجنائية بالجزائر العاصمة فقط في يونيو 1939.

[5] انظر محمد درويش، في المدرسة الكشفية الوطنية، جامعة فلسطين، الجزائر، 2010.

[6] بناء على تقرير مجلس الاتحاد الفرنسي رقم 131 لسنة 1952.

[7] نقلا عن أحمد مريوش، الشيخ الطيب العقبي ودوره في الحركة الوطنية الجزائرية، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، 1993.

[8] أندريه ماندوز، نقلا عن عيسى قادري في" المدرسون والمعلمون في الجزائر 1945-1948: التاريخ والذاكرة "، باريس، طبعات كارتالا، 2014.

[9] الإرسالية الجزائرية (لاديبيش دالجيري).

حلت يوم أمس الجمعة الذكرى السنوية الثانية لرحيل الشخصية الثقافية الوطنية الفلسطينية الشاعر، الكاتب، الباحث والدارس حنا ابو حنا (1928- 2/2/ 2022). فيما يلي نشير إلى ما خلّفه من تراث أدبي توزّع على مجالات مختلفة من الابداع الشعري والنثري، وعُرف خلال ما ربا على السبعين عامًا، هي عمر عطائه الادبي المشهود له لدى القاصي والداني من الباحثين والدارسين وشداة الادب العرب والاجانب على حد سواء.

البدايات- الحياة، الثقافة والانتاج الادبي الثقافي: ولد حنا امين ابو حنا في قرية الرينة عام 1928، وكان مولده لعائلة متعلّمة عُرف ابناؤها بميولهم الثقافية العامة، ونبَه فيها العديد من الكتاب والفنانين، نشير منهم إلى قريبه الكاتب الاستاذ اكرم ابو حنا، وهو صاحب العديد من القصص القصيرة، التي لم تنشر في كتاب وقد قام حنا ابو حنا بإصدار عدد من قصص قريبه اكرم في كتاب حمله عنوان "قوت الآخرين" واصدره عام 1981. كما نشير من ابناء عائلة ابي حنا إلى الفنان هشام ابو حنا نجل اكرم وقد انتج عددا من الاعمال الفنية الموسيقية بعد ان قام بكتابتها ووضع الحانها وتم عرضها برعاية جمعية "غوايش" التي أسسها ورعى نشاطاتها خلال العديد من السنوات الماضية، كما نشير من ابناء عائلته الى الكاتبة المثقفة السيدة رنا ابو حنا- ابنة المرحوم المحامي المعروف انيس ابو حنا. عمل والد حنا ابو حنا امين ابو حنا، في مجال مساحة الاراضي، لذا تنقّل في طفولة نجله حنا بين العديد من المدن والبلدات، ما تسبب في تعدد الاماكن و المدارس التي تلقى حنا تعلّمه فيها. دراسة حنا في مرحلتها الثالثة كانت في مدرسة الناصرة الثانوية، اما دراسته العليا فقد تمت في جامعة حيفا حول موضوع الادب الانجليزي وحصل من هذه الجامعة على اللقب الثاني في موضوع دراسته هذا. لن نشير هنا الى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالفقيد، ونكتفي بالاشارة الى انه عمل فترة من عمره محاضرا في جامعة حيفا التي درس فيها حتى اللقب الثاني، كما عمل المرحوم محاضرًا في كلية التربية – دار المعلمين العرب في حيفا، ويذكر انه عمل ردحًا من عمره مديرًا للكلية العربية الارثوذكسية في حيفا، وقد تواصل عمله فيها حتى تقاعده من منصبه مديرا لها عام 1987. وضع حنا في حياته المديدة (94 عاما)، العديد من المؤلفات التي توزعت على انواع ادبية متعددة هي: الشعر، البحث الادبي والدراسة، اضافة الى ادب السيرة الذاتية وادب الاطفال. اعتُبر حنا ابو حنا منذ بدايات وعيه الاولى واحدًا من الشعراء والادباء اليساريين وقد كتب الشعر السياسي الوطني وردد اشعاره العديد من ابناء جيله وزملائه من اعضاء الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ومما يذكر له هنا هو انه كان من اوائل من كتبوا شعر التفعيلة في بلادنا وربما خارجها، كما يذكر له انه دفع لقاء مواقفه غير المهادنة مع السلطات الاسرائيلية، ثمنا عمليا تمثل في دخوله السجن عام 1958. حصل المرحوم على العديد من الجوائز لعلّ اهمها جائزة منظمة التحرير الفلسطينية في مجال ادب السيرة الذاتية، لقاء كتاب سيرته الذاتية "ظل الغيمة" عام 1999، ولقب عزيز حيفا، وهي المدينة التي اقام فيها جنبا الى جنب برفقة ابناء عائلته وهم: زوجته ورفيقة دربه السيدة سامية فرح من شفاعمرو. ابنته رباب، وابنته الصحفية أمية أبو حنا ونجله الاكبر والوحيد الذي حمل اسم جده البروفيسور أمين أبو حنا. ومما يذكر في هذا السياق ان الكاتبين بطرس ابو منه وجوني منصور بادرا عام 2005 لإصدار كتاب تكريمي للمرحوم حنا ابو حنا حمّلاه عنوانًا دالا ومُعبرًا هو "زيتونة الجليل".

الشاعر حنا ابو حنا، عندما قال محمود درويش منه تعلمنا ترابية القصيدة: عُرف حنا أبو حنا منذ سنوات ما بعد عام النكبة 1948، بقصائده الوطنية النارية الملتهبة، ويذكر كاتب هذه السطور أن عددًا من زملائه ومجايليه الشيوعيين، منهم الناشط المثقف المرحوم سهيل نصار، رددوا اكثر من مرة امامه قصائده في مقدمتها قصيدة حنا ابي حنا التي اشتهرت في بدايات شبابه الاول وحملت عنوان "عشر سنين". عمل حنا مُحرّرًا وكاتبًا في العديد من منشورات الحزب الشيوعي مثل صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، مجلتا "الجديد" و"الغد" وكان واحدا من مؤسسي مجلة "المواكب" وبعدها "مواقف". ونشر اوائل اعماله الشعرية في منشورات الحزب الشيوعي، ومما يُسجّل له أن أبناء جيله وابناء الجيل التالي لجيله طالما رددوا قصائده واشعاره واهتموا بها وربما تعلّموا منها. "من الشاعر حنا ابو حنا تعلمنا ترابية القصيدة"، بمعنى انتمائها وبراءتها( التوضيح مني)، قال الشاعر الراحل محمود في اكثر من مجلس ومحضر. مع الاهتمام الذي حظي به الانتاج الشعري الاول لشاعرنا، لم يبادر هو ذاته لإصدار مجموعته الشعرية الاولى، وإنما جاءت المبادرة المفاجئة له، كما ذكر هو ذاته خلال حديث خاص معه، من دار نشر في عمان قامت بجمع عدد من قصائده الاولى وأصدرتها ضمن مجموعة شعرية تُعتبر مجموعته الأولى في مجال القول الشعري، وقد حملت تلك المجموعة عنوانًا معبرًا ومؤثرًا ومتماشيًا مع تلك الفترة هو " نداء الجراح"، وكان ذلك في عام 1969. بعد حرب الانتكاس العربية عام 1967 بعامين، وبعد هذه المجموعة الشعرية كتب حنا واصدر عددًا من المجموعات هي على التتالي: "قصائد من حديقة الصبر"- صدرت عام 1988. "تجرّعت سمك حتى المناعة"- 1990. و"عرّاف الكرمل"- 2005. ترجم حنا عددًا من قصائك الشعر الروماني واصدرها عم 1953 تحت عنوان هو " الوان من الشعر الروماني"، وكان قد قام عام 1951 بترجمة ونشر كتاب في مجال ادب الاطفال حمل عنوان" ليالي حزيران". هذان الكتابان مثلا تجربته الاولى والاخيرة في مجال الترجمة من أيٍّ من اللغات الاجنبية. غلبت على اشعار المرحوم لا سيما في بداياتها الاولى روح رومانسية ثورية شعبية، وهو ما جعل الكثيرين يحفظونها في رأيي ويردّدونها عن ظهر قلب. في مجال القول الشعري يُذكر أن فقيدنا أصدر عام 1991 كتابًا حمل عنوان " ديوان الشعر الفلسطيني". وأذكر أنني سألته ذات لقاء لي به عن سبب كتابته الشعر التقريري المباشر في تلك الفترة، فأجابني قائلًا: إنني وأبناء جيلي تنازلنا عن شيء من فنية الكتابة الشعرية لمصلحة قضيتنا الوطنية، وما تطلّبته من تنازلات كان لا بد منها لمواصلة المسيرة الصعبة والمشاركة الفعالة فيها.

الباحث الدارس، بين الانتماء والتأصيل: يبدو أن عَمل الفقيد في مجالات التعليم المختلفة قد أثّر على توجهه الادبي العام، فبادر خلال رحلته الثقافية الثرية، لإصدار العديد من الابحاث والدراسات التي حمّلها عناوين معبرة، ووجهها إلى الابناء والاحفاد ضمن محاولة واعية لتعزيز الانتماء وتأصيل الوجود لأبناء شعبه العربي الفلسطيني عامة ولأبناء شعبه الباقين في بلادهم خاصة. فيما يلي نورد ثبتا نرجو أن يكون شاملًا ووافيًا لما انتجه من مؤلفات وتحقيقات في هذا المجال ابتداء من كتابه الاول فيها حتى الاخير. تقول السيرة الذاتية لفقيدنا إن كتابه الاول في هذا المجال صدر عام 1977 بالاشتراك مع المثقف المرحوم سامي جرايسي- ابن مدينة الناصرة، حمل عنوان " من مشاكل التعليم في القطاع العربي". بعد هذا الكتاب تتالى صدور كتبه ومؤلفاته على النحو التالي: "عالم القصة القصيرة"- صدر عام 1979. "الادب الملحمي"- 1983. وهما كتابان موجّهان لطلبة المدارس تحديدًا. رواية "مفلح الغساني" للكاتب الصحفي- صاحب جريدة "الكرمل"، نجيب نصار- تحقيق وتقديم - صدر عام 1985. "روحي على راحتي"- تحقيق وتقديم لديوان الشاعر الفلسطيني شهيد معركة الشجرة عام 1948 عبد الرحيم محمود- صدر عام 1985. "ثلاثة شعراء"- وضم معلومات عن عدد من الشعراء الوطنيين- هم: ابراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي - ابو سلمى، صدر في العام ذاته 1985. "دار المعلمين الروسية" في الناصرة- 1994. "رحلة البحث عن التراث" – اعداد وتقديم – 1994. "مذكرات نجاتي صدقي"- صدر عام 2001. و"فستق أدبي"- صدر عام 2004.

حنا ابو حنا، كاتب السيرة الذاتية المجلي: أراد الشاعر الكاتب حنا ابو حنا على مدار حياته الادبية الثقافية، أن يقدّم شهادة متابع مهتم ومشارك في هذه الحياة، لذا حرص على ما يبدو عندما شرعت السبعينيات من عمره في طرق باب حياته، بكتابة سيرته الذاتية. وقد بدأ في اواسط التسعينيات بكتابة مؤلفه السيري المتميز " ظلّ الغيمة"، وبادر بإرسال فصولها الاولى لنشرها في صحيفة "الصنارة" التي عملت آنذاك محرّرًا ادبيًا فيها، فقمت من فوري بنشر تلك الفصول، متجاوزًا تعليمات هيئة التحرير وتوجيهاتها ومُخصّصًا لأول مرة في تاريخ عملي ذاك صفحتين كاملتين لنشر كلٍّ من تلك الفصول، وقد توقّعت في حينها أن تعارض هيئة التحرير تجاوزي هذا، غير أن ما حدث هو أن صاحب الصحيفة ورئيس تحريها إبّان تلك الفترة، الكاتب الصحفي لطفي مشعور طابت ذكراه، دعاني إلى مكتبه الخاص مستقبلًا اياي بابتسامة عريضة مشجعة وتقريظ كبير لنشري تلك الفصول. بعد فروغ حنا من تأليف كتابه هذا، وكان ذلك عام ١٩٩٧ تحديدًا قام بإصداره بصورة خاصة. بعد ذلك تتالت الطبعات منه، وقد اهل هذا الكتاب مؤلفه المرحوم حنا ابو حنا للحصول على جائزة فلسطين للسيرة الادبية وتم ذلك عام 1999. بعد ثلاثة أعوام من صدور مؤلفه هذا صدر جزآه الآخران وهما: "مهر البومة" و"خميرة الرماد".

الكتابة للأطفال بشتى الألوان: عام 2001 تحديدًا عمّق حنا رؤيته التثقيفية الانتمائية التأصيلية، وقرر التوجّه إلى أبناء الاجيال التالية من أطفال وفتيان، فاتحًا لهم ابواب الخيال والتراث العربي المسلّي المثقف، المنور والمفيد، وكان أن اصدر كتابه الأول في هذا النوع الادبي الهام جدًا، كما تقول تجارب الشعوب المتقدمة ايضا، فأصدر بالتعاون مع "مكتبة كل شيء" الحيفاوية ومديرها الصديق المثقف صالح عباسي، كتابه الاول في هذا المجال محمّلًا إياه عنوان "احمر اخضر"، وقد أصدر في العام ذاته عددًا من المؤلفات الموجّهة للأطفال والفتيان هي: "أرنوب وفرفور"، "أصابع ديما". "قطتي أميرة". في العام التالي صدر له كتاب " سر الملك كيسار". في عام 2004 صدر له "اوراق خضراء". وبعد هذا الكتاب بعامين، عام 2006 صدر كتابه الاخير الموجه للأطفال والفتيان وحمل عنوان "ملك الغابة".

***

ناجي ظاهر

نجد أن الإمام محمد أحمد المهدي الذي كان يرى أن” إمامته أو مهديته صمدية لا تتكرر، ولا يأتي بعده إلا الدجال والنبي عيسى عليه السلام، وأن إمامته تجمع بين إمام الشيعة المعصوم وشيخ الصوفية الملهم، لذلك فإنه فوق كل أصحاب الطرق والمذاهب، لذا قام السيد المهدي بإصدار منشور في أواسط سنة 1301ه/أوائل عام 1884م أبطل فيه العمل بالمذاهب الأربعة، وكان يرى أن كل ما كُتب من إجماع وقياس وتفاسير تناول مسائل فرعية لا قيمة لها من حيث الأركان الأساسية للعقيدة الإسلامية، كما قام السيد المهدي في نفس المنشور بإبطال الطرق الصوفية، وقد هدف السيد المهدي من إلغائه للعمل بالمذاهب وإبطاله للطرق الصوفية، إلى وقف الخلاف بين المسلمين، وقد أشار إلى ذلك بقوله:”  تعددت الطرق واختلفت حتى ظنّ أن كل شيخ يقوم بتأسيس دين جديد وأن غيره من زعماء الطرق خارج عن الدين وحتى ضلّ القوم ضلالاً مبيناً وأصبحوا يوجهون أنظارهم لمشايخهم بدلاً من ينبوع الدين والعرفان الأصيل القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومما يذكر أن السيد المهدي كان قد مهّد في بعض منشوراته السابقة إلى مسألة إلغاء العمل بالمذاهب وإبطال الطرق الصوفية، كما يشار إلى أن المهدية قد استندت إلى أسس الطرق الصوفية وعددها ستة وأضافت إليها أسسها الذاتية وعددها ستة أيضاً، وصارت المهدية بذلك تقوم على أثني عشر أساساً، فأصبحت أعلى وأسمى من الطرق، وأوسع منها وكان إلغاء الطرق تمشياً مع هذه الفكرة”.  هذه الحقيقة التي أوردناها تحتم علينا الحديث عن مشرب الإمام لفكرة المهدية، واتجاهه وتعامله نفسه مع هذه الفكرة، فقد اكتسب هذا المشرب الاتجاه الصوفي بحكم طبيعة الطرق الصوفية التي كانت سائدة في ذلك العهد، ولعل من الدلائل والمؤشرات التي تؤكد أن تناول محمد أحمد لفكرة المهدية جاء نابعاً من تصوفه أن محمد أحمد المهدي” كان يكرر القول بأن العلماء لا يدركون مهديته بمقاييسهم العلمية وإنما يدركها أهل البصائر، وحين ولادته عرفه أهل الباطن والحقيقة لا العلماء.

عدد المهدي نفسه الروافد الصوفية وروافد المهدية في حركته في القول الذي أورده على لسان الشيخ الطيب في وصف حضرة تنصيبه فقال:” الطريقة فيها الذل والانكسار وقلة الطعام وقلة الشراب والصبر وزيارة السادات، فتلك ستة، والمهدية أيضاً فيها ستة: الحرب والحزم والعزم والتوكل والاعتماد على الله تعالى واتفاق القول فهذه الاثنا عشر لم تجتمع لأحد إلاّ لك”، وهكذا يوضح ما هو من أصل المهدية وما هو آت من التصوف، ثم لاحظ أنه يسمي حركته”  الطريقة” مما يثبت قولنا بأنه كان يدير حركته في أول الأمر على نمط طريقة صوفية، وكما ترى فان نصف الروافد صوفية، وضعه لراتب وحزب قرآني، والعناية بالتسبيح والبسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأدعية على نحو ما يفعل الصوفية.

اعتماده البيارق، والبيارق التي رفعها هي بيارق صوفية، وقد كتب في كل راية من الرايات الأربعة اسم قطب من الأقطاب، وتحمل هذه الراية لون طريقة القطب، والراية الخامسة هي راية المهدي، ولونه أبيض وقد كتب فيها اسم المهدي، وهكذا يضع المهدي نفسه صنواً للأقطاب، كما أن تصوراته صوفية في كثير من أحواله وقد اعتمد على الرمز كثيراً عند توضيح الأمور، وأيضاً تسمية أعوانه في الأقاليم في أوائل المهدية خلفاء على نحو خلفاء الطرق، وأيضاً القول بالحضرات ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأن الأولياء يخبرونه بأمور، والقول بأسرار للأمور لا يراها إلا الخاصة، وأيضاً مما يبرهن أن مهدية محمد أحمد نابعة من توجه صوفي محض قوله بجنة للعامة وهي ملذات الآخرة وبجنة للخاصة وهي التمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وأيضاً بتفسيره الباطني للقرآن والقول بالتوكل المطلق في كل أمر”.  بناء على ما تمّ ذكره نجد أن الإمام المهدي رحمه الله شديد الإيمان بحقه في الإصلاح، شديد الحرص على أن يظل هذا الحق واقفاً عليه لا يتعداه لغيره، والإمام المهدي رحمه الله وأنصاره مهرة في فهم هذه الحقوق التي تتجلى قدرتهم على التوفيق بين متناقضاتها، والجمع بين متبايناتها، ولا نستطيع أن نفرغ من هذا الحديث دون أن نأتي بتعريف موجز عن الإصلاح العقدي  الذي هو عبارة عن “تلك المعارف التي تشرح وتفسّر حقائق عالمي الغيب والشهادة في ذهن المسلم بشكل منهجي ويقوم على ربط المعارف المتعلّقة بحقائق الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من عالم الغيب، وربط المعارف المتعلّقة بحقائق الكون والحياة والإنسان، من عالم الشّهادة بخالقها ليقوم المسلم بأداء الواجبات المطلوبة من على خير قيام، حتى يتجنب العذاب في الدارين أو يحيى بحياة طيبة في دنياه وآخرته.

كان هدف الإمام المهدي الذي كان مريدوه يعتقدون أنه لا ينطق إلا عن ميراث حكمة، وأحاديثه قد صُبت فيما هو أشبه بقوالب العصمة، أن يحكم شريعة الله في الأرض، ويحرر بنو جلدته من رهق الاستعمار، يقول سيد قطب معلقا على معنى حكم الجاهلية في الآية أنها: “حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية اللّه، ورفض ألوهية اللّه، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون اللّه، والجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع، هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدا،  فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والناس في أي زمان وفي أي مكان إما أنهم يحكمون بشريعة اللّه ويقبلونها ويسلمون بها تسليما، فهم إذن في دين اللّه، وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر ويقبلونها، فهم إذن في جاهلية وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين اللّه، والذي لا يبتغي حكم اللّه يبتغي حكم الجاهلية والذي يرفض شريعة اللّه يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية”.

كما سعى المهدي بعد أن دانت له الأمور أن يكبح جماح الطرق الصوفية التي أضحى عددها في تنامي وازدياد، وأن يعزز النفوذ والسيطرة لطريقته التي سعى أن تحدث في المهج موضع الإعجاب والفتنة، وأن يقطع دابر التعلق بتلك الطرق التي ناصبه شيوخها العداء، كما أن منشوره الذي أصدره يجعلنا في حالة ذهول من كثرة تلك الطرق، الأمر الذي يحفز خيالنا للاعتقاد بأن سودان القرن التاسع عشر لم تطف في صقع فيه أو واد إلاّ وجدت ناسكاً أو واعظاً يدعو لنصرة طريقة، أو اتباع شيخ جليل.

***

د. الطيب النقر

 

(1937 – 2023) Robert Lucas

يعتبر روبرت لوكـَسْ رائد النظرية الكلاسيكية الجديدة في الاقتصاد الكلي، والاقتصادي الذي طور نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectations Theory، التي حاز بموجبها على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1995. وبهذا اصبح الاقتصادي الاهم في تطور جانب النظرية الكلية خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

ولد روبرت لوكـَسْ عام 1937 في مدينة ياكيما في ولاية واشنطن في اقصى الغرب الامريكي، وكان الابن الاكبر من بين أربعة اطفال. كان والداه يديران محلا للمرطبات والآيسكريم. ولكن بعد ان ضرب الكساد العظيم الاقتصاد الامريكي ضربات موجعة في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، اصبحت سلعة المرطبات من قبيل السلع الكمالية الباذخة بالنسبة لغالبية عملاء المحل، مما قلل من مبيعاته للحد الذي لم يعد ممكنا المضي في تحمل كلفة التشغيل، فاضطر الوالدان لغلق مورد عيشهما الوحيد والرحيل الى مدينة سياتل سعيا وراء ايجاد عمل مناسب في تلك المدينة الكبيرة.  في سياتل اشتغل الوالد عاملا في احد مصانع السفن. ومع تطور خبرته، ترقى ليعمل في القسم الميكانيكي لاحد مصانع الثلاجات واجهزة التبريد.  يقول روبرت ان مهارة والده في ميكانيك التبريد تطورت سراعا حيث أهلته ان يصعد السلم الوظيفي بسرعة ويقوم مقام المهندس رغم انه لم يدرس الهندسة. وبمرور السنين في مصنع الثلاجات اصبح الوالد مديرا للمبيعات مدة من الزمن ثم ترقى الى المدير العام للشركة، وهو العامل المسلكي الذي التصق بالشركة سنينا طوال وفي ظروف ازدهارها وانكماشها على السواء. أما والدة روبرت ففد اشتغلت في تصميم وخياطة الملابس النسائية.

دخل روبرت مدارس سياتل العامة وتخرج عام 1955 من نفس المدرسة الثانوية التي تخرج فيها والداه عام 1927، أي عشر سنوات قبل ميلاده. كانت امنية الوالدين لابنهما البكر ان يدخل كلية الهندسة في جامعة واشنطن في سياتل، لكنه وكأي شاب في ذلك العمر أراد ان يخرج من بيت عائلته ويسعى للدراسة في ولاية اخرى ليشعر بالاستقلال والحرية. لكن ذلك يعني ان عليه ان يتدبر امر التكاليف الدراسية خارج ولايته. والامل الوحيد لذلك هو ان يحصل على منحة دراسية من جامعة ما في ولاية اخرى. وهكذا استطاع الحصول على منحة دراسية من جامعة شيكاغو. ولان دراسة الهندسة غير متوفرة في جامعة شيكاغو آنذاك، كان عليه ان يستغل فرصة المنحة الدراسية ويفكر باختيار حقل دراسي آخر.            يقول انه ترك التأمل في هذا الامر لحين ان يستقل القطار الذاهب شرقا من سياتل الى شيكاغو حيث تستغرق الرحلة 44 ساعة. وفعلا فقد حسم الامر مع نفسه خلال تلك الرحلة الطويلة باختيار دراسة التاريخ. عند تخرجه من فرع التاريخ بقي يتساءل: مالذي سيفعله المتخصص في التاريخ في الحياة العملية؟ وماذا سيكون متوفرا لديه في عالم الوظائف العامة والخاصة؟ وهذا ما دفعه للاستمرار في الدراسة والتقديم الى الدراسات العليا. ومرة اخرى فقد اصطدم بعدم امكانية عائلته تمويل دراسته العليا الا اذا وجد الجامعة التي توفر له منحة دراسية. وهكذا فقد حصل على زمالة "وودرو ولسن" من جامعة كالفورنيا – بيركلي، التي بدأ فيها بالتسجيل في كورسات التاريخ الاقتصادي. يقول ان دراسة التاريخ الاقتصادي نبهته الى فرع الاقتصاد الذي وجد نفسه شغوفا به فقرر ان ينتقل الى دراسة الاقتصاد، اذا وافق قسم الاقتصاد ان يمنحه زمالة دراسية مماثلة لتلك التي منحها له قسم التاريخ. وحين لم يحصل هذا، فقد وجد نفسه عائدا الى شيكاغو ليبدأ دراسته العليا في قسم الاقتصاد هناك عام 1960، ويحصل على الدكتوراه عام 1964. كانت اطروحته بعنوان " التعويض بين العمل ورأس المال في الصناعة الامريكية بين 1929 و 1958" التي كتبها مع ميل واضح الى التحليل الماركسي لكونه درس التاريخ والتاريخ الاقتصادي وآمن ان الاقتصاد هو المحرك الاساسي لحركة التاريخ. أشرف على اطروحته آرنلد هاربرگر وگرَگ لوِس.

