شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

بعثة وزارة النفط

بعد حصولي في بكالوريا الدراسة الإعدادية على معدّل 78% عام 1953، وهذا ما يؤهّلني للحصول على بعثة وزارة النفط إلى بريطانيا، حيث كان يُقبل كل طالب يحصل على معدل لا يقلّ عن (75%) في السنين السابقة. وعلى هذا الأساس قدمت طلباً للالتحاق بهذه البعثة وكانت مقابلة.

كان موعد المقابلة في صيف تلك السّنة (1953) في مديرية شؤون النفط العامة الواقعة في شارع أبي نواس. وكانت لجنة المقابلة متكوّنة من الدكتور أحمد حقي الحلّي (مدير الكتب والمناهج والامتحانات في وزارة المعارف حينذاك) والذي سيرد اسمه في محكمة الشعب – المهداوي التي شُكّلت بعد ثورة 14 تموز 1958 بتهمة التجسّس على الطلاب في لندن، وإبراهيم الألوسي (مدير المعادن في وزارة النفط) والمستر هوفـر (ممثل شركة النفط البريطانية في كركوك) . كان يُنادى على الطلاب واحداً واحداً. فيدخل الطالب للمقابلة، وعند خروجه من المقابلة نسأله عمّا سئل وماذا أجاب. مثلاً، كان أحد الطلاب قصير القامة نحيف الجسم، سُـئِل عن الفرع الذي يرغب بدراسته، فأجاب: هندسة الطرق، فقال له إبراهيم الألوسي: كيف تستطيع أنْ تحمل الأنابيب الحديد والموادَّ الثقيلةَ وأنت بهذا الجسم؟ فأجاب الطالب: سأكون مهندساً وليس حمّالاً، فرسب في المقابلة . ولم يُقـبَلْ أيضاً الطالب النجفي السادس في التسلسل على العراق، والذي كان معدّله 86% . لكنَّ طالباً (ابنَ وزير) سُئل: بيش (بكم) تشتري كيلو الشاي وربع كيلو السكر (والعكس هو الصحيح، حيث كان الشاي يباع بربع الكيلوغرام والسكر بالكيلوغرام، لكنهم أرادوا أن يعرفوا فيما إذا انتبه إلى هذا التضليل)، فقال لهم لا أدري، لأني لا أذهب للتسوّق. وكان يجيب على كل سؤال يسأله مستر هوفـر بـ I don’t know ، فقال له إبراهيم الألوسي عندما تذهب إلى لندن ستتعلم ! فَـقُـبِلَ. وجاء دوري مباشرة بعد هذا الطالب. سألني إبراهيم الألوسي فيما إذا كنت أدرس وحدي أو مع مجموعة طلاب، أجبته وحدي. فسألني لماذا وكيف؟ أليس لك أصدقاء؟ طبعاً لديّ أصدقاء، أجبتُه، ولكني أفضل الدراسة وحدي وخصوصاً في الأسابيع القريبة من الامتحانات خوفاً من ضياع أوقات في نكات وأحاديث لا علاقة لها بالدراسة، فـفي هذه الحال أحبّ العزلة. قلت ذلك وأنا لا أقصده، لأن الحكم كان عسكرياً حينذاك على إثر انتفاضة تشرين عام 1952 وتسلّم الفريق نور الدين محمود السلطة، ولأنَّ مدينة الكاظمية اشتهرت بسمعة الشيوعية، بل كانت تُسمّى (موسكو الصغيرة!)، فكلُّ (كظماوي) كان مشكوكاّ فيه إلى أن يُـثبِتَ براءته! فأيُّ اجتماع مع طلاب أو غيرهم يُحسَبُ تجمعاً سياسيّاً له عواقب غير محمودة. فقال لي: كيف إذاً تستطيع العيش في لندن وأنت تُحِبُّ العزلة؟ وعليك الاختلاط بالطلاب والناس لتتعلم اللغة. أجبته بأن الحال في لندن مختلف . سألني بعد هذا، وما أزال أتذكر سؤاله حرفياً إلى هذه اللحظة: سيد بهجت أنت قضيت الثانوية في الكاظمية، فأين قضيت المتوسطة؟ أجبته على الفور وبتحدٍّ وأنا أعرف ماذا سيكون: في الكاظمية أيضاً! أما الدكتور أحمد حقي الحلّي، فأعطاني ورقة فيها خطان متوازيان بسهمين متعاكسين في نهايتيهما  (خداع النظر)، وسألني: أيّهما أطول؟ قلت له ربما يكونان متساوييْن عند النظر أو ربما الأعلى أطول.  فقال: مرة تقول متساويان ومرة تقول واحد أطول من الآخر. لم يسألني أيَّ سؤال بعد هذا. أما المستر هوفـر فسألني باللغة الإنكليزية: لماذا اخترت الكيمياء الصناعية؟ أجبته بأنَّ بلادنا تحتاج إلى مشاريع صناعية أولاً، ولأنَّ لي ولعاً وقدرة لدراسة الكيمياء ثانياً . طيب، ومن تعرف من علماء الكيمياء؟ أعرف همفري ديفي،  ذكرت له هذا الاسم بالذات لأنه إنگليزي، وفي الواقع كان عالماً مكتشفاً. سألني: تكلم عن حياته. ولما كنت قد قرأت قبل هذا بأشهر قلائل كتاب الهلال (قصة العناصر في الطبيعة)، وهي سلسلة شهرية في حجم صغير كان يصدرها الكاتب المصري جورجي زيدان مؤسس دار الهلال في مصر في الخمسينات من القرن الماضي . ذكرت له بعض الأشياء عن حياته واكتشافه الصوديوم والبوتاسيوم عام 1807 وقلت له بأنه قال حكمة عظيمة تدل على علمه وتواضعه. سألني ما هي؟ أجبتُ: أستطيع أن أذكرها بالعربية وليس بالإنگليزية، فوافق بعد احتجاج، فذكرتها بالعربية وترجمها الألوسي له إلى الإنگليزية فأعجب بها، والحكمة كما أتذكرها هي: "كلما توغلنا في الطبيعة وجدنا أنَّ أشياءً كثيرةً لم تكتشف بعد، فما أقلَّ ما نعلم، وما أكثرَ المجهولَ الذي لم نتوصل إلى اكتشافه بعد." فقال لي بعد سماع ترجمتها: very good، ولكنّي لم أستبشر خيراً حيث أعرف أنّ الأمر ليس بيده، وهكذا كان. فلم أُقـبَلْ، حيث حصلت على درجة 3 من 10 من كلٍّ من العراقييْن، الحلّي والألوسي، وعلى 7 من 10 من مستر هوفـر، فكان المجموع 13 من 30. وكانت أقلُّ درجة ناجحة هي 14 من 30 ! أما سبب عدم قبولي فكان (لا يستطيع العيش في لندن لأنه انعزالي !)

كانت المقابلة (غربلة) حقاً، فقد اختير 37 طالباً من مجموع 59 طالباً والمفروض أن يكونوا خمسين طالباً مقبولاً حسب السنين السابقة. هل كانت القضية طائفية؟ أم سياسية؟ أم كلتيهما؟ ربما لعبت الطائفية بعض الشيْ، ولكنّ المسألة كانت سياسية أكثر مما هي طائفية. ولم يكن الطلاب المتجمّعون من جميع أنحاء العراق للمقابلة طائفيين، بل كان الواحد منهم يساعد الآخر دون أن يعرف من هو ومن أين أتى، وإلى أيِّ جهة ينتمي. كانوا متحمسين للبعثة والدراسة في بريطانيا وكفى. والواقع أنَّ معظمَ مَنْ قُبِلوا كانوا من أبناء الذوات والنخبة.

كان عدم قبولي صدمة قوية عليَّ، فقد تناثرت الأحلام كعقد لآلئ في تراب، وأصبح مستقبلي في مهبّ الرياح وأصبحت الكآبة تخيِّم عليّ . فاشتدّ عدائي للطبقة الحاكمة وتمنيتُ زوالها، وكان لفلسفة نيتشه تأثير كبير عليَّ، حيث كنت قد قرأت كتابه (هكذا تكلم زرادشت – ترجمة فليكس فارس) من قبل وأخذت أفكر في أقواله مليّاً، فكانت هذه القصيدة التي كتبت في صيف 1953.

خطرات من وحي نيتشه

(نُشرت في مجلة (الصيدلي) التي كان يصدرها اِتحاد الطلبة في كلية الصيدلة والكيمياء الملكية في كانون الأول 1953 باسم (ب. ع.) حيث كنت طالباً في السنة الأولى فيها . صدر منها عدد واحد فقط وأُغلقت وفُصل من الكلية بعض كتابها ومحرريها، أذكر منهم الصيدلي فيما بعد عدنان الخطيب، الذي كتب مقالة فيها تحت عنوان (الديمقراطية التي نريد) وفصل الطالب سعدون حمودي بعد ذلك لأنّه سافر إلى فيينا للمشاركة في (مؤتمر الشبيبة العالمي المنعقد في فيينا عام 1954) ولو كنتُ كتبت اسمي الصريح، لربّما لم أكنْ صيدلانياً أبداً! ولم أحظ بشهادة الصيدلة التي كانت بوليصة التأمين أو قارب النجاة في حياتي.

" أرسلتُ نظراتي إلى أعماق عينيك السّـاهدتين أيتها الحياة، فوقف نبضان قلبي، إذ رأيتُ الذّهبَ متوهِّـجاً فيهما، ورأيتُ مركباً ذهبياً يشـعّ ُعلى بحر الظّـلام يُـشَـدّ ُ بمهـد مُـذهبٍ مُـشرفٍ على الغرق. " (هكذا تكلم زرادشت – نيتشه)

بسمَ الفجرُ، فرفَّ الـزَّهـر في خـُضـْر الرَّوابي

جـذِلاً يخـتال فـي بُـردِ الصِّـبا غـضَّ الإهــابِ

يمـزج العـطــرَ كمـــا شـاء بـأنـفــاسٍ عِــذابِ

وتـهـادى السّـادرُ الجـبّـارُ يشـدو باصطخـابِ

قـطفَ الـزَّهـرَ وولـّى بين أغـصانٍ رطـــابِ

أكـذا مـنْ يُـخـمدِ الأرواحَ يَسـعدْ بالرِّغـــابِ؟

والـذي ينشـرُ نَـفـْحَ الـروح في دنـيا العذابِ؟

فرويـداً أيـّها المخـتـالُ فـي الروضِ الأغـنِّ

سوف تأتـيك الـرِّياح الهـوج تـلوي كلَّ غصنِ

حين تهوي صـارخاً مـن وطـأة الـدَّهر الغريرِ

**

كم مـن الأرواح هامتْ تـَتـَنـاجى في الظَّـلامِ ِ

مـذ بـدا البـدر ُ كئيـبـاً شاحبــاً خلف الغَّـمــامِ ِ

إنّني أبصـرتُ روحـيـن على بحــر الـرِّمـام ِ

قالت الأولى: أيطوي النورَ نسج ٌ مـن قَـتـام ِ؟

مـا لهذا الكوكبِ الهـائـلِ كالـزَّهـــرِ المُـضام ِ

فأجابتْ تلك: لا يسطيعُ يطـويه غمام ٌ مترامي

إنَـمـا يُـبـْصَرُ فــي غـيــر مكـانٍ ذا ضِـرام ِ

غير أنَّ النَّفسَ قالـتْ وَهْـيَ في هـمّ ٍوحـزنِ

كمْ حِجـابٍ أسدل المـرء على فـكـر وعـينِ

في ظلامٍ دامسِ الأرجـاء كـالـرّعب المُطـيرِ؟

**

ولولي ما شـئـتِ بالإعـصار يا ريحَ الشَّـمـال ِ

واعصِفي بالـزَّهـر والأنـداء في مهد الظِّـلالِ

واسكـبي كـأسَ عذابٍ وانـثـُري عِقـدَ لآلـــي

كم شراع ٍقـد سـرى يخـفق في بحـر الخَـيالِ

حـالم ٍ كالأفـق ِالمطـويِّ فـي صمتِ اللّـيالي

فطــواه المـــوجُ فانـْهــارَ إلــى شـرِّ مـــآلِ

أيّ ُ شـيءٍ صـيـَّر الزَّورق فـي ذاك المجالِ؟

غـيرُ أحـلام ٍتراءتْ وانـْثـنَتْ ومضاً كـفَـنِّ

أبصَـر النّـورَ وشـيكاً وانطـوى إثـْرَ التجنّي

يمـلأ ُ الأقـداحَ مَـنْ في روحه جـهلُ المصير ِ

**

ورميتُ البصرَ الشّـاردَ من خلف الحـجـابِ

فإذا الأيـّام تسـري مثـلَ أشـباح السّـراب ِ

وإذا كهلٌ تـولّـى في حضـيض الاكتـئـابِ

غـارقٌ في لجج البـؤس وأهـوال العـبـابِ

أ وميضٌ من حـياة يـتـوارى في الضَّـبابِ؟

يا لكأسٍ رَقـْرقَـتْها النَّـفسُ في فجـر الشَّبابِ

وأمـانٍ مـزجتها الـروح بالـدَّمـع المُـذابِ

في خـريف العمـر أشباحٌ لأرواحٍ تُـغـنّـي

ذهبَ العـمرُ هـباءً وانـطوى فجـرُ التَّمـنّي

فَهـلُـمَّ الآنَ نـفـثأْ سـَوْرةَ الـكأس ِالمريـــرِ

1953

*** 

د. بهجت عباس

 

بقلم: بيتر ليلاند

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

من خلال تجربتى الشخصية ومن خلال تدريس العلاج بالقراءة للطلاب، أعلم أن الكتب يمكن أن تساعد في شفاء العقول والقلوب. قبل بضع سنوات، تعرضت لانهيار مما يمكن أن نسميه الآن "الإرهاق". ربما كان الأمر مرتبطًا بوفاة والدي المبكرة بعد صراع طويل مع المرض عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، والذي هربت منه إلى القصص والشعر. بينما كنت مستلقيًا على السرير في فترة نقاهة، عدت إلى الكتب مرة أخرى، قرأت بالكامل رباعية راج (1966-1975) لبول سكوت. مما لا شك فيه أن حبكته الغنية بالطبقات والشخصيات المرسومة ببراعة في بيئة هندية ساعدتني على التعافي.

كانت هناك أوقات أخرى في حياتي كانت فيها القراءة أكثر من مجرد هروب من الواقع. لقد دفعني فقدان السمع الجزئي في الثلاثينيات من عمري أثناء التدريس في المدارس إلى اللجوء إلى المعينات السمعية، وهو الأمر الذي وجدته صعبًا للغاية. ومع ذلك، فقد وجدت الخلاص في قراءة الشعر التي لا تنسى لبنجامين صفنيا في مهرجان هاي في ويلز في الوقت الذي كنت أجرب فيه المعينات السمعية الحديثة. دعا صفنيا جمهوره على خشبة المسرح للرقص على موسيقى مجموعته الشعرية The Dread Affair (1985) - وقد فعلنا ذلك.

وعندما لم أعد أستطيع سماع الأطفال بوضوح، تركت الفصل الدراسي في المدرسة وأصبحت معلما للكبار. بعد تقديم عدد من الدورات الناجحة في الشعر والروايات، والتي ابتكرتها بنفسي لمجموعات متنوعة من البالغين، قررت البحث في "العلاج بالقراءة". نظرية العلاج بالقراءة هي أن الناس يتعاملون مع الأدب، ليس فقط للهروب من العالم المألوف والسفر إلى مكان آخر، ولا للأغراض الأكاديمية فقط، ولكن لتخفيف آلام الوجود، وكونهم بشرًا. لقد اكتشفت باحثين يدرسون هذا المفهوم، مثل كيلدا جرين، مؤلفة أطروحة "عندما يأتي الأدب لمساعدتنا" (2018)، وأخصائيين في العلاج بالقراءة، مثل إيلا بيرثود وسوزان إلديركين التي كتبت "العلاج بالرواية" (2013). وعثرت أيضًا على دورة تدريبية عبر الإنترنت حول العلاج بالكتاب، يديرها المؤلف والصحفي بيجال شاه. لكنني أردت أن أعرف بنفسي ما إذا كان هناك أية حقيقة في نظرية العلاج بالقراءة.

تقدمت بطلب للحصول على منحة من جمعية تعليم العمال (WEA)، حيث كنت أعمل لديها في ذلك الوقت، لتشغيل دورة مجانية مدتها 10 ساعات أسميتها "القراءة يمكن أن تحسن حياتنا". تأسست WEA في بريطانيا عام 1903 على يد ألبرت وفرانسيس مانسبريدج. لقد خلقا جيلًا من الرجال والنساء المتعلمين ذاتيًا، أو "الذين تعلموا ذاتيًا"، ومن شأن هذه الحركة أن توفر التعليم للعاملين.  لقد صممت الدورة بمساعدة مجموعة محلية من طلاب WEA، حيث قال أحدهم: "إن قراءة الشعر والروايات يمكن أن تخرجنا من تجربتنا اليومية وتمنحنا المتعة والتحفيز الذهني والشعور بالرفاهية والصحبة". استخدمت هذا في إعلان الدورة، وقامت بتجنيد مجموعة من 12 رجلاً وامرأة. وكان معظمهم أكبر من 50 عامًا، لكن واحدًا أو اثنين منهم كانا أصغر سنًا.

تحدثت في الفصل عن نظرية العلاج بالقراءة. أخبرتهم أن الأمر موجود منذ سنوات عديدة وأن أحد الكتاب الأوائل الذين قالوا إن قراءة الكتب يمكن أن تريح شخصًا ما بعد حسرة أو فجيعة كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين في القرن السادس عشر. قال مونتين، بعد وفاة صديق ماتبسبب الطاعون، إن أفضل علاج هو صحبة الكتب. وقال أفلاطون أيضًا أن الفنون يمكن أن تعيد دائرة الروح إلى التوازن بعد خلل شديد. وقالت جورج إليوت، التى استخدمت قراءات دانتي للتغلب على وفاة زوجها، إن: “الفن هو أقرب شيء إلى الحياة؛ إنه  طريقة لتضخيم الخبرة وتوسيع اتصالاتنا مع زملائنا من البشر خارج حدود قدرنا الشخصي.

ومن الأمثلة الأخرى التي شاركتها هو الشاعر ويليام وردزورث، الذي كتب عن كيفية العثور على "بقع زمنية" في الشعر حيث يمكن للمرء أن يتعافى من ضغوط الحياة ويستعيد ويصلح نفسه. في الآونة الأخيرة، في عرضهما التقديمي حول العلاج بالقراءة في مهرجان كامبريدج للعلوم في عام 2019، استشهد الباحثان الإنجليزيان إدموند كينجوشفقت توحيد عن ستيفن هنري هيويت، الذي قُتل في معركة السوم عام 1916، الذي كتب: "أنا قادر على حبس أنفاسي على قيد الحياة مع القراءة المستمرة. لقد قرأت الكثير من الكتب الرائعة: رواية روسية مليئة بالفضائح والاكتئاب، لكنها أصبحت سامية بفضل ما يسميه الكتاب الروس دين الشفقة..."

بعد أن قدمت هذه المقدمة لطلابي، أردت أن يكون لديهم خبرة عملية في نظرية العلاج بالقراءة. بناءً على فكرة لروبرت ماكفارلين في كتابه هدايا القراءة (2016)، طلبت منهم إحضار كتاب يقدمونه كهدية لصديق أو قريب أو معارف جديدة. توقعت أن يحضروا مجموعة من الروايات، لذا فوجئت بوجود رواية واحدة فقط، وهي رواية جريمة كتبها ستيفن بوث، وهو كاتب محلي. أحضروا كتبًا لم أسمع بها مثل "حياة الراعي" (2015) لجيمس ريبانكس، و"سجناء الجغرافيا" (2015) لتيم مارشال، و"أوجه المسيح الثلاثة" (1999) لتريفور دينيس.

بعد ذلك، تحدثت عن استخدام المذكرات المكتوبة كوسيلة لفهم حياتنا. أشرت إلى مقالة لإحدى عضوات المجموعة عن نفسها وعن حبها للقراءة، والتي شاركتها معي سابقًا. بعد ذلك، عرضت على المجموعة مقالًا في صحيفة الغارديان للكاتبة لويز ويلش حول كيف أن قراءة مذكرات مايا أنجيلو "أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس" (1969) جعلتها تفكر مليًا في الحياة التي عاشتها أنجيلو. وفي الجلسة التالية، طلبت منهم إحضار كتاب أثر فيهم بشدة.

انقسم الفصل إلى مجموعات وناقشوا ما أحضروه. وكان من بين اختياراتهم تاريخ حالة طبيب أعصاب، وكتاب عن الصمت، والكتب التي يتذكرها الأطفال من قراءة الطفولة، وكتاب الأغاني وكلمات الأغاني، وكتاب وصفه أحد الفائزين بجائزة بوليتزر بأنه "قصة شعرية مؤرقة"، وكتاب عن الأنبذة الفرنسية. كانت المناقشة متفائلة، واستمعت بذهول إلى 12 قصة رواها الناس، حول ذكرياتهم عن تأثير قراءة كتاب على حياتهم. قال أحدهم: «القراءة تتيح لنا الوصول إلى مجموعة من التجارب والعواطف التي لم نكن لنحصل عليها لولا ذلك»

لقد وجد بعض الطلاب صعوبة في اختيار كتاب، وأدركت أنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على تفسير متطلبات الدورة على أوسع نطاق ممكن. أصبح هذا أكثر وضوحًا في الجلسة التالية عندما طلبت منهم اختيار قصيدة خاصة بهم لقراءتها والتحدث عنها مع الآخرين في المجموعة. ذهبت أولاً، وقرأت بصوت عالٍ قصيدة بعنوان "لأنك سألت عن الخط الفاصل بين النثر والشعر" بقلم هوارد نيميروف (1980). ثم استخدمت بعد ذلك طريقة تدريس الاختيار العشوائي حتى يتمكن من يريد التحدث عن اختياره. قام البعض بتوزيع نسخ من القصائد التي طبعوها، والبعض الآخر قرأ القصيدة بصوت عالٍ – ناقلين مشاعرهم من خلال صوتهم وإيقاع حديثهم.

فكرة العشوائية نجحت بشكل جيد. وبينما كان كل طالب يقرأ ويناقش كل قصيدة، بدا أن القصيدة التالية تتبعها دون أن أطلب ذلك. يقرأ أحد الطلاب كلمات أغنية البيتلز "In My Life" (1965)؛ وآخر، الذي اعتقدت أنه قد لا يتمتع بنفس القدر من الثقة، قرأ الكلمات من كتاب روبرت فروست "الطريق الذي لم يُسلك" (1915)؛ قرأ أحدهم مقتطفًا من رواية البؤساء (1862) لفيكتور هوجو،والتي تمت مشاركتها مع زميل سابق قبل سنوات عديدة؛ وقرأ آخر كلمات قصيدة لليونارد كوهين بعنوان "العندليب" (2004)، تخليدًا لذكرى زميل له أيضًا. ساهم معظمهم، على الرغم من أن أحدهم طلب مني أن أقرأ قصيدة نيابة عنها، والتي بدأت: "على أي عظام تم بناء منزلي..." أتخيل أنها كانت شخصية للغاية: "إنه علاج، ومن الجيد لفترة قصيرة أن تكون كذلك". على قيد الحياة،' كنت قد كتبت في بيان سابق أعطيت لي لمشاركته مع المجموعة أثناء القراءات.

لقد وجدت جلسة الشعر مؤثرة بشكل لا يصدق وطلبت استراحة، واقترحت أن يتحرك الناس في جميع أنحاء الغرفة. أنا بالتأكيد في حاجة إليها. ولا يمكن الاستهانة بمستوى الثقة المطلوب بين المعلم والطالب لتعزيز  مثل هذه الثقة المتبادلة. أظهرت لي العروض التقديمية مدى أهمية فكرة العلاج بالقراءة لحياة الناس وصحتهم العقلية المستقبلية.

بالإضافة إلى تجربتي الشخصية حول كيفية معالجة العلاج بالقراءة لمشاكل الصحة العقلية، فقد حضرت أيضًا دورة حول هذا الموضوع تديرها جمعية WEA في سياق التعامل مع التوتر في مكان العمل. خلال هذه الدورة، عندما طُلب مني قائمة بالكتب التي قد تكون مفيدة، أوصيت بـ "أحدهم طار فوق عش الوقواق" (1962) بقلم كين كيسي؛ الناقوس الزجاجى (1963) لسيلفيا بلاث؛ والرواية المذكورة أعلاه علاج.

يقترح كتاب The Novel Cure  كتبًا محددة لحالات معينة مثل البطالة، والقلق، وحصار الكاتب، والأكثر إثارة للاهتمام، "الزواج" والنضال من أجل الحفاظ على الشعور بالذات في مواجهة الالتزام المستمر. العلاج المقترح لـ "الزواج" هو رواية بعنوان "أبريل المسحور" (1922) بقلم إليزابيث فون أرنيم، حيث تقرر امرأتان استئجار منزل في إيطاليا للهروب من الجمود الذي تعيشانه في حياتهما الزوجية. تنضم إليهما امرأتان عازبتان أخريان وتبدأ سلسلة رائعة من اللقاءات.

اعتقدت أن الأفكار من The Novel Cure قد توفر تركيزًا جيدًا للجلسة الرابعة من الدورة التدريبية الخاصة بي، ولكن عندما قدمت للفصل اختبارًا قصيرًا، سألته عن الكتب المناسبة لحالات عاطفية معينة، وجدت أن الفكرة لم تكن شائعة جدًا كما كنت أتوقع. هذا جعلني أعيد النظر في الجلسة الأخيرة، ومن ثم قررت أن أجعلها تتمحور حول الطالب. عندما سألتهم عما يريدون القيام به، اقترح أحد الطلاب أن يكتب الجميع بضع جمل حول كيف تُحدث القراءة فرقًا في حياتهم، مع الإشارة إلى الأمثلة إذا رغبوا في ذلك. وافق الجميع على ذلك، وفي الأسبوع التالي قرأوا أفكارهم وناقشناها. فيما يلي بعض الأمثلة من تلك الجلسة الأخيرة:

في حياتي الشخصية، أشعر أنني تلقيت هدية هائلة لأنني، منذ أن كنت طفلاً، تمكنت من "تصفح الجزء الخلفي من خزانة الملابس". أنا قادر على الاستغناء عن أي وعي بالكلمات والسكن في كتب معينة... إنه أمر سحري، وأنا ممتن له للغاية.

أجد العزاء في الكتب، حيث أصبحت بسهولة واحدة من الشخصيات مع تقليب الصفحات... العائلة والأصدقاء طيبون ولكن في العالم الحديث المتغير الجميع مشغولون للغاية... ولكن هناك نقاط بارزة، وهي أن تكون جزءًا من مجموعة من الأشخاص الذين يستمتعون ويفعلون مناقشة أي شكل من أشكال الثقافة، والشعر على وجه الخصوص.

شعر الطلاب أنهم يريدون أن يفرضوا قراءتهم الخاصة بدلاً من أن يقوموا بها، وكانت هناك مجموعة من التعليقات الإضافية حول ما فعله الأدب بالنسبة لهم مثل: "لقد كانت فرصة للدخول إلى عقل آخر". أنت تخرج من نفسك إلى عالم مختلف." "يمكن أن يجعل الشخص الذي لا ينتمي إلى أي مكان ينتمي إلى مكان ما."

انتهت الدورة. ثم وصلت جائحة كوفيد-19 ولم تتمكن المجموعة من الاجتماع لأكثر من عام. قرر عدد صغير الانضمام معًا كأصدقاء على Zoom. كنا نشارك قصائد كاتب مختار كل أسبوع، وآخرهم الشاعر جيليان ألنوت. أستطيع أن أقارن هذا بنادي الكتاب على الإنترنت الذي أنتمي إليه، والذي تديره منظمة "Carers First" في المملكة المتحدة، حيث اجتمع المشاركون لأنهم كانوا مسؤولين عن رعاية شخص يعاني من مرض مزمن.

تشترك كلتا المجموعتين في نفس الديناميكية الأساسية لتطوير الفهم الذي يمكن من خلاله للناس الاستفادة من التفاعل مع رواية أو قصيدة. كما كتب أحد أعضاء Carers First (كجزء من مشاركتنا في مسابقة نادي الكتاب التي تديرها وكالة القراءة):

لقد اجتمعنا معًا من خلال شيئين، وهما تقديم العلاج ومشاركة حب القراءة. ندرك جميعًا مدى أهمية العلاج الذاتي وأن الكتب تساعدك على الشعور بأنك جزء من عالم أكبر. ولهذا السبب نختار القراءة بشكل متنوع ومشاركة القراءات الجيدة مع بعضنا البعض.

هذا ليس بيانًا عن العلاج، بل عن كيف يمكن للمرء ببساطة الاستمتاع بالقراءة كوسيلة للمضي قدمًا في حياته. إنه يردد تعليق طالب WEA حول إخراجك من نفسك إلى عالم مختلف. باختصار، العلاج بالقراءة يدور حول اكتشاف طرق لتحويل عقولنا وحتى شفائها من خلال القراءة. يتعلق الأمر بقوة العثور على الكتاب المناسب في الوقت المناسب، كما خبرته في حياتي الخاصة. عند دمجه في إطار تعليمي أو اجتماعي مشترك، سواء كان ذلك في دورة تعليمية أو مجموعة كتب عبر الإنترنت، فقد رأيت بنفسي أن العلاج بالقراءة يمكن أن يقدم فوائد هائلة للصحة العقلية والعاطفية للناس.

(انتهى)

***

.........................

المؤلف: بيتر ليلاند / Peter Leyland معلم مدى الحياة. قام بتدريس اللغة الإنجليزية والعلوم في المدارس، وقام بتدريب المعلمين، وكان مدرسًا للأدب في تعليم الكبار. ألف كتابًا عن الأطفال الموهوبين والموهوبين، وآخر عن الرواية البوليسية. وهو يدرس الآن ما إذا كانت قراءة الكتب يمكن أن تحسن صحتنا العقلية. يعيش في باكنجهام، إنجلترا.

* المقال المترجم منشور فى مجلة سايكى/  PSYCHE    بتاريخ 26 أبريل 2023 م

* وراابط المقال:

https://psyche.co/ideas/reading-books-is-not-just-a-pleasure-it-helps-our-minds-to-heal

مقتطفان من المقال:

(طلبت منهم إحضار كتاب ليقدموه كهدية لصديق أو قريب أو معارف جديدة)

(لا يمكن المبالغة في تقدير مستوى الثقة بين المعلم والطالب المطلوب لتعزيز مثل هذه الثقة المتبادلة)

 

غدا الثامن عشر من كانون الاول، يحتفل ابناء لغة الضاد، بيوم اللغة العربية التي مهما عرفنا عنها وقرأنا في سيرة اعلامها، فهي كانت وستبقى  أخصب اللغات.

 وسواء رافقتنا اللغة في حياتنا اليومية أو في كنوز القواميس. فان لكل كلمة صورتها التي تترسخ في الذهن.. ولعل اول درس يجب ان يتعلمه العامل في مهنة الصحافة ان اللغة يجب ان ترافقه في عمله اليومي.. وان للكتابة شروطها التي تبقى اللغة ابرزها، تضاف لها الموهبة.. ولهذا نجد ان البعض يسطر صفحات كاملة دون جملة مفيدة واحدة.

ولحسن حظي فان حبي للغة  العربية تأتى من تعلقي المبكر بقراءة كتب طه حسين، الذي يحتل مكانة خاصة عندي، قرأت جميع كتبه وما كتب عنه وقلدته وانا صبي بان ارتديت نظارات سوداء، بل تمنيت في لحظة من لحظات جنون الصبا لو اصبحت بصيرا مثله، واعثر على واحدة مثل سوزان تقرأ لي .. وخلال سنوات الارتباط بالكتاب، كنت ولا زلت كلما اشاهد كتابا عليه اسم طه حسين اجد يدي تتلقفه وكأنني أقرأ اسم طه حسين للمرة الاولى .. واتذكر عندما خطفت من المكتبة التي اعمل فيها كتاب " تجديد ذكرى أبي العلاء " ورغم ان الكتاب كان صعب المراس على صبي في عمري آنذاك، لكن رحلتي مع طه حسيت استمرت، وشغفي بقراءة " ابي العلاء المعري " ترسخ مع مرور الزمن، فكيف لا اعجب بالمعري وطه حسين يخبرني انه مثله الأعلى، ذلك المفكر والشاعر الذي " وقف حياته في دار من دور المعرة على الدرس مُمعنا فيه . غير معني إلا به، محرما على نفسه ما اباح الله للناس من طيبات الحياة " – طه حسين الايام –  . كان طه حسين ذلك الفتى الفقير الذي قهر ظروف حياته وبيئته، واستطاع ان يصبح عميدا للادب العربي . وحينما افكر الآن باثر رجعي اكتشف ان كتب طه حسين كانت دليلي في الكثير من القراءات سواء في التراث او الفكر الغربي، فقد كنت احرص على تتبع ما يقوله في كتبه، وابحث  بين صفحات مؤلفاته عن الاسماء التي تتقافز بين سطور " حديث الاربعاء "، حيث يمضي القارئ ساعة مع الحطيئة وساعة اخرى مع لبيد وساعة ثالثة في صحبة كعب بن زهير، وتتنظر القارئ  اكثر من ساعة مع قيس ابن الملوح  وياخذ طه حسين بيديك ليدخلك عالم زعيم الغزليين عمر بن ابي ربيعة " /، وتنتظرك ساعات وساعات في حضرة ابي نواس . وفي كتابه الممتع  " قادة الفكر "  وجدت نفسي وجها لوجه امام سقراط وتلميذه افلاطون وحفيد المدرسة السقراطية ارسطو، وتتوقفت رحلتي في القراءة   كثيرا عند كتابه " الوان " حيث  كان ينتظرني فولتير وكافكا وسارتر واوغست كونت وروسو، ومع كل كتاب اقرأه له اتذكر وصيته التي كتبها في مقدمة كتابه " تجديد ذكرى ابي العلاء " من ان الباحث في شؤون الادب :" ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لا بد له أن يلم إلمامًا بعلوم الفلسفة والدين، ولا بد من أن يدرس التَّاريخ وتقويم البلدان درسًا مفصلًا، و لا بد له من أن يدرس علم النَّفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يُتقن الفهم لما ترك الكاتب أو الشاعر من الآثار" . وفي رحلتي مع طه حسين كنت اتتبع المصادر التي اغنت حياته الفكرية، واتخيل المكتبة التي  كان يمتلكها، وقبل ايام وانا اقرأ بكتاب الدكتور صبري حافظ " طه حسين ذكريات معه " وجدت وصفا لمكتبة العميد حيث يكتب صبري حافظ :" فادحلني الى غرفة مكتب فسيحة ومحاظة جدرانها جميعا بمكتبات رصت فيها الكتب بشكل انيق " وتذكرت ما كتبه طه حسين في الايام وكيف ان اخاه الشيخ احمد كان يقتطع من قوتهما ما يجلد به الكتب المهمة ويحتفظ بها في اعن ما كان بالغرفة من أثاث، وهو الدولاب الذي اشتراه خصيصا لذلك . وفي كتابها ذكرى طه حسين تتحدث تلميذته سهير القلماوي بصفحات جميلة عن المكتبة واهتمام طه حسين بكتب التراث، ومما اثار اهتمامي وانا اقرأ فصول كتاب " حديث الاربعاء "  وجود  كتاب الاغاني  لابي الفرج الاصفهاني كمصدر مهم من مصادر دراسته للشعر والشعراء العرب . وكنت اثناء عملي في المكتبة اشاهد اجزاء كتاب الاغاني بحجمها الكبير تحتل مكانا واسعا على احد الرفوف .كتاب ضخم الحجم، متعدد الاجزاء، اشبه بموسوعة  او دائرة معارف، ويذكر مؤرخوا الادب ان مؤلفه  امضى خمسين عاما في كتابته، يسافر ويستمع ويسجل  ثم يكتب منه فصولا حتى تجاوزت اجزاءه الخمسة وعشرين مجلدا، ويخبرنا ابن خلكان في كتابه وفيات الاعيان" انه كان يستصحب في اسفاره حمل عشرة جمال من كتب الادب والتاريخ، ولما حصل  على كتاب الاغاني لابو الفرج الاصفهاني  لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره  لاستغنائه به عن سواه ..

في اثناء عملي في المكتبة ، كانت الكتب التي تصل كثيرة جدا، وكنت اصاب بالحيرة  في اختيار ما اقراه، وكنت اسال نفسي هل استطيع قراءة كل هذه الكتب، بالطبع لا، يكتب امبرتو إيكو :" تزخر المكتبات الجيدة بملايين الكتب، ولو افترضنا أننا نريد قراءة كتاب كل يوم، فهذه 365 كتابًا في العام، ولو فعلنا ذلك على مدار 10 سنوات، فسنقرأ حوالي 3600 كتابًا، ولو تسنى لأحد أن يفعل ذلك من سن العاشرة حتى الثمانين، فسيكون قد قرأ 25,200 كتاب وحسب " .

هل قرات  يادكتور كتاب الاغاني كاملاً ؟ هل هو كتاب جيد ؟ سألت نذات يوم العلامة علي جواد الطاهر، فابتسم وهو يروي لي حكايته مع الكتاب والمقالات التي كتبها عن تحقيق الكتاب وانه اختار عنوانا مثيرا لمقاله " "فضيحة تحقيق الاغاني "، وعندما لاحظ الراحل علامات الحيرة تملأ قسمات وجهي ابتسم وهو يقدم لي واحدة من نصائحه الثمينة :" احرص على أن تكتشف الكتب بنفسك "، ثم شرح لي ان اعتراضه  كان على بعض الهفوات في التحقيق وليس على الكتاب الذي يصفه المستشرق ريجيس بلاشير بانه كتاب :" غطى كل ما تقدم من تراجم الشعراء " ..اعرف انني حرصت على اقتناء كتاب الاغاني بعد نصيحة العلامة الطاهر، وكنت  كلما يصل الى المكتبة جزء جديد من الكتاب، اتناوله واذهب به الى البيت واقرا منه صفحات على مدى ايام ثم اتركه، واعود اليه عندما يصل الى المكتبة مجلد جديد منه، لكني حرصت على معرفة تفاصيل حياة المؤلف ابو الفرج الاصفهاني، وكنت مندهشا وانا اقرأ انه كان يتلصص على مجالس الوزراء  والشعراء والجواري والمغنيات ليحصل على معلومة جديدة يضيفها لكتابه، وان حكايته تشبه حكاية الكاتب الفرنسي  موريس لوبلان الذي كان مهتما بدراسة علم النفس، اذ وجد نفسه ذات يوم امام طلب صديقه ناشر احدى المجلات ان يكتب له قصه مغامرات مشوقة، انذاك احس لوبلان بالحرج فهو لم يجرب كتابة القصة، لكنه امام الحاح صديقه ارسل للمجلة بعد شهر  مظروفا يتضمن قصة  تتحدث عن مسافر في احدى السفن التابعة لشركة الخطوط البحرية الفرنسية . وفي عرض البحر يتلقى عامل التلغراف  برقية تقول ان على ظهر السفينة لص مشهور اسمه ارسين لوبين تحت اسم مستعار، وفي هذه اللحظة تتسبب عاصفة في انقطاع الاتصال بين السفينة والعالم الخارجي، فيعم الاضطراب في نفوس الركاب لاسيما بعد الابلاغ عن بعض السرقات فوق السفينة، ودارت الشكوك حول الرجل الغامض، الذي يلقى القبض عليه بعد وصول السفينة الى الميناء، نلاقي القصة نجاحا كبيرات بعد نشرها، ويطلب رئيس التحرير من صديقه لوبان ان يواصل كتابة قصص جديدة، لكن الروائي لم يتحمس للامر ويبرر ذلك بالقول : لقد اودعت البطل في السجن، فرد الناشر بقوله :" لابأس دعه يهرب .

يحدد ابو الفرج الاصفهاني السبب وراء تاليف كتاب الاغاني فيقول :" الذي بعثني على تأليفه ان رئيسا من رؤسائنا كلفني جمعه، فجمعت كتابا صغيرا، وعرفني ان هذا الكتاب لايفي بالغرض، وسيكون قليل الفائدة ما لم استمر في تاليفه " .

ومثل سلسلة ارسين لوبين التي امتلات بكم هائل من اللصوص، ورجال الشرطة، واصحاب المتاجر، والسجناء، والباعة في الشوارع، والنساء الجميلات، امتلأ كتاب الاغاني بكم كبير من فرسان الصحراء، والخلفاء والندماء، والشعراء، والجواري  والمغنيات، والسلاطين والصعاليك، وعلماء النحو والكلام ن وقاطعي الطرق، والهازلين . قضى معهم ابو الفرج الاصفهاني خمسون عاما  يخطط فيها اجزاء موسوعته ، يقدم لنا تفاصيل حياة مئات الشعراء والمغنيين، ويتعرض من خلال ذلك لكافة جوانب العصر السياسية والاجتماعية، وكان في كل يوم يذهب الى سوق الوراقين فيحمل الى بيته عشرات المخطوطات يراجعها ويجعل منها مصدرا لكتابه  الذي يمكن ان يوصف بانه كتاب الحضارة العربية شعرا وادبا وعناء وتاريخا وحكايات اعدها اعدها ابو الفرج الاصفهاني لتشغل الاجيال منذ صدور الكتاب وحتى يومنا هذا . كتاب فريد من نوعه في آداب العالم، حيث نجد مؤلفه، يقدّم للقارئ شعراء زمنه والأزمان التي سبقته، ويقدّم المغنين والمغنيات وأصحاب  الأوزان الموسيقية، رابطاً بين هذه الفئات الثلاث بحيث يبدو الشعر والموسيقى الغناء كما كان يجدر بهم أن يكونوا منذ البداية، فنوناً ثلاثة في بوتقة واحدة.

انظر الى مجلدات كتاب الاغاني التي احتلت رفا كاملا في مكتبتي واتساءل : ترى ماذا لو عاش ابو الفرج الاصفهاني في عالمنا اليوم، هل سيتمكن من كتابة موسوعته هذه في زمن مواقع التواصل الاجتماعي وكثرة المشاغل، وعدم اهتمام القراء بمثب هذه التوعية من الكتب .. والاهم من اين لخ ان يجد كل هذه الكتيبة من الشعراء والمغنيين والفرسان والصعاليك والامراء ؟ . وربما يقل البعض ياعزيزي في زمن مواثع التواصل الاجتماعي، سيقى كتاب مثل الاغاني على الرف، فالايام لم تعد ايام مثل هذه النوعية من الكتب التي تجعل من كاتبها ان يعتكف ما يقارب الخمسين عاما في بيت على ضفة دجلة يسةد الصفحات دون كلل او ملل، وعندما انتهى منه حمله ليهديه الى سيف الدولة الحمداني الذي منخه مبلغا زهيدا لم يتجاوز الالف دينار معتذرا .

منذ اول كتاب اضعه في مكتبتي الخاصة، ان يكون لهذا التراث حصة في رفوف المكتبة،  فكان ان تجمعت عندي مئات المجلدات في الشعر والنثر الادبي والفلسفة والتاريخ، وكنت ولا ازال ومن خلال تجربتي الخاصة، والتي اتمنى ان لا يعتبرها البعض نوعا من الاحتماء بالقديم، اجد ان القراءة الجادة لن تكتمل إلا بالتوجه الى قراءة التراث ايضا.. لكن للاسف لاحظت في السنوات الاخيرة ندرة قراء التراث العربي، واصبح من الصعب ان تشاهد شابا يحمل رواية لدوستويفسكي ومعها احد كتب التوحيدي، او ان يقرأ البير كامو وينتبه الى فيلسوف متمرد من عينة الجاحظ، او الهيام بتشاؤم شوبنهاور وعدميته، وعدم الانتباه الى ان ابن الرومي سبقه بمئات السنين في اشاعة هذه الفلسفة، ونتغنى بشك ديكارت ولا ننتبه لشك ابن سينا، ونبحث عن حكايات طروادة وننسى ان التراث العربي مليء بمئات الحكايات لاتقل روعة واهمية .