يثني لوكـَسْ على الحالة التي نشأ وتعلم فيها، في العائلة وخلال المراحل الدراسية المختلفة بضمنها سنوات دراسته في جامعة شيكاغو. ويذكر بشكل خاص التربية الليبرالية المنفتحة داخل العائلة التي علمته على احترام الحرية وتقدير الاختلافات والاعتماد على النفس والاستقلال والثبات في اتخاذ القرارات. يقول ان والديه كانا يميلان الى سياسات ومواقف الحزب الديمقراطي ويؤيدان بحماس الرئيس روزفلت وعقده الاجتماعي The New Deal، في حين كان جداه وبقية العائلة يميلون الى سياسة المحافظين ويؤيدون الحزب الجمهوري، مما علمه ان التعايش مع الاختلافات في الآراء والمواقف ضرورة لايمكن اساءة تقديرها.

بعد اكمال الدكتوراه، واصل العمل في التدريس في معهد كارنيگي التكنولوجي الذي التحق به عام 1963 وهو لم يزل منشغلا في كتابة اطروحته. فبقي يمارس التدريس والبحث هناك لغاية 1975، حيث عاد الى شيكاغو. في عام 1980 اصبح استاذا يحمل العنوان التشريفي باسم الفيلسوف جون ديوي. وفي نفس العام انتخب عضوا في اكاديمية العلوم والفنون الامريكية.  وفي العام التالي، عام 1981 انتخب عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم، وفي 1997 اصبح عضوا في جمعية الفلسفة الامريكية.

فيما يلي اهم مساهمات لوكـَسْ في تطور دراسة الاقتصاد الكلي:

-  نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectation

تقف نظرية التوقعات العقلانية في صدارة مساهمات لوكـَسْ في تطور النظرية الاقتصادية، وبالاخص جانب النظرية الاقتصادية الكلية Macroeconomic Theory وهي التي مثلت الجزء الاهم من بين دراساته العديدة والمتنوعة التي آلت الى حصوله على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1995. يعتقد اغلب محللي الاقتصاد بأن تطوير لوكـَسْ لفرضية التوقعات العقلانية وتطبيقه لها في عدة حقول اقتصادية نقل تحليل الاقتصاد الكلي نقلة نوعية، وعمق الفهم العام للسياسة الاقتصادية وتأثيرها على سير الاقتصاد. وقد اعتبره بعض مؤرخي النظرية بأنه الاقتصادي الابلغ تأثيرا في الاقتصاد الكلي خلال ثلاثة عقود، بين 1970 و 2000، والذي ألهم اجيالا جديدة من الاقتصاديين، وكذلك اسهم بتطوير ادراك وعمل الكثير من صناع القرار السياسي-الاقتصادي. كما وقد اعتبرت هذه النظرية تحديا وعبورا على فرضية الاقتصاد التقليدية في كون الخيار الاقتصادي يقوم على المعلومات التامة Perfect Information Assumption. بدأ لوكـَسْ دراساته في هذا المجال ببحثه الموسوم " التوقعات وحيادية النقود" المنشور في مجلة النظرية الاقتصادية عام 1972.

تقوم هذه النظرية على فكرة ان الناس عموما، الافراد والمؤسسات، يؤسسون قراراتهم بموجب ثلاثة عوامل:

1. العقلانية الانسانية الطبيعية المتجذرة بالفطرة والسليقة والمنطق.

2. افضل ما يمكن توفره من معلومات ذات العلاقة في ذلك الظرف المكاني والزماني

3. خزين المحاولات والتجارب السابقة، الناجحة والفاشلة على حد سواء.

وعلى هذ الاساس سيترتب ان يكون للماضي والحاضر دورا في المستقبل وسيكون هذا المستقبل ماضيا في زمن ما ليتراكم مع سجل الماضي السابق، وهكذا! أي ان الناس، حتى ولو بشكل عفوي وغير محسوب يميلون الى التنبؤ بما سيكون المستقبل لقضية ما. وبالطبع لايعني ذلك ان التنبؤ سيكون خاليا من الاخطاء او انه لايتحقق بالمرة، لكن تلك الاخطاء أو ذلك الفشل سيكوّن درسا يستفيدون منه في صياغة التنبؤ الافضل، والذي سيقترب بمرور الزمن اكثر واكثر من نقطة الهدف. قد يحدث ذلك مثلا حول شحة الانتاج الزراعي وارتفاع اسعار المنتجات الزراعية في المستقبل القريب بموجب توقعاتنا العقلانية المبنية على ظروف الطقس التي نشهدها أو الاضطرابات السياسية و ما شاكل! وقد يترتب على ذلك ارتفاع معدلات التضخم وتحرك الحكومة نحو رفع معدلات اسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، وما يعقب ذلك من زيادة في كلف الاستثمار وتقليص الانتاج وتسريح العمال وارتفاع معدلات البطالة. أي نقص كبير في حجم الدخول وحجم الانفاق والسير بالاقتصاد نحو الانكماش والكساد.

وبناء على ماتقدم، فان هذه النظرية تزعم ان متغيرات الاقتصاد الكلي الكبرى ونتائجها وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية يمكن ان تُستنتج من خلال التوقعات، سواء كانت توقعات العامة ام توقعات الحكومة. فمثلا اذا كان المستهلكون عموما قد توقعوا بأن الكساد الاقتصادي قادم، فانهم سيميلون طبيعيا الى زيادة الادخارات عن طريق تقليل الاستهلاك والاستثمار! هذا التقليل، اذا استمر لمدة معينة، سيكون سببا حقيقيا ملموسا لحلول حالة الكساد. وبعد ذلك سنقول ان الناس حصلوا على ما توقعوا ان يحدث. أي ان نبوئتهم قد تحققت.

في بحثه المذكور اعلاه، أكد لوكـَسْ ان التوقعات تقوم بتحييد الدور الذي يلعبه عرض النقود اذا ما شاءت سياسة البنك الاحتياطي تغييرعرض النقود لاهداف اقتصادية، حيث سيقوم الناس بتكييف توقعاتهم من اجل ان تلائم مدى التغيير في عرض النقود، مما يبطل دوره المرجو! وبذلك سوف لن تترك السياسة النقدية أي اثر على حجم الانتاج وحالة الاجور والاسعار والعمالة. ومن هنا ينبغي لصاغة السياسة النقدية وصناع القرار ان يأخذوا بنظر الاعتبار ما يضمره المستهلكون من توقعات عقلانية من أجل ان تكون السياسة النقدية اكثر مصداقية والاقتصاد اكثر توازنا واستقرارا.

ان فكرة التوقعات العقلانية ليست جديدة. فقد تعود الى عهد الاقتصاديين الرواد مثل پيگو وكـَينز وهِكس الذين تضمنت بعض دراساتهم اشارات لتأثير توقعات الافراد والمؤسسات على حالات الدورة الاقتصادية وبالتالي على مستقبل الاقتصاد. فقد اطلق كـَينز على مثل هذه التوقعات اسم "موجات التفاؤل والتشاؤم" التي تلم بالمستهلكين احيانا وتؤثر على مسيرة الاقتصاد. وحديثا فقد سبق جون مووث John Muth لوكـَسْ بعشر سنين أو أكثر. حيث ناقش التوقعات العقلانية، بهذا الاسم، في دراسته الموسومة "التوقعات العقلانية و نظرية حركة الاسعار" المنشورة في مجلة ايكونوميتركا Econometrica عام 1961. ولكن كان على هذا المفهوم ان ينتظر لما جاء به روبرت لوكـَسْ من توسيع وتطوير ودفع للمفهوم الجديد عبر القنوات الاكاديمية والاعلانية.

تذكر بعض الادبيات الاقتصادية تحليلا مفاده ان ما قاله الرئيس الامريكي ابراهام لنكن حول "انك تستطيع ان تخدع بعض الناس طيلة الوقت، وكل الناس لبعض الوقت، لكنك لا تستطيع ان تخدع كل الناس لكل الوقت" ينطوي على تطبيق جميل غير مباشر لفكرة التوقعات العقلانية التي تشير الى ان الخادع والمخدوع قد يخطئون في تقديراتهم احيانا لكنهم سوف لن يقعوا في نفس الاخطاء مرارا وتكرارا ذلك ان اي شخص قادر على ان يتوقع عقلانيا يستطيع ان يتجنب الاخطاء السابقة ويتمكن من عبور الحواجز التي اعاقته في الماضي ويمضي الى نتائج افضل من السابق. وهذا هو الدرس الانساني الاساسي في التعلم من اخطاء الماضي.

- متناقضة أو لغز لوكـَسْ Lucas Paradox or Lucas Puzzle

من المعروف ان البلدان الفقيرة والنامية تتميز بندرة رأس المال الاقتصادي قياسا بتوفر العمل المأجور، الامر الذي يعني انخفاض معدل رأس المال للعامل الواحد Capital per worker. وهذا ما يتيح المجال لأن يكون عائد الاستثمار في رأس المال اكبر مما هو عليه في البلدان المتقدمة التي لا تعاني من شحة في رأس المال. وبهذا سيكون من المفترض ان يرحب المستثمرون في البلدان المتقدمة بمثل هذه الفرصة ويكونوا مستعدين ان يستثمروا رؤوس اموالهم في البلدان الفقيرة والنامية التي ستدر عليهم عوائدا عالية، وفي نفس الوقت تسد حاجات اساسية كثيرة في تلك البلدان وتسهم في تطوير اقتصاداتها. لكن هذا لم يحدث في الغالب، وهذا ما لاحظه لوكـَسْ في بحثه الموسوم "لماذا لا يتدفق رأس المال من البلدان الغنية الى البلدان الفقيرة" المنشور في American Economic Review عام 1990، مما قاد الى تسمية هذه الظاهرة العامة بمتناقضة أو لغز لوكـَسْ.

على ان التبريرات التقليدية لهذه الظاهرة الشائعة في الادب الاقتصادي يدور حول اسباب معروفة من قبيل قلق وعدم ثقة رأس المال الاجنبي في البلدان الفقيرة والنامية التي غالبا ما تتصف بعدم استقرار انظمتها السياسية، وشيوع الاضطرابات، وتعرض الحكومات الى الانقلابات العسكرية، واخضاع الاقتصاد الى اجراءات التأمين والحجز، ووضع العراقيل القانونية بوجه المستثمرين الاجانب واحيانا تعرضهم الى اخطار الاختطاف والابتزاز. وقد تكون هناك اسباب اخرى حقيقية كتخلف التكنولوجيا، وندرة بعض عناصر الانتاج كمهارة العمال والكادر الوسطي، وصعوبات هيكلية في الانتاج والادارة وعدم كفاءة البنى التحتية، مما يثقل من كاهل المستثمرين ويزيد من كلف الانتاج ويعقد الاجراءات ويجعل بالتالي تحصيل العوائد المرجوة مستبعدا.

- نقد لوكـَسْ Lucas Critique

في 1976 قدم لوكـَسْ بحثا بعنوان "نقد التقديرات القياسية للسياسة الاقتصادية" الى المؤتمر الذي انعقد في معهد كارنيگي ونشر في الجزء الاول من كتاب وقائع المؤتمر، ص 19-46.

كان لهذا البحث صدىً واسعا في اوساط الاقتصاد والسياسة الاقتصادية لانه اثار مسألة مهمة تتعلق بصحة التقديرات القياسية التي احتسبت علاقات المتغيرات الاقتصادية الاساسية. فقد بيّن لوكـَسْ ان التقديرات لم تكن متحصنة ضد التغير الذي غالبا ما يطرأ على السياسة وتوجهاتها، وخاصة السياسة النقدية والمالية التي تتغير بتغير الحكومات والهيئات الرسمية لصنع القرار. وهذا مايجعل تلك التقديرات غير ذات معنى وغير عملية اذا ما اردنا استخدامها في التنبؤ الاقتصادي وهو احد اغراضها الرئيسية. فعلى سبيل المثال، لو كان النموذج القياسي المحسوب في الاقتصاد الكلي يشير الى ان كل ارتفاع في معدلات التضخم بنسبة 1% سيؤدي الى انخفاض في معدلات البطالة قدره 2%، بموجب منحنى فيلبس، فاننا لانستطيع ان نستعمل مثل هذه العلاقة بين المتغيرين في التنبؤ للفترات القادمة، ذلك ان الافراد والشركات والسياسة والتوجهات ستتغير ولن تبقى على ما كانت عليه في االمعادلات التطبيقية اثناء وضع النموذج القياسي واكمال تحليله وتفسيره.

من الجدير بالذكر هنا هو ان هذه الفكرة ليست جديدة تماما في وقت اشتغال لوكـَسْ عليها. فقد كانت قد ذُكرت لاول مرة حوالي اربعين عاما قبل لوكـَسْ من قبل Frisch عام 1938، وكذلك اعيد ذكرها من قبل Haavelmo عام 1944. كما وردت باسماء مختلفة مثل قانون كامپل Campbell’s Law وقانون گودهارت .Goodhart’s Law .  إلا ان لوكـَسْ، وكما فعل في دراساته الاخرى، أخذ الفكرة الاساسية ووسعها وطورها واوضح نتائجها فاصبحت بإسمه.

- إجراء لوكـَسْ Lucas Wedge

كان لوكـَسْ قد قدم إجراءً لحساب الخسارة او الضياع المحتمل في الناتج المحلي الاجمالي GDP الناشئ عن اتباع سياسة اقتصادية غير فعالة والتي قد تسبب تباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي، والتي لولا عدم كفاءة صناع القرار لكان بالامكان توفير مبالغ طائلة لتمويل مشاريع وطنية عادة مايكون البلد في امس الحاجة لها. قد يتصدر هذه المشاريع الاستثمار في تطوير التكنولوجيا وتحديث التعليم والصحة ومعالجة المشاكل البيئية وحل الاختناقات في البنى التحتية وما شاكل.

- نموذج لوكـَسْ - أوزاوا Lucas- Uzawa Model

وهو نموذج رياضي خاص بالنمو الاقتصادي على المدى البعيد كنتيجة لاستثمار التراكم في رأس المال البشري. وقد طوره لوكـَسْ بالاعتماد على الصياغة الاولية له من قبل احد اساتذته في جامعة شيكاغو وهو البروفسور هيروفومي أوزاوا. وقد وسع لوكـَسْ النموذج النظري والتطبيقي ليشمل تراكم رأس المال البشري مع رأس المال المادي. وقد احتسب التراكم العام مساويا لنسبة رأس المال المادي الى رأس المال البشري، وليس حاصل جمع الاثنين.

في مساهمات نظرية اخرى متفرقة، قام لوكـَسْ بما يلي:

- حقق وطور وصاغ براهين رياضية لنظرية فريدمن وفيلبس ومنحنى فيلبس، ووضح وفسر عامل الارتباط الذي افرزته الموديلات التطبيقية بين الناتج والتضخم. ومنحنى فيلبس Phillips Curve يفترض العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة. حيث ان النمو والازدهار في النشاط الاقتصادي سترافقه زيادة في الاسعار، وكذلك زيادة في الاجور باعتبارها احد الاسعار، اي بمعنى آخر ارتفاع في معدلات التضخم، التي تعني فتح الابواب امام الوظائف والتوزيع الاكثر للدخول مما يعني تقليص حجم البطالة. فاذا ارتفعت الاسعار والاجور نتيجة لزيادة عرض النقود الذي تقرره السياسة النقدية سيتوهم العمال بأن اجورهم قد زادت فعليا فيسارعوا الى قبول اغلب الوظائف المتوفرة مما يعطي انطباعا خادعا بأن البطالة قد تقلصت او انتهت. يقول لوكـَسْ لو استعرنا فرضية المستهلك العقلاني من الاقتصاد الجزئي وطبقناها في الاقتصاد الكلي على عموم المستهلكين وفرضنا انهم وبحكم عقلانيتهم الجمعية سيتوقعون حصول التكنيك الخادع الذي قد ينتهجه صناع القرار فيدركون ان النتيجة الاكيدة لسياسة رفع عرض النقود هي ارتفاع معدلات التضخم، وليس بالضرورة تقليص البطالة.

لكن العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة لم تتحقق عمليا خلال السبعينات من القرن الماضي كما صاغها فيليبس! وذلك بسبب شيوع الظاهرة الغريبة التي سميت الانكماش التضخمي Stagflation التي اظهرت زيادة في معدلات التضخم جنبا الى جنب مع ارتفاع في معدلات البطالة.

- انتقد نموذج الاقتصاد الكلي الكينزي وكشف ان له وجهان:

1. الوجه الاول هو الذي يعتبر الاقتصاد الكلي مجرد امتداد وتوسع في الحجم والقياس للاقتصاد الجزئي، ولكن في هذه الحالة يكون الهيكل النظري للاقتصاد الكلي غير قادر على التنبؤ الاقتصادي.

2. الوجه الثاني هو ما سمي بالاقتصاد الكلي القياسي Macroeconometrics القادر على تقدير عوامل المتغيرات الاقتصادية وصياغة المعادلات التطبيقية التي تستخدم في التنبؤ الاقتصادي. لكن هذا الوجه ليس له علاقة وثيقة بالنظرية الاقتصادية الجزئية، ويكاد ان يكون منفصلا عنها رغم انها مركز ثقل النظرية الاقتصادية عموما. ولهذا اقترح لوكـَسْ ان يكون الاقتصاد الكلي متكونا من الارتباط الجمعي لنماذج الاقتصاد الجزئي المتعددة في النظام الاقتصادي الواحد. وهذه الافكار اصبحت جزءً من التبريرات التي مهدت لظهور ما سمي بالنظرية الكلاسيكية الجديدة.

- اشترك مع زميله الاقتصادي پول رومر Paul Romer  في تطوير نظرية النمو الاقتصادي الداخلي Endogenous Growth Theory التي تزعم ان النمو الاقتصادي يحدث بتأثير عوامل من داخل النظام الاقتصادي وليس من خارجه كما كان يُعتقد. وتتمثل هذه العوامل الداخلية بتراكم رأس المال البشري المتجسد بزيادة خزين المعارف والمهارات والتطوير في مستويات التعليم والتدريب واتباع الطرق التكنولوجية في الانتاج والاستخدام والتوزيع واستغلال المصادر المحلية والاستفادة من فوائض الاقتصاد الجانبية Externalities and Spillovers

- كسر الحد الفاصل القائم بين نظرية التنمية الاقتصادية المرتبطة بالبلدان المتقدمة وتلك المرتبطة بالبلدان الفقيرة والنامية. وأكد في بحثه المعنون " حول ميكانيكية نظرية التنمية الاقتصادية" المنشور في مجلة الاقتصاد النقدي عام 1988، ينبغي ان لايكون هناك اي حد فاصل بين المنهجين طالما ان المبادئ النظرية هي نفسها في الحالتين.

- دعا الى تطوير البحوث التطبيقية الجادة لتوثيق نتائج وآثار النظريات الاقتصادية. أي ليس فقط الاكتفاء بحساب العوامل والمؤشرات، انما بالتحقيق والمراجعة والاختبار والتعديل. وكذلك الاهتمام بالتأثير المتبادل بين السياسات الاقتصادية ونتائجها وآثارها العملية على ارض الواقع، مما قد يحتم ليس فقط تطوير السياسات ووضعها على الطريق القويم، انما ايضا تعديل النظرية وجعل تطبيقاتها اكثر قربا الى الواقع العملي.

- دعا الى الغاء الضريبة المفروضة على كل انواع الدخل المتعلق بالاستثمار في رأس المال. أي كل الفوائد والعوائد المتأتية جراء نمو وبيع وشراء الموجودات. يعتقد ان مثل هذا الالغاء سيسارع من تنمية رأس المال، وفي حساباته العملية وجد ان الغاء هذه الضرائب في الاقتصاد الامريكي سيزيد من موجودات رأس المال US Capital Stock بنسبة 35%.

واخيرا، نذكر القصة الطريفة التي ربطت بين طلاق لوكـَسْ لزوجته ونظرية التوقعات العقلانية:

تزوج روبرت زميلته ريتا كَوِن في ايام الدراسة في شيكاغو، وانفصل عنها عام 1981 ثم طلقها عام 1989. كانت زوجته قد كلفت محاميها ان يضيف شرطا لتوقيع اوراق الطلاق النهائية، وهو ان على روبرت ان يناصفها مبلغ جائزة نوبل، اذا فاز بها خلال فترة ست سنوات من توقيع الاوراق، تنتهي في 31 اكتوبر 1995! وتشاء الاقدار ان يفوز بالجائزة فعلا في 10 اكتوبر 1995، اي ثلاثة اسابيع فقط قبل بطلان الشرط. وهكذا استلمت طليقته نصف الجائزة البالغة مليون دولار. وقد علق اكثر زملائه حول زوجته التي اجادت في توقعاتها العقلانية افضل مما فعل هو.

توفي روبرت لوكـَسْ في 15 مايس 2023 عن 86 عاما.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

انتونيو انريكث كومث، والذي يعرف أيضا باسم بفرناندو دي ثارارت أي كاسترونوفو (ولد في عام 1601 او 1602 في كونكا الاسبانية، وتوفى في اشبيلية عام 1663). كان في العصر الذهبي كاتبا مسرحيا، وقاصا وشاعرا غنائيا اسبانيا معروفا. أدين من قبل محاكم التفتيش باليهودية المشفرة. وقد عده كثير من النقاد والكتاب بسبب اقامته في فرنسا، وعدة أمور في حياته واعماله، عدوه من (السفارديم) أي اليهود المقيمين في اسبانيا (الذين يحافظون على اللغة والتقاليد الخاصة بأجدادهم عندما طردوا من الجزيرة اللأيبرية، والذي يوافق ويتبع تقاليدهم وممارساتهم الدينية).

انريكث كوميث كان يعد يهودياً متحولاً الى الديانة المسيحية  حسب العقيدة الاجتماعية للعصر، غير مبال ان القانون اليهودي يعتبرهم يهود أبناء الام اليهودية. والدته كرستينا فيخا، كانت من قرية الكانتود قريبه من بريغو في اشبيليه. والده ديغو انريكث فيانويفا (1582-1642)، ذا اصل من كينتنار دي لااوردن في لامانشا، ينحدر من الانساب القليلة المتحوله من أصول قشتالية الذي عاش في اخر ربع من القرن السادس عشر التي مازالت مجرد يهوديه مشفره (ذات التسمية القذره) منذ 1588 القت محاكم التفتيش القبض على جميع افراد عائلته بين المبحوث عنهم كان الجد والد ابيه فرانثيسكو دي مورا مولينا، اعدم واحرق في كونكا سنة 1592، جدته ليونور انريكيث، محكومة بالسجن الى سنة 1600، وفيما بعد والده حكم عليه بمصادرة جميع ممتلكاته سنة 1624.

تخصص مثل ابوه انريكث كومث بتصدير الصوف والملابس من قشتاله الى فرنسا، وقد تلقى شيئاً من ثقافة التجارة . عندما كان انتونيو شاباً مكث مع عمه في بيته باشبيليه، وعندما اكتشفت يهوديته من قبل محاكم التفتيش هرب الى بورديوس، اصبح انتونيو ممثلا له في مدريد لسوق البضائع لمواد فرنسا. وقبل سنة في 1618. وكان قد تزوج بمسيحية كبيره في السن من مقاطعة بركوس تدعى ايسابيل الونسو باسورتو وانجب منها ثلاثة أولاد وهم كاتالينا، وديغو، وليونور. واستقر في مدريد، وارتاد دائرة الاديب لوبه دي فيكا، الذى اطلق عليه معجبا به " آدم الكوميديا" وقال:

في وقتنا، تاركين على جنب آدم الكوميديا لوبه، وجد الكثير من الشعراء. دون انتونيو دي مندوثا، خوان بيرث دي مونتلبان، ودون بدرو كالديرون، وكودينث، ولويس فليث.

منذ 1632 بدأ بكتابة مقاطع كوميديا الحظائر. بعضها وجدت صدى جيداً وصفق لها، لا سيما للكردينال دي البورنوث وهو لفرنان مندث بينتو، حول المغامر المشهور، المستكشف والمؤرخ البرتغالي وهو اول غربي وصل الى الصين، وترجمت اخباره ترجمة الى الاسبانية في 1620 من قبل فرانثيسكو أرَرا مالدونادو.

في سنة 1636 رحل الى فرنسا بسبب محاكم التفتيش الذي أعدته من المشكوك بهم، وأيضا بسبب افترئه على الكوند (دوق اوليفارس) في عمله الخيالي اللوسيانسكي القرن الفيثاغورسي، ومهاجمته في محتوى كردينال اسبانيا الكبير. وفي الحقيقة كانت له تجاره مع شبكات اوربيه يهوديه برتغاليه.

انريكث كان يخشى ان يكون ضمن الاضطهاد التحقيقي ضد شركائه، مما اضطر ان يلجأ في صيف 1636 الى بيت عمه في بردوس. وفي فرنسا الف عدة اعمال أدبية. وقيل عدة مرات كان انريكث لزمن ليس بقليل بين أعضاء يهود أمستردام، حيث كان المسرح الاسباني شعبياً جدا.

في عام 1642 اتحد مع ابن عمه في الاعمال التجارية بين فرنسا واسبانيا واداروا التهريب وكلا البلدين كانا حينذاك في حرب، افادهم بالتظليل تاجر مسيحي كبير بالسن في مدريد الذي كان زوج الابنه الكبرى لانريكث كاتالينا. بهذه الطريقة استطاع أبناء العم توسيع تجارتهم مع أمريكا اللاتينية والبرازيل، فضلا عن فرنسا، والبرتغال وامستردام.

لكن انتونيو انريكث كومث كان يشعر انه اسير الحنين المصيري متعذر عليه الرجوع الى اسبانيا وتقوية شرفه ومجده الادبي، الذي سيكلفه حياته. في أواخر 1649، قرر أولاد عم انريكث  الاحتيال على نفقات المرتبطين الفرنسين واليهود. وتركوا عوائلهم ورجعوا الى اسبانيا وبدؤوا حياة جديده بأسامي مزوره. ومكث في البداية في غرناطة وفي سنة 1651 انتقل الى اشبيلية، حيث عاش تحت هوية رجل نبيل سيد فرناندو دي ثراتَ، وبسريه اقام مع شابه من غرناطة اسمها ماريا فليبا دي اوثس، وكتب وعرض اعمالاً كوميدية تحت اسمه المستعار. وخلال اثنى عشر سنة استطاع الهروب بهذه الهوية من رقابة محاكم  التفتيش. وفي النهاية في 21 سبتمبر 1661 استطاعت قوات اوفيثيو المقدس تشخيصه ومفاجأته في بيته، بعد ان اعترف بهويته الحقيقية وانه يهودي سري خلال المنفى في فرنسا، وتوفى انريكث كومث في السجن سنة 1665، واعترافاته أودت بابن عمه في السجن. في عمل للكاتب مايكل ماكجاها أوضح ان انتونيو انريكث استطاع ان يمتلك اسماً مزوراً ثالثاً وهو كاتب المسرح فرانثيسكو دي فيكاس.

كان انريكث كومث  في مدريد بارعاً في العقيدة اليهودية، لكن فقط في القناعة وبدون ان يتجرأ فعل أي ممارسة دينية غير كاثوليكيه. في بيت عمه في بردوس كانت تمارس طقوس وصلاة الديانة اليهودية. وفي اخر ثلاث سنين لم يعد يمارس الطقوس الدينية الكاثوليكية واتجه الى الديانة اليهودية في منزله العائلي، وكتب اعماله السرية في الدفاع عن الديانة اليهودية. وبعد عودته الى اسبانيا، رجع الى متابعة اليهودية في قلبه فقط. بعض النقاد تقبلوا فكرة انضمام انريكث كومث بشكل سري الى اليهودية خلال مدة معينه من حياته، فوجدوا سبباً مهماً،  وهو البحث عن ادراجه في الشبكات الاقتصادية اليهودية البرتغالية.

ولكونه تاجر كان قد تعلم الآداب بشكل تلقائي، واعتبر شاعراً ذا شعر بسيط "شاعر الطبيعة". جزء من اعماله الشعرية الغنائية ذات موضوعات عاطفيه، واخلاقية ودينية من الكتاب المقدس، جمعت في الأكاديميات الأخلاقية الفكرية  (برديوس، 1642)، التي تحتوي على اربعة اعمال مسرحية، في كثير من قصائده يبرز بقوة موضوع المنفى والشوق الى البيت القديم.

اما أعمال المسرحية الكوميدية أنتج انريكث كومث بين عامي 1632-1636عدة مسرحيات للمسرح المدريدي ووصل الى نيل شهرة كبيره، في 1635 شارك أيضا في شعر يرثي لوبي دي فيكا المتوفى قبل أيام. ينتمي الى مدرسة بدرو كالدرون دي لا باركا كونه كاتب مسرح. في 1649 معددا عنوانات اعماله المسرحية التي كتبها في ذلك الحين، قال: "كانت مؤلفاتي المسرحية واحداً وعشرين" ومعظمها تتناول مواضيع تاريخية ومؤامرات جديدة. في الجزأين لعملة فرنان مندث بينتو يروي مغامرات المكتشف البرتغالي في الصين. رجع الى نشاطاته المسرحية في عام 1651-1660. الثلاثون عملاً الذي وقعها باسمه الاسباني المستعار دون فرنانندو دي ثارات، كان جزء كبير منها سرقة علمية معادة في الصياغة لأعمال كتاب اخرين. كثير من اعماله في تلك الفترة تعالج اساطير لمقدسين، بينما في مسرحه السابق المواضيع المسيحية كانت غائبه تقريبا. في عمله المديح السري للكواكب السبعة وهو عمل على خطى الشهير كالدرون دي لاباركا بشكل كامل وعرض في اشبيليه عام 1659؛ يقدم فيه كيف ان الانسان على الرغم من المزايا التي تقدم له على الكواكب يفقد النعمة ويسترجعها بعد الاعتراف بخطاياه. النقد الادبي في القرن التاسع عشر حكم على هذا العمل بانه متفوق على مسرحياته الكوميديه واستبعد احتمالية انها كتبت من قبل الكاتب نفسه.

من اعماله الروائية الأكثر قراءة قرن الفيثاغورس، وحياة دون غريغوريو غواداني مكونه من قسمين بالشعر والنثر تروي كل منها حياة مختلفة لروح تناسخ جسد بآخر.  وقصتين أخرتين تنتمي الى الجنس نفسه ذات الرمز الأخلاقي مع العناصر الهجائية الأخلاقية. كتب عمله ذنب المهاجر الأول بالشعر تماما بينما عمله برج بابل يخلط النثر بمختلف أنواع الشعر. كلا العملين يرويان مصائب رجل اسمه أدام او المهاجر في منتصف حضارة انسانيه منحرفه التي تصور حضارة اجتماعية متحضرة في مدريد.

بعد قراءة هذا المقال نستخلص ان اليهود يكذبون كثيرا، وينتحلون صفات غير حقيقة، وليس لهم وطن ثابت؛ لذلك مازال تمسكهم بأرض العرب (فلسطين) بالاضطهاد والمعارك الإرهابية، والمجازر اليهودية ضد الأبرياء في البلد العربي (بيت المقدس).

***

ترجمة واعداد: ا.م. لقاء محمد بشير حسن

جامعة بغداد/كلية اللغات/قسم اللغة الاسبانية

صديقي الشاعر معمّر الماجري هو ثالث الثلاثة من الأصدقاء المتيّمين بمحبّة مدينة حمام الأنف مع الأديب جلال المخ والشاعر عبد الحكيم زريّر هذه الضاحية التي كتب عنها ـ بالإضافة إليهم ـ عديد الأدباء من بينهم علي الدوعاجي في إحدى قصصه والشاعر مصطفى خريّف في قصيده ـ بين جبل وبحر ـ وذكرها الأديب عزالدين المدني عند سرد ذكريات طفولته عندما لجأ إليها مع عائلته إبّان الحرب العالمية الثانية التي كتب عن إحدى وقائعها في مدينة حمام الأنف الشاعر مصطفى المؤدب وللشاعر عبد الرحمان الكبلوطي قصيدة فيها أيضا وقد ذكرها كذلك الأديب ميخائيل نعيمة في إحدى رسائله على إثر زيارته لتونس سنة 1961.

ــ 2 ـــ

دعاني الصديق الشاعر معمّر الماجري في يوم رائق معتدل بعد أيام قرّ شديد إلى زيارة هذه الضاحية فكانت مناسبة لزيارة قبر جدّي رحمه الله في المقبرة القديمة ثم صعدنا الهُوينا عبر دروب جبل بوقرنين حيث كان صديقي يحدّثني بحنين عن ذكريات طفولته في محتلف الأحياء والشّعاب فكان ـ سي معمّر ـ محلّ ترحاب حيث ما مررنا أو جلسنا كيف لا وهو الذي عاشر مختلف أصناف أناسها جيلا بعد جيل عن قرب وعلى مدى سنوات فعرفهم وعرفوه في عديد الظروف وله معهم حكايات طريفة وعجيبة أحيانا.

يوم كأنه من أيام الرّبيع ظفرنا به في عزّ أيام الشتاء الباردة والممطرة فلاحت الأشجار خضراء يانعة لامعة بقطرات المطر المتبقّية على أوراقها تحت الشمس الدافئة فكان كلما مررنا بشجرة ذكر لي اِسمها وخصائصها وأوجه الاِستفادة منها لكأنه خبير بها.. كيف لا وقد كانت هذه الفجاج والشعاب والأودية مسرحا لألعاب طفولته مع أتراب حيّه بين كرّ وفرّ وبين سهر وسمر.3278 جبل بوقرنين تونس

عندما بلغنا منبسطا من إحدى الشعاب توقف وحدثني أن هذا المنبسط كان في السنين الخوالي منتزها في فصل الربيع لعائلات ـ حيّ الملاسين ـ فترى الجميع في سرور وحبور مجتمعين حلقات حلقات طاعمين مع بعضهم شاربين كؤوس الشاي والأطفال في لهوهم وألعابهم بين الأشجار فرحون فيا لها من ذكريات ممتعة اِسترجعها بحنين صديقي الذي كلّما مررنا بأحدٍ أو جماعةٍ توقّف ليسلّم عليهم فيستقبلونه بحرارة ومودة وتقدير إذْ عاد إليهم بعد غياب مثلما عاد إلى مرابع طفولته في وهاد جبل بوقرنين الذي يعرفه شجرة شجرة ونبتة نبتة من العرعار والكالتوس بالإضافة إلى الصّنوبر الذي كان يقطف منه حبّات الزّقوقو.

ــ 3 ــ

كم حدّثني صديقي عن ولعه بجمع باقات زهرة السّكلمان ـ بخور مريم ـ الجميلة والنادرة الوجود والتي يختصّ بها جبل بوقرنين وكان يشير من حين لأخر إلى أصناف عديدة أخرى كالإكليل والزعتر والصبّار وإلى نبتة (صبّاط الغول) التي كان يلُفّ بها باقة السّكلمان لتحفظها وتزيدها جمالا.

ومن النباتات الجبلية الأخرى التي أرانيها صديقي نبتة القيز وأعلمني أنّ نبتة البُصّيلة هي غذاء للخنزير يستخرجها من تحت الأرض وقد صادفتنا يومئذ آثار سيره أمّا نبتة التّيفاف فهي طعام لذيذ للحيوانات العاشبة يشاركها الإنسان أيضا في أكلها وقد قيل في المثل الشعبيّ (آش يكفي الجمل م التّيفاف) وحين تطلّ طلائع الرّبيع بأيّامه الأولى يكتسي الجبل بحلّته المزركشة التي فيها صفرة (القْرّيسة) وحمرة الأقحوان فيلوح جبل بوقرنين بديعا للناظرين.

صعدنا رويدا رويدا حتى أشرفنا على زرقة الخليج المقابلة للاِخضرار تحت زُرقة السماء فيا لها من متعة رائقة إذ يحفّ بنا النّسيم كأنه أجنجة نرفرف بنا في خضمّ هذه الطبيعة البديعة في تونس الجميلة في كل ناحية من نواحيها حيث ما كنتَ أو اِتّجهتَ ولكنّنا لم نقدّرها حقّ قدرها مع الأسف فحينما بلغنا الربوة المطلّة على مدينة حمّام الأنف بدا لنا ـ البُرج الأخضر ـ في حالة دون ما يجب أن يكون لأنه كان في السنين الخوالي مَعلما سياحيا متميّزا أمّا عن ـ الكازينو ـ

وكذلك ـ قصر الباي ـ فحدّث عن خرابهما ولا حرج

ــ 4 ــ

لقد كان جبل بوقرنين مُلهما لبعض الشعراء والأدباء مثل الشاعر مصطفى خريّف الذي اِستقرّ بمدينة حمام الأنف مدّة من الزمن أثناء الحرب العالمية الثانية فكتب قصيدة ـ بين جبل وبحر ـ وهي في صيغة حوار بينهما وقد نشرها في ديوانه الأوّل ـ الشّعاع ـ سنة 1949 ثم أعاد نشرها في ديوانه الثاني ـ شوق وذوق ـ سنة 1965 ومنها قوله:

(الجبل)

يا بحر

أيّها الغائص في بطون الأرضين

السجين في أغوار الصخور وأكناف الرمال

يا رهين القيود والأصفاد والظلمات

ما أبعد أعماقك ! وما أبهم اِمتدادك

**

(البحر)

يا جبل

أيّها الضائع في أجواز السماوات

التائه في آفاق الفضاء الأبدية

المتحمّل أثقال السّحب وأنفاس الكواكب

يا مُنبت الصّخر والشّوك

و القتاد والجيف المتعّفنة

ما أحمق رسوخك

و ما أحقر تطاولك

ــ 5 ــ

عندما زار الأديب ميخائيل نعيمة تونس تونس سنة 1961 أرسل رسالة إلى اِبن عمّي سي الحبيب عبيد الذي كان في توديعه ذكر فيها جبل بوقرنين قائلا ـ

لكَم وددت يا صديقي الفتيّ لو كان لي أن أتحدّث إليك وإلى الكثير من الشبّان التونسيين أمثالك لا من على منبر المسرح البلدّي بل على شاطئ البحر أو في بستان من الزّيتون أو في سفح “بوقرنين” أو في أيّ مكان يطيب فيه الحديث فيجري طلقا عفويا ودونما أقل كلفة.

***

سُوف عبيد

سيفاجئ القارئ العربي لاعمال الروائي الامريكي الشهير ج. د. سالينجر خلو الطبعات الجديدة الصادرة عن دار المدى من أية صورة او تعريف بالكاتب والكتاب، فقد تعودنا  أن نقرأ خلاصة توضع في الغلاف الخلفي، وعندما سألتُ دار المدى كان جوابهم  ان هذه تعليمات دار النشر البريطانية " هاميش هاميلتون"  التي تملك حقوق اعمال سالينجر، وكالعادة دفعني الفضول للبحث عن هذا القرار الغريب، فوجدت الجواب في تقرير نشرته صحيفة الغارديان يقول أن سالينجر كان لديه بند في عقده يحدد ما يمكن أن تحتويه أغلفة هذه الكتب. حيث اصر على  ظهور عنوان الكتاب واسمه فقط في أي إصدارات مستقبلية من اعماله، وعدم ظهور أي صور على الإطلاق،"، فقد اراد سالينجر أن يؤكد:" إن الكتب تتحدث عن نفسها. إن بساطة الأغلفة تترك للقارئ حرية تخيل الشخصيات " ويقول مدير النشر في هاميش هاميلتون ان : "هناك قواعد صارمة بشأن أغلفة جي دي سالينجر. النسخة الوحيدة المسموح، هي اسم المؤلف والعنوان. لا شيء آخر على الإطلاق: " لا توجد علامات اقتباس، ولا دعاية مغالى فيها للغلاف، لا توجد سيرة ذاتية " .

عندما صدرت الطبعة الاولى من رواية " الحارس في حقل الشوفان او الجودار " عام 1951 كان الغلاف من تصميم صديقه الرسام مايكل ميتشل، كان الغلاف يستحضر مشهدا في الجزء الاخير من الرواية "  الحصان ذي اللون البرتقالي المحمر " وقد وضع الناشر صورة في ظهر الغلاف للمؤلف ونبذة عنه، مع صدور الطبعة الثالثة من الرواية طلب سالينجر من الناشر إزالة صورته من الكتب. في الطبعة التي صدرت  عام 1953  كان الغلاف يتضمن صورة  توضيحية لبطل الرواية " هولدن ". لم يكن سالينجر سعيدًا بذلك، ولم يرغب في تصوير شخصية بطل الرواية .

صباح يوم السابع والعشرين من يناير عام 2010، لم يصدق قرّاء الصحف الأمريكية الخبر الذي أعلن عن وفاة الكاتب الشهير جيروم دافيد سالينجر، صاحب الرواية الشهيرة (الحارس في حقل الشوفاناو الجودار " - ترجمها إلى العربية لأول مرة سليمان العيسى وناديا الياس في مسوّدة لم تظهر مطبوعة في سوريا لأسباب رقابية، وكان ذلك في منتصف ستينيات القرن المنصرم وتحت عنوان (حارس الشيلم). ثم ظهرت مطبوعة عام 1981 بترجمة الروائي الأردني الراحل غالب هلسا بالعنوان المعروف حالياً -، فالجميع كان يعتقد أن سالينجر قد مات منذ عقود، حيث أن أخباره انقطعت، ولم ينشر شيئاً منذ سنوات طويلة، ولم يكن أحد ليصدق أن الكاتب الشهير أصر على أن يعيش في عزلة لأكثر من خمسين سنة، في واحدة من غابات شمال أمريكا. كان قد بلغ الحادية والتسعين من العمر، يتمتع بصحة جيدة برغم معاناته من كسر تعرّض له في الفخذ الأيمن، واصل هوايته اليومية السير لمسافات طويلة داخل الغابات، عندما انتشر خبر الوفاة تذكرت الصحافة هذا الكاتب، الوسيم والخجول والذي كان يتهرب من الصحافة، فيما أعادت الصحيفة نشر صورته بالملابس العسكرية وهو يحمل أمتعته على ظهره، والتي كان من بينها آلته الكاتبة مع غلاف روايته الشهيرة (الحارس في حقل الشوفان)، الرواية التي صدرت عام 1951 وأحدثت ضجة في الأوساط الأدبية، وأصبحت كتاب الشهر في أمريكا لعدة أعوام، ودفعت الشباب للتظاهر في شوارع نيويورك وهم يرددون بصوت عال: " كلنا هولدن كولفيلد" الذي هو بطل الرواية، ومنذ صدورها وحتى وفاته ظلت دور النشر تطبع ما يقارب الربع مليون نسخة سنوياً من رواية (الحارس في حقل الشوفان) حتى وصل عدد النسخ التي بيعت منها إلى أكثر من 15 مليون نسخة. وبعد تسع سنوات وفي التاسع من أبريل عام 1960، توجّه عدد من أولياء أمور الطلبة وهم يصرخون طالبين نقل مُدرِّسة الأدب لأنها قررت أن تدرّس للطلاب هذه الرواية، ناعتين الرواية ومؤلفها والمعلمة بأنها تحرض الطلبة على التمرد، ولم تكن هذه الحادثة هي الوحيدة، فقد وقعت حوادث مماثلة في كليات ومدارس أمريكية أُخرى.

وعلى مدى نصف قرن ظل سالنجر يعيش بعيداً عن ضوضاء الشهرة، في منزل ريفي، في الوقت الذي كانت فيه روايته (الحارس في حقل الشوفان) تغزو المكتبات والجامعات محدثة ثورة في عالم الرواية الجديدة، وخالقة أجيالاً من القراء الذين وجدوا في بطل الرواية (هولدن كولفيلد)، المراهق الشاب، مثالاً إنسانياً ينتصر للشخص الفرد في عالم الجماعة والأفكار المفروضة والأجوبة الجاهزة. قال سالنجر مرة في حوار صحافي قصير ونادر عام 1974: " صحيح أنني في هذا العالم، لكنني لست جزءاً منه" .

ولد جيروم ديفيد سالينجر في الأول من يناير عام 1919 في نيويورك من أب بولندي وأم اسكتلندية شديدة التدين، عمل والده في تجارة الأجبان، كانت العائلة تتمتع برخاء مالي مما سمح لها بان تستأجر شقة كبيرة في حي مانهاتن، عاش طفولة سعيدة، كانت أمه توليه اهتماماً كبيراً، ولهذا كان شديد التعلق بها «لقد عشت عبر والدتي». وهو الأمر الذي يفسر إهداء رواية الحارس في حقل الشوفان " إلى أمّي" .

في المدرسة الابتدائية أظهر سالينجر براعة في تمثيل الأدوار الكوميدية، واكتشفت الأم أن صغيرها له ميل للفن الدرامي، وفي المتوسطة تُوج بلقب الممثل الأكثر أبداعاً، لكنه لم يكن طالباً مجتهداً، وقد حصل على نتائج هزيلة، وقد كان والده يردّد متذمراً أن شيطان المسرح قد سيطر على ابنه، بعد سنتين من المدرسة الإعدادية جاءت النتائج مخيبة، فاضطر والده إلى نقله إلى مدرسة خاصة، بعدها يقرر الأب أن يسجل ابنه في الأكاديمية العسكرية، فهي وحدها التي يمكن لها أن تساعد على تنشئة شاب مثل سالنجر، ويحتفظ الأرشيف الخاص بسالينجر بصورة له يبدو فيها حليق الراس، يرتدي بدلة زرقاء، وهي صورة أقرب لصورة السجين مما هي إلى صورة الطالب، وبما أن الأجواء في المدرسة العسكرية لم تكن تسمح بممارسة التمثيل، فقد كان سالنجر يحاول التغلب على روتين المدرسة بأن يقضي وقته بالقراءة، وفي تلك الفترة يعمل محرراً أدبياً في المجلة التي تصدرها المدرسة العسكرية، حيث ينشر بعض الأشعار، وفي أحد الأعداد ينشر قصيدة بعنوان (لا تُخف دموعك) يتحدث فيها عن اليوم الأخير في المدرسة.

في العام 1936 يتخرج من المدرسة، ونجده يرفض التعيين في وظيفة عسكرية، ويحاول الأب إقناع ابنه للعمل معه في التجارة، فهي الوسيلة الأضمن التي ستكفل له مستقبلاً جيداً، أما سالنجر فكان يجد نفسه في مكان آخر، مع عالم الكتب حيث يقرر الدخول إلى الجامعة، فهو يتمنى أن يصبح كاتباً مرموقاً.. فالمسرح لا يزال يستهويه، ومكانه الحقيقي هناك، ولهذا يبدأ جولة على المسارح للحصول على عمل، لكن الأبواب كنت موصدة في وجهه آنذاك.

العام 1938 جيروم في التاسعة عشرة من عمره، شاب طويل القامة، نحيل، ذو عينين سوداوين، نادراً ما يبتسم، أرسله والده إلى كلية أورسينوس، وهي تقع في مكان ريفي، سجل في دروس الأدب الإنكليزي، وفي السنة الثانية عكف على دراسة اللغة الفرنسية، في ذلك الوقت تملكه إصرار لا يتزعزع على الكتابة، وسينشر في مجلة الكلية أولى مقالاته وكانت عبارة عن رسالة إلى والدته يسخر فيها من وضعه الخاص، ومن علاقاته بعائلته وفي الرسالة يكتب إلى والدته: " والدتي العزيزة، لقد فشلتما أنت وزوجك، في تربيتي»" .. بعدها يكتب مقالاً انطباعيا عن أرنست هيمنغواي: "لقد كان لدينا انطباع أنه منذ ستشرق الشمس أيضاً ووداعاً للسلاح، من أن أرنست لم يعمل بما فيه الكفاية»"، في المقابل نجده مغرماً بسكوت فيتزجيرالد صاحب الرواية الشهيرة غاتسبي العظيم . يكتب في إحدى رسائله: " يا الهي كم أحب هذا الرجل"، إلا أن الكاتب الذي يستولي على اهتمامه في تلك السنوات لم يكن واحداً من الروائيين الأمريكان أو الإنكليز، وإنّما كان الكاتب المسرحي الفرنسي جان جيرودو. العام 1940 ينشر أول قصة له بعنوان (مجموعة شبان)، وفي هذه السنة يرتبط بعلاقة عاطفية مع ابنة الكاتب الأمريكي الشهير أوجين أونيل، والتي ستصبح في ما بعد رابع زوجات شارلي شابلن، وقد بدأت قصة الحب عام 1941 عندما شاهدها في منزل أحد الأصدقاء حيث وصفها بالفاتنة، إلا أن شارلي شابلن هام بها أيضاً ويعترف في مذكراته – نشرتها المدى بعنوان سالينجر في حياته الحميمة ترجمة زياد خاشوف - أن قلبه اضطرب فرحاً عندما شاهدها للمرة الأولى، كانت أونا أونيل قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها وسترتبط بشابلن في السادس من يونيو عام 1934، وعندما شاهد سالينجر صورة منشورة في أحد الصحف لشابلن وهو يضع خاتم الزواج في إصبع أونيل، كتب على الصورة كلمة " يا للعار" . ولم يجد من ملجأ لمحنته العاطفية سوى القراءة، أعاد قراءة (آنا كارنينا) لتولستوي التي كان يعتبرها " أجمل رواية كُتبت على الإطلاق"، وتعلق برواية ستندال (الأحمر والأسود)، كان يعتبر تولستوي أكثر قدرة من دوستويفسكي على سبر بواطن طباع الشخصيات.

 خدم جيروم سالينجر في فرقة للمشاة وشارك في الحرب العالمية الثانية، لكن يبدو أن تجربة الحرب لم تترك تأثيراً كبيراً عليه، حيث كان يعتقد أن حياة السلم لا تقل أهمية وخطورة عن حياة الحرب، لأنّ مصير الإنسان يتقرر بطريقة حتمية بصرف النظر عن السلم أو الحرب.

عام 1946 يعود إلى نيويورك، بعد أن انهى خدمته العسكرية، كان خلالها قد تزوج من طبيبة أوربية، لم يستمر الزواج طويلاً، استمر في كتابة وتنقيح روايته (الحارس في حقل الشوفان/ الجودار )، وبعد الانتهاء منها لم يجد ناشراً لها، وكان أصحاب دولار النشر يسخرون منه ويصفونه بالجنون، فمن يقرأ رواية عن تصرفات فتى مراهق أمضى عشر سنوات في كتابة الرواية، اختار لها عنوان من جملة يقولها بطل الرواية من أنه مستعد لأن يصبح حارساً لحقل من أجل حراسة الأطفال من أي أذى، في النهاية وجد ناشراً جازف بطبع خمسمئة نسخة، لكنها باعت بعد ثلاثة أعوام خمسة ملايين نسخة، ودخلت المناهج الدراسية في أمريكا.