كان الأقدمون يصفون المتضلّعين بأن اللغة طوع بنانهم. وكان صاحبنا طه حسين إذا كتب تتراقص من حوله حروف اللغة،  وكان يصر على ان اللغة العربية :" ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور بالقياس إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضًا. وإذا كان هذا حقّا فنحن نتعلم اللغة العربية ونُعلِّمها لأنها ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية، ووسيلة أساسية إلى منافعنا مهما تختلف قربًا وبعدًا ويسرًا وعسرًا، وسهولة وتعقيدًا " – طه حسين مستقبل الثقافة –

هل اللغة يجب ان نحافظ عليها كما جاءت في القواميس ؟ يخوض طه حسين معركة من اجل تطوير اللغة العربية ويكتب في واحدة من مقالاته :" أن اللغة العربية هي الأداة الطبيعية التي نصطنعها في كل يوم بل في كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا، وليعاون بعضنا بعضًا على تحقيق حاجاتنا العاجلة والآجلة، وعلى تحقيق منافعنا الخاصة والعامة، وعلى تحقيق مهمتنا الفردية والاجتماعية في الحياة إن كانت لنا مهمة في الحياة، ونحن نصطنع هذه الأداة ليفهم بعضنا بعضًا كما قلنا ولنفهم أنفسنا أيضًا، فنحن إنما نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها، ونديرها في رءوسنا ونُظهِر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد" . هل كان طه حسين مع تجديد دماء اللغة العربية، وهو الكاتب المولع بالتراث والمتعمق فيه ؟، سنجد احد الاجوبة في كتاب ممتع بعنوان " مكتوب على الجبين " تاليف جلال امين، وفي واحدة من المقالات يخبرنا عن رؤيته لطه حسن للمرة الاولى وجها لوجه رغم علاقة الصداقة بين والده الكاتب المعروف احمد امين وبين طه حسين، إلا انه لم يقابله سوى هذه المرة ، وكانت داخل مجمع اللغة العربية، عندما اراد المجمع ادخال مفردات اقتصادية الى القاموس العربي يقول جلال امين :" شاهدت طه حسين وهو يدخل القاعة بصحبة سكرتيره.... وأخذنى أحد الحاضرين من يدى ليقدمني إلى طه حسين لمصافحته، وذكر له بالطبع أنني ابن الأستاذ أحمد أمين، فرحب بي بلطف. كان فى الحجرة نحو عشرين شخصا، تسلموا كلهم فى يوم سابق على الجلسة نسخة مما أعددته من مصطلحات وتعريفات، وبدأت أتلو عليهم مصطلحاً بعد آخر حتى وصلت إلى مصطلح (الانكماش)، كمقابل للمصطلح الإنجليزى (Deflation) وقرأت تعريفي له بأنه انخفاض مستوى الإنفاق والدخل والأسعار... إلخ، فإذا بأحد الأعضاء يهب واقفا معترضاً بشدة على استخدام هذه الكلمة (الانكماش) لوصف حالة كهذه، وقال أن القواميس تقول (كمش الحصان أى أسرع فى سيره)، وهو عكس المعنى الذى أقوله، والذي يتضمن ركوداً وتباطؤاً فى الحركة. عرفت فيما بعد أن هذا المعترض رجل مهم هو الأستاذ عباس حسن صاحب الكتاب الشهير (النحو الوافي)، وكان يعتبر من أقدر اللغويين العرب الأحياء، إن لم يكن أقدرهم على الإطلاق. نظر طه حسين فى اتجاه الرجل وقال بصوته الفخم (جبتها منين دى يا عباس؟). فإذا بعباس حسن، وكان لايزال واقفاً، يجيب بحماس، وقد رفع بيده كتاباً ضخماً، بأن هذا هو ما يقوله (لسان العرب) . توجه طه حسين بوجهه فى ناحيتي وسألني: (هل درجتم، أنتم معشر الاقتصاديين، على استخدام هذا المصطلح، أي الانكماش، بهذا المعنى؟) . أجبته بالإيجاب، فإذا بطه حسين يفاجئ الجميع بقوله لعباس حسن (طز يا عباس!) . ثم قال ما معناه أنه إذا كان العمل قد سار على ذلك، واستقر استخدام الاقتصاديين للفظ بهذا المعنى فلا ضرر من ذلك، ويجب على المجمع أن يقره. كان هذا كافياً لأن يلتزم عباس حسن الصمت، وأن أستمر أنا في قراءة بقية المصطلحات " .

يخبرنا ابو فرج الاصفهاني في كتابه " الاغاني " ان ناقدا سمع أبا تمام ينشد قصيدته المشهورة:

أهُنَّ عَوادي يُوسفٍ وصَوَاحِبُه

فعزمًا فقدمًا أدركَ السُّؤل طالبُه

فقال له: لمَ لا تقول ما يُفهم؟ فأجابه أبو تمام: ولم لا تفهم ما يُقال؟

ولعل عبارة " لمَ لا تقول ما يُفهم؟ "، نحتاجها اليوم مثلما نحتاج " لم لا تفهم ما يقال؟" ونحن نستذكر لغتنا العربية وسط غابة من الكتابات الشائكة، الكثير منها كأنه يُكتب للمختصين فقط، ولامكان فيه للقارئ العادي . في مرات كثيرة كنت اتوقف عند كتاب  الناقد رونان ماكدونالد "موت الناقد"  الذي  تدور فكرته حول الجدل الدائر منذ أكثر من نصف قرن عن دور الناقد في فهم العمل الأدبي وإفهامه للقارئ، وعن كون المؤلِّف مبتكراً أم شخصاً يستعير من الثقافة، وعن كون القارئ هو الحكم النهائي على ما يقرأ لأنه هو المتلقّي في النهاية.

في عيد اللغة العربية  اتذكر ذلك الصبي الذي شغف بحكايات ابو الفرج الاصفهاني والتي لا تزال تبعث في نفسه الدهشة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

كتب تركي الدِّخيل سيرةً أدبيّة نفيسة للدبلوماسي، والأديب، وأول وزير إعلام سعوديّ جميل الحجيلان، بمناسبة مئوية ميلاده، ورد فيه: «إذا أَعْمَلْنا المثل السَّائد: إن كُلَّاً له من اسمه نصيب، فإن للشيخ جميل من اسمه النَّصيب الأوفر، فقد كان جميلاً في خُلُقِهِ، جميلاً في مَظهَرِهِ، جميلاً في تَسَامُحِهِ، جميلاً في أَدَبِهِ وثقَافَتِهِ» (الشّرق الأوسط 8/12/2023).

سيكون اعتراضنا على القول القديم الشَّائع «إنّ لكلٍ مِن اسمه نصيب» (استخدمه مُعَظّم الدّين السَّامري/ 616هج) في كتابه «الفروق على مذهب الإمام أحمد»، باسم «الجاحظ» و«نفطويه» و«الخنساء» وغيرها مِن الذّوات، ليس كلٌ مِن اسم أحدهم نصيباً، فتلك أسماء صارت عناوين للمواهب الكبرى، غابت وراءها معاني ألفاظها.

ذلك استهلال لما نقوله في فقيدة الإعلام السّينمائي العراقيَّة اعتقال الطّائيّ (1949-2023)، نضيفها إلى قائمة الأسماء التي لا نصيب لأصحابها منها، ولا ندري إذا ما كان الاسم مِن النَّوادر وبالعراق لا في غيره مِن البلدان، كون الاعتقال سمة لأكثر عهوده. لم نفكر بمعنى اسمها «اعتقال»، وهي تطل أسبوعياً مِن تلفزيون بغداد، الذي لو قُدم في عصر انتشار الفضائيات، ما ضاهاه برنامجٌ مِن نوعه، تقديماً واختياراً وإعداداً وهدفاً ثقافيَّاً مرموقاً.

لا يحتاج البحث عن سبب اسمها «اعتقال»، فذلك لم تُسأل عنه، لأنه معروف لمَن عرف ظروف أسرتها، لم تُسأل عن قصته أو سببه، حتَّى في استجوابات مديرية الأمن لها، ولجنة التّحقيق في القصر الجمهوريّ بسبب عرض فيلم «جميلة»، ثم في المجلس الوطني، ومقابلتها لنائب الرئيس آنذاك صدام حسين (أعدم عام 2006)، يوم كان يستقبل اتصالات النّاس.

فقد الإعلام السِّينمائيَ بوفاتها، ومِن يوم حجب برنامجها الفاخر «السّينما والنّاس» (1972-1978)، إحدى واهبات المعرفة بهذا الفن، إلى جانب ذلك كانت اعتقال متعددة المواهب: نحاتة، كاتبة، مترجمة. لكنها اشتهرت عراقيَّاً ببرنامجها المذكور.

حببت السِّينما الرّاقيّة لجيل السّبعينيات، وما زال أثرها ماضياً فيه، يُميز الرَّاقي عن الهابط، في وقت لم تزل أبواب السينما مفتوحة ببغداد وبقية المحافظات، قبل تحولها إلى مخازن، وصالات مهجورة، واستثمار تجاري.

لم يبق أثر للسينما التي فتحت صالاتها مع وجود الدّولة العراقيّة الحديثة (1920): العراقيّ، الحمراء، الرَّافدين، رويال، الزَّوراء، غازي، الوطنيّ، الخيام والسندباد، علاء الدين، ووجود مكاتب لطبع الرقوق السينمائية (الأفلام)، ومكاتب استيراد السينما ولوازمها (الدَّليل العراقي الرّسمي 1936 و1960). بعدها فتحت سينما: النّصر، بابل، وأخذت تتكاثر في بغداد والمحافظات كافة، مع وجود الجوالة منها.

انتهى هذا الضّرب مِن الفن، بدايةً بالإهمال ثم الإهمال المنظم، مع تدشين «الحملة الإيمانيَّة الكبرى» (1993 وحتى يومنا هذا)، وتكاتف معها الحصار الجائر، فأعدم كلَّ شيءٍ، حتّى صار هذا الفن خارج اهتمام العراقي. ظلت أخبار السينما بالعراق طي الكتب، فحسناً فعل عباس البغدادي وأرّخ لـ«بغداد في العشرينيات» (1998)، وكان شاهد عيان على فتح دور السِّينما آنذاك، حتّى وصول الناطقة منها بغداد في بداية الثّلاثينيات. وحسناً فعل أحمد فياض المفرجي بتسجيل تراجم الرُّواد في كتيبه «فنانو السِّينما في العراق» (1981).

بدأ برنامج اعتقال الطّائي (1972) بفيلم «الحرب والسّلام» وأغلق بفيلم «جميلة» (1978)، وبين التّاريخين كان النُّهوض شاملاً. لكنَّ العقيدة الحزبيّة أخذت تتعاظم، فأخضعت الفنونَ وألسنة العراقيين كافة لها، ومَن لا يطيق عليه النّزوح، فنزحت اعتقال عام 1979، العام الذي شهد نزوج جمهرة كبرى مِن المثقفين في شتى المجالات، وكأنه عراقيّاً تجاوب مع الأحداث التي أسست لصحوة دينيّة كبرى بالمنطقة، كان فن السّينما أحد أبرز أهدافها.

أقول مع شيوع مفردات القسوة مثل «الاعتقالات» و«المعتقلات»، إلا أنّ الاسم لبس معنى آخر، شأنه شأنه «الجاحظ»، صار عنواناً لموهبة، تفجرت بهنغاريا، بينما مواهب لذوات كثيرين خوت، واستوحشت مِن أصحابها، بعد هجرهم العِراق.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: أولجا زيلبربورج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في 24 فبراير/شباط 2022، وهو اليوم الذي أمر فيه بوتين القوات الروسية بشن غزو واسع النطاق لأوكرانيا، بلغت الثالثة والأربعين من عمري. وبينما بدأ الأوكرانيون في الرد العنيف على المعتدي، وهم يراقبون القنابل وهي تتساقط من بعيد، أذهلتني وأعجبتنى شجاعتهم وإصرارهم على إيقاف جيش بوتين. وكنت أيضًا ممتنًة من أعماق قلبي. مثل العديد من أقراني الذين نشأوا في روسيا، قضيت معظم حياتي خائفة من العنف. لم يكن لدي الشجاعة لمواجهة خوفي ولكن بدلاً من ذلك حاولت التغلب عليه.

ولدت عام 1979 في لينينغراد لعائلة يهودية. عندما كنت في الثامنة من عمري تقريبًا، عندما قررت أنني بلغت من العمر ما يكفي للرد على هاتف العائلة، اتصلت بـ "نيكولاي دميترييفيتش". أخبرت المتصل أنه لا يوجد مثل هذا الشخص في منزلنا؛ يجب أن يكون لديه الرقم الخطأ. فخورة بنفسي، أبلغت جدتي بالحادثة. شحب وجهها وأخفضت صوتها: "هل سألت من المتصل؟ كان يجب أن تعطي الهاتف لديدوشكا. إنها من أجله."

كان اسم جدي إسحاق دافيدوفيتش (بالنسبة للروسي، يكشف هذا الاسم عن أصول يهودية). كان في شبابه عضوًا في الحزب الشيوعي وحارب في الجيش السوفيتي ضد فنلندا. خلال الحرب العالمية الثانية، كان مشرفًا على قاعدة جوية في جزيرة ساريما الإستونية، التي كانت تُعرف آنذاك باسم أوسيل. عندما سقطت القاعدة الجوية في أيدي الألمان، ترك ونقل إلى معسكر أسرى الحرب. حلق رأسه متظاهراً بأنه تتري، وأخفى ختانه عند تفتيش السجناء. تدرب على صناعة السروج في طفولته، وعين في مزرعة إستونية عاملا ومن هناك هرب في النهاية. وعندما تم لم شمله مع وحدته في الاتحاد السوفييتي، قدم له قائده معروفًا كبيرًا: فقد أزال اسم جدي من السجلات، وقد فعل ذلك بدقة شديدة حتى أنه في التسعينيات، عندما عرضت ألمانيا تعويضات على الأشخاص الذين يمكنهم إثبات مايفيد أنه تم القبض عليهم ،  حاول جدي العثور على أدلة لكنه فشل.

ولكن بعد تصفية سجله، تجنب جدي الحكم عليه في معسكرات العمل، إذ كان الاتحاد السوفييتي يعامل الأشخاص الذين ذهبوا إلى معسكرات أسرى الحرب الألمان باعتبارهم خونة محتملين. لقد ظل بعيدًا عن الرادار، حيث تولى وظائف وضيعة في المصانع تحت الاسم الروسي الآمن نيكولاي دميترييفيتش، وعلى الرغم من أنه ظل شيوعيًا متشددًا، فقد ظل بعيدًا عن وظائف الحزب الشيوعي قدر الإمكان. لقد نجا جسديًا، لكنه قضى بقية حياته في خوف من كل شيء وكل شخص. تتذكر والدتي أنه في طفولتها كان والداها يتحدثان مع بعضهما البعض همسًا، خوفًا من أن يسمعهما الجيران في شقتهم المشتركة. ولدت عام 1949، وفي الخمسينيات كان والداها يحتفظان بكيس من الخبز الجاف في زاوية المطبخ تحسبًا للاعتقال المفاجئ.

بحلول الثمانينيات، كان كيس الخبز الجاف قد اختفى، وهكذا، في معظم الأحيان، أصبح لقب الجد من الاسم الروسي. ومع ذلك، كان الخوف راسخا. كلما أخبرته عن أصغر مواجهة دخلت فيها – مع امرأة في الحافلة كانت تصرخ في وجهي لأنني حملت حقيبتي بحيث أخذت مساحة كبيرة جدًا؛ أو مع معلمة ارتكبت خطأ في مسألة رياضية لكنها رفضت الاعتراف بأنها مخطئة - أخبرني جدي أن وظيفتي هي أن أتصرف "بهدوء أكثر من الماء، وعلى مستوى أدنى من العشب"، وبعبارة أخرى، أن أظهر الخضوع التام لكل شخصية من شخصيات السلطة. لقد أعطاني "دوريت الصغيرة" لديكنز ليعلمني كيف يجب أن تتصرف الفتيات: كما لو أنهن غير موجودات.

لم يكن جدي وحده الذي علمني هذه الرسالة. جدتي، التي نجت من الجوع والمذابح في الأكواخ اليهودية ومن حصار لينينغراد، طبقت نفس الأجندة. أثناء تعامل والدي مع فوضى البيريسترويكا، شجعاني وأخي على حضور دروس الدفاع عن النفس وتأكدا من أننا لن نسير أبدًا في أي مكان دون مرافق بعد حلول الظلام. كان العنف في كل مكان حولنا. شاهدنا في الأخبار بينما كانت أرمينيا وأذربيجان تحملان السلاح ضد بعضهما البعض، واندلعت أعمال العنف في فرغانة، وأوش، ودوشنبه، في أوسيتيا، وأبخازيا، في بريدنيستروفي في مولدوفا. في وقت لاحق ذهبت روسيا إلى الحرب بالقوة.

طاعة الشيشان. خوفًا من العنف ضد اليهود وقدامى المحاربين في الجيش السوفييتي، انتقل أعمامي من ريجا إلى لينينغراد. وتعرض رجال الأعمال والصحفيون والسياسيون للتهديد والقتل. وفي لينينغراد، التي أعيدت تسميتها إلى سانت بطرسبورغ، تعرض العديد من أصدقاء والدي للمعاملة الوحشية على يد البلطجية من أجل الحصول على مبالغ مالية، كبيرة وصغيرة. وكان كبار السن يتعرضون للسرقة من شققهم. الأطفال الذين يرتدون سترات رياضية مستوردة من الغرب معرضون لخطر كسر أنوفهم.

لم يكن العنف منتشرًا في كل مكان حولنا فحسب، بل مر دون عقاب إلى حد كبير. في عام 1992، في مدرستي، قام معلم أخي بتمزيق قرط من أذن فتاة، ومزقه "باللحم" عبر شحمة الأذن، بسبب التحيز السوفييتي ضد الأقراط (لا ينبغي للفتيات "الجيدات" ارتداء الأقراط أو الماكياج فإن فعلت فهذا جعلك عاهرة). بقي هذا المعلم في المدرسة. لقد التحقت بمدرستين مختلفتين في روسيا، وفي كل منهما كان هناك مدرس معروف بأنه مفترس جنسي، وكلاهما يستهدف الأولاد. تم طرد أحد هؤلاء المعلمين في النهاية من التدريس، وأجبر على التقاعد، لكن الآخر بقي ولا يزال يعمل في تلك المدرسة. كل يوم، في الحافلات العامة وعربات المترو المزدحمة، في الطريق من وإلى المدرسة، كنت أتعرض لملامستي من قبل رجال صغار وكبار، كانوا يضعون أيديهم تحت تنورتي، وهو عمل من أعمال العنف شائع جدًا في روسيا لدرجة أنه يبدو حتى يومنا هذا بلا جدوى. للحديث عن ذلك. لم أقل كلمة واحدة لهؤلاء الرجال؛ حاولت الابتعاد أو استخدام حقيبتي كحاجز. أتذكر حالتين عندما تدخلت النساء الأكبر سنا. صرخ أحدهم في وجهي قائلًا: "يجب أن أعتني بنفسي بشكل أفضل".

على الرغم من الحافلة العامة، كنت طفلاً محميًا. ذهبت إلى المدارس المتخصصة (القبول يعتمد على من تعرفه)، وجمعت عائلتي الموارد حتى لا يجوع أحد في أصعب أوقات البيريسترويكا. كانت تفاعلاتي مع الأشخاص خارج عائلتي والمدارس ضئيلة. عندما كنت في السادسة عشرة من عمري، عندما اضطررت للحصول على جواز سفري الأول، أصرت عائلتي على أن أحاول مواجهة السلطات بمفردي. أخذت شهادة ميلادي وذهبت إلى مكتب الجوازات المحلي، وتم إبعادي على الفور لجمع أوراق إضافية وإيصال من مكتب البريد. في مكتب البريد أعادوني إلى مكتب الجوازات للحصول على ورقة لم تكن بحوزتي. عندما كنت في مكتب الجوازات، لم يتحدثوا معي حتى أظهر الإيصال من مكتب البريد. عندما عدت مرة أخرى إلى مكتب البريد، محاولة مناقشة وجهة نظري، انفجرت في البكاء ولم أستطع. ركضت إلى المنزل وأنا أشعر بالكراهية تجاه جميع الأشخاص ذوي الوجوه المتحجرة الذين رفضوا المساعدة في مثل هذه المهمة اليومية. (لم أكن قد قرأت كافكا بعد، ولكن بعد بضع سنوات، عندما قرأت ذلك، تعرفت على العالم الذي كان يكتب عنه).

في اليوم التالي، جاءت جدتي معي إلى مكتب الجوازات. لقد أصلحت المشكلة كما كانت تفعل دائمًا، بالتوسل والتوسل. قالت بنبرة أرعبتني: "أنا كبيرة في السن وحفيدتي صغيرة وغبية، هل يمكنك مساعدتنا من فضلك". رفضت أن أتخيل كيف تمكنت من إتقان مهارة التسول. وكان الشخص الوحيد الذي أعرفه والذي كان أفضل منها في ذلك هو جدي. كان يبدأ كل محادثة هاتفية مع أحد الشخصيات ذات السلطة، سواء كان صيدليًا أو سباكًا، بقوله: "أيتها الشابة (أو الرجل)، أنا كبير في السن ومريض جدًا. أتوسل إليك أن تساعدني." لقد كرهته لأنه تحدث بهذه الطريقة، لكنني الآن أعلم أن ما شعر به كان شفقة، وكرهت أنه طلب الشفقة. عند سماع ذلك، شعرت بالخجل.

غادرت روسيا في أسرع وقت ممكن، عندما كنت في السابعة عشرة من عمري. كثيرا ما يسألني الناس في الولايات المتحدة: "لماذا قررت مغادرة روسيا؟"ولم أستطع، وما زلت لا أستطيع، أن أعطي إجابة واضحة. لم أستطع التعامل مع تعقيد كل ما كنت أشعر به. أحببت سان بطرسبرج. كان منزلي. عائلتي كانت هناك وأصدقائي. وحتى يومنا هذا، لا تزال مدينتي التي ولدت فيها تحمل أوتار قلبي ومخيلتي. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استلقيت للنوم على نفس الحلم المتكرر: إنه الصيف، وأنا في الريف، في المقصورة التي قضيت فيها الصيف، وأركض نحو البحيرة الجليدية الصغيرة. أذكر أسماء التلال والبرك وجذور أشجار الصنوبر الموجودة في الطريق، وأتوقع متعة الغطس في الماء البارد. ثم أخذت المنعطف الأخير، فأجد البحيرة مغطاة بطبقة من التلوث، ومصنع كبير ينفث الدخان في الهواء خلفها.

لسنوات عديدة تجاوز كابوسي الواقع. كنت أعود إلى روسيا كثيرًا وأحيانًا لفترات طويلة. فكرت: هل أستطيع العيش هنا الآن؟ هل يمكنني أن أشعر بالحرية وعدم الخوف؟ كانت هناك سنوات عندما تخيلت أنني أستطيع ذلك. كان والدي، الذي نشأ في بيئة آمنة نسبياً في سنوات خروتشوف، قد خاطر بالحصول على وظيفة ثابتة في أحد المصانع لبدء مشروعه الخاص. والدتي، التي كانت سعيدة بترك مخاوف والديها وراءها واحتضان العالم الجديد، فعلت الشيء نفسه. لقد تخرج أصدقائي من الجامعات ووجدوا أنفسهم يعملون بأجر، حيث يوفر الاقتصاد الجديد لكثير من الشباب فرصًا للتقدم السريع. بدأ البعض أعمالهم الخاصة أيضًا: وبدا أن كل ما يتطلبه الأمر هو بعض روح المبادرة والبراعة في تجنب البيروقراطية والبلطجية.

كانت هناك لحظة معينة أدركت فيها أن الأمور تغيرت مرة أخرى في روسيا، بشكل لا رجعة فيه. كان ذلك في عام 2013، بعد عام من إعادة انتخاب بوتين رئيسًا وقمعه بوحشية الاحتجاجات السلمية الحاشدة واعتقال العديد من زعماء المعارضة، بما في ذلك بوريس نيمتسوف وأليكسي نافالني. كنت أتابع الأخبار عن كثب،وخاصة التغطية النسوية لأداء فرقة Pussy Riot واعتقالها ومحاكمتها في وقت واحد. لكن قراءة الأخبار شيء ورؤية كيف تسير الأمور في الوطن شيء آخر.

لقد شعرت بالقلق عندما هبطت في سانت بطرسبرغ في يونيو من ذلك العام. في اليوم التالي لوصولي، اضطررت للذهاب إلى مركز معالجة الوثائق الموحد لتجديد جواز سفري. ذهب والدي معي؛ كنت ما أزال خائفًة من مواجهة السلطات وحدي. في الثامنة صباحًا، كان كل مقعد في غرفة الانتظار الضخمة في مبنى مصنع النسيج الذي أعيد تصميمه مؤخرًا، مشغولًا؛ اصطف الناس في الممرات وعند النوافذ في الخلف. ومع ذلك، وبدون سبب واضح، تم تطويق جزء من المقاعد القريبة من المكان الذي كنا نجلس فيه أنا وأبي بحزام قابل للسحب.

ما حدث بعد ذلك حدث بسرعة، ولكن كان لديه ما يكفي من الوقت لاستيعاب كل التفاصيل. شاب - اثنان وعشرون أو ثلاثة وعشرون عامًا، ولد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي - يرتدي سترة واقية خضراء نيون وجينزًا ضيقًا مدسوسًا تحت حزامه، ويجلس في منتصف صف المقاعد الفارغة، ويمد ساقيه إلى الداخل  فى وضعية مريحة. وعلى الفور تقريبا، ظهر اثنان من حراس الأمن من الجانب. اقتربا من الشاب وهما يحملان هراوات سوداء تتأرجح على وركهم. وأمره أحدهم بمغادرة المنطقة.

قال الرجل: "لا يمكنك إجباري على الذهاب". بدت كلماته سخيفة لأنها كانت تعني ذلك بوضوح. في ملاحظاتي من ذلك اليوم، كتبت أن الشاب بدا وكأنه يتخلص من امتيازاته، وأنه لسبب ما كان يتصرف وكأن القواعد لا تنطبق عليه.

لكن في تلك اللحظة، بينما كنت أقوم بتقييم موقف الرجل، قام حارسا الأمن بسحب السترة الواقية من الرياح فوق رأسه حتى أصيب بالعمى على الفور وحُرم من الهواء. ولووا ذراعيه خلف ظهره. لقد عملا بكفاءة وواقعية، دون بذل الكثير من الجهد.

صرخ الشاب وهو يحاول يائسًا أن يفلت من قبضتيهما:

-  المساعدة! المساعدة!"لماذا لا تقولون أي شيء أيها الناس؟ هذان البلطجيا كادا أن يقتلاني!

لم ننظر أنا وأبي إلى بعضنا البعض أو نصدر أي صوت. ومن الحشد الذي خلفنا ارتفع صوت أنثوي غاضب:

- اتركاه وشأنه! لا يمكنكما معاملة الناس بهذه الطريقة!

وظهر رجل ثالث بالقرب من حراس الأمن. كشفت ملابسه المدنية عن الرجل المسؤول. أعطى الأمر. ساعد حارسا الأمن الشاب على الوقوف على قدميه،  وسحباه  إلى نهاية الردهة. كان لا يزال يقاوم، ويحفر بقدميه في الأرض ويصرخ. وسرعان ما اختفى خلف باب  ما ولم نعد سمع صراخه .

كان صمت مئات الأشخاص المتجمعين في منطقة الانتظار ثاقبًا. نظرت إلى والدي ورأيت أنه يبدو أصغر قليلاً، منحني الظهر، والخوف في عينيه. لقد قاوم دائمًا عقيدة حماه المتمثلة في البقاء أكثر هدوءًا من الماء، وتحت العشب، ولكن هل كان ذلك لأنه لم يكن خائفًا حقًا على سلامته من قبل؟ أو ربما حتى هذه اللحظة لم أره خائفًا. لم يسبق لي أن رأيت خوفي ينعكس في عينيه.

لم يفعل أحد من الحشد أي شيء، باستثناء تلك المرأة الشجاعة الوحيدة. لم يخطر ببالي أبدًا أنني يجب أن أفعل شيئًا ما. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ بالكاد كنت أنتمي إلى هذا البلد؛ كانت حياتي في أمريكا. بدأ تبرير الذات على الفور.

واليوم، مثل كثيرين من الناس، أشاهد جيش بوتن وهو يغزو أوكرانيا، وأشعر بالخوف أولاً وقبل كل شيء. إنني أخشى مما قد يحدث لشعب أوكرانيا، وما قد يحدث لهؤلاء المتظاهرين الشجعان الذين بقوا في روسيا ويقاومون الرجل القوي. أنا أيضًا مندهشة وممتنة لرؤية أن الكثير من الناس، ربما بشكل مختلف عني، ليسوا خائفين، وأن العديد من الآخرين قادرون على وضع خوفهم جانبًا للقتال.

أعلم أن العديد من الأوكرانيين يتساءلون لماذا لا يخرج المزيد من الروس إلى شوارع مدنهم للاحتجاج على حرب بوتين. من حقهم أن يطرحوا هذا السؤال. ونظراً لما يحدث في أوكرانيا الآن، فإن الخوف يشكل إجابة غير مرضية. ومع ذلك، من خلال تجربتي، فإن الخوف حقيقي جدًا، وشامل، وقاس. قلبي يضيق من الخوف على بعد آلاف الأميال، وأنا أكتب هذا. ومرة أخرى، أرى آخرين يعبرون عن خوفهم ويحتجون في شوارع المدن الروسية على الرغم من التهديد الحقيقي بالاعتقالات والتعذيب الوحشي. أرى شعب أوكرانيا يقاوم والعالم يستيقظ ويتحد للتحرك ضد المعتدي. يعتمد المتنمر على خوفنا ويتغذى عليه. وهذا حقيقي أيضًا.

شيء آخر واضح. الخوف يتنكر في هيئة أشياء أخرى كثيرة. الغضب. يكره. السخرية. نقل ملكية. "هذا ليس عني." "لماذا تهز القارب؟" "لماذا يجب أن أتدخل؟" "لا ينبغي لي أن أفعل أي شيء يمكن أن يضر عائلتي." أشاهد عقلي يقوم بهذه التشوهات. عقلي ليس مرتاحًا للخوف ويحاول دفن هذا الشعور في سلاسل أطول وأطول من تبرير الذات. أذكر نفسي بالأساسيات، بالخوف وشيء آخر: الخطر الذي لا يمكن إنكاره أو التغلب عليه. يجب إيقاف بوتين.

***

........................

المؤلفة: أولجا زيلبربورج/ OLGA ZILBERBOURG   نشأت أولجا زيلبربورج في سانت بطرسبورغ، روسيا، وجاءت إلى الولايات المتحدة في سن السابعة عشرة. ظهرت مجموعتان من قصصها في سانت بطرسبرغ، وأنتج فيلم قصير بعنوان "أين يتدفق البحر" استنادًا إلى قصتها، إلى التصفيات النهائية في مهرجان مانهاتن للأفلام القصيرة. زيلبربورج كاتبة ومحررة ثنائية اللغة وتعمل حاليًا كمحررة استشارية في مجلة Narative Magazine.

 

حذرها سارتر من أن تصبح ذات يوم امرأة بيت عادية. تعترف انها ظنت ان وجودها الى جانب الفيلسوف الشاب قد جعلها تربح كل شيء، بعد سنوات ستكتشف إن أضمن طريقة لأن يفقد الانسان حريته هي أن يعمل لتحقيق الخلاص لشخص آخر غير نفسه. كانت في الخامسة والعشرين من عمرها عندما عرضت على سارتر ذات يوم: " تلك الاخلاقيات التي صنعتها لنفسي لتسويغ الناس الذين أحبهم، لكني لم اكن اريد ان اشبههم " – مذكرات فتاة رصينة ترجمة ندى حداد –.عاشت سيمون دي بوفوار حياتها مثل سارتر تتغنى بالوجودية: " ان أوجد من اجل ذاتي ". ان تعبر عن نفسها علنا، وأن تجعل الناس يسمعونها. في كلمات مؤثرة يصفها سارتر بانها: " انسان لا يفكر في نفسه، فهي تفكر فيما تواجهه، انها هي نفسها حرة، وحين تواجه سيمون دي بوفوار اسئلة حول نفسها فهي لا تواجهها من قبيل النرجسية، بل من قبيل الحساسية التي تندهش بأن لها (الانا) وحينئذ فهي تتساءل الحق أنني ذاتية، وأنني أوجد ايضاً) " - سارتر يتحدث عن سيمون دي بوفوار مجلة الهلال 1967 -

كانت صورتها في المقهى والى جانبها رفيق رحلتها في الحياة والفكر جان بول سارتر، هي الصورة التي جعلت الكثيرين منا كقراء للفلسفة الوجودية يشيرون الى هذه الكاتبة بانها تعيش تحت ظلال صاحب الوجود والعدم، وان مشروعها الفلسفي لا ينفصل عن مشروع سارتر الوجودي، فقد القت شخصية سارتر بظلالها على اعمال بوفوار الفلسفية، وذهب البعض الى القول ان مؤلفاتها ما هي إلا تطبيق لفلسفة سارتر الوجودية، ولهذا لم نكن نوليها الاهتمام، فما الذي يمكن أن تكتبه هذه المرأة في وجود كاتب وفيلسوف باهمية جان بول سارتر.لندع سيمون دي بوفوار تتحدث عن هذا الأمر: " ليس صدفة أن الانسان الذي اخترته هو سارتر، فقد اخترته في نهاية الأمر. وإذا كنت قد تبعته بفرح فذلك لأنه قادني الى حيث كنت اريد أن اذهب. اما انفعالاتي ومشاعري، فقد احسست بها بفضل اتصالي المباشر بالعالم. وما قمت به من اعمال تطلب مني ابحاثا واتخاذ قرارات مدروسة ومداومة واصرار على العمل بل وصراعا من اجل العمل. وهو قد اعانني. وقد ساعدته ايضا. أنا لم اعش من خلاله " – قوة الاشياء ترجمة عايدة مطرجي ادريس -. ونجدها في " قوة العمر " تشرح لنا الفوارق بينها وبين سارتر: " يعيش سارتر ليكتب، كان يرى ان من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، اما بالنسبة إليّ، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن اعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم "، وفي مكان آخر من السيرة الذاتية تؤكد بوفوار ان هناك فرق كبير بينها وبين سارتر وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتهما بالماضي: " بدا لي معجزة ان انتزع نفسي من ماضِيَّ، ان احقق اكتفائي بنفسي، ان اقرر شأني، دخلت مرحلة التعويل الكامل على الذات: لا شيء في وسعه انتزاعه مني ".

عندما نقرأ بتمعن اعمال سيمون دي بوفوار نكتشف ان هذه السيدة تحاول أن تتبارى مع سارتر في سعيها لفلسفة وجودية جديرة بالاسم، فلسفة تقلق الإنسان لكنها في الوقت نفسه: " تريد أن تُجنب الإنسان الخيبة والغيظ المكتوم الذين تسببهما عبادة الاصنام الكاذبة. إنها تريد أن تقنعه بأن يكون انساناً بأصالة. انها فلسفة ترفض تعازي الكذب، وتعازي الاستسلام: انها تثق بالبشر " – سيمون دي بوفوار الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

لعل اكثر ما يثير الانتباه ونحن نقرأ سيرة سيمون دي بوفوار، هو ارادتها الواضحة والصريحة في تقديم صورة لمراحل تطورها الشخصي. حيث حاولت ان تبين اسباب تحررها، وتعطي الاولوية للإرادة التي منحتها قوة حياتها. وتكشف للقراء ان هذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة او العاقلة " اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل ثقافتها، كانت دائما على وعي بقدرتها على تاكيد ذاتها.كانت هذه الفتاة وهي تسعى إلى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية البرجوازية، تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان "، وقد ساعدها هذا الموقف أن تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي - لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف: " كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عندما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها أن تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها الشهير " الجنس الآخر" والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف.

ولدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دو بوفوار في صبيحة يوم التاسع من كانون الثاني عام 1908، وهي اكبر ابنتين لاسرة من الطبقة البرجوازية وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى تواجه الافلاس، والدها من محبي الادب والفلسفة، وفي شبابه راودته فكرة أن يصبح ممثلا، ولكن الخشية من العائلة المتزمتة جعلته يدرس الحقوق، ليصبح موظفا، وكانت والدتها من عائلة غنية محافظة دينيا، فربت ابنتيها " سيمون وهيلين " على الطاعة الدينية، وستخبرنا سيمون دي ببوفوار ان تاثير امها كان كبيرا عليها، حتى انها قررت عندما كانت صغيرة ان تصبح راهبة، دخلت المدرسة الكاثوليكية، لكنها ستتمرد على واقعها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها، الأمر الذي دفع والدها لأن يقول " انها تفكر كرجل ". في مذكرات فتاة رصينة تتذكر صراعها مع الواقع الذي كانت تعيش فيه، فهي رافضة لافكار عائلتها البرجوازية الخانقة، وفي الوقت نفسه كانت حائرة كيف تتصرف كفتاة في مجتمع يرى ان قدر المراة هو بيت الزوجية.اصبحت تشعر بالملل، قالت لأمها ذات يوم: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل؟ ". بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد: " علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة أو مفرحة، لأنها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت أن تعيش حياتها، لأنها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا أن تصنع حياتها بنفسها، " أن تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير "، وتعترف في " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالإلتزام نحو العائلة: " في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ".

عاش والدا سيمون في عالمين مختلفين، فالأب كان يرى ان الديانة من شأن النساء والاطفال. كانت مفاهيمه علمانية، اضافة الى انه ينتمي إلى اليمين المتشدد، وينظر بحذر الى الاجانب وينتقد الحركات اليسارية، اما الام (فرانسواز دو بوفوار) فكانت مصممة على تطبيق التعاليم التي تلقتها في مدرسة الدير، لتكون ربة بيت مثالية، وستقول سيمون دي بوفوار فيما بعد " ان المسافة الفكرية بين والديها كانت بمثابة مصدر يدفعها لأن تصبح مثقفة " - توريل ماي سيمون دي بوفوار ترجمة قاسم المقداد -، تصف امها بانها كانت " رقيقة، مرحة وكانت تقول لابنتها: انما مني انا تستمدين حيويتك " – موت عذب جدا ترجمة كامل العامري -. قررت الام ان تدخل ابنتها سيمون مدرسة الراهبات وستقدم بوفوار صورة بائسة للدراسة فقد كانت المعلمات " غنيات بالفضيلة اكثر من الشهادات "، تقترح على امها ان تنتقل للمدارس الحكومبة حيث الدراسة فيها اكثر فائدة، بعد اجتيازها مرحلة الثانوية تتوجه لدراسة الرياضيات واللغات في معهد سانت ماري، في المرحلة الثانوية تطمح لأن تصبح " مؤلفة مشهورة "، وكان السبب اعجابها الشديد بالكتب التي تقرأها. تدرس الفلسفة الأمر الذي اثار استياء والدتها، فالفلسفة تفسد الروح على نحو مميت، لكن في النهاية رضخت العائلة لاصرار الابنة البالغة من العمر الثامنة عشر عاما، فسمح لها باكمال دراستها الفلسفية في السوربون.عام 1929 وجدت سيمون دو بوفوار ضمن اكثر من 70 طالب تقدموا لامتحان شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت في الـ " 21 " من عمرها، تقدمت برسالة عن الفيلسوف الالماني " فجوتفريد فيلهلم ليبنتز " حصلت على المرتبة الثانية وكان صاحب المركز الاول جان بول، فيما كانت سيمون دي بوفوار اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية.

الحديث الاول مع سارتر تم في المكتبة الوطنية عندما قدم لها هدية عبارة عن صورة للفيلسوف الالماني " ليبنتز "، وكما تقول في " مذكرات فتاة رصينة " ان سارتر حاول التقرب منها لكنها كانت حذرة منه، تُقدم لاختها هيلين صورة كاريكاتيرية عن سارتر: " قصير جدا، يضع على عينيه نظارتين، وقبيح جدا "، كانت قد سمعت الكثير من القبل والقال عن هذا الطالب المعتد بنفسه، في مذكراتها نرى سيمون دي بوفوار تلك المراة الشابة التي كانت تتهيا لخوض غمار الحياة من دون نصير قبل ان تتعرف على سارتر الذي وجدت فيه شخصا متميزا: " التقيت رفيق الرحلة الذي كان يسير في نفس الطريق بخطوات اكثر ثقة من خطواتي " – قوة العمر -

وضح لها سارتر منذ البداية بانه لايهتم لموضوع الارتباط، فالحب بالنسبة اليه حب الشخص بصفته كائنا حراً، في البداية وجدت بوفوار اراء سارتر مخيفة، فعلى الرغم من انها تعلن في مذكراتها ازدرائها لفكرة الزواج، إلا انها في مراهقتها كانت تحلم بالزواج من ابن عمها جاك، فيما بعد ستكتشف ان علاقتها بسارتر منحتها مفهوما وجوديا للحياة فتكتب في مذكراتها: " بما اننا افراد مستقلون فنحن احرار. إنها ليست سهلة تلك الحرية، إنها تجلب معها ألم الاختيار، إنها تاتي مع عبء المسؤولية ".

في السنوات التي عاشها معا حتى لحظة رحيل سارتر عام 1980، حافظ سارتر وبوفوار على معتقداتهما بالحرية الفردية المطلقة.في واحدة من رسائله كتب سارتر الى دي بوفوار: " ثمة شيء واحد لا يتغير ولا يمكن ان يتغير هو انه مهما حدث ومهما اصبحت ساصبحه معك " فيما كتبت بوفوار في الجزء الاخير من مذكراتها: " كنت اخادع حين اعتدت ان اقول باننا كنا شخصا واحدا، فالانسجام بين شخصين لايُمنح ابدا، ينبغي ان يكتسب دائما على الرغم من العقبات " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.

كانت سيمون دي بوفوار اثناء دراستها تحاول الاستفادة من معظم حقول المعرفة وفي يومياتها تقدم لنا خارطة لقراءاتها: " قرأت برغسون وافلاطون وشوبنهاور وليبتنز، وخصوصا نيتشه، وكان هناك عدد من الموضوعات تشعلني: قيمة العلم والحياة والمادة والزمن والفن، لم تكن عندي نظرية محددة.. واستعدت حبي للادب فقرأت بريتون واراغون، واستولت عليَّ السيريالية، وباخت في نفسي فلسفة القلق والحيرة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي -. بعد سنوات قليلة ستحاول أن تثبت نفسها فيلسوفة وجودية الى جانب سارتر وميرلوبونتي حيث تصدر عام 1943 اولى رواياتها " المدعوة " وهو نفس العام الذي صدر فيه كتاب سارتر الشهير " الوجود والعدم "، يصف ميرلوبونتي " المدعوة " بانها طريقة جديدة لممارسة الفلسفة الوجودية. هي أولى مغامرات بوفوار الفلسفية. إنها مثال واضح على ما تسميه بوفوار بالرواية الميتافيزيقية، حيث يظهر لنا من الرسائل المتداولة بين سارتر وبوفوار ويوميات بوفوار في تلك الفترة، أن سؤال الآخر ومفهوم الوجود كانا يشغلان بال دي بوفوار، ولهذا حاولت أن تقدم في روايتها شخصية امرأة حائرة بين وضعها الوجودي الفريد والظروف الاجتماعية التي تعيش فيها.