عام 1955 تزوج من فتاة إنكليزية وانتقل معها إلى بيت ريفي، وكانت حجته للانتقال شكواه من الجيران والضيوف. يكتب: " إن أعدى أعداء الكاتب، هم زملاؤه وضيوفه" . يواصل كتابة القصص القصرة التي تنشرها كبريات الصحف، وخلال الخمسين عاماً الأخيرة من حياته رفض مواجهة الجمهور وكان نادراً ما يدلي باحاديث للصحافة: «كل ما عندي، أودعه قصصي وكتاباتي، ولذلك لا أرى فائدة من الحديث الشخصي عنه"، نشر مجموعة قصصية بعنوان (المصيدة) عام 1952 وتسع قصص عام 1953 ومجموعة أخرى عام 1961.. كان مُقلّاً في النشر ويعتقد أن عدم النشر يعني سلاماً روحياً، فهو يحب أن يكتب لنفسه وان يتمتع وحده بما يكتب، يقول في حوار أجري معه قبل وفاته بأشهر: " ألم يكن ستندال يترفع على النشر، وكان يخبئ أوراق الأحمر والأسود عن عيون معارفه، إنها حياته الثانية وأسراره الشخصية التي يجب أن لا يعرفها أحد" ».

 في سنواته الأخيرة اهتم سالينجر بالفلسفة الهندية والصينية، وحين ابتعد عن العالم، كانت كتب البوذية تحيطه من كل جانب، وقد اعتبر الكتابة عملاً روحياً وليس فكرياً، وبدأ يشمئز من الكتابات النقدية التي تناولت روايته وقصصه من الجانب الفكري فقط، وأهملت الجانب الروحي.

كان سالينجر يفكر في موضوعة (الحارس في حقل الشوفان) بعد أن نشر عام 1934 قصة قصيرة للفتيان كان بطلها اسمه (هولدن كولفيلد)، وظل يؤجل العمل حتى التحق بالجيش، كتب في إحدى رسائله إلى والدته " منشغل الآن برواية لن تكون مجرد عمل هواة" . أثناء تنقلاته العسكرية كان يحمل في حقيبته العسكرية فصولاً من الرواية، وفي مرات عديدة يطلب مراراً من سائق الشاحنة التوقف ليجلس إلى جانب الطريق ويكتب الفصول المتبقية. في باريس يلتقي بأرنست هيمنغواي الذي كان قد قرأ له بعض القصص القصيرة، وقرر أن يجري معه حوارا، قال للمراسل الحربي هيمنغواي إنه مشغول بكتابة رواية ربما تغير حياته وإنه أمضى سنوات في التخطيط لها وإن بطلها صبي مثل الديناميت، وخلال كتابته للرواية كان يقول مثلما قال فلوبير مدام بوفاري هي: " إن هولدن كولفيلد هو أنا" .

تناول في رواية (الحارس في حقل الشوفان) بضعة أيام من حياة بطلها هولدن كولفيلد البالغ من العمر ستة عشر عاماً. وتبدأ القصة عند طرد هولدن من المدرسة نهاية عام 1940 وذلك لرسوبه في الامتحانات، ومنذ البداية يسلط سالنجر الضوء على التشتت الفكري والعاطفي الذي يعيشه هولدن والصراع الداخلي الذي يهيمن على سلوكه.

كان اهتمام هولدن ينحصر في نقد سلوك زملائه والسخرية منهم، لكنه سرعان ما يمارس تلك السلوكيات بنفسه، وعلى مدار الرواية نجده يكرر على الدوام كلمات مثل النفاق والزيف والازدواجية في السلوك. يقرر هولدن مغادرة المدرسة قبل موعد العطلة بيومين بسبب خلافه الحاد مع زميل له بسبب خيبة الأخير من الموضوع الذي كلّفه بكتابته نيابة عنه.

شعر الزميل بالغضب بسبب ما كتبه هولدن عن مأساة أخيه الذي مات بسبب مرض السرطان وهو موضوع بعيد عمّا طلبه منه. على إثرها يقرر هولدن التوجه إلى نيويورك لقضاء بضعة أيام بمفرده قبل موعد عودته إلى أسرته. يتجول في المدينة ويشرب يومياً حتى الثمالة، ويلتقي بأنواع مختلفة من البشر، إلا أنه لا يرى فيهم جميعاً سوى صورة للنفاق.

يزور بلدته ونجده يشرح لأخته الصغيرة بأن دوره الجديد في الحياة يتمثل في إنقاذ الأطفال من الوقوع في الهاوية لدى جريهما في حقول الشوفان من دون أن يدركوا وصولهم لحافة الهاوية. ويتجلى المغزى من هذا الوصف إلى جانب بعض التعليقات والمواقف الأخرى بأن هولدن متمسك ببراءة الطفولة ويرفض عالم البالغين الزائف.

يذهب بعد اللقاء إلى منزل أستاذه السابق الذي ينجح في إقناعه بأن أفكاره قيّمة ومهمة إلا أنها بحاجة للعلم ليتمكن من التعبير عنها.

 نكتشف في النهاية أن سالينجر يقدم لنا عدة إشارات تدل على أن هولدن يروي أحداث الرواية من مصحة للأمراض العقلية في كاليفورنيا، ويشرح في النهاية بأنه سيذهب إلى مدرسة أخرى وهو غير متأكد من قدرته على الالتزام مجدداً، وتنتهي الرواية بقول هولدن، «لا تقل أي شيء لأي كان. فإن فعلت، فستكون النتيجة افتقادك لهؤلاء الذين تحدثت معهم" . يشكو بطل الرواية من غياب الصدق والبراءة، وهو ينكر موت شقيقه الأكبر ونراه يعطف على شقيقته والمقربين منه.

ظهرت الرواية في السادس من تموز عام 1951 في سلسلة روايات الجيب، وقد وضع الناشر على الغلاف صورة لشاب يلبس قبعة ويحمل بيده حقيبة، وكتب على الغلاف: " يمكن لهذا الكتاب غير الاعتيادي أن يصدمك، سوف يضحكك، ويمكن أن يحطم قلبك، إلا أنك لن تنساه أبداً" .

استوحى سالينجر عنوان روايته من قصيدة للشاعر روبرت برنز المتوفي عام 1796، قال فيها: "إذا التقى جسم جسماً، يعبر حقل الشوفان" . يقول بطل الرواية لشقيقته الصغيرة ابنة العاشرة إنه يتصور آلاف الأطفال يلعبون وحدهم في حقل كبير من الجودار، ويرى نفسه الكبير الوحيد بينهم، يقف قرب حافة وينقذ كل طفل يقترب منها، " هذا كل ما أفعله طوال النهار. أعمل حارساً في الجودار وكل ذلك. أعرف أن ذلك جنون، ولكن هذا الشيء الوحيد الذي أريد حقاً أن أكونه. أعرف أن ذلك جنون" .

أثّرت كتابات سالينجر على العديد من الكتاب البارزين، يكتب الناقد مايلز دونالد، أن سالينجر: " صاحب العمل الأكثر نفوذاً في النثر الإنكليزي بعد هيمنغواي"، فيما يكتب الروائي الحائز على جائزة بوليتزر، جون أبدايك، أن «"القصص القصيرة لسالينجر فتحت عيني حقاً، كيف يمكن نسج الخيال من مجموعة من الأحداث التي تبدو غير مرتبطة تقريباً، إنها دفعتني خطوة إلى الأمام"، فيما اعتبر الروائي الشهير فيليب روث أن صوت سالينجر ظلّ يتردد صداه في معظم أعماله

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: جون فوس

خطبة نوبل أمام لجنة نوبل يوم 7 ديسمبر 2023م

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

عندما كنت في المدرسة الإعدادية، حدث ذلك دون سابق إنذار. طلب مني المعلم أن أقرأ بصوت عالٍ. وفجأة، تغلب علي خوف مفاجئ سيطر علي. كان الأمر كما لو أنني غرقت فى بحر من الخوف. وكان الأمر كذلك، نهضت وخرجت من الفصل.

لاحظت عيون الطلاب والمعلمة الواسعة تتبعني إلى خارج الفصل.

بعد ذلك حاولت شرح سلوكي الغريب بالقول إنني يجب أن أذهب إلى الحمام. ربما كنت أرى على وجوه المستمعين أنهم لم يصدقوني. وربما ظنوا أنني قد أصبت بالجنون، نعم، كنت في طريقي إلى الجنون.

استمر معى هذا الخوف من القراءة بصوت عالٍ. ومع مرور الوقت، وجدت الشجاعة لأطلب من المدرسين إعفائى من القراءة بصوت عالٍ،لأنني كنت خائفًا جدًا من ذلك، فصدقني البعض وسمحوا لي بالرحيل، واعتقد آخرون أنني كنت أعبث معهم بطريقة ما.

لقد تعلمت شيئًا مهمًا عن الناس من هذه التجربة.

وتعلمت أشياء أخرى كثيرة.

نعم، على الأرجح شيء سيسمح لي بالوقوف هنا والقراءة بصوت عالٍ للجمهور اليوم. والآن تقريبا دون أي خوف.

ماذا تعلمت؟

كان الأمر كما لو أن الخوف سلبنى لغتى، وكان عليّ أن أستعيدها، إذا جاز التعبير. وإذا تمكنت من تحقيق ذلك، فلن أتمكن من القيام بذلك وفقًا لشروط الآخرين، ولكن يمكنني أن أفعل ذلك بمفردى وبشروطي الخاصة.

بدأت بكتابة نصوصي الخاصة، قصائد صغيرة، قصص صغيرة.

ووجدت أنه عندما فعلت ذلك أعطاني الأمان، وأعطاني ما هو عكس الخوف

لقد وجدت بطريقة ما مكانًا بداخلي كان خاصًا بي فقط، ومن هذا المكان يمكنني أن أكتب ما هو خاص بي فقط.3210 جون فوس

الآن، بعد مرور حوالي خمسين عامًا، ما زلت أكتب - وما زلت أكتب من هذا المكان السري بداخلي، مكان لا أعرف عنه الكثير بصراحة سوى أنه موجود.

كتب الشاعر النرويجي أولاف هوج قصيدة يقارن فيها كتابة الشعر بالطفولة وبناء الأكواخ في الغابة، ثم الزحف إليها وإضاءة الشموع والجلوس هناك والشعور بالأمان في أمسيات الخريف المظلمة.

أعتقد أن هذه صورة جيدة أيضًا لكيفية تجربتي في الكتابة. الآن - كما كان الحال قبل خمسين عامًا.

وتعلمت المزيد، تعلمت أنه، على الأقل بالنسبة لي، هناك فرق كبير بين اللغة المنطوقة والمكتوبة، أو بين اللغة المنطوقة واللغة الأدبية.

في كثير من الأحيان تكون اللغة المنطوقة عبارة عن نقل مونولوجي لرسالة مفادها أن شيئًا ما يجب أن يكون كذلك أو هكذا، أو تكون نقلًا بلاغيًا لرسالة تريد الإقناع أو الاعتقاد. اللغة الأدبية ليست كذلك أبدًا – إنها لا تنقل، إنها المعنى ذاته وليس التواصل، ولها كيانها الخاص.

وبهذا المعنى فإن الشعر الجيد والوعظ بكل أنواعه متضادان، سواء كان الوعظ دينيا أو سياسيا أو أيا كان.

من خلال الخوف من القراءة بصوت عال، دخلت، إذا جاز التعبير، الحياة المنعزلة للكاتب - وأنا هناك منذ ذلك الحين.

لقد كتبت الكثير من النثر والدراما.

وما يميز الدراما بالطبع أنها لغة مكتوبة، حيث يكون الحوار، أو المحادثة، أو في كثير من الأحيان محاولة التحدث، وأيًا كان المونولوج الموجود، دائمًا عالم خيالي، جزء من شيء ما. غير موجود. لا ينتقل، ولكن هذا له كيانه الخاص الموجود.

وعندما يتعلق الأمر بالنثر، فإن ميخائيل باختين على حق في أن التعبير نفسه، فعل الحكاية، له صوتان.

للتبسيط قليلا: صوت من يتكلم، ومن يكتب، وصوت من يُحكى عنه. غالبًا ما تمتزج هذه الأصوات مع بعضها البعض بطريقة تجعل من المستحيل معرفة من الذى يتحدث.

إنه ببساطة يصبح صوتًا مكتوبًا مزدوجًا- وهو بالطبع أيضًا جزء من الكون المكتوب، من المنطق الموجود فيه.

لأن كل قطعة شعرية كتبتها هي، إذا جاز التعبير، لها عالمها الخيالي، عالمها الخاص. وثمة قيمة جديدة لكل مسرحية، ولكل رواية.

لكن حتى القصيدة الجيدة، لأنني كتبت أيضًا الكثير من الشعر، هي عالم خاص بها – إنها تتعلق بشكل أساسي بنفسها. ولذا فإن من يقرأها يمكنه أن يخطو إلى الكون الذي تمثله القصيدة - حسنًا، إنها أشبه بنوع من التواصل أكثر من كونها تواصلًا.

ربما، ربما ينطبق هذا على كل ما كتبته.

الأمر المؤكد هو أنني لم أكتب أبدًا للتعبير عن نفسي، كما يقولون، بل للابتعاد عن نفسي.

لقد انتهى بي الأمر إلى أن أصبح كاتبًا مسرحيًا – حسنًا، ماذا يمكنني أن أقول عن ذلك؟

كتبت الروايات والقصائد ولم أرغب في الكتابة للمسرح، لكنني فعلت ذلك في الوقت المناسب لأنه - في ظل إغراء ممول من القطاع العام لإنتاج الدراما النرويجية الجديدة- كان العرض بالنسبة لي، وكنت كاتبا فقيرا في ذلك الوقت، فرصة جيدة فى نظير كتابة مقدمة مسرحية، وانتهى بي الأمر بكتابة مسرحية كاملة، وهي أولى مسرحياتي وأكثرها إنتاجا، " شخص ما سيأتي ".

إن البدء في كتابة المسرحيات كان بمثابة مفاجأة كبيرة جدًا بالنسبة لي ككاتب. حاولت في النثر والشعر أن أكتب ما لا يمكن قوله عادة بالكلمات. نعم لقد كان هذا. حاولت أن أكتب ما لا يوصف، كما قيل في التبرير عندما أُعلن فوزي بجائزة نوبل.

إن أهم شيء في الحياة لا يمكن أن يقال، بل يكتب فقط، لتحريف مقولة معروفة لجاك دريدا.

لذلك أميل إلى ترك الكلام الصامت يتكلم.

وعندما كتبت الدراما، كان بإمكاني استخدام الكلام الصامت، الصمت، بطريقة مختلفة تمامًا عن النثر والشعر. لم يكن بوسعي إلا أن أكتب كلمة وقفة، فكان الكلام الصامت موجودًا. وفي أعمالي الدرامية، لا شك أن كلمة "وقفة" هي الكلمة الأكثر أهمية والأكثر استخدامًا - وقفة طويلة، أو وقفة قصيرة، أو مجرد وقفة.

في فترات التوقف هذه يمكن أن يكون هناك الكثير أو القليل: أن هناك شيئًا لا يمكن قوله، أو أن هناك شيئًا لا يمكن أن يقال، أو أنه من الأفضل أن تقوله دون أن تقول أي شيء.

ومع ذلك، فأنا متأكد تمامًا أن أكثر ما يتحدث خلال فترات التوقف هو الصمت.3211 جون فوس

في نثري، ربما يكون لكل التكرارات وظيفة مماثلة للتوقفات في الدراما. أو ربما أتخيل أنه بينما في المسرحيات هناك خطاب صامت، ففي الروايات هناك لغة صامتة خلف اللغة المكتوبة، وإذا كان المكتوب جيدًا، فلا بد من كتابة هذه اللغة الصامتة أيضًا، على سبيل المثال، في رواية السباعية هناك على وجه التحديد هذه اللغة الصامتة، لنأخذ بعض الأمثلة الملموسة البسيطة، والتي تقول أن أسل الأول وأسل الثاني قد يكونان نفس الشخص، وأن الرواية الطويلة بأكملها، التي يبلغ عدد صفحاتها حوالي ألف ومائتي صفحة، ربما تكون في الواقع مجرد إسقاط لمقتطف واحد الآن.

لكن في الغالب الخطاب الصامت، أو اللغة الصامتة، تتحدث من العمل بأكمله. سواء كانت رواية، أو مسرحية، أو إنتاجًا مسرحيًا، فليست الأجزاء في حد ذاتها هي المهمة، بل الكل، الذي يجب أن يكون حاضرًا أيضًا بكل التفاصيل الصغيرة.- أو ربما أجرؤ على الحديث عن روح الكل، روح تتحدث عن القريب والبعيد.

وماذا ستسمع بعد ذلك، إذا استمعت جيدًا بما فيه الكفاية؟

يمكنك سماع الصمت.

وكما يقولون، فقط في الصمت يمكنك سماع صوت الله.

ربما يكون ذلك صحيحا.

والآن لنعود إلى الأرض، أريد أيضًا أن أذكر شيئًا آخر منحته لي الكتابة للمسرح. الكتابة عمل انفرادي، كما قلت، والوحدة جيدة - طالما أن طريق العودة إلى الآخرين مفتوح، على حد تعبير قصيدة أخرى لأولاف هـ. هوج. وما جذبني عندما رأيت لأول مرة شيئًا كتبته يُعرض على خشبة المسرح، حسنًا، كان على  العكس تمامًا من الوحدة، كان المجتمع، نعم، خلق الفن من خلال مشاركة الفن - وقد أعطاني شعورًا قويًا بالبهجة والأمان طاردتني هذه التجربة لاحقًا، ،وربما جعلتني أحافظ على هدوئي، ليس فقط لأتحمل، ولكن أيضًا لأشعر بنوع من الفرح، حتى مع الإنتاج الردىءلبعض مسرحياتي.

في نهاية المطاف، المسرح هو في الواقع مجرد فعل كبير من الاستماع: يجب على المخرج، أو على الأقل ينبغي عليه، أن يستمع إلى النص، كما يستمع الممثلون إليه، وإلى بعضهم البعض وإلى المخرج، وكما يستمع الجمهور إلى  أداء النص بأكمله.

والكتابة بالنسبة لي هي الاستماع: عندما أكتب، لا أفكر أبدًا في أي شيء، ولا أخطط لأي شيء، بل أستمع باهتمام.

وبهذه الطريقة، فإن الشعر يذكرنا بطبيعة الحال بالموسيقى. وذات مرة، في مراهقتي، انتقلت، مباشرة من الاهتمام بالموسيقى فقط، إلى الكتابة.إذا جاز التعبير. لقد توقفت تمامًا عن العزف بنفسي والاستماع إلى الموسيقى وبدأت في الكتابة وفي الكتابة حاولت إبراز شيء مما جربته عندما كنت أعزف. لقد فعلت ذلك في ذلك الحين وما زلت أفعل ذلك.

شيء آخر، وربما غريب بعض الشيء، هو أنني عندما أكتب، أستطيع أن أشعر بأن النص مكتوب بالفعل، وأنه موجود في مكان ما، وليس بداخلي، وأنني فقط بحاجة إلى كتابة النص قبل أن يختفي.

في بعض الأحيان يمكنني القيام بذلك دون تغيير أي شيء، وفي أحيان أخرى يجب علي أن أجد طريقي إلى هذا النص عن طريق إعادة الكتابة والشطب ومحاولة العثور بعناية على النص الذي تمت كتابته بالفعل.

أنا، الذي لم أرغب في الكتابة للمسرح إلا قبل حوالي خمسة عشر عامًا، قررت أن أفعل ذلك.والمسرحيات التي كتبتها تم عرضها، نعم، في النهاية كان هناك العديد من العروض في العديد من البلدان.

ما زلت لا أفهم ذلك.

لا يمكن فهم الحياة.

لذلك ليس من المفهوم أيضًا أنني أقف هنا الآن وأحاول أن أقول بعض الكلمات المعقولة إلى حد ما حول الإملاءات المتعلقة بحصولي على جائزة نوبل للآداب.

وحقيقة حصولي على الجائزة، بقدر ما أستطيع أن أقول، لها علاقة بالدراما والنثر.

بعد كتابة المسرحيات بشكل حصري تقريبًا لسنوات عديدة، شعرت فجأة أن هذا يكفي، نعم، بل أكثر من كافٍ، وقررت التوقف عن كتابة المسرحيات تمامًا.

لكن ربما أصبحت الكتابة عادة لا أستطيع العيش بدونها - ربما مع مارغريت دوراس يمكنك أن تسميها مرضًا - لذلك قررت العودة إلى حيث بدأت، لكتابة النثر وقصيدة أو أخرى، كما فعلت لأكثر من عقد من الزمن قبل أن أبدأ ككاتب مسرحي.

وعلى مدى السنوات العشر إلى الخمسة عشر الماضية قمت بذلك.عندما بدأت كتابة النثر بجدية مرة أخرى، لم أكن متأكدًا مما إذا كان ما زال بإمكاني القيام بذلك.. في البداية كتبت الثلاثية - واعتبرتها بمثابة تأكيد عظيم على أن لدي ما أساهم به أيضًا ككاتب نثر،عندما حصلت على جائزة الأدب من مجلس الشمال عن تلك الرواية.

ثم كتبت السباعية ( Septologyا ).

وأثناء كتابتها،عشت بعضًا من أسعد لحظاتي ككاتب، مثل عندما يجد أحد أسلي الآخر ملقيا في الثلج، وبالتالي ينقذ حياته.أو النهاية، عندما ينطلق أسلى الأول، الشخصية الرئيسية، في رحلته الأخيرة، على متن قارب، مع سمكة قرش، مع أسليك، صديقه المفضل والوحيد، للاحتفال بعيد الميلاد مع أخت أسليك.

لم يكن لدي أي نية لكتابة رواية طويلة، لكن الرواية كتبت نفسها، إذا جاز التعبير، وتبين أنها رواية طويلة،وكتبت العديد من الفقرات كثيرة بسلاسة رائعة بحيث كان كل شيء على ما يرام في نفس الوقت.

وربما يكون ذلك عندما أكون الأقرب إلى ما يمكنك تسميته بالسعادة.

يحتوي كتاب السباعية بأكمله على ذكريات كثيرة كتبتها، لكن تم رؤيتها في ضوء مختلف. حقيقة عدم وجود نقطة واحدة في الرواية الطويلة بأكملها ليست من اختراعي. لقد كتبت الرواية بهذه الطريقة، في انسيابية، وحركة، لا تتطلب نقطة.

قلت ذات مرة في مقابلة إن كتابة الشعر هي نوع من الصلاة. وشعرت بالحرج الشديد عندما رأيته مطبوعًا. ولكنني قرأت فيما بعد، وهو ما أراحني، أن فرانز كافكا قال نفس الشيء. لذلك ربما – مازال كذلك؟

تلقت كتبي الأولى مراجعات سيئة للغاية، وقررت حينها أنني لن أستمع إلى النقاد، سأثق بنفسي، حسنًا، سألتزم بكتاباتي. ولو لم أفعل، لكنت  قد توقفت عن الكتابة بعد روايتي الأولى Raudt, svart («أحمر، أسود») قبل أربعين عامًا.

لاحقًا حصلت على تقييمات جيدة في الغالب، وبدأت في تلقي الجوائز، ثم أدركت أنه من المهم اتباع نفس المنطق: لو لم أستمع إلى الانتقادات السيئة، فلن أدع النجاح يؤثر علي أيضًا، سأتمسك بكتاباتي، وأتمسك بما أبدعته.

وأعتقد أنني تمكنت من القيام بذلك، وأعتقد، إذا كنت صادقًا، أنني سأتمكن من القيام بذلك حتى بعد حصولي على جائزة نوبل.

عندما تم الإعلان عن حصولي على جائزة نوبل في الأدب، تلقيت الكثير من رسائل البريد الإلكتروني والتهاني، كنت سعيدًا بالطبع، معظم التحيات كانت رصينة وسعيدة، لكن البعض كتب أنهم صرخوا من الفرح، والبعض الآخر أنهم تأثروا حتى البكاء، لقد أثر ذلك فيّ حقًا.

هناك العديد من حالات الانتحار في قصائدي. أكثر مما أود. لقد كنت أخشى أن أكون بهذه الطريقة قد ساهمت في إضفاء الشرعية على الانتحار. لذا فإن أكثر ما أثر فيّ هو أولئك الذين كتبوا بصدق أن أعمالي أنقذت حياتهم بكل بساطة.

لقد عرفت دائمًا أن الشعر يمكن أن ينقذ الأرواح، وربما أنقذ حياتي أيضًا. وإذا كان شعري يمكن أن يساعد أيضًا في إنقاذ حياة الآخرين، فلا شيء يمكن أن يجعلني أكثر سعادة من ذلك.

شكرًا للأكاديمية السويدية لإعطائي جائزة نوبل في الأدب.

والحمد لله.

(تمت)

***

.............................

رابط النص المترجم:

https://www.nobelprize.org/prizes/literature/2023/fosse/lecture

د.محمد عبدالحليم غنيم

 

من أكثر المواقف إرباكاً التي أواجهها وبشكل مستمر هي الإجابات عن تلك الأسئلة البسيطة والسطحية والتي على ظاهرها البسيط إلا أنها شديدة الخصوصية والعمق ولايهم السائل الفضولي أن يعرف الحقيقة وغالباً ما ينتظر منا إجابات بسيطة وسطحية كذلك..

هل يعقل أن فتاة مثلك وبكل هذه الصفات والمزايا لم تجد شريكاً مناسباً حتى الآن؟

سألني هذا صديقاً مثقفاً خلوقاً محترماً تجاوز الخمسين من العمر فضولياً جداً، في الحقيقة ليست المرة الأولى التي أجد نفسي فيها بمواجهه مباشرة مع هذا السؤال الملعون الذي بات ومع مرور الوقت يلتصق بي كإسمي كهوية جديدة علي تعريف نفسي من خلالها..