لم تنتظر دي بوفوار طويلا لتقدم لنا ارائها الفلسفية في كتاب بعنوان " نحو اخلاق وجودية " – ترجمة جورج طرابيشي، ويعتبر اول كتبها الفلسفية، تناولت فيه العديد من المسائل الفكرية والسياسية، وطرحت اسئلة من عينة: كيف يمكنني أن أرغب في أن أكون ما أنا عليه؟ كيف يمكنني أن أعيش حريتي المحدودة بشغف؟ هذه الأسئلة الوجودية ستؤدي إلى الأسئلة الأخلاقية والسياسية التالية: ما هي الأفعال التي تعبر عن حقيقة حالتنا؟ كيف يمكننا العمل بطريقة تخلق الظروف التي تدعم إنسانية البشر؟. والسؤال الاهم: ما هي علاقتي بالآخر؟ لتصل الى نتيجة مفادها، أن العالم يتشكل من خلال الخيارات البشرية، ومهما كانت هذه الخيارات، فانا لي خياري المستقل، ولا يمكنني دعمه دون مساعدة الآخرين، والحقيقة الماثلة هي أن قيمي لن تجد لها مكانة في العالم إلا إذا احتضنها الآخرون، ويتم ذلك من خلال بجعل قيمي قيمهم.

تؤكد دو بوفوار أننا بصفتنا كائنات حره، فنحن بحاجة إلى التواصل مع الآخرين وجذبهم لمشاركتنا في مشاريعنا الخاصة، وعليه تتمثل المشكلة الأخلاقية الرئيسة هنا في كيفية تجاوز عزلة الحرية لخلق مجتمع من الحلفاء، وذلك من خلال النظر إلى ضرورة احترام حرية الآخرين، وان امكانية تحقيق هذا الهدف، تتم من خلال الاستناد إلى الحوار والتواصل بين الأفراد. وتمضي دي بوفوار لتقول نحن نصنع الآخرين بقدر ما نصنع انفسنا، أن علاقتنا بالآخرين ليست مفروضة علينا من قبل، ولا هي ثابتة على نحو معين، بل هي حصيلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله، وعلى ذلك بامكاننا أن نوسع الى ما نهاية لعالمنا أو نضيقه الى اضيق الحدود. ورغم ما نحققه من افعال وغايات، ستظهر لنا حدود وقد نتساءل إن كان لكل شيء نهاية فلماذا لانتوقف من البداية، لكن الواقع ان الانسان لا يتوقف انه كما تصفه سيمون دي بوفوار " كائن الابعاد " وعليه ان يواصل مغامرة الحياة الى ابعد الحدود، وحتى الموت لا يمكن ان يكون نهاية الحدود، ذلك لأن مشروعات الانسان تتجاوز الموت، فالانسان على مدى تاريخه يبحث عن " ان يكون " لأن: الحياة التي يتركها المرء وراءه ليست شيئا جامدا (اي مستحيلا) بل انها حياة انسانية. وحينئذ يمكن للمرء أن يقول هذه هي الحياة التي حياها " – فرانسيس جانسون سيمون دي بوفوار ترجمة ادورالخراط -.اما عكس ذلك فهو خضوع الانسان للاشياء وتسليمه بالقواعد الموضوعية والقيم المطلقة، وفي هذا الغاء لحريته ووجوده، وهنا تنحسر عن الانسان روح القلق ازاء القيم الموضوعة الجاهزة، وتهاجم سيمون دي بوفوار هذه الروح وتنتقدها وترى انه يتجلى فيها هروب الانسان من حريته. تردد بوفوار انه لا يكفي للمرء ان يفهم اوهامه حتى يتحرر منها.فقد كانت تصر ان تكون حياتها " قصة جميلة " لكنها تكتشف فيما بعد: " سلمت اخيرا بان حياتي لم تكن قصة ارويها لنفسي.. بل مصالحة بيني وبين العالم ". كانت سيمون دي بوفوار فيلسوفة ملتزمة بالرأي القائل بان هوية الانسان تتجدد بافعاله، ونجدها تمضي بوفوار في تطوير فلسفتها الوجودية لتعلن في كتابها " مغامرة الانسان " بأنه من غير المنطقي ان يُعلي المرء شأن حريته دون ان يفعل الشيء عينه حيال حرية الآخرين تكتب: " اننا نسعى في غالب الاحيان الى تحقيق كينونتنا دونما عون: اسير في الريف، اقطف زهرة، أركل حصاة. افعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من احد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى اشعر بالحاجة إلى ان اقصها على صديف " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -.

ليس غريبا ان يرتبط اسم سيمون دي بوفوار بقوة بجان بول سارتر، إلا اننا لا يمكن أن نختزل بوفوار بأنها مجرد كاتبة. لاشك ان لسارتر تاثيرا كبيرا على تفكيرها، غير ان العكس ايضا صحيح حيث مارست من جانبها تاثير على وجودية سارتر، تكتب ماريا فاوسيه ان: " وجودية سارتر كانت ستبقى جامدة لولا مساهمة بوفار " – هكذا تكلمت سيمون دي بوفوار ترجمة رحاب منى شاكر –، فبينما كان سارتر ميالا لأن يصنع من الفرد مخططا متوجدا، كانت بوفوار ترى الانسان ضمن علاقته مع الاخرين. غير ان المنطلقات الفلسفية التي اعتمدها كل من سارتر ودي بوفوار لا يمكن فصل بعضها عن بعض، فجميع النصوص التي كتباها بشرت بفلسفة حول الانسان ككائن متفرد تتجلى من خلاله مصطلحات الحرية والمسؤولية الذاتية: " ان تعريف الانسان بالحرية فد بدا دوما ميزة الفلاسفة المتفائلين، فمن المغالطة اعتبار الوجودية مذهبا بائسا، فهي ابعد ما تكون عن ذلك. ان الوجوديين ابعد ما يكونون عن إنكار الحب، والصداقة، والاخاء، حتى انهم يرون أن كل فرد يستطيع في هذه العلاقة الانسانية فقط أن يجد اساس وجوده واكتماله " – الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

خلال حياتها وبعد وفاتها هوجمت سيمون دي بوفوار وسخر منها كثيرا واعتبرت " امرأة منحرفة "، لانها رفضت ان ندخل في الوجود الانساني باسم مبادئ اخلاقية واجتماعية مطلقة ودعت الى النشاط والعمل قبل كل شيء وقالت: " انه حتى اذا كان الثمن هو القلق الدائم يجب على الانسان ان يرفض تلك الثقة الكسولة في شيء آخر سوى نفسه ".

ترجمت كتب سيمون دي بوفوار الى اكثر من ثلاثين لغة، ولاقت في السنوات الاخيرة اهتماما كبيرا، فَحولها اليوم عشرات الكتب من السير والدراسات والمذكرات. إلا ان علاقتها بسارتر كانت الأبرز بالنسبة للذين يُقبلون على معرفة اسرار حياتها..

في الصفحة الاخيرة من مذكراتها تكتب: " قال لي سارتر يوما إن لديه شعوراً بأنه لم يؤلف الكتب التي حلُم بها في سن الثانية عشرة. أنا اختلف عنه، طبعا ليس في استطاعة احد ان يواجه مشروعاً غامضاً ولا متناهيا بكتاب منجز ومحدد. لكني لا أشعر بالفجوة بين النوايا التي دفعتني لتاليف كتب وبين الكتب التي امكنني أن أنجزها. لم اكن موهبة في الكتابة. لم املك مثل فرجينيا وولف وبروست وجويس، القدرة على تحريك العواطف والقبض على العالم الخارجي في كلمات. لكنها لم تكن غايتي. أردتُ أن أوجد في عيون الآخرين." – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي –

في مساء الرابع عشر من نيسان عام 1986 اعلن عن وفاة سيمون دي بوفوار، كانت تعاني في سنواتها الاخيرة من التهاب رئوي، تمنت ان تقام لها جنازة شبيهة بجنازة رفيق رحلتها، إلا ان سارتر تفوق عليها بعدد مشيعيه الذين تجاوزوا الـ " 50" الف، نفذت وصيتها بان دفت الى جواره، وكانت قبل وفاتها باسابيع قد كتبت: " لقد فرقتنا وفاته، ووفاتي لن تجمعنا، وهكذا بالرعم من أن حياتنا كانت متوافقة ولأمد طويل ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

عندما قرأت خبر رحيل  استاذي الدكتور جميل نصيف التكريتي على صفحة الصديق هاتف الثلج هذا اليوم السبت 2/12/2023، تذكرت المرة الاولى التي قابلت فيها صاحب الابتسامة المتميزة والصرامة العلمية، وكنت قبل ان اقرأ خبر رحيله المؤلم في الغربة على سرير في احد مستشفيات لندن، اتابع اخباره واعرف انه يعاني من المرض ومن غياب الاحباب والاصدقاء، ومن  حنينه الى ضجيج قاعات الدرس التي كان فيها فارسا من الطراز الاول. وكنت اقول لبعض الاصدقاء ممن يعرفون قيمة وفضل الدكتور جميل نصيف على الثقافة العراقية: لماذا غابت عن حياتنا الثقافية اسماء كانت تشكل قيمة معرفية، والأهم لماذا النسيان لهذه القامات الكبيرة وعدم الإعلاء من شأن أفكارها ومبادئها، لتصبح مرجعية عامة لسلوكنا الثقافي والمجتمعي؟.

عرفت الدكتور جميل نصيف في نهاية السبعينيات، كنت آنذاك أعمل في مجلة الثقافة برعاية المعلم صلاح خالص، وكانت المجلة تنشر لي سلسلة حلقات عن مسرح يوسف العاني، وأتذكر انني في إحدى الحلقات اقتبست عبارة شهيرة كتبها الدكتور جميل نصيف عن يوسف العاني، واعتمدت أيضاً على دراسته المتميزة " نحو دراسة جادة للمسرح العراقي " كأحد المصادر المهمة التي تناولت تأثيرات المسرح الملحمي على المسرحية العراقية انذاك، وكان الدكتور جميل نصيف أول من قدم لقراء العربية الترجمة الكاملة للمؤلف المسرحي الالماني برتولد برشت " نظرية المسرح الملحمي "، وفي أحد الأيام أخبرني الدكتور صلاح خالص، إن جميل نصيف يسأل عني، وكأي شاب في بداية الطريق، أصبت بنوع من الخشية والرهبة، كيف يمكن لي أن أقف أمام استاذ بحجم جميل نصيف، لكنني في النهاية قررت أن أخوض التجربة، وذات يوم كنت أهِمْ بدخول ساحة كلية الفنون الجميلة، فإذا أنا أمام الدكتور نصيف بقامته الفارعة وأناقته المتميزة، وما إن اخبرته باسمي حتى وضع يده على كتفي وقال لي: تعال معي الى غرفة الاساتذة، حيث كان آنذاك يدرس مادة النقد المسرحي، لأجد نفسي استمع الى شخصية ساحرة امتزجت فيها الرؤية الانسانية، مع جمالية فنية متميزة وهو يحاول أن يصحح خطواتي الأولى في كتابة النقد المسرحي، ويعلمني درساً في كيفية مخاطبة القارئ بلغة مفهومة ذات دلالات واضحة. .. كنت اصيغ السمع الى الدكتور المعلم وهو ينبهني الى اسماء مهمة في الادب المسرحي يجب ان ترافقني في رحلتي، سوفوكليس، راسين، كورني، ابسن العظيم، جان انوي واقتباساته المهمة عن المسرح الاغريقي، جان جيرودو، نشيخوف وبساطته العميقة .. وذات يوم سيهديني الاستاذ نسخة من كتاب ارسطو فن الشعر كانت النسخة بترجمة شكري عياد، وكنت احتفظ بنسخة من الكتاب بترجمة عبد الرحمن بدوي، وسألت الاستاذ ذات يوم ما الفرق بين الترجمتين، فقال لي ان ترجمة شكري عياد بها اضافات نقدية كتبها المترجم حول تاثير كتاب ارسطو على البلاغة العربية، واضاف هذا لايعني ان ترجمة بدوي غير جيدة، بالعكس فهي ترجمة جيدة بحدود انها منقولة عن الترجمات العربية التي قام بها الفارابي وابن رشد وابن سينا لكتاب ارسطو .

جميل نصيف من جيل يؤمن بان مهمة المثقف، هي بالاضافة المستمرة التي يقدمها للحياة العامة، وإن الاستاذ الجامعي يجب أن لاينغلق على نفسه داخل اسوار الجامعة منعزلاً عن قضايا المجتمع وأحلامه في التقدم والرقي، وإن دراسة الأدب أو الفن لا معنى لها ما لم تضع في الإعتبار الدور الاجتماعي الذي يسهم به الأديب والفنان في الارتقاء بالحياة، وان الاستاذ الجامعي هو من يمتد برسالته الابداعية التنويرية خارج نطاق الدرس الجامعي مشيعاً قيم الحرية في المجتمع، متحدياً التقاليد الجامدة، ويبدو إن ذلك هو السبب الذي جعل الحياة الثقافية والاجتماعية تتأثر آنذاك بطروحات أساتذة كبار من امثال علي الوردي وسامي عبد الحميد وصلاح خالص وعلي جواد الطاهر وجواد علي وكاظم حيدر ومدني صالح وجبرا إبراهيم جبرا وإبراهيم كبة ومحمد سلمان حسن، وكنا نعرفهم ونتأثر بكتاباتهم المختلفة في الصحف والمجلات حتى قبل أن نعرف انهم يمارسون مهنة التدريس .

كانت طريقة جميل نصيف في كتابة النقد المسرحي، هي أول ما شد انتباهي اليه، كما كانت دقته في اختيار عباراته التي تبقى عالقة في الذهن لاتنزلق الى النسيان بسهولة، اتاحت لي كقارئ أن أتمثلها وأتمكن من تحديد مقاصدها، قال لي ذات يوم اقرأ جيدا كل ما يتعلق بالدراما الاغريقية التي كان يصفها بانها اشبه بالملمحة التي تنفع لكل عصر ومكان .

ولعل نظرة شاملة لمؤلفات جميل نصيف سنجد نوعاً من التنوع يغني ويعمق مجال الدراسات النقدية، فمابين موسوعته الشهيرة " نظرية الأدب " الادبية، ومروراً بدراسة مسرح ابي خليل القباني وتقديم المسرح الملحمي الذي اشتهر به الالماني برتولت بريشت و"المذاهب الادبية " " و" في سبيل الواقعية " وترجمة الدراسات الحديثة عن بوشكين وبيلينسكي، ومقالاته التي كان ينشرها في المجلات والصحف العراقية والعربية تكشف الأصل في الفعل الابداعي عند جميل نصيف وهو طاقته الخلاقة التي تجمع مابين التراث والمعاصرة، ولا زلت أتذكر دراسته القيمة والموسعة عن كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وفيها استعرض بالنقد الدراسات العربية الحديثة عن هذا الكتاب التراثي وقارنها بأحدث دراسة ظهرت باللغة الروسية للمستشرق الارمني اوهانسيان . وقد سألت الدكتور جميل عن العلاقة بين دراسة التراث والسعي لترجمة أحدث مدارس النقد العالمي فأجاب: " لاأظن إن على الناقد أو دارس الآداب والفنون أن يفضل فناً من فنون الأدب على الأنواع الأخرى، كما أن عملي استاذ جامعي يفرض عليَّ ان لا أقف عند نوع معين من الأدب، بل إن تطور قراءاتي مرتبط بتطور حياتي مع تطور نموي الفكري، هناك في التراث العربي نقاط مضيئة كثيرة علينا دراستها وتقديمها للقارئ، وهناك حقيقة يجب أن نعرفها إنه لاخلق فني من دون أصالة، أعني بها أصالة التعمق في تراثنا القديم " .

أما أهم المعاني التي تقدمها لنا تجربة جميل نصيف فيرتبط بالطريق الطويل الشاق الذي قطعه الاستاذ الجليل على مدى ما يقارب ستة عقود في مجال الكتابة في عزم ومثابرة لايمكن لاي مؤرخ منصف لتاريخ الأدب العراقي إلا الوقوف أمام قدرة هذا الاستاذ بما أنجز وما حقق وما فتحه من أبواب مغلقة في الدراسات المختصة بالمسرح أو الأدب المقارن أو في مجال النظريات النقدية الحديثة وخصوصاً المدرسة الروسية التي كان أبرز أعلامها باختين وكان لجميل نصيف فضل السبق في تقديمه للعربية من خلال كتابه الشهير " شعرية دستويفيسكي "

لم يكن هذا العمق بعيداً عن النزعة الاشتراكية التي يؤمن بها جميل نصيف ويحاول أن يقدمها من خلال دراساته النقدية او ترجماته، رغم انه يرفض أن تتسم هذه الكتابات والترجمات بعداً ايديولوجياً:" قد اختلف مع التسميات التي توضع لمنهج الواقعية الاشتراكية، حيث يسميه البعض المنهج الايديولوجي، انا مؤمن بالواقعية الاشتراكية، لكني مع تنوع الأساليب والأشكال الادبية، فالمضمون الجديد يحتاج بالتأكيد شكلاً جديدا يتلاءم معه، والفنان والاديب وهو يواجه مظاهر الحياة عليه أن يتسلح بالقدرة على الكشف الخلاق لنواحي الحياة هذه، وأن يساهم في تغيير نمط حياة الناس ".

غاب الاستاذ والانسان الذي أمضى عمره يحفر في الثقافة  مثل عالِم آثار، وربما لايجود زمان العراق كثيراً باساتذة ومثقفين وطنيين بمنزلة الاستاذ جميل نصيف كاتبا ومترجما ومثقفا تنويريا، لم يكن فيها الاستاذ مجرد مثقف على الهامش،  وإنما كان نموذجا انسانيا يفيض علما ومهنية ومحبة للجميع.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

عبد الأمير المنصوري رجل الدعوة المفترى عليه

كيف سقط أخطر رجال تنظيم الدعوة الاسلامية بيد أخطر رجال مخابرات العراق؟

لم يعرف شيئا عن عبد الأمير المنصوري أحد القادة العسكريين لتنظيم الدعوة الاسلامية، والذي هو ثقة قائد ومفكر الدعوة محمد هادي السبيتي؛ إلا من خلال اللقاء الشهير الذي تم عرضه في تلفزيون بغداد بعد القاء القبض عليه في نهاية عام 1979، فالرجل كان مصدر حيرة وشك من قبل زملائه في تنظيم الدعوة الاسلامية، ولا سيما أبو زينب الخالصي الذي كان لديه شك بوجود صلة بين المنصوري ونظام البعث كونه كان ينتمي سابقاُ للمنظمات الطلابية البعثية، لكن هذه الانتماءات التي كانت للمنصوري هي من تدبير العقل المفكر لتنظيم الدعوة الاسلامية محمد هادي السبيتي، وقد أخبر السبيتي والدي شخصيا في عمان، وأخبر زملائه من رجال الدعوة أثناء اللقاء اليتيم معهم في طهران عام 1980 .

ومن يطلع على الهيئة الشخصية والبدنية للمنصوري سيجد أنها كانت تشبه هيئة البعثيين من حيث شاربه وملابسه، فقد كانت هذه الهيئة عملا متقناً غايته اختراق المؤسسات الأمنية والقيام بالعمليات داخل تلك المؤسسات، وقد كانت من تصميم أبو حسن السبيتي أيضا كما يخبر والدي، وبالفعل وعندما كان المنصوري يزورنا في بيتنا كانت هيئته تشبه هيئة البعثيين في منطقتنا حيث الشوارب المتينة (8 شباط) والملابس التي توحي بأنه رجل أمن.

إن بداية علاقة والدي بعبد الامير المنصوري كانت عن طريق محمد هادي السبيتي وكانت في نهاية عام 1977 كما أظن، إذ وصلت رسالة من السبيتي الذي كان يقيم في الأردن، بضرورة مد يد العون الأمني والعسكري للمنصوري العائد من دولة الكويت، وقد استجاب والدي لدعوة السبيتي، وبالفعل يحصل لقاء مع المنصوري في منطقة قناة الجيش؛ إذ أقام  في منطقة داخل قناة الجيش الموازية لشارع فلسطين، وقد كان يتقن التخفي والاختباء من أجل البقاء بعيداً عن أعين مراقبة السلطة.

لقد كان الملازم جوامير الذي هو أحد مناضلي الحركة الكوردية يوفر السلاح والعتاد لعبد الأمير المنصوري الذي كان يستلمها من خانقين ويوزعها على جماعته في بغداد والمحافظات، وقد كان يزورنا في بيتنا عبر بيت جارنا أبو جعفر الذي يقع بيته خلف بيتنا ومقابل قناة الجيش؛ حيث كان المنصوري بعد اتفاق والدي مع أبو جعفر يقفز من حائط بيته ليلا ليقيم مؤقتا في بيتنا من أجل الاستحمام ولقاء والدي، وبعدها يعود إلى مخبأه السري في قناة الجيش الذي لا يعرف مكانه حتى أقرب معارفه.

لقد كان المنصوري يلتقي مع رجال تنظيمات الدعوة في مدينة الثورة وباقي المناطق الأخرى، وقد كان التواصل مع جماعته يتم من خلال شخص يوزع الحليب عبر دراجة نارية، وكان المنصوري يرسل الينا الحليب مع رسالة لوالدي، وقد كانت أيامنا صعبة جداً بعد القاء القبض عليه وظهوره على شاشة التلفزيون عام 1980 .

ففي إحدى جلسات نادي صلاح الدين العائلي في الكرادة يخبر ضابط المخابرات العميد هوشنك سيد أحمد ضيوفه وكان والدي حاضرا الجلسة عن كيفية القاء القبض على عبد الامير المنصوري مسؤول الجناح العسكري لتنظيم الدعوة الاسلامية الذي يقوده محمد هادي السبيتي (أبو حسن)، وكيف استطاع فاضل البراك أن يميزه من بين المعتقلين بوصفه أخطر شخص، وعلى حد تعبير كاك هوشنك أن أخطر رجل في حزب الدعوة قد سقط بيد أذكى رجل مخابرات في العراق وهو الدكتور فاضل البراك الذي أتقن فنون الاستجواب والتحقيق مع المطلوبين بطرق علمية، وقد كان بعكس أبو حرب (ناظم كزار)، لا يستعمل الطرق العنيفة عند التحقيق مع معارضي النظام، بل يستعمل طرق ناعمة مع أدوات التنويم المغناطيسي التي تعلمها من المخابرات السوفيتية، ومخابرات المانيا الشرقية، والتي أصبحت جزءا مهما من وسائل جهازي الأمن المخابرات في العراق للحصول على المعلومات من الأشخاص الذين هم بحجم المنصوري الذي يصعب على أكبر محقق الحصول على معلومات مهمة منه.