ماذا أجيب؟ وماهي حدود الصراحة التي علي البقاء مختنقة بداخلها. هل أقول أن التربية الدينية المتشددة وفروض التضحية والنزاهه وأوهام العفة والعار والفضيحة والضغوط الإجتماعية أضاعت لي بوصلتي وبات كل ما حسبته حباً إكتشفت وعلى كبر أنه مجرد روابط صدمات وعقد سيكولوجية عميقة ولم أكن قادرة على التمييز بين من يرغبني وبين من يحبني ومن يلتصق بي ككائن طفيلي يمتص الحياة من روحي بالقدر الذي يلزمه أن يعيش ثم يلفظني قلباً خالياً مجرّداً فارغاً من كل شيء يتجرع سمّاً آخر، أن شقائي قد كتب منذ أن ولدت أنثى بهذه البقعة الموبوءة من الأرض المعادية للحب وللعاطفة ولكل ماله علاقة بالجمال، جمال الوجه وجمال الجسد جمال التدفق الأنثوي عمق النظرات عذوبة الصوت ودفء المشاعر وأن علي ستر كل ما أودع بداخلي من رغبات وألحفها تحت طبقات السواد..

أأقول أن كل ما لاقيته من تنمر وإستخفاف من أخواتي وقريباتي وصديقاتي بدافع الغيرة أو السخرية جعلني أستخف بكل شيء وبكل ما بدا لي من بعيد أملاً بدفئاً حقيقاً نقيّاً عذباً وكأنه صورة غير موجودة سوى في أحلام يقظتي، وأنني أمضيت خمسة عشر عاماً تائهةً في صحرائي باحثة عن إنتماء يروي ضمأ فؤادي وكلما خلت أني لمسته هرب بعيداً، أصبحت أتخلى وأمضي نحو الجمود والبرود والجفاف أركض إلى الصقيع باحثة عن الدفء بين الثلوج حتى إن مت برداً، أن أتخلى وأترك قبل أن أُترك وأنني حينما واجهت كل ذلك واستطعت أن أضع يدي على موضع الجرح لتطهيره أضرمت به النار..

هل يعقل أن بنت مثلك مفعمة بالحياة وبالطاقة أن تكون إنعزالية منطوية على نفسها؟

لا تعلم كم تطلب مني الظهور بهذه النسخة للعالم ولا كم من المرات تخفيت خلف ابتساماتي كم من الساعات قضيت على سريري سارحة في اللاشيء أحلم بالذهاب إلى اللامكان، هناك أموراً نظن أننا نسيناها كتوبيخ معلم في المدرسة أمام الطلاب وإحراجه إيانا ورد فعل بارد من والدينا حينما انتهينا من رسمة سيئة لنريهم إياها، عندما جلسنا قرب أمهاتنا خجلين من التعبير عن الحاجة للحنان فتجاهلننا راكضين إلى إخوتنا المدللين، وعن الخذلان حينما ركضنا إليهن بعينين غارقتين بالدمع نشكو من ظلم الأولاد في الحي الذين كسروا زجاج سيارة جارنا فصفعن خدنا لتأديبنا عن ذنب لم نقترفه تفادياً للإحراج أمام المعازيم وإثباتاً لحسن التربية، عندما أخبرنا أخواتنا النممات بأسرارنا ففضحوها عند الجميع وعندما أردنا مرافقة إخوتنا الكبار للبقاله فرفضوا رفقتنا، عندما هجرنا من نحب لغيرنا وكيف أخفينا إنكسارنا في سبيل الكرامة، كم من المرات كان علينا أن نفعل كل شيء لانريده نقول مالانشعر به ومالايمثلنا حتى نظهر بالصورة المثالية التي ترضي أهلنا لأننا كنا نعتقد أننا لسنا جديرين بالحب وبالقبول بأخطاؤنا وبنواقصنا وعيوبنا.

تلك المواقف العابرة لاتعبر إنما تتغلغل عميقاً في الذاكرة المنسية وتظهر في تكويننا في علاقاتنا وفي كل ما من شأنه ربطنا بالآخرين، ولأنني وبمعجزة ما توصلت إلى قبول مطلق لتلك العثرات المخجلة القبيحة في النفس وكشفت عنها بلا خجل ،مشيت فوق مناطق الخطر بقدمين عاريين بعد الكثير من الصراخ والصراع والألم وتقلبات المزاج أصبحت شخصاً محاطاً بالسحر والغموض والجاذبية، كيف يمكن الجمع بين نقيضين؟ كيف لإنسان أن يخلق بطينٍ من الجنة وآخر من الجحيم؟ تلك الإنفصالات المتكررة بين المتناقضات وسرعة الإستشفاء العاطفي أعطبت قلبي الذي وصل إلى حد مرونته الأقصى تدفعني شيئاً فشيئاً للجنون.

كيف تملكين هذا القدر من الفهم للآخرين؟

لا أدري.. أمتلك قلباً بركانياً ملتهباً تتطاير منه العواطف كالشرر تلسع كل من إقترب منه بنيران وردية دافئة ترسم حروقاً ناعمه ولكنها موجعه، يلفت إنتباهي في الآخرين دائماً مالايرى ومالايلفت أحداً أسمع الصمت بين العبارات، أنتشل الأنين من بين الركام، ألتقط كل رمشة عين سريعة خاطفة عند المحاولات البائسة لإخفاء شيئاً ما، إن الحياة بهذا القدر من الحساسية والإتصال بكل شيء بكل هذا الإنكشاف الساطع للحقائق أقسى بكثير مما هي عليه..

النجوم الساطعة في السماء الذي يبهرنا جمالها..هي في الحقيقة ومنذ آلالاف السنين تحترق والوصول إليها موت محقق.

لذلك ياصديقي ليس كل ما يلمع بريقاً..ثمة مايلمع توهجاً

والطريق إلى تلك النجوم الساحرة ...مظلم

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

 

بالأمس تلقيت خبرا من صديقي عزيز علي، يخبرني بوفاة الدكتور "وجية أحمد عبد الله" – أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب - جامعة سوهاج،  إثر عملية جراحية فاشلة، وقد حزنت عليه حزنا شديدا، لاسيما وأنني قد عاصرته منذ أن كنت أقوم بدراستي للماجستير في السهروردي المقتول بنفس الجامعة.

والدكتور وجيه عاصرته منذ  حصوله على درجة الماجستير عام 1983 عندما قام بتعيينه  أستاذي الجليل الدكتور صبري عثمان محمد رحمة الله الدكتور مدرسا مساعدا بقسم الفلسفة بسوهاج، ومنذ تلك اللحظة جمعتني وإياه علاقة حب ومودة، وهذه العلاقة كشفت جدت لي على أن هذا الرجل كان يتميز بوفاء الصديق وقلب الطفل، ومثاقفة الفارس وأريحية المفكر، والنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل.

وليس لدي معلومات كاملة عن ميلاده، ولكن كل ما أعلمه أنه من خرجي كلية الآداب – جامعة الاسكندرية، حيث حصل علة درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية في موضوع بعنوان " الوجود عند إخوان الصفا"، من جامعة أسيوط وكان مشرفا عليه الأستاذ الدكتور " جلال شرف" والدكتور صبري عثمان وقد حصل عليها عام 1983م، وبعدها سجل لدرجة الماجستير في التصوف الإسلامي عن " الحكيم الترمزي واتجاهاته الذوقية، وقد نشرت في كتاب بعد ذلك في عام 1989م وبعدها واصل مسيرته البحثية حتى وصل إلى درجة أستاذ مساعد.

ولقد كان الدكتور وجيه من الذين قهروا اليأس من عاهته الجسمية وهي شلل الأطفال وانطلق يحقق ما لم يحققه زملائه الذين يسيرون على قدمين ثابتتين، وهو يذكرني دائما بالفنان الفرنسي " أوجست رنوار" الذي عاش من أجل نشر الجمال في العالم، أصيب بشلل في يده ولكنه لم يتخل عن فرشاته وظل يرسم ويبهج الحياة بكل جميل وهو يتألم ويتوجع طوال العشرين سنة الأخيرة من عمره .

ودائما أقول : قليلون أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعلمون بما يؤمنون، والدكتور وجيه من هؤلاء الرجال،  لقد تعلمت علي يديه الكثير من قضايا المنهج العلمي، ومنها قوله لي بأن علة ضحالة وهشاشة معظم الكتابات الفلسفية في ثقافتنا العربية المعاصرة ترجع في المقام الأول إلي افتقار أصحابها المنهج –أي – ذلك الطريق الواضح والخطوات المنظمة التي يخطوها الكاتب في التصنيف والتأليف والترجمة والتحقيق.

ولا أنسي قوله لي كثيرا ومرارا بأن الكاتب الذي لا يعي منهجه ولا يستطيع قراؤه التمييز بين أسلوبه وأسلوب غيره من الكتاب يجب أن يتوقف عن الكتابة لأنه من لم ينتقل بعد من طور التتلمذ، فعليه أن ينتظر حتي تكتمل شخصيته وينفرد قلمه وينضج ذهنه.

ولقد شهد له الكثير من الزملاء والمعاصرين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة .. إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

رحم الله الدكتور وجيه عبد الله  الإنسان والأستاذ وإن كان جسده قد فارقنا، فإن فكره سيظل باقيا ن ما بقيت الحياة علي وجه الأرض . ولا يسعني إلا أن أقول مع أستاذنا الدكتور عاطف العراقي أن أخاطب روحه في السماء قائلا: اذكريني، وذلك بعد أن انتشر الفساد الفكري والظلام الثقافي، ازدادت فيه طرق وأساليب جيوش البلاء والظلام، بحيث أصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، وإن كان أكثرهم لا يعلمون. نعم أقول لروحه اذكريني حين يتم لقاء الأرواح بالأرواح في عالم الخلود، وبعيداً عن العالم الزائل الذي نعيش فيه.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة– جامعة أسيوط

 

أولا: أحمد بن فضلان

أول مرة سمعت بإسمه عندما سألني أحد الأساتذة الأجانب عنه، وهل شاهدت فلمه، ووجدتني أجيبه بإستحياء، وأظهرت له عدم قدرتي على تزويده بمعلومات، فهو يعرفه وأنا لا أعرفه، وشاهد فلما عنه، وأنا من الجاهلين به.

وحينها قررت أن أبحث عن أحمد بن فضلان، فوجدته من الرحالة المولودين في بغداد، وولادته غير واضحة التأريخ،  لكن المدوّنات تذكر أنه عاش في القرن العاشر الميلادي، وعاصر المقتدر بالله (283 - 319) هجرية، وهو الذي أرسله في بعثة لبلاد الصقالبة (البلغار)، بموجب طلب من ملكها للتعريف بالإسلام، فهو الذي أسلم وطلب من يفقهه في الدين، ويبني له مسجدا ومنبرا ويساعده على نشر الدين في بلاده، وحول ذلك نسجت قصص كثيرة.

وغادر بغداد في شهر صفر (309) هجرية، ووصل بلاد البلغار في محرم (310) هجرية، ودوّن رحلته بتفاصيلها، والتي إستمرت أحد عشر شهرا، فكتب عن أحوال البلاد التي مر بها، وما إلتقطته ملاحظاته الثاقبة عنها.

ثانيا: أبو الحسن المسعودي

أبو الحسن إبن علي المسعودي الهذلي (283 - 346) هجرية، عالم ومؤرخ ورحالة ورائد نظرية الإنحراف الوراثي.

يذكر في كتابه عن بحّار مسلم  أنه أول من قطع المحيط الأطلسي وأول من إكتشف أمريكا، وإسمه خشخاش بن سعيد بن أسود.

يعرف المسعودي بهيرودوتس العرب، كنيته أبو الحسن ولقبه قطب الدين، وهو من ذرية عبدالله بن مسعود، وإشتهر بكتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، بأربعة أجزاء.

ثالثا: إبن حوقل

أبو القاسم محمد بن حوقل، ويكنى بالحوقلي، الموصلي، أو البغدادي، كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر.

وكان من أشهر الجغرافيين والرحالة المسلمين الذين كتبوا عن بلاد المسلمين شرقا وغربا، ومن كتبه "المسالك والممالك" (صورة الأرض)، يصف فيه رحلاته التي إنطلقت سنة (331) هجرية.

وأهم ما يتميز به تتبعه الدقيق للأسواق والمدن والقرى وما فيها من معالم عمرانية، ويُقال أنه أمضى أكثر من ثلاثين عاما في ترحاله.

رابعا: محمد بن أحمد شمس الدين المقدسي

أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي، رحالة مسلم ولد في القدس  سنة (336) هجرية  وتوفي سنة (380) هجرية، وله عدد من المؤلفات في المواضيع الدينية.

وكتابه في الرحلات عنوانه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم".

ويُذكر أنه هندس شوارع عكا وبنى ميناءها في زمن إبن طولون.

خامسا: أبو عبدالله الإدريسي

محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريسبن يحيى بن علي بن حمود الإدريسي (493 - 560) هجرية، ويكنى بأبي عبدالله، ويعرف بالشريف الإدريسي، ولد في سبتة في المغرب،  وإشتهر بكتابه "نزهة المشتاق في إختراق الآفاق".

إشتهر برسمه لخارطة العالم تلبية لدعوة  ملك صقلية ، فصنع نموذجا كرويا من الفضة للأرض وحفرت عليه الأقاليم السبعة، وقد رسم سبعين خريطة في حياته، وزار العديد من البلدان في بلاد الأندلس وأوربا وأفريقيا.

ولا ننسى أن لديه إهتمامات طبية ونباتية وأدبية.

سادسا: إبن جبير الأندلسي

أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني المعروف بإبن جبير الأندلسي، ولد في بلسية سنة (540) هجرية، وهو جغرافي ورحالة وكاتب وشاعر أندلسي.

وسجل رحلته التي إستغرقت سنتان وثلاثة أشهر في كتابه "رحلة إبن جبير"، وله ديوان شعر "نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان"، ويوصف بأنه "كان أديبا بارعا، شاعرا مجيدا، سري النفس كريم الأخلاق"

وتوفي في الإسكندرية سنة (614) هجرية.

سابعا: إبن بطوطة

أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد الطنجي، المعروف بإبن بطوطة، ولد في طنجة (703 - 779) هجرية، رحالة ومؤرخ وقاضي و خصوصا في جزر الملديف التي سكنها وتزوج فيها عددا من النساء، وقد زار أربعين بلدا، وقطع (117000) كم.

وكتابه المشهور "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وهو من أشهر الرحالة في تأريخ المسلمين، وطغت شهرته على غيره، حتى صارت تضرب به الأمثال.

زار المسجد الأقصى وقال عنه : "وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن، يُقال أنه ليس على وجه الأرض مسجدا أكبر منه"

وزار البصرة وبغداد بعد دمارها ووقف على ما تبقى من آثارها.

ويمكن القول أنه كان مغامرا في جولاته ومتحديا ومقداما، ويتمتع بذكاء متميز وبشاعرية عالية.

ثامنا: أحمد محي الدين بيري

جغرافي ورحالة ومستكسف ومحارب وأديب عثماني\ تركي، عاش بين القرنين السادس والسابع عشر، ولد في مدينة جاليبولي جنوب إسطنبول، ومات غرقا في إحدى الحملات البحرية التي كان يقودها.

رسم خريطة العالم وأشار إلى إكتشاف أمريكا، ويبدو أنه كان موهوبا ولديه قدرة معرفية فائقة في علوم الجغرافية والبحار، وأكتشفت خرائطه العجيبة في سنة 1929.

تاسعا: إبن ماجد

أحمد بن ماجد بن محمد  النجدي (821 - 903) هجرية، ملاح وجغرافي عربي من رأس الخيمة، برع في الفلك الملاحة والجغرافية، وهو من أشهر الملاحين في المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأحمر، وأسهم بتطوير البوصلة، وبإضافة قياسات فلكية دقيقة، وهو "أسد البحار بلا منازع".

ومن مؤلفاته : "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، موسوعة شعرية عن نمط الرياح الموسمية، خريطة النجوم، سواحل المحيط الهندي، الشعاب المرجانية، التيارات البحرية، وغيرها.

ويذكر أنه أرشد فاسكو دي كاما إلى رأس الرجاء الصالح وربما ساعده في إكتساف أمريكا.

عاشرا: سليمان المهري

سليمان بن أحمد بن سليمان المهري (1480 - 1550) ميلادي، ربان بحري وعالم فلكي عربي، من مدينة الشحّر على الساحل الجنوبي لحضرموت، يلقب بمعلم البحر، عاصر أسد البحار (إبن ماجد)، وهو تلميذه، وأخذ العلم من مؤلفاته.

ومن مؤلفاته: المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر، قلادة الشموس وإستخراج قواعد الأسوس، تحفة الفحول في تمهيد الأصول، شرح تحفة الفحول في تمهيد الأصول، العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية، الأرجوزة السبعية وغيرها.

وددت في هذا المقال المختصر المكثف أن أشير إلى أنوار الأمة الساطعة في البحار والترحال، وكيف إستطاعوا المساهمة في صناعة الدنيا ووضعها على جادة الإنطلاق العلمي المطلق.

***

د. صادق السامرائي

 

في أعماق الصفحات المنسيَّة من التاريخ، تكمنُ الكثيرُ من المفارقات والمصادفات، والأسرار الغامضة التي تمثل المعين الذي لا ينضب للخيال الخلّاق، مثل ذلك الخيال المُبهِر للروائي الفرنسي من أصلٍ لبناني أمين معلوف الذي أُنتخب قبل أشهرٍ قليلة ليشغل منصب الأمين العام للأكاديميَّة الفرنسيَّة مدى الحياة. وتكمن عبقريَّة معلوف الذي يكتب باللغة الفرنسيَّة، في استلهامه تاريخاً حقيقياً لا أسطورياً، وفي ربطه بين أحداثٍ تبدو متفرقة للوهلة الأولى لا يجمعها جامع، لكنَّه يخلق منها نسيجاً روائياً مدهشاً، كما فعل في رواياته: ليون الأفريقي، والحروب الصليبيَّة، أو في حدائق النور عن شخصيَّة وأفكار ماني مؤسس المانويَّة، أو صخرة طانيوس التي تروي قصة الصراع العثماني الإنكليزي المصري للسيطرة على جبل لبنان. صحيح أنَّه يصنع خيالاً تاريخياً مشوقاً استحقَّ معه أرفع الجوائز والأوسمة كجائزة غونكور الأدبيَّة الفرنسيَّة ووسام الاستحقاق الوطني الفرنسي ووسام الأرز اللبناني، لكنَّ براعته تكمنُ في أنَّه يستلهمُ التاريخَ بلا تشويه ولا تحوير ولا مبالغة، فهو يكتب التاريخ بطريقة روائيَّة عمادها الواقع التاريخي، والخيال الروائي الفذ، والربط بين الأحداث والشخصيات ببراعة وإقناعٍ ومهارة فائقة. وفي روايته "سمرقند" على سبيل المثال فإنَّه يستهلها بحادثة غرق الباخرة تايتانيك في أعماق المحيط الأطلسي عام 1912 وهي حادثة معروفة طالما تناولتها الصحف والمجلات والتقارير الوثائقيَّة والأفلام السينمائيَّة، لكنَّه بخيالٍ فذٍ يلتقطُ منها المعلومة الخاصَّة بغرق نسخة فريدة من رباعيات عمر الخيام، لينفذ منها إلى أحداثٍ تاريخيَّة تجمع ثلاث شخصيات مثيرة للحيرة والجدل، عاشوا في زمنٍ واحدٍ ببلاد فارس هم عمر الخيّام الشاعر والفلكي والفيلسوف النيسابوري، وحسن الصباح مؤسس وزعيم جماعة الحشاشين في قلعة آلموت، ونظام الملك أشهر وزراء السلاجقة، وكلٌ من هذه الشخصيات التاريخيَّة الواقعيَّة أسطورة لوحدها.

هناك العديد من الأخبار والروايات حول هذه المخطوطة الكنز "مخطوطة سمرقند" التي غرقت مع تايتانيك، لكنَّها جميعاً تتفق على أنَّ غرق السفينة ما هو إلا غرق ماسة صغيرة، قياساً لمنجمٍ من الماس، تمثله مخطوطة الخيّام، تلك التي أعاد معلوف ذكراها إلى الأذهان في روايته التي اعتمد معربها من الفرنسيَّة على ترجمة أحمد الصافي النجفي لرباعيات الخيّام، من بين ترجمات عديدة أبرزها ترجمة جميل صدقي الزهاوي، واللبناني وديع البستاني، والشاعر المصري أحمد رامي التي غنتها أم كلثوم مطلع الخمسينيات بألحان رياض السنباطي.

وتبقى حوادث التاريخ متاحة أمام جميع الروائيين بلا استثناء، لكن بعض التاريخ تصنعه خيالات الروائيين الكبار، وحدهم.

***

د. طه جزاع

يوم ارتحلتْ الفلسفة اليونانيَّة العقليَّة الخالصة إلى الشرق، فإنَّها تنازلت عن الكثير من تعقلها الجامد ومنطقها الجاف، لتنغمس بالروح الشرقيَّة في مدرسة الإسكندريَّة، ولتنشأ على يد افلوطين الاسكندراني فلسفة جديدة هي امتزاجٌ خَلّاقٌ ما بين العقل الغربي والروح الشرقيَّة. وقد جذب هذا الشرق الروحاني بسحره وفيوضاته وإشراقاته، الكثيرَ من المستشرقين الذين سئموا عقلانيَّة الغرب، ونذروا حياتهم للتقرب من منابع الروح، والارتواء من بحر التصوّف العذب الخالص من شوائب الدنيا، وملذات الحياة.

المستشرقة الألمانيَّة أنَّا ماري شيمل هي من هؤلاء الذين جذبتهم روح الشرق بقوة، فكرست حياتها لمشروعها الاستشراقي، وللتصوّف الإسلامي على وجه التحديد، إذ وجدت نفسها وقد التحمت كلياً بموضوعات بحوثها في التصوّف ورجاله ومقاماته وأحواله، منذ أنْ اطلعت يوماً وهي ما زالت صبيَّة على حكاية الحكيم الهندي المسلم التي تنتهي بالعثور على نعش أكبر ملوك العالم وقد كُتبت عليه جملة أصابتها بما يشبه الصاعقة «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، ثم أصابتها صاعقة روحيَّة ثانية باطلاعها على ديوان المثنوي لجلال الدين الرومي، ومنذ وقعت أشعاره بين يديها بقيت مخلصة له، وترددت مرات كثيرة لزيارة ضريحه في مدينة قونية وسط الأناضول. ولشدة انجذابها للشرق الإسلامي، وانغمارها ببحوثٍ حول الثقافة الهندو – إسلاميَّة، وقيامها بالتدريس في كليَّة الإلهيات في أنقرة، فقد اتخذت من «جميلة» اسماً إسلامياً تُذيل به بعض بحوثها وكتاباتها، مقترناً مع اسمها الألماني أنَّا، أو آنة كما تُكتب وتُلفظ أحياناً، وفُتنت جميلة بكل ما يمتُّ للإسلام بصلة، وتأثرت عميقاً بالطقوس المولويَّة، وما يرافقها من موسيقى دينيَّة تجعلها في حالة من «نشوة الوصال» على طريقة المتصوفّة العشاق.

قبيل وفاتها وهي في الثمانين، تذكرت شعار طفولتها الإسلامي «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» وطلبت أنْ تُنقشَ كلماته على شاهدة قبرها بالخط العربي، وتمَّ لها ذلك، وتحقيقاً لأمنيتها قُرأت الفاتحة على نعشها في ختام قداس بإحدى كنائس مدينة بون في شباط 2003. تقول في مذكراتها «حياتي الغرب – شرقيَّة»: أنا أعتقد باليوم الآخر الذي لا نستطيع أنْ نصفه ولا أنْ نتصوره، وذلك حتى نُحلق ونختفي في الحُبّ الأبدي.

كانت الروحانيَّة هي بضاعتنا الشرقيَّة التي طالما ألهمت الغربيين وجذبتهم إلى نورها الوهاج، قبل أنْ نخسرها في معركة الحياة، ونحن عنها غافلون.

***

د. طه جزاع

على تلةٍ مرتفعةٍ تطل على خليج القِرن الذهبي، وبجوار مقبرة تنحدر سفوحها لتنتهي عند ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري الذي يسميه أهل إسطنبول أيوب سلطان، وما هو بسلطان من سلاطينهم، لكنهم يحترمون مثواه بينهم إلى درجة القدسية لمشاركته مقاتلاً في المحاولة الأولى لفتح القسطنطينية وهو شيخ مُسن، في هذا المكان الذي يشبه عشاً كبيراً في أعلى شجرة عملاقة، اختار الضابط الفرنسي بيير لوتي، أن يجلس ويتأمل ويكتب ويرسم، ويتذكر حبه المستحيل نهايات القرن التاسع عشر.

وتخليداً لذكرى بيير لوتي، واسمه الحقيقي بيار جوليان، والذي كان يوماً ما مرشحاً لنيل جائزة نوبل، سميت تلك التلة باسمه، مع أنه في حياته وكتاباته كان يطلق عليها اسم " الجبل المقدس"، ولعله سماها بذلك لمجاورتها ضريح الأيوبي حيث يمكن الوصول إليها عبر طريق طويل مرصوف بالحجر يخترق وسط المقبرة صعوداً ونزولاً، كما يمكن الوصول إليها بالسيارة. وبعد أن أصبح اسمها بيير لوتي، وأقيمت فيها مقهى على طراز المقاهي الباريسية تطل مباشرة على الخليج وتزدحم بالسياح عند الغروب، اضيف طريق ثالث باستخدام عربات " التلفرك" بمحطة واحدة تقطع مسافة قصيرة جداً.