يقول والدي أن كاك هوشنك حدثنا عن كيفية التعرف على عبدالامير المنصوري الذي كان ثقة أبو حسن السبيتي، والذي كما يخبرني والدي كان على علاقة متوترة مع أبو زينب الخالصي، وقد شبه والدي تلك العلاقة المتوترة بالعلاقة بين القائدين الكورديين (علي العسكري)، و(نوشيران مصطفى) حيث الشتائم والاتهامات بالخيانة والعمالة للبعثيين.

يخبرني والدي أن السبيتي أثناء لقائه معه في عمان كان يصف شجاعة وإخلاص عبد الامير المنصوري لجماعته ويشبهها باخلاص علي بن أبي طالب، فهو مقدام، يقتحم مقرات حزب البعث، والأمن، والمخابرات، ومعسكرات الجيش بشجاعة قل نظيرها، وقد كان لا يترك أي أثر على وجوده في العمليات التي يقوم بها، وقد كان الشهيد جوامير يؤمّن له السلاح ويرسلها له إلى خانقين من أجل استلامهما، كما كان يفعل مع أبو زينب الخالصي.

يقول كاك هوشنك سيد أحمد عن كيفية التعرف على عبد الأمير المنصوري في سجن الأمن العامة أن أحد ضباط الأمن الذي كان يعمل في جنوب العراق وأصبح فيما بعد يعمل في مقر مديرية الأمن العامة في بغداد، قد أخبر فاضل البراك أن هذا الشخص قد شاهده في أحد الأيام وهو يدخل مقر الأمن العامة في الناصرية تحت عنوان أنه ضابط مخابرات جاء للسؤال عن متهمين بحزب الدعوة وأنه يريد التحقيق معهم في مقر المخابرات، وهنا اشتغل كما يقول كاك هوشنك العقل الذكي لفاضل البراك، وقد اخبره مباشرة عزيزي عبد الامير المنصوري البصري انتهى الأمر لطفا اعلامي بكل شيء تعرفه عن التنظيم الذي تقوده؟، لكن المنصوري رفض الاستجابة لدعوة البراك مما أضطر أن  يستعمل معه التكنولوجيا والتنويم المغناطيسي التي جعلته يفرغ ما في دماغه للمحققين، وأستطاعت من خلالها انهاء قوة حزب الدعوة بالعراق بشكل كبير جداً، وتعد عملية التحقيق بواسطة التنويم المغناطيسي أول ممارسة لأجهزة الأمن في العراق، وقد كانت من نصيب عبد الأمير المنصوري الذي كان كما يخبرني والدي رجلا شجاعاً، وصاحب خصائل انسانية قل نظيرها، فقد كان يدعم عوائل المعتقلين ماديا بشكل سري من خلال أموال يرسلها له أبو حسن السبيتي بطريقة سرية ويخفيها المنصوري في بيتنا.

لقد كان المنصوري يؤمن بالعقيدة السبيتية التي تتميز بالاستقلال الذاتي لإرادة الدعاة، وعدم خضوع ارادتها للتأثيرات الدولية، ولا سيما تأثير الثورة الاسلامية في ايران، والتركيز على الإجماع الوطني في النشاط الذي يقاوم نظام الحكم في العراق بعد عام 1968 الذي أصبح نظاما استبداديا يرفض التعددية في الحكم.

***

الدكتور كريم الجاف – أكاديمي / العراق

ندرَ أن التقيتُ مثقّفاً عراقياً يحمل بين جنباته صفات النّبل، والنّقاء، والتّواضع، والطّيبة الّتي لمستها في شخص عبد الجبّار الرّفاعي، صفات تضاءلت، مع الأسف، وانحسرت، وكأنّها لم تكن في يوم ما من أخصّ ما يحرص عليه المثقّفون في حياتهم، وفي علاقاتهم بالآخرين. في بداية الأمر خلتُ أنّنا مختلفان الاختلاف كلّه، لاختلاف منابع المعرفة، ومسالكها، وغاياتها، فقد تلقّى الرّفاعي تعليماً دينيّا رفيعاً، ونال درجة عالية في الفكر الإسلامي، وتوسّع في ذلك، إلى درجة انخرط فيها بتطوير منظور جديد لفلسفة الدّين أراد به نزع الغطاء الثّخين الّذي أطبق على الظّاهرة الدّينيّة في القرون المتأخّرة.

أطبق عليها حتّى توارت ملامحها الرحبة، وأمست مصدر فزع لا منبع ألفة، فقد انحبستْ بين دفّتي مدوّنة تجمّعيّة ضخمة يتنفّع بها شيوخ تربّعوا في أروقة معتمة، لا محلّ للهواء والضياء فيها، يقلّبونها ظهراً لبطن، ورأساً على عَقب، في تكرار دائم، كأنّ الزّمن لا معنى له في حسابهم. فلا يهمّهم تداول المعارف حول الظّاهرة الدّينيّة بما ينتهي إلى تطويرها من منظور المؤمنين إليها، بل تقييدها بمنوال تكراري من الشّروح الّتي تخلع عليها الهيبة المخيفة جيلاً إثر جيل حتّى أمستْ كالصُمّ الخوالد لا يَبينُ كلامُها.

وعلى خلاف ما كنتُ عليه من تعليم دنيوي حديث، فللرّفاعي شيوخ معمّرون، أثقلت رؤوسهم العمائم السّود والبيض، وأطالوا المقام في الظّلال، وتلقّف عنهم أصول الفقه، وعلم الكلام، والعقائد، فضلاً عمّا كان يتلقّاه طلبة علوم الدّين عن شيوخهم من دروس المنطق الصّوري، والنّحو القديم، والبلاغة المدرسيّة، بوصفها من الوسائل الضروريّة لمقاربة العلوم الدّينيّة، كما انحدر إليهم ذلك من شِعاب الماضي، فالمرجّح أن يكون قد أوغل في كلّ ذلك حتّى حاز درجة الدكتوراه فيه، وأحسب أنّه تآلف مع تلك الأجواء بفعل المعاشرة، ودوام التعلّم، والتّعليم، والمدارسة، مدّة طويلة، قبل أن ينأى بنفسه عن ذلك.

أنا، من ناحيتي، كنت شديد النّفور من تلك التّركة الّتي تخمّرت كتلتها في الأروقة المعتمة، وأرى في الدّين نفحة حرّة يتنفّسها المرء في الهواء الطلق، وإذ أُقبل على مناقشة مفكّري الأديان، فإنني أتحاشى الحوار مع رجال الدّين أنفسهم، فأحسب أنّهم في واد، وأنا في واد آخر، فالمنظورات مختلفة، والرؤى متباينة، أما الوسائل المنهجية فمتنافرة، وحتى طرق تحصيل المعارف متفاوتة، فتقطّعت السّبل بيننا؛ فلا أرضية مشتركة تجمعنا، ونجهل قواعد الحوار المتبادل، وكلّ طرف يصِم الآخر بالجهل، أو في أقلّه بضآلة التدبير؛ ذلك أنني تلقّيت تعليماً دنيويّاً لا صلة له بعلوم الدّين المذكورة، إلّا ما نفذ إليّ منها جرّاء اهتمامي بدراسة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، فقد غصتُ في المنطقة الأدبيّة حتّى ما عدت أعرف سواها إلّا في وقت متأخّر. ولم أحضر، على الإطلاق، درساً دينيّاً بالمعنى المباشر لتلك الدّروس، لا في جامعة ولا في جامع، ما خلا بعض الدّروس التّعريفيّة عن الحضارة الإسلاميّة، كانت مقرّرة على طلّاب الآداب العربيّة في الجامعات العراقيّة في سبعينيات القرن العشرين.

وبقي الأمر على تلك الحال إلى أن حصلت على درجة الدّكتوراه، فزادي الأدب ومناهجه وأجناسه، وبعد أن فرغت من ذلك تنبّهت إلى أهمّيّة التّجربة الدّينيّة، وشرعت في الغوص في سياقاتها الثّقافيّة والتّاريخيّة، وانهمكت في قراءة ما كتبه عنها المفكّرون العرب وسواهم، وإلى ذلك فقد شُغلت بتأويلها تأويلاً دنيويّاً، إذ كانت موضوعاً للبحث أكثر منها موضوعاً للاعتقاد، وانتهيت بنقد المسلّمات الشائعة حولها من منظور ثقافي دنيوي، بما في ذلك نقد مفهوم مركزيّة “دار الإسلام”، والصّورة النّمطيّة للعالم خارج تلك الدّار طوال القرون الوسطى، كما تجلّى ذلك في كتابيَّ “المركزيّة الإسلاميّة”، و”عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين”. أو دراساتي عن العلاقة الشائكة بين الإسلام والسرد، ومع ذلك، فقد فهي محلّ تقدير بصرف النّظر عن تحليلها.

أردت بذلك الاستطراد توضيح أسباب التّباين الافتراضي بين الرّفاعي وبيني، قبل اللّقاء والتّعارف، والحال، فلا يمكن إنكار العزوف المتبادل بين رجال الدّين ورجال الدّنيا، أي بين المنخرطين بالعلوم الدّينيّة والمنخرطين بالعلوم الدّنيويّة. وهو عزوف راسخ الجذر في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة الحديثة والقديمة، ونتج عنه سوء فهم متبادل في دائرتيْن مهمّتيْن من دوائرها، ويتحمّل وزره الطّرفان سواء بسواء. وأنا ممّن توهّم، بتأثير من ذلك، أنّ من المتعذّر أن نتخطّى الهوّة الفاصلة بين الدّين والدّنيا كما ارتسمت ملامحها في حياتنا، وثقافتنا، وعلاقاتنا. لكنّ الرّفاعي بادر إلى ردم الهوّة المتخيّلة بسهولة بالغة، حينما كشف لي عن شخصيّة هادئة، ومتّزنة، ومرنة، ومستوعبة، وخالية من الأحكام القبليّة الجاهزة، شخصيّة أبعد ما تكون عن الخلافات المنطقيّة والدّينيّة والعرقيّة، فأسفر لي عن قدرة إنسانيّة عجيبة على الدّأب في السّؤال عن أصدقائه، وتفقّد أحوالهم، وتوثيق الصّلة بهم، والاطّلاع على مؤلّفاتهم، وإقامة الحوارات المعمّقة معهم، من جانب، والانكباب على تجديد الفكر الدّيني الّذي خاض فيه طولا وعرضاً، من جانب آخر. وهما وجهان لا ينفصلان في شخصيّة الرّفاعي، وفي أفكاره، وفي سلوكه العام. فعلاوة على صِلاته الوثيقة بالمفكّرين والمثقّفين من دينيّين ودنيويّين، كانت مجلّته “قضايا إسلاميّة معاصرة” خير سفير لثقافة التّسامح والتّفاهم بين الأديان والمذاهب. وأثمرت جهوده عن تأسيس “مركز دراسات فلسفة الدّين”، وهو من أكثر المواظبين الّذين عرفتهم على النّهل من العلوم الإنسانيّة، وشغله الشّاغل إسباغ نِعَم الدّين على الدّنيا، وتغذيته بمكاسبها. أي إنّه يريد أن يغمر الدّنيا بفيض الدّين، ويغمر الدّين بفيض الدّنيا، وهو رهان شاقّ بحقّ وحقيق.

قلب الرّفاعي الصّورة الشّائعة عن رجل الدّين المنكبّ على المتون العتيقة شرحاً، وتعليقاً، وتفسيراً، وتصنيفاً، وغاية ما يرجوه اختصار شرح، أو الإسهاب في آخر، وأحلّ بمكانها صورة أخرى مغايرة، أحسب أنّها الصّحيحة الّتي ورثها من الأسلاف العظام الّذين عالجوا الظّاهرة الدّينيّة بعدّة دنيويّة متماسكة، دون أن تتقطّع صلتهم بها، وما برحت أفكارهم محلّ تقدير ونفع، وذلك مرمى بعيد المنال لغير المتبصّرين بشؤون الدّين والدّنيا، فغاية ما يرجوه المرء من المعرفة، أيّاً كان شكلها، هو انتفاع النّاس بها في حلّهم وترحالهم عبر الأزمان دون إرغام وإلزام، ومن غير قَسْر وقَهْر.

ولا يضيرني الاعتراف بأنّ الرّفاعي هو صاحب الفضل في مدّ حبال الوصل بيننا، على المستويَيْن الشّخصي والفكري، وتوثيق تلك الصّلة وقتما خلتُ ضعفها، جرّاء الابتعاد والانشغال بالبحث والسّفر، وذلك إقرار بحفظ الجميل لأهله، والرّفاعي من أهله. في أوّل الأمر بدأ الرّفاعي بمراسلتي، وأنا في جامعة قطر، وما لبث أن طلب إليّ الكتابة لمجلّته الرّصينة، وفي أحد أعدادها ظهر لي أوّل بحث، جعلتُ عنوانه “المجتمعات التّقليدية في عالم متغيّر”، وفيه نقد صريح لحال المجتمعات الإسلاميّة التّقليديّة، ومناهضتها لمعالم الحداثة، وتأثيم أفرادها، وهو ما دفعني إلى الاصطلاح عليها بـ”المجتمعات التّأثيميّة”، الّتي لا شاغل لها إلّا كبح جماح أفرادها عن الإتيان بالجديد، الّذي تعدّه ضرباً من بدع الدّنيا الفانية، وتأثيمهم على ما يرومونه من تغيير وتجديد، ليس في أمر فهم الدّين واستيعابه، فحسب، بل حتّى في شؤون الدّنيا الّتي يعيشونها.

كانت تلك الخطوة الأولى في عمر علاقة ثمينة وطويلة، ثم بادر الرّفاعي إلى إجراء حوار مطوّل معي، ظهر في مجلّته، شتاء عام 2003. ومحوره “المركزيّات الثّقافية” الّتي شُغلتُ بها طويلاً، وكتبتُ فيها مؤلّفاتي “المركزيّة الغربيّة”، و”المركزيّة الإسلاميّة”، و”الثّقافة العربيّة والمرجعيّات المستعارة”، و”عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين”، ومعظم الموادّ الأوّليّة لتلك الكتب انصهرت في مشروع، وضعتُ مخطّطه العامّ في نهاية ثمانينيّات القرن العشرين، واقترحتُ له عنوان “المطابقة والاختلاف”، وواظبتُ عليه، حتّى ظهر بصيغته النّهائيّة في عام 2018 بثلاثة أجزاء كبيرة. وقد انتهى ذلك البحث عن “المجتمعات التّأثيميّة”، الّذي نشره الرّفاعي في مجلّته، جزءاً من مقدّمة المشروع في طبعته الوافية.

يعلم الباحثون أنّه ليس لهم أفضل من المجلّات الرّصينة الّتي لا تُرمى بعد صدورها، بل يحتفظ بها مصادر أساسيّة لا تشيخ بمرور الزّمن، وهي، بالإجمال، قليلة العدد، ومنها مجلّة “قضايا إسلاميّة معاصرة” الّتي سكنها طموح للتّوسّع في معالجة اتّجاهات الفكر الدّيني، واستيعاب أعمال المشتغلين فيه. ولطالما داعب ذلك خيالي باحثاً، فداومتُ على الاستجابة لما يطلبه الرّفاعي، وتوالت إسهاماتي في المجلّة بدراسات مطوّلة، منها البحث الافتتاحي لأحد أعدادها، وكان بعنوان “حيرة المجتمعات الإسلاميّة: في القول بأنّ التسامح ليس منّة أو هبة”. ومنذ طرقتُ باب التّسامح في ذلك الوقت، جعلته بيتي، فالتّسامح قرين الصَّفح، وبدونهما لا تتحقّق الشّراكة في حياة الأفراد والجماعات.

ثمّ ما لبث أن اقترح الرّفاعي دعوتي متحدّثاً في “مركز حوار الحضارات” بطهران، الّذي كان يرأسه عطاء الله مهاجراني، وزير الثّقافة في عهد الرئيس الإيراني المستنير محمد خاتمي، وكان الرّفاعي، آنذاك، من سكنة قُم، فلبّيْتُ الدّعوة. وكانت تلك زيارتي الأولى لإيران، وألقيت محاضرة بعنوان “نقد التّمركزات الثّقافيّة في العالم المعاصر” بيّنت فيها مخاطر الانكفاء على المعتقدات الدّينيّة والأيديولوجيّة، وجعلت التّنازع في ما بينها من أسباب غياب السّلم الأهلي، بما في ذلك تسميم العلاقات بين الشّعوب والدّول، وكان الرّفاعي أوّل الحاضرين، فالتقينا وجهاً لوجه أوّل مرة، وعلى إثرها اصطحبني إلى منزله في قُم، فطفتُ في أرجاء المدينة العتيقة، وجمعني بأساتذة الفلسفة في إحدى جامعاتها، ودعاني إلى بيته، وعجبتُ من مكتبته الكبيرة الّتي تحتلّ قبوا أسفل الدّار، جعله مكاناً لاستقبال ضيوفه. ثم جاءت زيارتي الثّانية لإيران عشيّة الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، كانت الأجواء متوتّرة، فقد خيّم شبح الحرب على المنطقة العربيّة، ولا يمكن لأحد أن ينكر بأنّ غزو بلاد الرّافدين قائم لا محالة، وسرعان ما وقع.

وخلال تينك الزّيارتيْن لازمني الرّفاعي ملازمة الشّقيق لشقيقه، وله الفضل في كشف خارطة الفكر الإيراني الحديث أمامي، فلم يقتصر دوره على مدّ العلاقة مع نخبة من مفكّري إيران الفاعلين في الحياة الثّقافيّة والأكاديميّة، بل ترجم أعمالهم إلى العربيّة، وجعل من مجلّته المكان الأنسب للاطّلاع على أفكار جديدة في غاية الأهمّيّة، ومعظمها غير مطروق في الثّقافة العربيّة. وأيّاً كانت الأسباب، فمجلّة “قضايا إسلاميّة معاصرة” فتحتْ عيون المفكّرين العرب على ما كان يقوم به نظراؤهم في بلاد فارس. ثمّ التقينا في مكّة عام 2005، حينما اختيرت عاصمة للثّقافة الإسلاميّة، وتصادف ذلك الحدث مع موسم الحجّ في ذلك العام، ومكثنا معاً نحو أسبوعين، وهو الّذي درّبني على طقوس الحجّ الّتي كنت أجهلها، من الإحرام حتّى التحلّل، وكأنه بذلك أدخلني في حومة الرحمن، ثم دعوتُه إلى الدّوحة في عام 2007 للمشاركة في ندوة أشرفتُ عليها، كانت بعنوان: “الثّقافة والتّحوّلات المجتمعيّة”، حينما كنت خبيراً في وزارة الثّقافة القطريّة، فقدّم بحثاً معمّقاً بعنوان “قيم التّسامح، وقيم الكراهيّة”. تلك القيم التي نافح عنها طوال حياته.

بعد ذلك كلّه توثّقت صلتنا، حتّى ما عادت تفصل بيننا أيّ فواصل نفسيّة أو ثقافيّة، وساعد في ذلك تطوّر أجهزة الاتّصال الحديثة الّتي تغذّي تواصلنا باستمرار. وتعبيراً عن ذلك النّبل المتدفّق، فاجأني الرّفاعي بزيارته لي في بيتي بالعراق، صيف عام 2010، وكان قد عاد إلى البلاد، وسكن بغداد، وقطع الطّريق الوعر بين العاصمة وكركوك في ظروف غير آمنة، يعرفها العراقيّون جيّداً في تلك الحقبة المظلمة، إذ ثمّة منطقة شبه خالية بين المدينتيْن، يزيد طولها على 100 ميل، لا يتوفّر فيها شيء من الأمن آنذاك، ومع ذلك قصد الصّديق صديقه، متحمّلاً أعباء الخطر، والمشقّة، وحرارة الصّيف. وخلال العقد الّذي تبع ذلك داومنا على اللّقاء في غير مكان، وأحسب أنّني لم أزُر العراق إلّا والتقيتُه، حتّى ما عدتُ إخال وجودي في بغداد بدون الرّفاعي. ما الّذي أدام وقود الألفة بيننا طوال تلك المدّة؟ في ما يأتي أدوّن جوابي باختصار: يتلازم في شخصيّة الرّفاعي أمران لافتان للنّظر: دفء إنساني خصب، وثقافة موسّعة متفتّحة. فلا غرابة أن يتغلغل حضوره في ثنايا النّفس والعقل معاً، وهو بارع في إدارة الحوارات المثمرة، وقد جعل من مجلّته ميداناً لكبار المفكّرين العرب والإيرانيّين، وعلى صفحاتها قالوا قولتهم بشأن تأويل الظّاهرة الدّينيّة من منظورات متعدّدة أثّرت تلك الظّاهرة بفتحها في شؤون الدّنيا.

ولعلّ الرّفاعي المفكّر الدّيني الوحيد الّذي أشرع النّوافذ لتلاقح العرفان الفارسي بالثّقافة العربيّة، حينما ترجم نصوصاً تأسيسيّة إلى لغة الضّاد، ولم أعرف غير مجلّته مكاناً لذلك التّفاعل بينهما، ومع أنّ ثمار تلك المثاقفة لم تُقطف بعدُ، فأعوّل على نضجها مستقبلاً في ضوء تنامي الدّراسات التّأويليّة للنّصوص الدّينيّة والدّنيويّة في إيران والعالم العربي. وإلى كلّ ما ذُكر، فإنّ الرفاعي مبشّر صريح، لا يكلّ ولا يملّ، بثقافة التّسامح، ونبذ الكراهيّات المذهبيّة، والدّينيّة، والعرقيّة، وكلّ ضروب التّحيّزات المغلقة الّتي تحبس أهلها عن مجريات الدّنيا، وبذل جهده في تحديث الفكر الدّيني من داخل المنظومة الدّينيّة نفسها بالمشاركة في إحياء النّزعة الإنسانية في الدّين، فقد رأى أنّ رسالة الدّين تهدف إلى “إشاعة السّلم، والتّراحم، والمحبّة بين النّاس، والسّعي إلى تجفيف منابع العنف، والعدوانيّة، والتّعصّب”.