كان لوتي قد مر يوماً بمدينة سالونيك التابعة وقتذاك إلى الدولة العثمانية، وفيها أحب امرأة تركية متزوجة تدعى " آزياده AZIYADE " وربما من أجلها أحب الشرق كله، فرحل إلى بلدانه وكتب عنها في رحلاته، وكان يعد نفسه شرقياً بالقدر نفسه الذي كان فيه غربياً فرنسياً، ولبس اللباس الشرقي، ودخَّن النارجيلة في مقاهي إسطنبول، وحمل المَسْبَحة، وجلس على جبله المقدس يستعيد ذكريات حبيبته التي ماتت قبل أن يلتقيها ثانية. وعندما يرتاد الناس والسواح المقهى فلابد من القاء نظرة، وربما جلسة عابرة في غرفة شرقية تضم صوره وتخطيطاته وبعض مقتنياته، ومن بين الطاولات التي تقدم عليها اقداح الشاي وشاي التفاح والقهوة التركية، هناك طاولة مخصصة لكتبه، ومنها روايته الرومانسية " آزياده" مترجمة إلى الإنكليزية.

الكل راضٍ عن بيير، باستثناء الشاعر الشيوعي ناظم حكمت، الذي كتب قصيدة وصفه فيها بأقذع الأوصاف، وقال عنه أنه كاذب ودجال باع الشرق، لأن حبه لم يمنع قصف فرنسا وهو من ضباطها، للمدن التركية أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان قبر حبيبته " آزياده" مما ناله القصف العشوائي.

هل كان الشاعر المولود في سالونيك أيضاً، يظن إن الحب الرومانسي يمكن أن يكون شفيعاً، وهو الذي أحب إسطنبول ومات مطارداً منفياً عنها في موسكو، فيما يحتل اسم الضابط الفرنسي بيير لوتي قمة الجبل المقدس .

***

طه جزّاع

 

إن السمة الطاغية في الشعر الصوفي هي الغلو في المبالغة، وكثرة التهويل، والضرب في أودية المبهمات، والإطناب في مدح النفس، وخنقأنفاسها بعبارات التقريظ والثناء، وشعراء المتصوفة الذين تفتقت قرائحهم بأشعار يطفئ من وضاءة حسنها، ورونق نظمها، شيوع الرمز،وكثرة المصطلحات التي تحتاج إلى بوارق من الضياء، ذابت حشاشتهم على عرك الهوى الإلهي، وذوت نضارتهم تباريح الشوق إلى عالميبهر العيون، ويخلب الأفئدة، عالم يخسأ فيه الكافر، ولا يضام فيه المؤمن، عالم خالد لا تناله عوامل الذوّى والبلى، عالم يشتهي فيه المرء كلشيء، ويبتغي كل معنى، لقد أكدى الصوفي روحه، ورفض أن يتفيأ ظلال الراحة، وأن يقع في شوائب الإسراف، من أجل أن يرد حوضاً لايظمأ والله ناهله، ويجاور سخيّ ما تغب نوافله، ولقد هام الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي يعده مريدوه من أصدق الناس جوهراً، وأزكاهمأرومة، حباً بهذا العالم الذي تشرئب إليه كل نفس، وتتوق إليه كل عين، وأوهى يراعه ومحبرته بنظم القصائد الجياد، والنثر الشعري، التيصاغها في حب الإله، والتي أبان فيها أنه دائب الشوق والحنين لملاقاة رب أسبغ عليه روافد النعم، فلقد هتك بفضله أستار الطبيعة، وأيقن بإرادته أسرار الوجود، وخصه بالمنزلة الرفيعة، والمعجزات التي لا تأتي إلا للأنبياء، لقد سارت أشعار الشيخ عبد القادر الجيلاني التي خلتمن الأغراض التقليدية في المدح والذم والغزل والرثاء، في كل صقع وواد، وملأت رحاب الدنيا، وتلقفها مريدوه المنتشرون على ظهر البسيطة، وأضحت عرضة للزيادة والانتحال، وأنا هنا على قصر باعي، وقلة حيلتي، وضمور معرفتي، أود أن أقارن بين مخطوط حوى قصيدته التي تسمى «الغوثية» وبين نفس القصيدة التي ضمها ديوانه.

الفصل الأول: حياة الشيخ

نسبه:

هو «أبو صالح محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبدالله بن يحيى الزاهد ابن محمد بن داود بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه».

أمه هي أم الخير فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي الحسني الزاهد، فهو حسني من جهة الأب، حسيني من جهة الأم، وعمته الشيخة الصالحة أم عائشة».

ولقد طعن في نسب الشيخ على مر العصور العديد من المؤرخين، وأنكروا انتمائه لعترة الحسن رضي الله عنه سبط الرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجحود سببه يعزى إلى كلمة جنكي دوست التي وردت في نسب الشيخ عبد القادر، والتي تعني العظيم القدر، والرجل المحب للقتال، والمتهيئ دوماً للنزال، لقد رسخ في أذهان هؤلاء المؤرخين أن تلك الكلمة التي لا تمت للعروبة بصلة ولا تصل إليها بسبب، تبرهن بجلاء أن الشيخ جرثومته أعجمية، وإنّ مِنحت الشيخ ليس بأثيل المنبت، ولا زكيُّ المغرس كما يدعي أسلافه ومحبوه، ولقد تصدى لهؤلاء المؤرخون العديد من المحبين والمنصفين، ففندوا مزاعمهم، وأبطلوا حججهم، وكان في طليعة هؤلاء المدافعين حديثاً الشيخ محمد المكي بن عزوز التونسي المتوفي عام 1916م، الذي ذكر في رسالته الموسومة بـ «السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني»، وقد ذكر في هذه الرسالة أنّ هناك أكثر من ستين من العلماء النسّابين، والمحققين البارعين، أقروا باتصال نسب الشيخ عبد القادر بالحسن رضي الله عنه.

مولده ونشأته:

«ولد الشيخ عبد القادر عام 470هـ /1077م على رأي معظم الذين أرخوا لحياته، وكانت ولادته في جيلان أو كيلان فعرف بالجيلاني أو الكيلاني، أو الجيلي، وجيلان إقليم فارسي يقع في الجنوب الغربي لبحر قزوين، اشتق اسمها من الجيالي بمعنى الوحل وذلك لكثرة المستنقعات التي تغمر الإقليم».

ويبدو أن الشيخ الذي ضربت شهرته الآفاق«كان آخر أولاد أبويه، لأنه عاش يتيماً، فقد توفي أبوه بعد ولادته بقليل لذلك عاش في كنف جده لأمه السيد عبد الله الصومعي فكان ينسب إليه عندما كان في جيلان فيقال بن الصومعي، وكان آخر أولاد أمه لأنها حملت به قبيل سن يأسها بقليل، حتى قال محمد بن يحيى التادفي في «قلائد الجواهر» إنها حملت به وهي في الستين من عمرها، ونشأ الشيخ عبد القادر في كنف أمه التقية النقية، وجده العابد المتحنث، الذي رباه على التقوى والصلاح ومكارم الأخلاق، فأخذ بخلائقهم، واقتبس من خلالهم، ومضى على منوالهم في الزهد والتفاني في العبادة وطاعة الرب عز وجل ومراقبته في السر والعلن.

كان الشيخ عبد القادر في بواكير صباه تواقاً للعلوم، مشرئباً للمعرفة، وكان غاية آماله، وحديث أمانيه، أن يلم بأصول الشريعة الإسلامية، ويحيط بمداخلها ومخارجها. وأزمع عبد القادر في قرارة نفسه السفر لحاضرة الدنيا ومنارة العلوم بغداد؛ لأن بلاد جيلان التي مكث فيها ثمانية عشر عاماً تفتقر لما يروي ظمأه، ويشفي غليله، ولقد نسج محبوه له العديد من الخوارق والكرامات وهو في هذا العمر الغض، والسن المبكرة، وأحاطوا تلك الفترة بهالة عظيمة من المعجزات التي لا تتسنى لطفل ما زال في معية الصبا، وطراءة السن، أذكر منها انقطاعه عن الرضاعة في نهار رمضان، والانكباب على ثدي والدته ليلاً، وحديث الثور له عندما كان يسير في البراري وإبلاغه بأنه لم يخلق ليكون فلاحاً، ومشاهدته للحج الأكبر من سطح بيته

سافر الشيخ عبد القادر إلي »بغداد عام 477هـ/1095م، وهي السنة التي خرج فيها حجّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي منها تاركاً التدريس في النظّامية، زاهداً في الدنيا، طالباً للمعرفة واليقين. لقد كانت بغداد في عصر الشيخ عبد القادر عنواناً لحضارة عالمية، بما تضمنته من تنوع وثراء؛ فكانت مجمعاً للعلماء والفلاسفة، ومركزاً للفقهاء والمفسرين والمحدّثين، ومنتدى للشعراء والكُتاب، وأصحاب التراجم والسير والتاريخ، ومحراباً للزّهّاد والصوفية. فلا عجب أن تكون محط أنظار جميع المستنيرين طلباً للمعرفة واليقين، وممارسة التجربة الروحية تحت أنظار مشايخها المشهورين«. وتخبرنا الكتب المعتقة أن القافلة التي كانت تقله قطع عليها الطريق مجموعة من الأشرار الذين تتحلب أفواههم للمال، ولمّا كانت هيئته ومنظره لا يوحي بأنه سليل عز وربيب غنى أراد قاطع الطريق أن يمرّ عليه مرور الكلام فسأله ذلك السؤال الذي ألِفهُ ثغره دون أن يحفل بجوابه عما يحمله من مال، فتفاجأ بإجابة الصبي الذي طرّ شاربه بأنه يحمل في معيته أربعين درهماً ذهبياً أودعتها أمه في كمه، بعد أن عاهدها بأغلظ الإيمان أنه لن يكذب أبداً ولن يفعل ما يغضب الرب عزّ وجلَّ ويصيب الأخلاق في مقتل، وظنّ اللص أن الصبي يستخف به، وبعد أن توثق من صدقه سأله عن السبب الذي دفعه لذلك، فأخبره عن كنه العهد الذي قطعه لأمه، العهد الذي جعل زعيم اللصوص يقلع عن ترويعه للناس، وسلب أموالهم فيما بعد، حينما رأى فتىً جاوز حد الصغر، وبلغ سن الرشد، يخبره عن جل ماله في وداعة حتى يبرَّ بالعهد الذي عاهد به أمه التي تقاسمت معه تركة والده، تلك الأم التي آثرت أن تعطيه الثمانين ديناراً برمتها لولا رفضه، فهو يعلم حياة الضنك والفاقة التي تعيشها، فذهل اللص من ذلك الوفاء، واغرورقت عيناه بالدموع، واهتز صدره الموبوء بجراثيم الضغائن والحقود من فرط البكاء، وأزمع التوبة بعد أنّ رأى الفتى اليافع يتهافت في الحفاظ على وصية والدته غير آبهٍ ولا مهتم بضياع كل ما يملك، بينما هو وثلته منذ عهود خلت سلكوا سبيل الردى والعناد، وتركوا سبيل الهدى والرشاد، قطعوا الطريق، وروعوا الآمنين، وأقدموا على فعل ما يجر غضب الله وسخطه، فأعلن توبته وصدع بها أمام جماعته الذين حذوا حذوه، وتحروا طريقته. وصل الشيخ عبد القادر بغداد في زمن الخليفة المستظهر، وأمضى فيها ثلاثاً وسبعين سنة، شهد فيها حكم خمسة من الخلفاء العباسيين هم: المستظهر بالله والمسترشد «حكم من سنة 512 إلى سنة 529هـ»، والراشد «حكم من 529 إلي 530هـ» والمقتفي «حكم من 530 إلى 555هـ» والمستنجد «حكم من سنة 555 إلى 566هـ».

ولعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب على خاطر أن الدولة العباسية في تلك الحقبة قد تقوضت أركانها، ووهت دعائمها، ولم يبق لها من الحكم سوى اسمه، وأن مقاليد الأمور كانت بيد السلاطين السلاجقة. ولقد شهدت تلك الفترة حروباً طاحنة وبلبلة وفوضى واضطراباً، فالكل كان يروم الوصول إلى سدة الحكم. وقاطنو بغداد تكالبوا على الدنيا، وآثروا الفانية على الباقية، بعد أن شغلتهم زخارفها وشهواتها عن مروج مصقولة الحواشي، وجنة وارفة الظلال. ولقد رأى الشيخ عبد القادر ببصيرته التي كانت تؤثر جانب الكمال على جانب النقص، أن الشهوات تؤنس جُلاسها بوجهها المتهلل، وتستبهم عليهم معالم القصد، وأن الشباب الذين هم في سنه يهيمون في أودية الضلال، ويتسكعون في بيداء الغواية، فأقبل على العلم بهمة ماضية، وحرص شديد، وفي سبيل تحصيله، «عانى كثيراً من المتاعب، ومن أشدها الفاقة والفقر، فلقد انقضى كل ما كان لديه من مال، فصار لا يجد ما يقتات به، مهما كان قليلاً، ووصل به الحال أن صار يقتات بما يجده في ضفاف دجلة، من قمامات البقل وورق الخص، وثمار الخروب، وصار يمشي حافي الرجلين في الرمال والأحجار، ولم يكن له مسكن يخصه، وصار يتعرض لأمراض تهدد حياته. بل إنه في بعض الفترات ظن من رأوه في الطريق أنه مات، فأرادوا أن يدفنوه في المقبرة، ولكن الله سبحانه وتعالى لطف به فتحرك جفنه قبل أن يواروه التراب».

وعن تلك الفترة العصيبة يخبرنا بأنه بقي أياماً لم يتناول فيها ما يسد الرمق، ويدفع غائلة الغرث والجوع، فذهب يتتبع المنبوذات ليأكلها، فكان من حظه العاثر لا يذهب إلى موضع إلا ويجد غيره قد سبقه إليه، حتى وصل في نهاية المطاف إلى مسجد ياسين بسوق الرياحين فدخل وقد كاد أن يتنسم أريج الموت، يقول الشيخ عبد القادر واصفاً تلك الفترة الحالكة فإذا بشاب أعجمي يدخل ومعه خبز وشواء، وجلس يأكل فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليَّ، فبادرت نفسي فخالفتها، وأقسم أيضاً فأجبته فأكلت، فقال: من أين أنت؟ وما شغلك؟ قلت: أنا متفقه من جيلان، فقال: وأنا من جيلان، فهل تعرف شاباً جيلانياً يسمى عبد القادر الزاهد؟ فقلت: أنا هو. فاضطرب وتغير وجهه، وقال: والله، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت نفقتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا مما كان لك معي، وقد حلت لي الميتة، فأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيباً فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي. فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمك وجهت لك معي ثمانية دنانير. فطيبت نفسه ودفعت إليه باقي الطعام وشيئاً من الذهب، فقبله وانصرف»

***

د. الطيب النقر

 

يصدر عن دار المدى قريبا كتاب " إرسكبن كالدول درب الكتابة الوعر " ترجمة الصديق عماد العتيلي، وكانت دار المدى قد اصدرت منذ سنوات كنابه " اسمها تجربة " وهو سيرة ذاتية وفد صدرت له ترجمة اخرى عام 1987 عن دار الشؤون الثقافية قام بها الشاعر الراحل علي الحلي بعنوان " سمها تجربة "

كان في الخامسة عشرة من عمره حين قرر ان يكسب بعض النقود، وقد اكتشف في المدرسة أن عدداً من الفتيان الأكبر عمراً منه يعملون مساءً في معصرة لزيت بذور القطن. يبدأ العمل في الساعة الحادية عشرة ليلاً وينتهي في الساعة السابعة والنصف صباحاً، أما الأجرة، فكانت دولاراً واحداً في كل ليلة، مبلغ مغرٍ بالنسبة لصبي يعاني الفقر.

لأسابيع، ظل والداه يعتقدان ان ابنهما يغط في نومه، لكنه في كل ليلة وقبيل الحادية عشرة، يرتدي ملابسه مسرعاً، ليسير مسافة كيلو متر إلى المعصرة، يبدأ بجرف بذور القطن إلى الجهاز الناقل الميكانيكي حتى الصباح. بعد ذلك يحمل البذور إلى بناء آخر حيث تعصر بواسطة مكبس قوي حتى يستخلص منها الزيت. في الصباح الباكر، يفضح ضوء الفجر وجوه العمال المتعبة، ولكي يصل بيته دون ان يشعر والداه، فقد سمح له رئيس العمال بأن يغادر المعصرة قبل نصف ساعة من انتهاء عمله، بحيث يتمكن من تناول طعام الفطور مع والديه في الوقت المحدد. وفي الساعة الثامنة وعشرين دقيقة يغادر البيت إلى المدرسة. استطاع تحمل هذا الوضع شهرين كاملين، لكنه ذات صباح يشعر بالتعب الشديد وهو يجلس على مائدة الافطار، فيقع أرضاً، ليكتشف أمره، كان والده سعيداً ان ابنه اخذ يعتمد على نفسه، إلا أن والدته التي كانت تطمح ان يصبح ابنها قاضياً مشهوراً، طلبت منه ان يتوقف فوراً عن هذا العمل، فاستجاب لها بعد ان استطاع ادخار مبلغ تجاوز الثلاثين دولاراً.

وُلد ارسكين كالدويل عام 1903 لقسٍّ يتنقل من كنيسة لأخرى، ولأُم تعشق الأدب، فكانت تقضي وقتها بقراءة الروايات الفرنسية والانكليزية، وابتلي بالربو طفلاً. لم يحب الأدب في صباه، ورأى في الأعمال الحرة مهرباً من حياته الاجتماعية الحافلة بالفقر. جذبته المهن البسيطة والتجوال في أنحاء أميركا، وقال في مذكراته الساحرة “اسمها تجربة”: “ ما زلت حتى الآن استغرب ما الذي حدث قبل ثلاثين عاماً وقادني بشكل حاسم، ودفعني الى طريق الكتابة، الذي لم استطع أداءه بخفة ودونما جهد، فقد كانت أمي تجادلني لكي أعد نفسي لدراسة القانون، وكنت آنذاك لا امتلك الحافز ولا الرغبة في أن أكون كاتباً «.

رفضت الصحف قصصه القصيرة الأولى، وسأله رئيس تحرير احدى الصحف الشعبية: لماذا تصر على وصف البؤس؟ بعد نشره روايته الأولى “طريق التبغ” قال وليم فوكنر وهو يقرأها: “إنها عمل أدبي لامع الى درجة لا يمكن معها مقارنته بغيرها “، والتهمها ارنست همنغواي بشغف فضولي حتى انه قال لكاتب سيرته “هو تشنر”: “حفزني كالدويل لأن أصبح كاتباً، عشقت حياته الجوّاله وحاولت ان أسير على خطاه».

كان فيتزجيرالد صاحب “غاتسبي العظيم” قد رفض مخطوطة “طريق التبغ”، لكنه قال لشيروود أندرسون بعد نجاح الكتاب إنه لم يقرأ المخطوطة، فقد كان يعتقد انها مثل كثير من المخطوطات التي تعرض عليه والتي تصيب الانسان بالملل. أحب القراء روايته الثانية “أرض الله الصغيرة”، ووضعه شتاينبك بين أفضل خمسة كتّاب في العالم، وحاول ان يقلده في “شارع السردين المعلب”، ظل مرشحاً دائماً لجائزة نوبل حتى وفاته عام1987، باع كتباً أكثر من أي كاتب أميركي آخر على الإطلاق في تاريخ أمريكا.

***

قبل بضعة أيام من انتهاء دراسته الثانوية، حصل على عمل في صحيفة أسبوعية، أما العمل فهو إدارة يد آلة الطباعة. بعدها كُلف بمهمة إضافية تتمثل في تنضيد الأحرف باليد، وبعد أسبوع قيل له إن بإمكانه أيضاً جمع المقالات والملاحظات والتعليقات الاجتماعية لصفحة المجتمع، وكتابة الأخبار القصيرة حول الأحداث المثيرة للاهتمام. استخدم النقود التي كسبها من معصرة الزيت لشراء آلة كاتبة مستعملة، وبدأ يعمل محرراً رياضياً يقوم بتسجيل مباريات “البيسبول”، كما عمل بائعاً لصحيفة “التلغراف”، قال له مدير التحرير ذات يوم: “أنت لا تريد ان تعيش باقي أيام حياتك بائعاً للصحف، أليس كذلك يا أرسكين ؟»

فأجاب فوراً: أُفضل أن أكتب في الصحف.

نظر اليه مدير التحرير ثم قال له بكل جدّية: “اكتب عما تراه أمامك. لا تصدق ما يقوله الناس. انظر بعينيك ولا تصدق ما تسمع بأذنيك هنالك دوماً شيء يمكن أن تكتب عنه، وإذا استطعت ان تحوّل مشاهداتك إلى كلمات مثيرة، عندها سانشرها فوراً".

بدأ التجوال بالسيارة طيلة النهار إلى المناطق الريفية، كان مهتماً فقط برؤية كيف يعيش الناس، أصبحت الكتابة شاغلاً أساسياً لديه، جرب في البداية الكتابة الساخرة، وكان أجره دولاراً واحداً عن كل موضوع ينشر له، حاول ان يزيد من دخله فعمل موزعاً لزجاجات الحليب، وقضى عدة أشهر يعمل موظفاً في كشك لبيع العصائر، إضافة إلى عمله كحارس في مخزن للأواني الخزفية والزجاجية. وفي عام 1925، شعر أنه لم يعد بإمكانه الانتظار مدة أطول قبل البدء جدياً بما سيفعله. لم يكن يطمح بأن تكون الصحافة مهنته الدائمة، لكن الصحافة تعني الكتابة، وهذا ما حاول ان يتعلمه. وبعد محاولات في نشر القصص الساخرة، تم تعيينه مراسلاً تحت التمرين وبراتب ثابت بلغ عشرين دولاراً في الأسبوع، لكنه لم يكتف بوظيفة المراسل، حيث كتب إلى عدد من الصحف حول رغبته بكتابة مراجعات نقدية لبعض الكتب، عام 1926 يتلقى رسالة من صحيفة “هدسون بوست”، تخبره فيها أنها سترسل اليه العديد من الكتب ليكتب مراجعات عنها.

***

عام 1929 يصل ولاية فرجينيا. كان قد نزل من الباص عندما لمح لافتة مثيرة: “ فندق مارك توين”، أحسّ بالسعادة فهذه هي المرة الاولى التي سيسكن في مكان مع واحد من اشهر كتّاب اميركا، الذي كانت أمه وماتزال تعشق كتاباته، كان الفندق صغيراً، قال مع نفسه وهو ينظر الى الواجهة:”بالتأكيد ان أجرته ستكون مناسبة”، كان يحمل حقيبة وآلة كاتبة قديمة اشتراها من سوق المواد المستعملة، دخل الى الفندق وما ان لمحه موظف الاستقبال حتى سأله: هل أنت كاتب؟ فاومأ برأسه بنعم، فاعتذر الموظف قائلاً: لايوجد سرير فارغ.

ولأن الجو في الخارج كان قد اقترب من العشرين تحت الصفر فقد ترجّاه ان يستأجر غرفة ولو لهذه الليلة فقط.

-" لم نكسب من وراء الكتّاب غير المتاعب، يقيمون ثم يتسللون ودائما ما يجدون وسيلة لعدم الدفع” قالها موظف الاستقبال وهو يدير ظهره.

خرج كالدويل ليبحث عن مكان آخر، وعلى كثرة ما كتب من عروض للكتب وتقارير ساخرة لم يكن قد نشر غير قصة قصيرة واحدة لم تلق الاستحسان، لكن كانت لديه رغبة شديدة لأن ينضم الى صف الكبار:” رغبة طاغية تماثل،بالنسبة لبعض الناس، الحاجة للطعام والشراب. أما حدة وشدة وكثافة هذه الحالة الذهنية فهي التي تجبر المرء على المضي قدماً إلى أقصى مدى يتهيأ لبلوغه في سبيل تحقيق الهدف الواعي، أو غير الواعي، من حياته. إن من يملك الإرادة العنيدة للكتابة سوف يجد فرصته على الدوام ؛ وأولئك الذين يميلون إلى عدم البحث عن الفرصة المناسبة لديهم في العادة اهتمامات أخرى، بغض النظر عما إذا عرفوا هذه الحقيقة أم لا، أقرب إليهم وأحب إلى نفوسهم.

أخذ آلته الكاتبة، وفي زاوية لأحد الشوارع الرئيسية عثر على فندق آخر، استقبلته امرأة في الخامسة والثلاثين، اخبرها بأنه يبحث عن غرفة رخيصة الأجر، وأنه يستطيع ان يدفع أجرة أسبوع مقدماً، جلس ليكتب، لم يخرج من الغرفة الا لشراء وجبة طعام واحدة بشرط ان لايتجاوز ثمنها العشرين سنتا، وبحماسة مضاعفة بعث بعشرات من قصصه الى معظم صحف المقاطعة.

وخلال شهور نُشرت له ست قصص فقط لم يتسلم عليها أجراً فقرر ان يحمل حقيبته ويسافر الى نيويورك، وهناك عثر على مجلة تهتم بنشر النتاجات الأدبية، فأرسل لها العديد من القصص التي كانت تعود اليه مع عبارة “مرفوضة”، لم يشعر باليأس فأرسل لهم قصصاً اخرى. وذات يوم استدعاه احد عمال الفندق، فهناك مكالمة هاتفيه له، كان على الجانب الآخر مدير تحرير المجلة الأدبية ليبلغه:

- لقد قررنا ان ننشر قصتين من نتاجك.

لم يصدق ما سمعه فانتابته حالة من الصمت والشرود.كان المتحدث على الخط قد قرر ان يواصل الحديث:

- ما رأيك في اثنين وخمسين أجراً للقصتين؟

تمالك نفسه ليجيب: لكني تلقيت أجراً أكثر قليلاً من هذا.