ومع إصراره على المضيّ في ذلك الدّرب غير الممهّد، وفيه كثير من العثرات، وحتّى المخاطر، فقد خلص الرّفاعي إلى أنّ مضمون تلك الرّسالة الدّينيّة قد نُقض “بنشوء جماعات وفرق، لا تقتصر على إعلان انتمائها للدّين، إنّما تصرّ على احتكار تمثيله، وتحرص على مخاصمة أيّ جماعة غيرها تقدّم فهما مختلفاً للدين”، وما دام الأمر على تلك الصّورة المتصلّبة، فلا سبيل إلّا بـ”إنقاذ النّزعة الإنسانيّة في الدّين، بالإعلان عن أبعاده المعنويّة، والعقلانيّة، والجماليّة، والرّمزيّة”. ولو تحقّق ذلك الفهم للظّاهرة الدّينيّة على أرض الواقع لتغيّرت علاقة النّاس بربّهم وبأنفسهم، فما يهدف إليه الفكر الأصيل، ليس نقد إله النّاس بذاته، بل نقد تصوّراتهم الضّيّقة عنه، فذلك هو الدّرس الأوّل في تحليل الفكر الدّيني كما ورثه المفكّرون المحدثون عن أسلافهم القدماء، وهو ما يطمح إليه الفكر المستنير، الّذي من أولى غاياته إزالة الحُجُب عن عيون المؤمنين بالله، ليتجلّى في عقولهم ونفوسهم وخيالهم ربّاً واسع الرحمة، فيكونون هم من عبّاده لا من عبيده.

ومن نافلة القول بأنّ الرّفاعي في توسّعه لمعالجة الظّاهرة الدّينيّة، قد طرق باب الكرامة الإنسانيّة في الدّين، وعالج تلك القضيّة الشّائكة بمهارة، وجعلها محوراً من محاور أفكاره، وذلك حينما أثار سؤالاً جوهريّاً يحتاج إليه كلّ مؤمن: هل يعزّز الدّين كرامة الإنسان، ويثريها، ويُعلي من مقامها؟ أم أنّه يجرّده منها لصالح معتقد سماوي، فيسلب من المرء ذاته الفرديّة، وكرامته الدّنيويّة؟ وقدّم جواباً وافياً عن ذلك السؤال المركّب بكتابه الجريء “الدّين والكرامة الإنسانيّة”، وهو كتاب، وإن بدا للقارئ سلساً في أسلوبه، ورقيقاً في عباراته، فهو عميق المغزى، وقويّ المبنى، ومتين الحجّة، ويغري القارئ بالخوض في موضوعه الشّائق لمعرفة الحدّ الفاصل بين كرامة ثريّة يسبغُها الدّين على المؤمن، وكرامة ضحلة يخلعها التّديّن عليه.

ويلزم ذلك تعليقاً منّي على الموضوع: فالإيمان ضربٌ من الفهم العميق لرسالة سماويّة، غايتها تغيير أحوال النّاس في الدّنيا صوب الأفضل، فيكون إيجابيّاً بمقدار ممارسة الإنسان للدّين بكرامة تصون هويّته، ويكون سلبيّاً إذا أُرغم عليه، وامتثل لتفسير ضيّق الأفق له، وفرّط بهويّته الدّنيويّة بإغراءات وهميّة، فالدّين الحقّ لا يقترح تبعيّة عمياء لإله غامض، وهو لا يرى في المؤمنين قطيعاً من الأتباع، بل يشترط فهما لمضمون رسالته، وانفتاحاً على السّياق التّاريخي للأديان السّماويّة، ولا قيمة لرسالة دينيّة لا تجعل من كرامة الإنسان رهانها الأوّل والأخير.

أحسبُ أنّ الرّفاعي قد وضع إصبعه على المعنى العميق للدّين، حيث تتمازج فيه أطياف الرّوح والعقل، في تناغم ورعٍ يجعل النّفس مطمئنّة، وآمنة، غير أنّها يقظة، وحيويّة. وكتاب الرّفاعي لا يُحابي التّركة الفقهيّة واللّاهوتيّة والكلاميّة، بل يحرّر المؤمنين من عبئها الثّقيل جدًّاً، ويخفّفهم من أحمالها الخشنة، وغايته الصّدق، والاستقامة، فالكرامة الإنسانيّة ليست موضوع محاباة، ولا ينبغي أن تكون كذلك، أيّاً كانت الذرائع. وهي تتقوّى حينما يكون الدّين داعماً لها، ومعزّزاً لقيَمها الجليلة، ونابذاً للعنف والفرقة. وكأنّي به في كتابه عن الدّين والكرامة الإنسانيّة ينطق بلسان أبي بكر الرّازي الّذي حذّر من العنف الدّيني، ومن الفرقة الّتي تؤدّي إلى الفتنة بين أهل الدّين نفسه، ودعا إلى الرّحمة، والعفو، والتّسامح، بقوله: “بحكمة الحكيم، ورحمة الرّحيم، أن يُلهم عباده أجمعين معرفةَ منافعهم ومضارّهم في عاجلهم وآجلهم، ولا يفضِّل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع، ولا اختلاف، فيهلكوا، وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمّة لبعض، فتصدّق كلُ فرقة إمامها، وتكذّب غيره، ويضرب بعضهم وجوه بعض بالسّيف، ويعم البلاء”.

ومن أسف أن ذلك التّحذير لم يكبح غلواء التطرّف في كثير من الأديان والمذاهب، وما برحت الجماعات المؤمنة تضرب وجوه بعضها بالسّيوف القواطع، وقد عمّ البلاء في غير مكان، فموقد العنف مملوء بالحطب الجافّ، وهو في انتظار أيّ شرارة ليلتهب. وكما قيل: من الشّرارة يندلع اللّهب. العنف، ذلك الوباء الّذي يستوطن النّفوس، ويحيلها خراباً، ولطالما أكّدت في غير مكان بأنه يلزم مقاومته بالوسائل كافّة، ومنها نزع الشّرعيّة الدّينيّة عنه، ومن أسف أنّه يتربّع في قلب الثّقافات الإنسانيّة، والعقائد الدّينيّة، ولا تكاد تبرأ منه ثقافة، ولا يخلو منه معتقد. ويتجلّى في ممارسة القوّة، بشتّى ضروبها، ضدّ الآخرين، بذرائع شخصيّة، أو وطنيّة، أو قوميّة، أو دينيّة، حتّى يكاد يكون شرطاً إنسانيّاً ملازماً للنّوع الإنساني، وإلى ذلك يلاقي العنف الدّيني قبولاً عامّاً في سائر المجتمعات البشريّة ومنعطفاتها الحاسمة للتّاريخ، فبه تستفرغ المجتمعات رغباتها الدّفينة عن الآمال المؤجّلة أو الرّغبات المكبوتة. وينبغي أن ينتدب المفكّرون أنفسهم لمقاومة ذلك المدّ الخطير للعنف، الّذي يتجدّد بين عصر وآخر. وتنمية الحسّ بالكرامة الإنسانية ينشّط القوّة الفرديّة في تحاشي اللّجوء إليه. وقد ارتاد الرّفاعي مجاهيل تلك الآفة بالتّحذير الصّريح منها.

لا أغالط نفسي إذ أعترف بأنّني مكثتُ طويلاً في منطقة الدّنيا، وألفتها، وجعلتها موضوعاً لأفكاري، وكتبي، وعلاقاتي، ولكنّني حالما ألتقي الرّفاعي أو أقرأ له، ولأمثاله من المفكّرين المستنيرين في شؤون الدّين والدّنيا، حتّى تتبيّن لي منطقة الدّين، مفعمة بالحياة الهادئة، وغير منقطعة عمّا تهفو النّفس إليه، منطقة يمكن إعادة اكتشافها بعيداً عن النّسخة التّفسيريّة القهريّة المعتمة، والّتي أحالت الدّين إلى جملة من الأحكام الصّارمة الّتي تشهر سيوف القتل، وترفع رماح الفتك، وتدفن الرّحمة والطّمأنينة تحت وابل من الارتياب في كلّ شيء، نسخة جعلت من الدّين ضرباً من النّواهي والزواجر، فلا يباح فيها إلّا أقلّ ما يحتاج إليه الإنسان في دنياه منذ ولادته حتّى موته، فحياته مؤجّلة إلى زمن آخر.

***

الدكتور عبدالله ابراهيم،

مفكر عراقي، الحاصل على الجوائز التالية:

1. جائزة عبد الحميد شومان للعلوم الإنسانية عام 1997.

2. جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الفنون والدراسات النقدية عام 2013، وذلك عن كتابه (التخيّل التاريخي: السرد، والإمبراطوريّة، والتجربة الاستعماريّة).

3. جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب في مجال الدراسات النقدية عام 2014، وذلك تقديرا لبحوثه المعمّقة في تحليل الرواية العربية.

4. جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية (جائزة الدراسات الأدبية والنقد) الدورة الثامنة عشرة (2022 ـ 2023).

حملتُ شـراعَ الموتِ في صمتِ آلامي

وأَرضعتُ من ثدي التباريـحِ أَعوامـي

*

حملتُ دمـوعَ الأَرضِ في جفنِ لوعتي

وخضَّبتُ في جـرحِ الملايينِ أنغامي

*

انا القمح والنخل العراقي انحني، يبوسا

واهوى جانب الشاطئ، الطامي

*

انا القرية الخضراء قحط أذلني

فاطفات فانوسي وأخفيت إكرامي

*

تعال وخذ يا جوع قمحك من دمي

ودعني أمت وحدي على رمح ألامي

*

وخل عراق الحزن يبتل رمله

وتبتل باليوم المذهب، أحلامي

*

انا المغرم الهيمان، شعبي حبيتي

وأنفاسه لحني وعيناه إلهامي

(مقتطفات من قصيدة قافلة الأحزن)

***

الشاعرٌ العراقيٌ عبد الإله الياسري وُلِد في في قرية (طُبَر سيـد نور) في ناحية المشخاب التابعة لمحافظة النجف الشريفِ، تلك المدينة المقدسة بيت الشهداء الإبرار والتي ارفدوا الحركة الأدبية في العراق بعشرات من الأدباء والعلماء والشعراء والسياسيين العظام .

ولد شاعرنا في هذه الربوع المقدسة عام 1950 وانهى دراسته الابتدائية، المتوسطة و الإعدادية فيها وتركها للدراسة الجامعية في كلية الآداب بجامعة بغداد وتخرج عام 1972  وبعد أدائه الخدمة العسكرية الإلزامية عمل عدد من السنين في سلك التدريس منتقلا بين قرى ريف الجنوب قبل ان يترك قلبه في ذلك الوطن الجريح مرغما ويهاجر. ذلك بعد أن قررت سلطة الحزب الحاكم تبعيث المؤسسة التعليمية في العراق. فاضطر مكرهاً إلى ترك الوطن في صيف 1979 وتوجة الى أقصى شمال افريقا  الى المغرب العربي وحل فيها قرابة عقد من الزمان.

لم يتمكن الشاعر قط من مدح الظالم او حتى السير بخطى افكار نظام قومي سلبي دكتاتوري. اما في المملكة المغربية  فقد عمل خلال عقدا من السنين ونيف في تدريس اللغة العربية  وتزوج فيها. مرة اخرى اضطر لشد الرحال هذه المرة بعيدا وما وراء البحار الى كندا ولم يكن وحيدا بل مع عائلته وأبناءه الثلاث.  لينتقل الى منفاه الطوعي ليطلب الجوء من اجل كرامة الإنسان وذلك عام 1989. استمر في كندا في نشاطه الادبي وشارك في الحياة الثقافية فيها.

ألتقي به اليوم وهو القليل الحديث عن نفسه وعن إعماله الى درجة الانزواء والتصوف. التقيت به في أمسية أندلسية جمعتنا عند صديقنا المشترك " ابوعلي" الأعزاء ونحن نجلس حول طاولة كبيرة مع وجبه عشاء شهية من المطبخ العراقي وحوار شيق في الأدب واللغة العربية ومفرداتها الأعجازية الجميلة والتي وصلتنا عبر دهر من الزمن من خلال نصوص الذكر الحكيم وصولا الى ما أبدعه القريحة الشعرية لشعراء العراق والنجف بصورة خاصة. حيث علاقاته الشخصية المتعددة مع العديد بمحي بلاد الرافدين.

كتاباته في الشعر العمودي والشعر الحر وتفتيته للعديد من الأفكار المطلقة والسلبية السائدة في المجتمع العراقي ونظرته الى الانفتاح خاصة فيما يخص بدور المرأة في المجتمعات الشرقية وتمكنه من اللغة العربية كان دافعا وحافزا له وهو على مقاعد الدراسة في جامعة بغداد الى اقتراض الشعر فأبدع أي إبداع.

* حدثنا عن اول مهرجان شعري شارك فيه وبحضور الوزير العراقي الأديب صالح مهدي عماش في عام ١٩٧١ ومدى إعجاب الوزير بشعره في حين كان يضرب بكلماته بمطرقة حديدية أسس الفكرية لبناء عنصر الشر القومي السلبي في جميع الأنظمة السياسية.

يقول الشاعر:

تعود ذاكرتي بظروف كتابة هذه القصيدة إلى مقالة نشر عام 1971 في "جريدة  الثورة" الناطقة باسم حزب البعث الحاكم الذي كان قد أطاح بحكم المرحوم عبد الرحمن عارف في انقلاب عسكري اسماه ب (الثورة البيضاء) وذلك قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ وبات الحزب القوة الوحيدة والمطلقة في حكم العراق. عنوان المقالة كانت "الشعر يحتضر في كلية الآداب بجامعة بغداد" الكلية العريقة والتي كانت تسمى سابقا دار المعلمين العالية  الذي  تخرج منه خيرة شعراء العراق أمثال بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي و لميعة عباس عمارة ودرست فيها الشاعرة المبدعة  نازك الملائكة بعد تخرجها من " جامعة ويسكونسن" الأمريكية:

( University of Wisconsin–Madison)

وحصولها على الماجستير في الأدب المقارن وآخرون من خيرة أدباء العراق وشعراءه .

اعتبر كاتب المقالة بان القصيدة موجه بصورة خاصة ضد (الاتحاد الوطني لطلبة العراق) الفرع الطلابي التابع لحزب البعث الحاكم.

يروي الشاعر مستمرا في حديثة:

انه في الحقيقة بانه قبل الأمسية الشعرية في الجامعة وصلتني دعوة للمشاركة في هذا المهرجان الشعري لكني طلبت ان لا يشترطوا علي بأي شرط او تقيد، لقبول المشاركة في الأمسية، وكان لي ذلك.

كان الرئيس العراقي احمد حسن البكر قد دعي لحضور هذه الأمسية ولكنه أناب عنه الوزير الأديب صالح مهدي العماش لحضور الأمسية. صفق الوزير طويلا مشجعا عند سماعه القصيدة.

كنت اضن انه من باب الدبلوماسية يصفق.

كانت القصيدة  تترجم الظروف الصعبة التي كانت سائدة في العراق في تلك الأيام .

اما عميد الكلية الأستاذ محمود غناوي فكان متجهما وصعد خشبة المسرح مباشرة بعد انتهائي من تلاوة القصيدة ليقرر في كلمة مقتضبة ويصدر حكمه علي قائلا:

- بان الشاعر واهم ومغرر به مضيفا، بان العراق يعيش في ضل الثورة بخير وازدهار وسعادة.

اما الوزير الاديب فقال:

- قصيدة دون اي إساءة.

تلك الامسية التاريخية كانت شرارة أوقدت في نفسي رفض الظلم والبقاء صادقا لأفكاري رافضا التنازل للفكر القومي السلبي وأساليبه الإجرامية. طوبى لشعب ما برح غايته النضال  من " اجل كرامة الإنسان".

***

تقديم: د. توفيق رفيق التونجي ، الاندلس ، 2023

 

لست أدري أين قرأت قول أحد خلفاء بني أميّ ولعله معاوية اِبن أبي سفيان ـ ما شيّبني إلا اِنتظار المواعيد ـ فغفر الله لكل الذين بقيت أنتظرهم في مناسبات عديدة وعندما يصلون متأخرين يجدون كلّ الأعذار فأبقى متحسّرا على هدر وقتي فمن النادر جدّا الالتزام بالمواعيد لدينا معشر التونسيين إلا بعض اِستثناءات نادرة تشفي غليلي وآخرها ما كان مع الصّديق الأديب مصطفى يحي الذي وصل إلى الموعد قبل ساعة أو أكثر وذلك بمناسبة الاِحتفاء به في نادي الأدب بجمعية اِبن عرفة الذي تديره الأديبة سُونيا عبد اللطيف وأظنه تفاجأ عندما وجدني في اِنتظاره لعله اِعتاد مثلي الاِنتظار في المواعيد

باسمًا طَلقَ المُحيّا يصعد المدارج نشيطًا أنيقَا في كسوته الرّمادية فتراه ممشوقًا كرُمح كأنه في العشرين وهو في عقد التاسع فما شاء الله تبارك الله ومتّعه بالصّحة والعافية صديقي القادم في تلك القيلولة من مدينة قابس على مسافة أربع مائة كيلومتر من العاصمة تونس

الأديب مصطفى يحي بدأ الكتابة الأدبية بعد أن تجاوز الستين عاما وهذه مسألة مهمّة للغاية لأنه يؤكد أن الولوج إلى عالم الأدب لا يمكن أن نحدّه بسنّ معيّنة فهو متاح لكل من يروم معانقة الحرف والكلمة أما المسألة الثانية التي نعتبرها من صديقنا أبي جمال فإنها تؤكد أيضا أنّ الشهادة العلمية ليست ضرورية ولا كافية أيضا ولا شافعة كذلك لكسب صفة الأديب ذلك أن مصطفى يحي لم ينل حظه من التحصيل المدرسي إلا سنوات قليلة من التعليم الاِبتدائي وسبقه الجلوس إلى المؤدّب في الكتّاب ولكنه ثابر على التحصيل والمطالعة بعدهما فقد تمكّن من قواعد اللغة العربية والفرنسية عن كثب وحذق أسرارهما فكتب الشّعر والقصة بفصاحة الجاحظ وفُولتير معا لذلك فقد حلّق في سماء الأدب بجناحين معًا وقد زادته تجربته الطويلة والمتنوعة في الحياة من الاِستفادة من معاناته في الحياة فهو من مواليد سنة 1935 بقابس التي تجمع بين الواحة والبحر والصحراء وقد عمل سنوات في سلك الأمن الوطني إبّان السنوات الأولى من الاِستقلال وكان من المتطوعين في حرب بنزرت سنة 1961 ثم هاجر إلى فرنسا وعاش هناك سنوات طويلة متقلّبا في أطوار مختلفة فكل هذه المراحل أفادته في مواضيع كتبه باِعتبارها منهلا لا ينضب وقد أوجزت الأديبة سُونيا عبد اللطيف مسيرته في هذه الفقرة قائلة عند تقديمه :

أوّل كتاب له هو “ذكريات من المستقبل” سنة 2001 وهو مجموعة شعري) مزدوجة بين العربية والفرنسي، عبّر فيها عن اِنبهاره بمدينة الأنوار باريس.. وحنينه للوطن

المجموعة الشعرية الثانية “شظايا” 2007 بالعربية رثا في قصائده مآسي الأمة العربية…

في سنة 2008 فاجأ ابو جمال الساحة الثقافية بإصداره للجزء الأول من سيرته الروائية بالفرنسية passent les jours.. وتحدث فيه عن حرب بنزرت والمجزرة التي حصلت.. ولم يكشفها التاريخ..

و ـ الأمل لا يموت ـ هو عنوان مجموعته الشعرية الثالثة سنة 2009 وهي قصائد مزدوجة بين اللغتين..

في سنة 2013 أصدر روايته “لظى بنزرت” التي هي ترجمة للجزء الأوّل من من سيرته الذاتية passent les jourS فيها فضح المستور وعرّى المطمور..

في سنة 2015 أصدر مجموعته القصصية الأولى “أخشى النسيان” وهي مزيج بين الواقع والخيال، ومن خلالها نلاحظ فيها اِسترجاعا للذكريات واِستحضارها وكأنه يعيش على حنينها… وكأنه يتعجّل تدوينها خشية التلف والضياع…

ونشطت الذاكرة بعد الاضطراب فأتت المجموعة القصصية الثانية ـ قطوف الخريف ـ سنة 2018 وهي مزيج بين الماضي والحاضر.. وكان الأهداء فيها لروح زوجته التي فارقته..

وخريف أبو جمال ليس ذلك العراء وذلك الذبول بل هو بداية موسم جديد.. بداية دورة الحياة…

وكانت المجموعة القصصية الثالثة “حين يزهر الخريف ” وهو الكتاب التاسع في حصيلته..