- لتكن ثلاثة وخمسين، قال مدير التحرير.

  • حسناً ولو انني كنت أظن انني سأتلقى اكثر قليلاً من ثلاثة دولارات وخمسين سنتا.

- ماذا تقول.. انني اقصد ثلاثمئة وخمسين دولاراً، قالها مدير التحرير.

***

كان هدفه الجديد ان يجمع قصصه القصيرة في كتاب، عمل في حقل للبطاطس في النهار وتفرغ في الليل لكتابة القصص، قصة كل اسبوع، يبعث بها الى المجلات، وكان العديد منها ينشر، واكتشف قانوناً لتطوير عمله: كل قصة ترفضها ست مطبوعات يسقطها من حسابه. وذات يوم جمع كل ما كتبه من قصص لم تنشر واحرقها دفعة واحدة، ليقرر ان يرحل من جديد هذه المرة الى كارولينا، وكانت عدته للسفر آلة كاتبة، وماكنة للف السجائر وحقيبة ملابس صغيرة. وبعد ثلاثة ايام قضاها يتنقل بالباصات، كان يلتقي بأبطال قصته الجديدة التي قرر ان يجعل منها رواية، حيث رأى بطون الأطفال المنفوخة من الجوع، والناس الذين اقعدهم المرض، والقحط الذي كان يهيمن على مدن الجنوب الفقيرة. هكذا قرر ان تكون روايته الاولى عن فقراء الفلاحين الذي عاش وسطهم:”لقد مشيت في ذلك الدرب في صميم فصل الشتاء، ورأيت الناس الجائعين الملتفّين بالأسمال البالية يذهبون إلى لا مكان ويأتون من لا مكان، ملتمسين الطعام والدفء، راغبين في أن يعرفوا ما إذا كانت أشياء مثل الطعام والدفء، لا تزال موجودة في بقعة ما من بقاع العالم. إنهم لم يلتمسوا شيئاً أكثر من الغذاء الكافي لأن يمسك عليهم الحياة حتى مطلع الربيع بحيث يكون في مقدورهم أن يزرعوا القطن للموسم الجديد. كان لهم من الإيمان بالطبيعة، بالأرض، وبالنبات الذي في الأرض، ما جعلهم لا يفهمون كيف يمكن للأرض أن تخونهم أو تخيّب رجاءهم، ولكنها خانتهم وخيبت رجاءهم.»

فالناس في “ طريق التبغ” فقراء وبائسون وخطاة ولصوص، ولا يأبه واحدهم بمصائب الآخر، لكن السؤال الذي يحاول ان يطرحه كالدويل: يا ترى هؤلاء الناس ولدوا هكذا؟ أو هل اختاروا بإرادتهم أن يكونوا أشراراً؟ أبداً، يجيب كالدويل في مقدمة طريق التبغ: “إن مجتمع البؤس الخارج عن إرادتهم هو الذي صنعهم”. وبالتالي فإن الكاتب يقدم لنا ذلك العالم الغريب في الرواية المتحلق من حول أسرة “جيتّر ليستر”، المزارع البائس الممتلئة حياته بالمصائب وبالأطفال الذين أنجبت له زوجته سبعة عشر ولداً في بيتهم الضيق الفقير الواقع. لقد مات باكراً خمسة من أولئك الأولاد، وهرب معظم الباقين إلى المدينة، وهناك في الحلقة المحيطة بأسرة ليستر صهر العائلة “لوف بنزي” الذي لا يتوقف عن محاولة سرقته، وهناك المراة المتدينة التي تقترب من الأربعين، وترملت غير مرة بعدما كانت مومساً، وها هي الآن تغري ابن الأسرة “ديود” (16 سنة) بالزواج منها مقابل أن تشتري له سيارة يقودها فيتجولان معاً للدعوة إلى الدين. إذاً، من حول هذا العالم بما فيه من احتيال وبؤس وأكاذيب وقبح ؟ هذا ما يحاول ان يجد له اجابات من خلال الرواية.

تنشر الرواية عام 1932 وينتظر شهوراً قبل ان يبلغه الناشر ان الخمسة آلاف الأولى من الرواية قد نفدت وانه ينوي اصدار طبعة جديدة، ويتلقى اول اجر ضخم، سبعمئة دولار دفعة واحدة، ولم يمض عام حتى قرر احد مسارح برودواي ان تحول “طريق التبغ” الى مسرحية استمر عرضها لسبع سنوات بدون انقطاع، وها هو الحظ يحالفه، فتمنح الرواية جائزة ادبية قدرها الف دولار يحقق من خلالها احد ابرز أحلامة بالحصول على بيت للسكن.

لقد تخلص اخيرا من عبء السعي وراء النشر واصبح له وكيل اعمال يقوم بمهمة البحث عن ناشر، واخترقت قصصه القصيرة أسوار الصحف الواسعة الانتشار، واشترى آلة كتابة جديدة، وبدأ بالتخطيط لكتابة رواية جديدة، ولكي يكتب يجب ان يتجول في انحاء البلاد، فيذهب في رحلة الى الجنوب، هناك يستأجرغرفة صغيرة ليخطط لروايته الشهيرة “ارض الله الصغيرة”.وكان في ذهنه ان يعقبها بكتاب انطباعات عن رحلاته، كان يقطع ثلاثين ميلا في اليوم، كانت قصصه القصيرة تشق طريقها الى الصحف الكبرى، وهو الان في الرابعة والثلاثين، اصبح مشهورا، له سكرتيرة تعنى ببريده واعماله تترجم وتطبع بالملايين وتتحول الى افلام سينمائية تحصد له الشهرة والمال.

كيف اصبحت روائيا؟

كثيرا ما يواجه الروائيون بهذا السؤال، وقد حاولوا الاجابة عنه في كتاباتهم ولكن الاجابة تكاد تكون هي نفسها عند معظم الروائيين الا ان كالدويل يقول في اسمها تجربة:” لعل اليأس وحده هو الذي دفعني الى الكتابة مثلما يتشبث شخص بزواج فاشل خوفا من الوحدة».

في الصفحات الاخيرة من مذكراته يخبرنا كالدويل أن كل كاتب يتلقى خطابات وديّة وعدائية بنسب وكميات متفاوتة ثمّ يذكر لنا بعض الأسئلة وإجاباته عليها ومنها:

- هل ذهبت إلى المدرسة لتتعلم ماتعلمته عن كتابة القصص والكتب؟

* لا. تعلمت بالخبرة. بالتجربة والخطأ، وبالعمل بالكتابة حتى اقتنعت بالنتيجة.

- ماهو هدفك من كتابة روايات مثل: طريق التبغ، وارض الله الصغيرة وبيت في المرتفعات مالفائدة التي تقدمها هذه الكتب؟

* الهدف من كل هذه الكتب هو أن أقدم مرآة يستطيع الناس أن ينظروا إليها. و مهما كان الخير أو الشر في كتبي فإن ذلك يعتمد على ردود فعل القارئ تجاه الصور التي يراها في المرآة.

- كتبت كثيراً عن الفقراء، لماذا لاتكتب عن الأشياء السعيدة في الحياة.؟

* أولئك الذين يستمتعون بمباهج الحياة أقل بكثير من أولئك الذي يُقاسون مآسيها. حين يتغيّر الوضع الاجتماعي سأشعر آنذاك، أنه لم يعد هناك أي هدف للكتابة عن آثار الفقر على الروح الإنسانية.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

(1943 – ) Joseph Stiglitz

جوزف ستگـلتز هو الاقتصادي المعاصر الذي ينتمي للكينزيين الجدد. وهو البروفسور في جامعة كولومبيا - نيويورك، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 (بالمشاركة مع  جورج أكرلوف ومايكل سبنس) عن مساهماته النظرية في حقل اقتصاد المعلومات وبالذات في جانب تأثير عدم تماثل المعلومات Information Asymmetry بين الاطراف الاقتصادية على الانتاج والاستهلاك، خاصة في قطاع التأمين. وكذلك مساهماته النظرية في موضوعي المخاطر المالية وسوق المنافسة الاحتكارية. كما كان واحدا من اعضاء الفريق الذي حاز على جائزة نوبل لعام 2007 على الدراسات التي اهتمت بموضوع البيئة وتغير المناخ.

واضافة الى عمله في التدريس والبحث في عدة جامعات منها هارڤرد وپرنستن وستانفورد وييل وكمبرج الانگليزية،  فقدانتدب للعمل كعضو اولاً،  ثم رئيسا لمجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الابيض لدى ادارة الرئيس بِل كلنتن.  كما عمل نائبا لرئيس منظمة البنگ الدولي والاقتصادي الاقدم فيها، لكنه سرعان ما اكتشف حقيقة سياسات البنك وصندوق النقد الدولي الضارة بالبلدان النامية فانتقدها ! ونتيجة لذلك أُجبر على الاستقالة.   وله مناصب وعضويات ونشاطات اخرى منها تأسيسه لمبادرة حوار السياسات Initiative for Policy Dialogue  في جامعة كولومبيا كمركز للدراسات في شؤون التنمية الدولية. كما انه انتدب للعمل كمستشار للرئيس أوباما ايضا لكنه انتقد سياسة الانقاذ المالي للشركات الكبرى والبنوك التي كانت على وشك اغلاق ابوابها واعلان حالة الافلاس.  كما انتقد عمل وكالات المعايير المالية Financial Rating Agencies  التي اعتبرها تعمل بشكل مشبوه مع البنوك. كما انه حصل على 40  شهادة فخرية من مختلف الجامعات، ونال تكريما دوليا رسميا من فرنسا وكوريا الجنوبية وبوليفيا وكولومبيا والاكوادور.

ولد جوزيف ستگـلتز عام 1943 في مدينة گـَري - انديانا لعائلة يهودية، حيث كان والده بائعا لبوليصات التأمين وكانت والدته معلمة في احدى المدارس الابتدائية في المدينة. اجتهد في المدرسة فذهب الى كلية أمهرست في ماسچوستس. وقبل ان يكمل السنة الرابعة ساعده  بعض اساستذته في الحصول على قبول في الدراسات العليا في MIT عام 1964.

-  في صيف 1965 التحق بجامعة شيكاغو كباحث مساعد للبروفسور هيروفومي أوزاوا.

-  في خريف 1965 ذهب الى جامعة كمبرج الانگليزية بمنحة فلبرايت. وهناك حصل على  منحة بحث.

-  أكمل الدكتوراه في MIT عام 1967 وتعين كاستاذ مساعد في نفس القسم حال نيله الشهادة .

-  في عام 1970 حصل على عمل كاستاذ في جامعة ييل.

-  في عام 1976 نشر دراسة مع  مايكل روثجايلد عن سوق التأمين الصحي كشفت ان شركات التأمين توفر خيارين للمستهلكين: الخيار الاول يستلزم دفع مقدمة اولية عالية وقسط  شهري منخفض، والخيار الثاني يطلب مقدمة اولية قليلة وقسط شهري عالي. وهذا النظام أدى الى انفصال المستهلكين الى مجموعتين:  مجموعة الذين يتمتعون بصحة جيدة  ودخل عالي هي التي اخذت الخيار الاول، ومجموعة الذين يحتاجون الى رعاية صحية واغلبهم من اصحاب الدخول الواطئة.  فلم تجد هذه المجموعة امامها غير الخيار الثاني. كانت هذه الدراسة هي التي شكلت بداية اهتمام ستگلتز باقتصاديات المعلومات التي تبعتها دراسات اخرى ، ليس فقط في قطاع التأمين انما في قطاعات اخرى تلعب فيها المعلومات بين المنتج والمستهلك دورا كبيرا كقطاع الائتمان وهيكل اجور العمل والبطالة والضرائب، وجميعها هي التي شكلت مساهمته المتميزة التي اوصلته الى الفوز بجائزة نوبل.

-  في عام 1979 نال جائزة جون بيتس كلارك التي تُمنح للاقتصاديين المتفوقين قبل سن الاربعين.

-  في عام 2002 نشر كتابه الشهير Globalization and its Discontents الذي ترجم الى 30 لغة وبيع منه اكثر من مليوني نسخة.

-  في عام 2005 ترأس معهد بروكس الدولي التابع لجامعة مانچستر البريطانية.

-  في عام 2008 دعته حكومة ساركوزي الفرنسية لرئاسة لجنة تقييس الاداء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.

-  في عام 2009 دعاه الامين العام  للجمعية العامة في الامم المتحدة لرئاسة لجنة الخبراء لاصلاح النظام النقدي والمالي العالمي، والتي اختتمت اعمالها باصدار ما سمي بـ Stiglitz Report.

-  في عام 2010 عمل مستشارا اقتصاديا وماليا للحكومة اليونانية.

-  في عام 2011 سمته مجلة تايم الامريكية كواحد من 100 شخص لهم التأثير الاكثر في العالم. وبين عامي 2011 و2014 اصبح رئيسا للجمعية الاقتصادية الدولية.

-  في عام 2015 التحق كعضو في لجنة المستشارين الاقتصاديين لحزب العمل البريطاني.

-  اصبح احد مؤسسي معهد الفكر الاقتصادي الجديد الذي انبثق بعد الازمة المالية العامة لعام 2008 بهدف تطوير دراسة الاقتصاد باتجاه حل المشاكل الاقتصادية الحقيقية التي يواجهها العالم في القرن الواحد والعشرين.

في ملخص سيرته الذاتية التي قدمها الى لجنة جائزة نوبل، يتساءل ستگلتز عن مسقط رأسه  فيقول:

يبدو ان هناك شيئا ما في هواء مدينة گري – انديانا يقود الشباب لدراسة الاقتصاد!  فقد انجبت هذه المدينة پول سامولسن ونخبة من الاقتصاديين المعروفين.  ويجيب عن ذلك فيقول لابد لعوامل مثل الفقر والتمييز العنصري  والبطالة المزمنة هي التي  تدفع الطلاب المجتهدين لتأمل تلك المشاكل والتفكير باسبابها الاقتصادية ومعالجاتها.  يقول انه نشأ  في عائلة كانت غالبا ما تناقش السياسة والاقتصاد والمشاكل الاجتماعية من منطلقات فكرية مختلفة. فبينما كانت والدته تنحدر من اسرة تنتمي لديمقراطيي العقد الجديد المواليين بحماس لروزفلت، كان والده مؤمنا بديمقراطية جيفرسن ومعتزا بنفسه كرجل اعمال صغير يريد ان يكون سيدا لنفسه في العمل.  يعي المسؤولية الشخصية ويقدس الاعتماد على الذات والسعي المخلص لرفع مستوى معيشة عائلته قدر المستطاع. كما كان مواليا ومدافعا حقيقيا عن الحقوق المدنية،عامةً، وللاقليات خاصة.ً

يواصل بأنه كان محظوظا لان ينال تعليما جيدا في المدارس العامة التي تميزت بتفوق برامجها وكادرها التعليمي واحتضانها لكل الطلاب بمختلف انحداراتهم الطبقية والأثنية. ويذكر بأن المدرسة  في مدينته اتاحت الفرصة للطلاب بممارسة هواياتهم المختلفة،  فكانت هوايته النقاش والمناظرة الثقافية والسياسية ضمن الفريق الخاص بذلك.  ويذكر ان من الموضوعات التي طُرحت للمناقشة كانت  حول المساعدات التي تمنحها الحكومة للقطاع الزراعي، وهو الموضوع الذي شغله بعد ذلك لفترة طويلة حتى انه حاز على اهتمامه بشكل رسمي كجزء من عمله الاستشاري في ادارة كلنتن.

يشيد ستكلتز بتجربة تعليمه في كلية أمهرست ويعتبرها المحطة الاولى في مسيرة صياغة تعليمه وثقافته التي بدأ منها انحيازه الى دراسة الاقتصاد كموضوع للتخصص الاعلى، لاعتقاده ان هذا الحقل يوفر له الجمع بين رغبته وقابليته في الرياضيات وبين دراسة التاريخ والكتابة الادبية. وهكذا فقد حصل على منحة دراسية من MIT لاكمال دراسته العليا في الاقتصاد بظروف حد الكفاف، حيث لم توفر له المنحة الدراسية سوى دولار واحد في اليوم اضافة الى دفع ايجار غرفة سكنه وتكاليف الكتب واللوازم الدراسية.

يقول ان كلية امهرست اتاحت له الفرصة ان يمارس رغبته في النشاط المدني والاهتمام بالمواضيع السياسية والاوضاع الاجتماعية والمدنية للطلاب. ولنشاطه الواضح في هذا المجال فقد انتُخب رئيسا للمجلس الطلابي في الكلية.   يقول ان هذا الموقع وفر له ان يفهم مباشرة تأثير النفوذ والسلطة التي ينبغي ان تؤخذ كمؤشر لثقة الناخبين وكعهد للالتزام بخدمة مصالحهم. ويروي انه بدأ عمله في رئاسة المجلس الطلابي باطلاق حملة عامة لحل جمعيات الاخاء الطلابية Fraternities التي اعتقد وزملاؤه في المجلس انها تضر اكثر مما تنفع! حيث انها تنمي الشعور بالانفصال الطبقي والعنصري وتؤول الى عزلة الطلاب من الاقليات. وهذا مناف لروح التعليم العالي الذي ينبغي ان يتصف بالانفتاح والتحرر والتكاتف. ويعترف ان ذلك الموقف وتلك الحملة قوبلا بمعارضة شديدة لكن عمل الزملاء الجاد والحثيث استطاع ان يجعل المجلس يخطو خطواته الواثقة ضد النزعة الانفصالية ومع تنمية ومساندة حركات الحقوق المدنية اعلن المجلس اننا كأمة لايمكننا ان نقبل أي مظهر من مظاهر التمييز العنصري كما قبلت الاجيال التي قبلنا العبودية والاستعمار.  وبذلك يؤكد  ان الكلية اصبحت افضل بكثير بدون تلك الجمعيات. ومن نشاطاته المدنية انه ذهب مع مجموعة من الطلاب الى واشنطن العاصمة للاشتراك في المسيرة التاريخية التي القى فيها مارتن لوثر كنگ خطابه I have a Dream.  کما استطاع ستگلتز ، من خلال عمل المجلس،  تنظيم برنامج التبادل الثقافي مع جامعة صغيرة في الجنوب خاصة بالطلاب السود. وهو يعتقد ان الوقوف بحزم للدفاع عن الحقوق المدنية هو الطريق القويم رغم انه محفوف بالمخاطر ومثقل بالتضحيات، خاصة بعد تعرض عدد من نشطاء الحقوق المدنية في البلاد الى الاغتيال.

يواصل ستگلتز وصف مسيرة تعليمه فيقول:  اذا كانت كلية أمهرست قد حفزت في داخلي الفطنة الفكرية، فان سنوات دراستي العليا في MIT  قد طورت عندي روح الاقتصادي المحترف.  وذلك بفضل نخبة من ألمع الاقتصاديين في تاريخ الفكر الاقتصادي الذين شكلوا الهيئة التدريسية في قسم الاقتصاد أمثال سامولسن وموديلياني وسولو وأررو وكثير غيرهم. ويقول نفس الكلام بالنسبة لزملائه الطلاب المتفوقين امثال جورج أكرلوف الذي اختص باختصاص مشابه لاختصاصه وشاركه الفوز بجائزة نوبل فيما بعد.  ولا ينسى ان يذكر فضائل منهج التدريس وملائمة المناخ الاجتماعي والسياسي لشخصيته.   فهو يصف طريقة التدريس في MIT  بانها تقوم على اساس كشف ومناقشة موديل واضح ودقيق ومباشر، وتهتم باثارة الاسئلة المهمة حول القضايا الاقتصادية. أما المناخ السياسي والاجتماعي فيصفه بالليبرالية والانفتاح ويتساءل: " لا ادري ماذا كان سيحدث لي لو اني ذهبت الى قسم آخر، كشيكاغو مثلا ، حيث طريقة التدريس لاتلائم نمط تعلّمي وكذلك المناخ السياسي المعروف بكونه محافظا".

وعطفا على طريقة التدريس التي اوضحها وامتدحها فقد بقيت مسألة التناقض بين الموديل النظري والواقع العملي تشغله، فأولى لها فيما بعد اهتماما جادا خاصة خلال الثمانينات من القرن الماضي.

وفي هذا الصدد كان يطرح للبحث السؤال : مالذي تقوم المؤسسة الاقتصادية بتعظيمه؟  ويبين انه بينما يؤسس الموديل النظري لفكرة ان المخاطر الوحيدة التي تواجهها المؤسسة هي عدم التوافق بين احتمالات الربح واحوال السوق، يأتي الواقع العملي ليثبت ان المؤسسة تواجه في الحقيقة مخاطر احتمالات فشلها بموجب مايجري في داخلها وليس ما يجري خارجها في السوق. وهذا نتيجة لتناقض آخر متجذر في افتراض الموديل النظري بان عناصر المؤسسة الداخلية منسجمة مع بعضها ولصانعي القرار فيها نفس المنهج والرأي! في حين ان الواقع العملي اثبت مرارا وتكرارا بان لأي مؤسسة مشاكل داخلية عويصة ومعقدة مفادها الصراع على السطوة والمال والمنافع الذي غالبا ما ينشب بين الاقطاب المتعارضة مصالحهم.

ان مساهمة ستگلتز المهمة في موضوع المعلومات غير الكاملة وغير المتوافقة وتأثيرها على الاداء الاقتصادي للافراد والمؤسسات بدأ عند بدء تساؤلاته عن موضوعة عدم التأكد Uncertainty حيث ان الموديل النظري النيوكلاسيكي افترض ان المعلومات التي يهتدي بها صناع القرار الاقتصادي، افرادا ومؤسسات، هي معلومات تامة Perfect information والحقيقة ابعد من ذلك بكثير.  يذكر بعض العوامل التي ساعدته على الاهتداء للبحث في مسألة المعلومات وصياغة منهجه فيها، منها:

- دراسته النظرية في كلية أمهرست و MIT وخاصة في مواضيع الاحصاء- نظرية الاحتمال والاستنتاج والاستقراء وكذلك في موضوع المالية.

- السفرة التي قام بها الى كينيا في افريقيا التي كان لها الاثر الكبير لتعلقه بموضوع المعلومات حيث انه واجه مجتمعا واقتصادا يختلفان تماما عما عاش ونشأ فيه.

- كونه عاش في أوج سنين الحرب الباردة التي عرف من خلالها بأن النظام الاشتراكي كان يقود اقتصادا ناجحا ولكن على حساب حرية الافراد والمؤسسات. أما النظام الرأسمالي الفخور بحرية الافراد والمؤسسات فانه يعاني من امراض مزمنة ليس لها شفاء كالبطالة والتضخم والكساد الدوري. أما بقية بلدان العالم النامية المتأرجحة بين النظامين والتي كان اغلبها يعيش تحت نير الاستعمار، لم تشهد لا نموا اقتصاديا ولا حرية. ان ادراك ذلك دفعه للتساؤل حول امكانية ايجاد النظام البديل! ولكن كيف يمكن لمثل هذا النظام ان ينشأ ويتطور في ظل المعلومات المتوفرة غير الكاملة وغير المتوافقة.

تميز ستگلتز عن زملائه الاقتصاديين الكبار بصراحته وعدم تردده في انتقاد المعالجات الاقتصادية التي يراها غير مناسبة. ولعل اشهر انتقاداته تلك التي كلفته منصب نائب رئيس البنك الدولي.  لقد صرح وهو في منصبه بان البنك الدولي لم يحقق النتائج المرجوة في تحفيز النشاط وتصعيد النمو الاقتصادي! بل اتبع سياسة صندوق النقد الدولي التقليدية التي تقوض المساعي الديمقراطية في البلدان النامية وتشجع قطاعات وجماعات مختارة على ارتقاء سلم التجارة واستلام المفاتيح الاساسية للنشاط الاقتصادي، جنبا الى جنب مع معارضة وتقليص المشاريع الحكومية العامة التي ينتفع منها السواد الاعظم من الناس. ومع حلول أزمة شرق آسيا استعر خلافه مع مسؤولي صندوق النقد ليصل الى أوجه ويجبره على الاستقالة نتيجة للضغوط التي وضعتها ادارة الصندوق على مسؤولي وزارة الخزانة المالية في واشنطن.

وحيال ذلك، قال ستگلتز:

لقد كانت تجربة مذهلة ادركت فيها ان حكومة الولايات المتحدة تقف في طريق تطبيق مبادئ الديمقراطية والاستقلال والشفافية التي نشأنا مؤمنين بها. وقد اعطتني هذه التجربة الحافز للعمل باتجاه آخر. فاضافة الى عودتي للتدريس قمت باطلاق المشروع الذي اسميته مبادرة حوار السياسات بدعم من مؤسسات كبيرة مهمة مثل فورد وركفلر ومكارثر وموت وحكومات مثل السويد وكندا بهدف طرح سياسات بديلة لدعم العملية الديمقراطية وتحفيز النمو الاقتصادي في البلدان النامية. تقوم هذه المبادرة على اشراك الحكومة مع الاكاديميين وقادة المنظمات العمالية والصحفيين وممثلي المجتمع المدني في مناقشة السياسات الاقتصادية المطروحة وصياغة ما يكون الاجماع عليه كاكثرها فعالية وفائدة للمجتمع. وقد حققنا من خلال ذلك نجاحات ملموسة في بلدان مثل نايجيريا وڤيتنام وصربيا والفلبين.

ومن انتقاداته الاخرى كانت حول  نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectations Theory التي لمع نجمها في الثمانينات. يقول: لم أجد أي عقلانية في توقعات ان البطالة سوف لن تكون مشكلة كبيرة وان السياسات الاقتصادية الحكومية لن تكون فعالة. يرّد على ذلك في بحثه المشترك مع پيتر نيرلي الذي أثبتا فيه العكس تماما حیث ان مشكلة البطالة ستلازم حياتنا وبالتالي فلابد من تدخل الحكومة  في كل مرة لمعالجة الازمة المزمنة التي تتفاقم مرارا وتكرارا. واقرب مثال على ضرورة التدخل الحکومي  هو ماشهدناه مؤخرا والمتمثل بزيادة الانفاق الحكومي التي انتجت تأثيرات جانبية كزيادة الادخار التي تعني زيادة الدخل في الفترة القادمة وبالتالي زيادة الاستهلاك التي تدفع الي زيادة الانتاج التي ستمتص البطالة.

وحول انهيار المنظومة الاشتراكية واندفاع انظمتها السريع والمرتبك نحو اللامركزية واقتصاد السوق، يقول ستگلتز: كنت واثقا ان الامر يتطلب فهم نظام اقتصاد السوق وادراك متغيراته التي تفرض ان يكون التحول اليه  تدريجيا ومتوازنا، مع الحفاظ بالدور الفعال للحكومة، جنبا الى جنب مع تهيئة الهياكل المؤسسية اللازمة والبناء التحتي القانوني! وإلا سيصبح التحول فوضويا، وهذا ما حدث! كما انني اختلفت مع نظرية العلاج بالصدمة Shock Therapy  اسوة بطرق صندوق النقد الدولي، حيث اثبت الواقع فشلهما.

من آخر الحوارات مع ستگلتز، ذلك الذي اجراه معه أليُت سمث    Eliot Smithلموقع CNBC الالكتروني  بتاريخ الاول من أيلول 2023 .  وكان جُله حول التضخم الذي حصل بعد نهوض الاقتصاد في اعقاب تراجع وباء الكرونا.  يقول ستگلتز:

في ديسمبر 2020 كان معدل التضخم السنوي يساوي  1.2% وقد قفز الى 9.1 % في حزيران 2022، اي خلال ستة اشهر فقط، وهي أعلى قفزة خلال عدة عقود.  يقول ان البنگ الاحتياطي الفدرالي أخطأ الهدف حيث أصرّ جيروم پاول رئيس البنگ على ان هذا التضخم عبارة عن تضخم انتقالي Transitory ومن السهولة السيطرة عليه! لكن البنگ لم يراجع دروسه حيث  اعتقد السيد پاول ان سبب ذلك الجموح هو الزيادة الحاصلة في الطلب بعد ان افاق الاقتصاد من سباته! لكن الاسعار غالبا ما ترتفع لاسباب اخرى، وقد كان احد هذه الاسباب المهمة هذه المرة هو النقص الكبير في عرض نوع خاص من الرقائق تسمى  Semiconductor Chips التي تعتمد عليها كل الاتصالات الالكترونية.  كما ان البنك قام برفع سعر الفائدة 11 مرة ليوصله الى  5.5% وهو اعلى معدل خلال 22 عاما ، وذلك من اجل الحد من جموح التضخم. وكنتيجة فقد انخفض معدل سعر المستهلك القياسي CPI الى 3.2%. وقد اعقب ذلك حالة من القلق وعدم الاطمئنان لحالة الاقتصاد بعد الوباء مما جعل الشركات والمستهلكين يترددون في اطلاق انفاقاتهم كما كانوا قبل الوباء. وبهذا فقد سارعت الحكومة  بتمرير وتنفيذ "تشريع تقليص التضخم" Inflation Reduction Act لتجنب الوقوع في الكساد. وهو التشريع الذي استهدف حقول استثمارية هامة مثل البنى التحتية وتغير المناخ والصناعات الاساسية مما قاد الى استثمار اكثر من 500 بليون دولار في اقل من سنة. ومن المقرر ان ترتفع الى ترليون دولار بعد فترة قصيرة. ان هذه المعالجة هي التي انقذت الاقتصاد من الآثار الانكماشية التي كانت تسببها السياسة النقدية للبنگ الفدرالي.

بعد هذا التصريح الجرئ والخطير حول فشل السياسة الاقتصادية التي يتبعها البنگ الفدرالي، احجم مسؤولو البنگ عن الرد.

Information Asymmetry

يراد بهذا المصطلح عدم توازن المعلومات واختلاف اهميتها بين اطراف اي صفقة اقتصادية كأن تكون بين بائع السلعة او الخدمة ومشتريها، أو بين شركتين تعقدان صفقة تجارية، أو بين الدائن والمديون. فهذه الحالة من عدم التكافؤ في المعلومات تخالف ما افترضته النظرية النيوكلاسيكية بأن كل طرف من الاطراف يمتلك المعلومات الكاملة Perfect Information Assumption

ونظرية تباين المعلومات تبحث في اسس الوصول الى قرار الصفقة بين الطرفين اذا كان معلوما ان هناك اختلال في توازن المعلومات. وما استنبطه ستگلتز خلال دراسته لسوق التأمين هو التكنيك الذي سمي بغربلة المعلومات Screening من اجل تقليل آثار هذه الحالة على الطرفين . حيث ان شركات التأمين وبنوك الاعتماد تعتمد بشكل رئيسي على تصنيف العملاء بموجب مديات المخاطر التي تترتب على منحهم بوليصات التأمين أو القروض. والمثال الاكثر وضوحا هو تصنيف طالبي كارد الاعتماد Credit Card بموجب الدرجات التي تعطى لهم من قبل وكالات المعايير المالية المثبتة في تقارير تلك الوكالات Credit Report  عن كل مستهلك، فرد أو شركة.   ودرجات الاعتماد هذه  Credit Scores   هي التي تعوّل عليها شركات الاعتماد وتعتبرها مقياسا معتمدا لمدى ثقتها بالمستهلك.   وهكذا، فكم ونوعية المعلومات ستقرر لأي طرف ستترجح الكفة. فمثلا قد تكون الكفة لغير صالح شركة التأمين الصحي أو التأمين ضد العوق والعطل حين تنفق مبالغ طائلة في حالة عدم معرفتها الكثير عن مشتري التأمين الذي قد يدعي انه يعاني من مرض عضال او انه تعرض لحادث سيجعله  معوقا وعاطلا عن العمل. ويصح الامر كذلك حين تنشب الحرب بين دولتين نتيجة لسوء او نقص في معلومات طرف عن طرف آخر. وقد يسئ احد القادة التقدير حول امكانية الدولة الاخرى في طاقة البلاد لامتصاص ظروف الحرب او كمية ونوعية التسليح او استعداد جنوده للقتال او طاقة الاستخبارات وطبيعة الجغرافية والمناخ! وقد ويندفع لاشعال فتيل الحرب التي سيضمن خسرانها مدى كم ونوع المعلومات التي اعتمد عليها ذلك القائد.

Moral Hazard

بالرغم من ان هذا المصطلح قديم الا انه تجلى اكثر وضوحا في دراسات ستگلتز عن عدم توافق المعلومات. ففي ظل اختلاف المعلومات بين طرفين مشتركين في صفقة ما، قد يكون من الممكن للطرف الذي يمتلك المعلومات الافضل ان ينتهز الفرصة ويخاطر بجانب ما منها لمنفعته ولعلمه ان الطرف الآخر الذي افتقد لتلك المعلومات سيتحمل النتائج التي ستأتي لغير صالحه . وبهذا فان ذلك الطرف الاول سيرتكب مجازفة غير مناسبة اخلاقيا.

Adverse Selection

وهذا مصطلح مشابه لسابقه ويعني:  اذا قام طرف واحد (البائع مثلا) باستغلال فرصة ان الطرف الآخر (المشتري) لايعلم بجزء ما من الصفقة قد تكون متعلقة بنوعية او صلاحية السلعة التي يشتريها معتمدا على ثقته بالبائع. وهنا فان كل الاضرار التي يتحملها المشتري نتيجة لذلك ستكون مترتبة على ما  يسمى بالخيار المناوئ.

Monopolistic Competition

اكمالا لاهتمامه بموضوعة المنافسة الكا ملة في الموديل النيوكلاسيكي، عمل ستگلتز مع زميله أفينش دكست Avinash Dixit على صياغة موديل بديل في نظرية التوازن العام. وكان قد اظهر هذا الموديل تطبيقيا حالة الـ Increasing Return to Scale التي تحد من دخول المنتجين الجدد للسوق. ولكن عندما يفضل المستهلكون التنوع  في المنتوج سيكون الدخول الى السوق متاحا.

والمعروف ان المنافسة الاحتكارية تمثل نوعا من الاسواق التي يعمل فيها عدد من المنتجين الذين ينتجون سلعة مشابهة عموما لكنها متميزة نوعا ما، ولهذا فلا يستطيع اي منتج منهم ان يدعي احتكار انتاج تلك السلعة.

Shapiro-Stiglitz Efficiency Wage Model

في عام 1984 تعاون ستگلتز مع زميله كارل شبيرو Carl Shapiro لصياغة موديل رياضي يوضح السبب لعدم انخفاض الاجور للحد الذي يتوفر فيه عمل ما لكل من يبحث عن عمل. كما يوضح الموديل كيف ولماذا يشهد سوق العمل ما سمي بالبطالة القسريةInvoluntary Unemployment   حتى اذا كان سوق العمل في حالة التوازن العام.

Henry George Theorem

من ضمن مساهمته في نظرية المالية العامة، اقترح ستگلتز بأن أي منطقة تستطيع ان توفر ماتحتاجه من السلع العامة عن طريق فرض ضريبة خاصة على ريع الاراضي الواقعة ضمن حدودها الجغرافية. وكان قد سمى هذا الاقتراح احياءً لذكرى الاقتصادي الامريكي الكلاسيكي هنري جورج  (1839-1897) الذي كتب عن ضرورة فرض ضريبة محلية على قيمة الاراضي Land Value Tax في القرن التاسع عشر. وكان تبرير ستگلتز هو ان زيادة استخدام واستهلاك السلع العامة سيرفع من قيمة الاراضي وبالتالي زيادة اسعار ايجاراتها.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

لن اكون مبالغا عندما اقول ان هذا الكتاب واعني كتاب كيركغارد او كيرككورد - كما يترجمه صديقنا العزيز قحطان جاسم – (إما – أو) يعد ابرز نتاجات الترجمة العربية لعام 2023، ان لم يكن واحدا من اهم الترجمات التي قدمت خلال السنوات الماضية، فللمرة الاولى سيطلع القارئ العربي على تحفة كيركغارد " إما – أو " الكتاب الذي فتن جان بول سارتر ومعه رهط من الوجوديين امثال هايدغر وياسبرز وميرلو بونتي وكامو وليس انتهاء بالاسباني اونامانو الذي كان يردد ان قراءة كتاب كيركغارد تسببه له قلقا مستفحلا يجعله يتخذ خيارات " إما – او ".

لم اكن اعرف كيركغارد عندما قد وقعت في حب الفلسفة الوجودية في سنوات مراهقتي، فقد كانت الوجودية بالنسبة لي تتمثل في سارتر ومعه سيمون دي بوفوار وصاحبهما الذي انقلب عليهما فيما بعد البير كامو. واتذكر المرة الاولى التي سمعت فيها باسم كيركغارد كانت عن طريق صديق الصبا عادل عبد الله الشاعر والباحث، في تلك السنوات كان هذا الصديق مهوس بشيء اسمه الوجودية، يقرأ سارتر، ويحفظ فقرات من البير كامو، ويعرج احيانا على كيركغارد الذي لم اعثر على كتاب له في ذلك الوقت وفي الضفة الاخرى كان لنا صديق آخر هو قحطان جاسم ماركسي الهوى والانتماء، وبسبب غواية عادل عبد الله رحت ابحث عن كتب تدلني على المرحوم كيركغارد، فعثرت على كتاب صغير بعنوان " الوجودية " كتبه انيس منصور، وفيه ساعثر على ضالتي، فصل كامل عن كيركغارد مكتوب باسلوب ممتع وسهل يشرح فيخ حياة هذا الفيلسوف وماذا يريد ان يقول؟، ولانني كنت اعمل في مكتبة تتجدد فيها الكتب والمجلات، وقد كنت كنت شخصا فضوليا فيما يتعلق بالكتب. ما ان اجد كتاب جديد يحط رحاله على احد الرفوف حتى اذهب باتجاهه لا ستكشف مضمونه؟ فقد عشقت عالم الكتب، وبعكس جورج اورويل الذي يشتكي من هذه المهنة عندما كتب: " أتود ان تكون مهنتك بائعا للكتب؟ على الاجمال – برغم لطف رب العمل معي، وبعض أيام سعيدة قضيتها في المحل – لا. " انا للاسف من الذين يتوقون للعمل مجددا في مهنة بائع الكتب، فمع الكتب ينتابني احساس بالتفاؤل، وعن طريق المكتبة، وبعد احاديث عادل عبد الله الممتعة عن الوجودية، كان لقائي الأول بهذه الفلسفة عن طريق مجلة مصرية اسمها " المجلة " يرأس تحريرها الروائي والقاص المصري يحيى حقي، فأثناء بحثي في المكتبة عثرت على اعداد من المجلة، وأذكر انني وجدت في احد الاعداد مقالا كتبه عبد الرحمن بدوي بعنوان " خلاصة الوجودية "، اخذت العدد معي الى البيت، وكان لا بد ان ابارز الاصدقاء بمعلوماتي الجديدة، يخبرنا عبد الرحمن بدوي في مقاله ان الوجودية لها مركز الصدارة في الفكر المعاصر، وهي اصدق تعبير عن حالة القلق العام الذي تملَّك العالم بعد الحرب العالمية الاولى ثم الثانية. فلقد كان لهذين الحدين اثر بالغ في اشعار الانسانية بالمعاني الكبرى التي تؤلف نسيج وجودها..ثم وجدت مقالا في مجلة الاداب اللبنانية كتبه شعبان بركات بعنوان " كيركغارد " وفي مقدمة المقال يكتب: " تخضع الفلسفة في الوقت الحاضر لتأثير فيلسوفين ألا وهما نيتشه وكيركغارد. ومع ان هذين الفيلسوفين لم يثيرا اي اهتمام في حياتهما بل ظلا بعيدين عن عناية الفلاسفة، فان تاثيرهما اخذ يعظم شيئا فشيئا "، اذن فقد اتضح لي ان كيركغارد فيلسوفا مهما ما دام كاتب المقال يضع اسمه الى جانب نيتشه الذي كان كتابه " هكذا تكلم زرادشت " يلقى اهتمام كبير من رواد المكتبة، وذات يوم وبسبب سؤالي المستمر عن الوجوية وكيركغارد وجدت المرحوم ابو يعقوب صاحب دار الكتب التي كانت تتخذ من شقة في شارع الرشيد، يقول لي " عندي لك كتاب لكن سعره غالي شويه "، كان الكتاب بعنوان " كيركجور.. رائد الوجودية " المؤلف إمام عبد الفتاح إمام والكتاب بجزئين وبعدد صفحات تجاوز الـ " 800 " صفحة، وهذه الصفحات كانت اشبه بعبارة افتح ياسمسم، حيث كشف لي المؤلف عن خفايا مغارة هذا الفيلسوف الذي رفض كما يخبرنا عبد الفتاح إمام ان يطلق عليه لقب فيلسوف،ف في الفصل الاول والذي عنونه المؤلف: " هل كان كيركغارد فيلسوفا " يكتب إمام عبد الفتاح إمام: " كان كيركجور يقول عن نفسه ان مهمته في هذه الدنيا ان يثير الاشكالات في كل مكان لا ان يجد لها حلا، فهل يمكن ان يعد كيركجور فيلسوفا؟ وهل هو جدير ببحث فلسفي متخصص؟ اول ما يجيب بالنفي عن هذين السؤالين هو كيركجور نفسه ! فهو يرفض أن يكون فيلسوفا او ان توصف افكاره بانها فلسفة، كما كان يخشى ان يتم تناوله بعد موته بالدراسة العلمية او البحث الاكاديمي "، اذن ها انا ادخل مغارة كيركغارد اخيرا ومن بابها الذهبي، وسياخذني كاتب آخر اهتم ايضا بالفلسفة الوجودية وكان من انصار الوجودية وهوعادل كامل ترجم العديد من الكتب التي تناولت الوجودية ومنها كتاب كيركغارد " خوف ورعدة " وهو الكتاب الذي اعاد ترجمته عن الدنماركية الصديق قحطان جاسم تحت عنوان " الخوف والرعشة.. انشودة ديالكتيكية " والترجمة الجديدة صدرت عن دار الرافدين التي اتحفتنا بعدد من مؤلفات كيركغارد، وكان آخرها الكتاب الذي حصلت عليه هذا اليوم واعني به كتاب " إما – أو ".

بعدها ستتحفنا سلسلة " مكتبة الدراسات الفلسفية " التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية بكتاب مذهل بعنوان " سوؤين كيركجورد أبو الوجودية " للدكتورة فوزية ميخائيل وفيه تخبرنا ان عناصر الوجودية موحودة في الفلسفة القديمة لكن الوجودية كفلسغة: " لم تنشأ إلا مع كيركجورد، لذلك نقول عنه انه رائد واب ومنشئ لتلك النزعة المسيطرة على الفكر الاوربي المعاصر رغم كل ما نجده من عناصر الوجودية قبله ".

كنت ولا ازال اؤمن ان كتابا جيدا لشخص ما، هو بالتاكيد كتاب رديء لشخص آخر، وهذا ما حصل معي، فقد كنت أسأل العديد من الاصدقاء من قرأ كيركغارد؟ فاجد البعض متحمس، فيما البعض الآخر يجد ان كتبه صعبة ومن العبث ان يقضي المرء وقتا في حل الغازها..قرأت مرة في احد الكتب ان بائع مجوهرات قدم نصيحة لصاحب مكتبة قال فيها: " اذا رايت شيئا ملفتا للنظر، اشتريه، سواء عشقته بالمطلق أو كرهته بالكامل "، وهذه النصيحة انفذها بدقة منذ سنوات طويلة، وانا اجمع الكتب، فلا يوجد عندي كتاب لا اهمية له، سواء احببته ام لم اقع في هواه.. بعض القراء يختار التخصص. انا لا.للمكتبة عندي مفهوم واسع من عناوين واسماء.ولم ادخل مكتبة يوما من الايام واغادرها بايدٍ فارغة.

منذ ذلك الحين بقي المرحوم كيركغارد مصاحبا لرحلتي الفكرية، ليس بشكل حرفي وإنما حينا يكون معي وحينا احاول الهروب منه . ربما يكون ذلك عائد إلى غرابة الحياة التي عاشها والمآسي التي طاردته.

ولد سورين كيركيغارد في كوبنهاغن في الخامس من أيار عام 1813، حاول في سن الشباب ان يتخلص من جو الكآبة الذي عاشه في البيت مع أبيه، فأقبل بكل قوة على حياة اللهو، ورفع شعار "تلذذ بكل ما هو حسي"، ونراه يحاول ايجاد اعذار لهذه المرحلة من حياته، فيكتب في يومياته: "لقد ولدت كهلاً حين أتيت الى الوجود، ولكن يعزى إلي الفضل في إخفاء أحزاني بسعادة ظاهرة".

ترسم لنا الكتب التي كتبت عن سيرة كيركغارد، صورة طريفة لصبي منعزل يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً ملوناً، وجوارب طويلة، حتى اطلق عليه زملاؤه في المدرسة لقب "صبي الجوارب"، لم يكن يملك اية لعبة في منزله، وحين كان يطلب الخروج من البيت كان والده يمنعه، فالاختلاط خطر: "لقد سرقوا طفولتي، وأعطوني وانا طفل هيئة رجل عجوز، كان ذلك رهيباً". كانت تسيطر على ابيه فكرة الخطيئة، وقد قال لأولاده انه عندما كان شاباً يرعى الأغنام، شعر باليأس والضجر، فأنكر الله الذي لم يساعده في الحياة، وانه رأى بعد ذلك في المنام ان عاصفة رعدية ضربته، ومنذ ذلك التاريخ وهو يظن ان الله سينزل عليه في يوم من الأيام عقاباً رهيباً، وحين ازدهرت تجارته، بدت له الثروة والحياة المرفهة كنوع من الاختبار، وحين وقع لابنه الأصغر سورين عدد من الحوادث، اعتقد الأب ان لحظة سداد الدين قد حانت، وان عليه ان يقدم آخر أبنائه قرباناً كما فعل النبي ابراهيم مع آخر أبنائه. ولعبت الأقدار دوراً في ازدياد كآبة الأب الذي دفن خمسة من أبنائه بالاضافة الى زوجته، هذا المزاج السوداوي يصفه لنا كيركيجارد في يومياته : " تلك الحياة هي العالم معكوساً، حياة قاسية وغير محتملة، احيانا نقول الوقت يمر، والحياة تتدفق، ولكني لا أرى ذلك، بل يبقى الوقت ساكناً، وانا كذلك، كل خطط المستقبل التي ارتبها ترتد الي، وحين أرغب ان أبصق، فأنا أبصق في وجهي".

وكان كيركيغارد يذكر الماضي الذي عاشه مع أبيه ويتعذب، لكنه لايريد ان يغادر هذا الماضي، انه يصر ان يجعل من عذابه نقطة انطلاق نحو فهم للحياة: "مهمتي ان أصرخ وأدعو الناس، ان أخلق المشاكل والصعاب في كل مكان".

في السابعة عشرة من عمره ينهي تعليمه الثانوي ويستجيب لرغبة والده بدراسة اللاهوت، وتبدأ مرحلة جديدة من حياته كان فيها مولعاً بقراءة اعمال الفلاسفة المثاليين الألمان، فنراه يبدي سعادة كبيرة حين يلتقي الفيلسوف الألماني شيلينغ: " انا سعيد سعادة لاتوصف لسماعي محاضراته، حتى انني تنهدت طويلاً بما فيه الكفاية، وتنهدت الأفكار بداخلي". وقد اتفق مع هجوم شيلينغ على هيغل.

عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره توفى والده، الأمر الذي أحدث تحولاً كبيراً في حياته،: " لقد توفى والدي قبل ان يتم العقاب حباً لي، وذلك حتى اتحمل وحدي العقاب ".وبعد عامين حصل على شهادة في اللاهوت وخطب "رجينا اولسن"، لكنه فسخ خطوبته بعد عام، معلناً بوضوح انه لاينفع للحياة الزوجية، فقد اصبح مقتنعاً بأنه انسان لديه رسالة عظيمة، وان الزواج والعائلة يتعارضان مع هذا الهدف.

في العام 1843 ينشر اول كتبه "إما – أو" وفيه يعبر للمرة الاولى عن موقفه من الحياة، وهو موقف المتشائم: "لندع الآخرين يشتكون من هذا العصر الذي هو عصر الشر، إنني اشكو لأنه عصر تعس، عصر بلا عاطفة، وافكار الناس نحيلة وهشة كرباط الحذاء، ان نفسي مثقلة حتى انه ما من فكرة بقادرة على تعزيتها ". بعدها بأشهر ينشر كتابه الثاني "خوف ورعدة"، وتبع هذين العملين في عام 1844 كتاباه "مفهوم التهكم" و "شذرات فلسفية". وبعد عام نشر كتابه الخامس "مراحل على طريق الحياة"، ويبدو انه كان يشعر ان حياته قصيرة فأخذ يكتب بشكل محموم، فنشر خلال ثلاثة أعوام أكثر من مؤلف واصدر مجلة خاصة حاول من خلالها ان يبث افكاره التي اراد ان يقول من خلالها ان على الكنيسة ان تعود الى جوهر المسيحية، اذ يجب على المسيحية الكنسية ان تعترف بأنها ليست مسيحية.. وقد اتهم الكهنة بأنهم يتلاعبون بالدين، وجعلوا من الكنيسة مصدر كسب للعيش، لكنهم لم يفهموا ان الدين هو الولاء، وقبل كل شيء "في الارتفاع عن هذا"، وعن الكهنة الذين وصفهم بأنهم: "أكلة لحوم البشر".

في احد الأيام من شهر تشرين الاول عام 1855 وبينما كان كيركغارد يسير في الشارع، وقع مغشياً فنقل الى المستشفى،حيث رقد شهرا كاملا، والغريب ان اول عبارة قالها عند دخوله المستشفى: " لقد جئت هنا لاموت، " لتعلن وفاته في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1855

كانت نتاج كيركيغارد على الرغم من وفاته في سن الحادية والاربعين، نتاجاً ضخماً وميادين البحوث التي تعرض لها تبلغ من الاتساع ما بلغته تلك التي ناقشها هيغل، وبما ان الوجود يعني القبام باختبارات اخلاقية فهو " إما- أو " مستمر وحياة عمل، ان نظرة كيركيغارد للفلسفة تعتقد انه لاتوجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم للحياة، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة، ربما تكون رسالة كيركيجارد الأكثر اهمية هي أن فهم العالم والعمل على النفس يتطلب وجودك الكامل.لقد كان لعمله وحياته عمق أخلاقي حقيقي، إلى جانب السخرية التي اتسمت بها حياته: " فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية ". لم يكن كيركغارد بمثابة واحة جديدة استريح في ظلالها، بل عاصفة هائجة تثير حولها العواصف إن اكتشافي له في سنين المراهقة جعل القراءة بالنسبة لي ساعات من التأمل الجاد والمثمر، فقد كنت امام كاتب صارم وجاد.

ساعود من جديد الى الى المرحوم " كيركغارد " وانا استمتع بقراءة كتاب الاثير والمهم " إما – أو "، واتذكر معه سنوات جميلة مضت واصدقاء لا يزالون ينيرون حياتنا ومنه العزيز قحطان جاسم.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

الصفحة 1 من 7

في المثقف اليوم