(خريف أبو جمال خصب ومازالت أشجاره تزهر …

والأديب مصطفى يجي أبو جمال متيّم بمدينته قابس الفيحاء وعاشق لواحتها التي قضّى فيها طفولته وتمتع بجمالها وصفائها قبل أن تصاب الواحة والمدينة بالتلوّث وقد كتب قصيدة بديعة يتغنى فيها بالواحة والنخلة مستحضرا فيها سنواته العذبة في أرجائها ومتحسّرا على ماضيها بما كان فيه من هدوء ومرح وهناء ثم في آخر القصيدة يُبدي غضبه ونقمته على ما آلت إليه تلك الربوع حيث نالت منها أيدي العبث بالطبيعة نتيجة لطغيان المادة والجشع… وله قصائد أخرى من بينها قصيدة ـ شموخ ـ وقد رسم فيها مبادئه في الحياة لكأنها دستوره الخاص أو كأنها خلاصة حياته حيث يقول:

لا وجه منيّتي أخشاه

لا طول حياتي يغويني

*

في عقدي التاسع هذا

لا شيء عاد يغريني

*

ما المال كان مرادي

فنزر النزر يكفيني

*

شربت الحب أكوابا

من ذابلات الجفون

*

بعزم ذدت عن وطني

ما مال للغازي جبيني

*

وللتمجيد ما سعت قدمي

ولا فخم القصور يعنيني

*

فصديقة في الود صادقة

عن كل الغواني تغنيني

*

وخلّ إذا العواصف هبّت

هبّ في الحين يحميني

ومن قصائد أبي جمال بالفرنسية هذه القصيدة التي يمجّد فيها الرّفق بالحيوانات وهي لعَمري أرقى درجات الإنسانية التي تتجاوز الإنسان إلى الحيوان والطبيعة جمعاء حيث يقول:

MES AMIS LES ANIMAUX

Jamais je ne monte un cheval

Ni le faire courir à en crever

Jamais je ne chasse un animal

Ni priver un oiseau de liberté

Je ne tue point vipère ni crotale

Si je ne suis en grand danger

Le lion, le loup ou le chacal

Ne chassent que par nécessité

Le superbe tigre du Bengale

Ne traque le cerf que pour manger

La viande je mange car c’est vital

Mais n’use jamais de cruauté

Le toréro ce sanguinaire médiéval

Torture la bête pour des « Olé »

ومن مآثر أقوال صديقنا الأديب مصطفى يحي وهو في عقده التاسع ما يلي:

الصّبا له أريجه وكذلك المراهقة والشباب والكهولة أما الشيخوخة فهي داء لا دواء له. شخصيا أمقتها ولكني أجاريها ولا أجد لها أيّ طعم بل طعمها ترياق وحنظل نرى الشهد ولا نستطيع أكله ونرى الورد ولا نستطيع قطفة ويرانا الجمال فيفرّ هاربا من أمامنا.

هذه تحية لأديب تونسي أعتبره مثالا في العطاء وتقديرا له على مسيرته الجديرة بالدراسة متمنيا له المزيد من الإبداع في كنف الصحة والعافية وطول العمر

لا تحسب عُمرك بالسّنوات وإنما بالذكريات ولا تحسب ثروتك بالمال بل بالأصدقاء كما يقول المثل السويدي

***

سُوف عبيد ـ تونس

ضمن منهاجه الأسبوعي المعتاد شهد المركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي صباح يوم الجمعة 22 / 9 / 2023م، رفع الستار عن تمثال الشاعر الشعبي البغدادي الملا عبود الكرخي "1861-1946". وكانت المرة الأولى التي طُرحت فيها فكرة إقامة تمثال للكرخي مطلع السبعينيات من القرن الماضي لكنها لم تتحقق، كما أن أمانة العاصمة أقرت في العام 1985 وضع التمثال قرب بيته في منطقة الشواكة، لكنه لم يرَ النور أيضاً لأسباب غير معروفة.

الآن وبعد حوالي الخمسين عاماً على تلك الفكرة التي ذهبت أدراج الرياح، تبادر دار نوّار التي تعمل في بغداد وموسكو، وتسعى لتعزيز الحوار العراقي الروسي إلى اهداء تمثال نصفي للملا عبود الكرخي نفذه النحات عادل هادي، مثلما فعلت سابقاً مع تمثال للعلامة الأب أنستاس الكرملي" 1866 – 1947" تم وضعه في باحة كنيسة اللاتين" السيدة العذراء" في منطقة الشورجة، حيث دُفن. ومن الجدير بالذكر أن دار نوّار تم تأسيسها تخليداً لذكرى الشاب العراقي – الروسي نوّار الابن الوحيد للأديب والمترجم والأكاديمي الدكتور ضياء نافع العميد الأسبق لكلية اللغات بجامعة بغداد.

ولد نوّار في روسيا، وأنهى تعليمه في بغداد، ثم حصل على الدكتوراه في طب العيون من روسيا، لكنه توفي بسكتة قلبية مفاجئة وهو في ريعان شبابه، فرغب والده العراقي مع والدته الروسية بعمل يخلد اسم وحيدهما الذي رحل مبكراً، فكانت دار نوّار التي قامت بمبادرات عديدة لتوثيق العلاقات الثقافية بين العراق وروسيا، ومنها جائزة نوار لتعزيز الحوار العراقي الروسي التي تمنح لشخصية عراقية أو روسية تسهم بوضوح في تحقيق ذلك الحوار.

تمثال الملا عبود الكرخي الذي تم اهدائه إلى المركز الثقافي البغدادي باشراف الدكتور علي حداد، سيوضع في مكتبة حفيد الكرخي، الكاتب والأديب التراثي الراحل  حسين حاتم عبود الكرخي والتي سبق أن اهدتها اسرته للمركز. أما الحفل الذي سيزاح فيه الستار عن التمثال فسيتم فيه الحديث عن جوانب مهمة من حياة الكرخي وشعره وظرائفه ومواقفه الوطنية. ذلك أنه من الشعراء الذين تعتز بهم شعوبهم وتفتخر، فقد كان صوت الشعب الساخر الذي لا يتردد عن استخدام سوط الشعر لجلد كل من يرى أنه لا يعمل في مصلحة الوطن ومواطنيه، ويستقوي بالأجنبي على أبناء جلدته. أما مبادرة دار نوّار فإنها تضفي على المشهد بعداً درامياً حزيناً، لكنه مفعم بالأمل وحب الوطن.

***

د. طه جزاع

الخوارزمية عبارة عن مفهوم تكنيكي يرتبط اصلا بالرياضيات، وحديثا بعلوم الكومبيوتر، خاصة فيما يتعلق بصياغة البرامج ووضع شفراتها. كما يرتبط بالنظريات المعاصرة لصنع القرار ونظرية الالعاب. والتعريف المبسط  لهذا المفهوم يشير الى منظومة  من القواعد والتعليمات والخطوات والعمليات المتسلسلة التي تستخدم مدخلات معلومة وتفضي الى مخرجات تمثل الحلول للمسائل والمشكلات المختلفة . وقد تكون تلك المسائل حسابية اعتيادية كايجاد الارقام ذات القاسم المشترك أو معقدة كالمشاكل الطارئة التي يواجهها رائد الفضاء في حالة تعرض المركبة الى خلل ما. أو ما نراه بشكل اعتيادي الان عندما نستخدم لائحة الطلب الالكترونية المنتشرة في المطاعم لطلب وجبة معينة بمواصفاتنا الخاصة.

ولأن اساس الخوارزمية هو كيفية الوصول الى حل رياضي فاننا نستطيع ان نتتبع جذورها الاولية الى زمن أبعد من زمن الخوارزمي، كما كان  مثلا عند البابليين حوالي 2500 قبل الميلاد، وقدماء المصريين 1500 ق.م. وفي الحضارة الهندية 800 ق.م. والاغريق 240 ق.م. إلا ان الخوارزمي هو الذي وضع الوصف الاوضح والتحليل الاكمل لهذا المفهوم وتطبيقاته الاولية في كتاب الجمع والتفريق وكتاب الحساب  اللذان اصبحا المصدر الرئيسي الاول لما سمي باسمه، حيث ان Algorithm  هي الصيغة اللاتينية لاسم الخوارزمي.3955 الخوارزمي

الخوارزمي (780-847م)

تُعرّف المصادر العربية والاجنبية الخوارزمي بانه العالم  العربي أو المسلم! وأنا اقول انه العالم العراقي من أصل أزبكستاني الذي هاجرت عائلته في القرن الثامن الميلادي من خوارزم في خراسان قديما و(ازبكستان حديثا) الى العراق  وعملت واستقرت في بغداد العصر العباسي. ورغم ان هناك اشارة في تاريخ الطبري الى ان الخوارزمي ينتسب الى قرية قطر بل وهي ضاحية من ضواحي بغداد آنذاك الا اننا لانستطيع ان نجزم بانه ولد في تلك القرية. لكن من المؤكد انه نشأ وتعلم وتدرب واحترف البحث العلمي وعمل في بغداد. وحين لمع نجمه كرجل من رجال العلم عينه الخليفة المأمون مشرفا علميا على دار الحكمة الشهير الذي كان قبلة المعرفة في عاصمة التنوير بغداد آنذاك التي اشتهرت في ذلك العصر الذهبي بريادتها في العلم والادب والفن.

فالخوارزمي هو ابو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي عالم الرياضيات والفلك والجغرافية  الذي اشتهر بكتبه الرائدة التي احدثت اثرا عالميا بليغا في مسيرة العلم في الامس واليوم. فاضافة الى كتاب الحساب وكتاب الجمع والتفريق، له ايضا كتاب تقويم البلدان وكتاب خارطة الارض والتي ترجمت جميعها الى اللاتينية اولا ثم الى عدة لغات عالمية اخرى. وبذلك فقد اعتمدتها الجامعات الاوربية منذ ذلك الوقت وما تزال تُدرّس كجزء اساسي من تاريخ العلم.3956 الخوارزمي

في ختام هذا التعريف المختصر اقول: لقد آن الاوان ان ينهض شبابنا المتنور لينفض الغبار عن تاريحنا العظيم الطويل الحافل بالانجازات الحضارية والذي سمحنا ان يطاله الاهمال والتشويه بسبب الصراعات والاحقاد والحروب. كما اننا تركناه حتى في زمن السلم ان يُطوى تحت المظلة العربية الواسعة والعامة والغامضة!  فرغم اننا جزء من الامة العربية ولكن ينبغي ان لا نذوب في اديمها! فحين يذوب الجزء في الكل سيفقد خواصه الجوهرية. وهذا اجحاف كبير ان لم ندركه فسوف تحاسبنا الاجيال القادمة  عن ضياع جذورها.

أدعوك ان تتأمل التخطيط المرفق للخوارزمي، فهل تعلم انه طابع صدر في الزمن السوفيتي! وتأمل تمثاليه المنتصبان في أزبكستان! فماذا نتأمل نحن في بغداد؟ تمثال عنترة بن شداد والفارس العربي الذي يلوح بسيفه البتار ايذانا بزمن القتل على طريقة قطع الرؤوس الصحراوية؟!

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

العلوم والمعارف المتاحة والمبتكرة بإستمرار؛ توجه رافق كل الحضارات بالتزامن مع الحروب التي تفضي الى تغيرات تطال منظومات التعلم والتعليم، وهذا ما شهده العراق منذ زمن بابل وأشور وبغداد الزوراء، وكان للحرب العالمية الاولى 1914 - 1918 وما تلاها من أحداث عبر أكثر من مئة سنة مضت؛  منعكساتها على التعليم في العراق، فكل خطوة للأمام تتبعها أحيانا خطوتان للخلف، وذلك ما يحاول المقال جغرافيا - تأريخيا وبالاعتماد على البيانات المكانية الوصفية والمنطقية - الرقمية الكشف عنه.

مؤسسات التعليم الاولى:

كانت أليات التعليم في العراق مطلع القرن العشرين مقتصرة على التعليم في بعض البيوت، والكتاتيب، والمساجد والجوامع، والمدارس الدينية، والحوزات العلمية، ضمن حلقات يقودها شـيخا، ويبدأ بالصبية صعوداً، وكذلك لحلقات النساء، وأطلق على هذه الحلقات أسماء محلية عديدة منها (الكُتاب) بضم الكاف، و(الكتاتيب)، وحلقة (الــمُلا/ الملاية) بضم الميم، وكان يتعلم فيها أفراد السكان بمختلف الأعمار أوليات القراءة والكتابة وتلاوة وحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والأحكام الشرعية، وهكذا وضعت الاسس الاولى للتعليم الحديث، وبعد انتشار المدارس في بغداد وبقية المدن العراقية تقلص عمل هذه الحلقات والكتاتيب تدريجيا.

المدارس العثمانية:

تضمنت المدارس العثمانية الاولى؛ الحكومية منها والأهلية كل من؛ المدارس الإسلامية والمسيحية واليهودية والأجنبية الأخرى، ومنها؛ اللاتينة للأباء الكرمليين 1721، الكلدانية 1843، والموصل 1855، والاتحاد الاسرائيلي 1865، (المدارس اليهودية/ مدارس الإتحاد الفرنسي/ الأليانس التي شملت؛ سبع منها في بغداد، وخمس في كل من؛ البصرة والعمارة وخانقين والحي وكركوك ). ومدارس كل من؛ السريانية الأفرامية، الأرمن المختلطة، الراهبات للبنات، البروتستانت للبنات، الاباء الدومنيكان. اضافة لمدارس كركوك 1868، وسامراء 1881، والنجف، 1882.[1]

شملت المدارس العثمانية النظامية التي تعتمد الاسس الحديثة أنذاك كل من؛ الرشدية المدنية، والفنون والصنائع 1869، والأعدادية العسكرية، والمدرسة الرشدية العسكرية/ كركوك 1870، والأعدادية المدنية 1871.  وقد تم افتتاح المدرسة الرشدية العسكرية ببغداد سنة 1870، وموضعها قرب شاطئ نهر دجلة من جانب الرصافة (بناية المحاكم المدنية سابقا)، والواقعة عند يسار نهاية شارع المتنبي، الى يمين بناية القشلة، ويعود أصل البناء الى أواخر العصر العباسي (مدرسة الأمير سعادة، خادم الخليفة المستظهر بالله 1078- 1118م )، ثم أشُغل المبنى بدائرة/ الدفترخانة المعنية بحفظ الوثائق والسجلات العقارية والمالية زمن المماليك 1749- 1831، بعدها قرر الوالي مدحت باشا 1870 استخدامها مدرسة عسكرية حديثة لاستقبال أبناء بغداد بهدف تأهيلهم للدراسة في الكلية العسكرية في إسطنبول، وفي 1891 تم نقل المدرسة الرشدية العسكرية الى بناية جديدة (خصصت لاحقا 1918 لدار المعلمين الابتدائية، وموضعها؛ بناية المدرسة الاعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان).  وتم الغاء المدارس العسكرية العثمانية بعد احتلال بغداد 1917. وقد شرعت دائرة (مجلس المعارف) العثمانية ببغداد بفتح المدارس الاتية؛ في سنة 1889 فتحت؛ مدارس؛ جديد حسن باشا، الحميدية/ الفضل، الكرخ، والاعظمية. وفي 1891 الصابونجية، والعثمانية. وفي 1907 مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية. وفي 1908 الجعفرية الأهلية/ مكتب الترقي الجعفري العثماني، والحقوق، وتذكار الحرية/ البصرة. وفي 1910 (كلية/ مدرسة) الامام الأعظم. وفي 1911 الكاظمية الأهلية، والحلة 1911. وفي 1914 شيدت بناية مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية التي سبق أفتتاحها في 1907. كما تم في 1914 الأنتهاء من تشييد وفتح مدرسة الاتحاد والترقي (لاحقا بناية مدرسة المأمونية الابتدائية 1922- 1959/ جوار الدفاع، عند ساحة الميدان).

مدارس الادارة البريطانية:

في عهد الإحتلال/ الأنتداب البريطاني أستند التعليم على النظام التعليمي العثماني، ونظام التعليم في مصر المتأثرين بالفكر الفرنسي، وتم تقسيم العراق لأربع وحدات إدارية حيث إستهدفت السياسة التعليمية (لإدارة المعارف) المباشرة بفتح المدارس الإبتدائية فيها، وعليه تم إعادة فتح (كلية/ مدرسة) الامام الأعظم 1917، ودار المعلمين  1918، وفي سنة 1919 أعيد فتح مدرسة الحقوق، كما تم افتتاح المدرسة الاهلية الإبتدائية. ثم تزايد إفتتاح المدارس الحديثة تدريجيا في عدد من مدن العراق الكبيرة والصغيرة ومنها؛ مدرسة العمارة 1917، الناصرية 1917، كربلاء 1918، الكوت 1919، الرمادي والفلوجة 1919. وفي 1921 تشكلت وزارة للمعارف لتتولى انشاء وفتح المدارس والكليات في عموم العراق.[2]3929 جامعة بغداد

مرتكزات التعليم العالي وتطورها:

شهد التعليم العالي خلال السنوات المئة الماضية تطورا تدريجيا شمل؛ تزايد أعداد الطلبة، وتحويل المدارس المهنية الى كليات مع تنامي تشكيلها، لتنضوي إداريا وعلميا بعد مرور أكثر من ثلاثون سنة بجامعة بغداد/ الجامعة الام، وشمل ذلك ما يلي:

* دار المعلمين الأبتدائية؛ يعد أساس المدارس، لذلك تم فتح أول دار ببغداد 1907 ضمن بناية المدرسة الرشدية، وبعد أغلاقه 1914 أعيد فتحة 1918 في بنايته (موضع بناية المدرسة الأعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان )، ثم انتقل بعد 1930 الى الاعظمية/ قرب المقبرة الملكية، وأستمر نواة لعشرات الدور التي تم أفتتاحها تباعا في العديد من مدن العراق خلال سنوات العقود العشرة الماضية.

* مدرسة الحقوق العثمانية؛ تأسست في بغداد سنة 1908 ثم أعيد أفتتاحها 1919، وتقع بنايتها مقابل مبانى السراي- القشلة تقريبا، والتي أعيد تشييدها 1934 على الطراز الانكليزي/ الفكتوري، ومن أبرز الشخصيات التي تخرجت منها؛ المحامي عباس العزاوي 1921.

* دار المعلمين العالية و كلية التربية؛ تأسس دار المعلمين العالية سنة 1923، وضم قسمين/ العلوم الطبيعية والعلوم الانسانية بضمنها الجغرافية، وأضيف اليها قسم الرياضيات فيما بعد، ويقبل فيه خريجو دار المعلمين الأبتدائية وخريجو المدارس الثانوية، وقد شغل في بدايته الطابق الثاني من مدرسة المأمونية الابتدائية (جوار الدفاع، عند ساحة الميدان)، ثم انتقل الى جوارها في ( بناية المدرسة الاعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان، والتي سبق وأن شغلها دار المعلمين الأبتدائية ). وقد أغلق دار المعلمين العالية خلال السنوات 1931-  1935. ثم انتقل مرة أخرى الى الأعظمية -  مجاور المقبرة الملكية (بناية دار المعلمين الأبتدائية)، والتي أصلها أحد مباني جامعة آل البيت العراقية الملغاة 1930. بعدها أستقر دار المعلمين العالية في؛ بنايته الرئيسة مع ملحقاته من الأبنية الادارية والخدمية، والمشيدة  سنة 1952، وأفخم وأشهر ما فيها؛ البناية التي حضر فيها الألاف عبر أكثر من ستون سنة مضت ولحد الان، (قاعة ساطع الحصري) مؤسس الدار/ 1923 وعميده الأول، وموضع بناية الدارهذه بمحاذاة مسار (سدة المدينة الترابية المشيدة 1917، وهي السدة الأقرب من مسار سدة ناظم باشا الاسبق منها)، وتقابل بناية الدار موضع المقبرة البريطانية من الاتجاه الغربي، (وحاليا هي مبنى الكلية التقنية- معهد الادارة). ولقد أستمر الدار بهذه البناية لغاية إلغائه 1958 بعد تأسيس (كلية التربية) التي ضمت الدارنفسه، وفي بنايته ذاتها.

بعد مرور عشرة سنوات أغلقت كلية التربية 1969 ثم أعيد فتحها 1972، وتدريجيا أنتقلت عمادتها واقسامها الانسانية الى مبانيها الجديدة، مقابل مبنى كلية الأداب وسط مجمع كليات باب المعظم، حيث تشكلت منها لاحقا 1988 (كلية التربية/ الأولى/ أبن رشد). أما اقسامها العلمية فقد بقيت بمبناها (المقابل للمقبرة البريطانية)، وتشكلت منها ايضا (كلية التربية/ الثانية/ ابن الهيثم 1988) والتي أنتقلت لاحقا الى (مبنى كلية العلوم/ الاعظمية/ ساحة عنتر التي سبق وان أنتقلت بدورها الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1983).

* جامعة آل البيت العراقية؛ تأسست 1924 من عدة (كليات/ مدارس) ومنها؛ الحقوق، الهندسة، العلوم المالية، ودار المعلمين العالية، وتوزعت بعدة مباني في الاعظمية، ومنها مبنى (الكلية او الشعبة الدينية)/ موضع الجامعة العراقية الحالي) وقد الغيت هذه الجامعة 1930.

* كلية الطب الملكية العراقية؛ تأسست 1927 جوارمستشفى باب المعظم (موضع مدينة الطب الحالي)، وأتخذت نظام ومناهج الكلية الطبية الملكية البريطانية.

* كلية الصيدلة؛ تأسست 1936 جوار كلية الطب، ثم انتقلت الى بنايتها الأحدث خلف موضع سايلو باب المعظم 1973.

* كلية الهندسة؛ تأسست 1942 بضم (مدرسة الهندسة السابقه)، وتقع البناية الأولى لكلية الهندسة والمشيدة 1956؛ يمين شارع ابي طالب - جوار المبنى السابق لوزارة الري ( وحاليا؛ ملحق الجامعة المستنصرية - كلية الهندسة)، وقد انتقلت كلية الهندسة الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1983.

* كلية الملكة عالية؛ تأسست سنة 1946 بمبنى صغير/ بباب المعظم، وتحولت الى كلية التحرير للبنات 1958، ثم إلى كلية البنات 1963، وأخيرأدمجت مع كلية الاداب 1969. وكانت كلية الملكة عالية بديلا لدار ( المعلمات الاولية )، والمنشطر بالأصل من (دار المعلمات الابتدائية، المؤسس سنة 1926، والذي سبق وان أنشطر 1943 الى؛ دار المعلمات الابتدائية، والى دار المعلمات الاولية).[3]

* كلية الاداب و العلوم؛ تعد الأداب والعلوم من الكليات المركزية لكل جامعات العالم، وقد تأسست سنة 1949 في بغداد، وكان عميدها الاول الدكتور عبد العزيز الدوري 1949 - 1958، وضمت قسمين/ العلوم الطبيعية، والعلوم الانسانية بضمنها الجغرافية، وأضيف اليها قسم الرياضيات فيما بعد، وكانت بنايتها الاولى متواضعه في منطقة باب المعظم (بناية المدرسة القديمة للفنون المنزلية )، مقابل (كلية الملكة عالية - لاحقا التحرير ثم البنات)، وبنايتها حاليا؛ ملحق المعهد الطبي التقني (عند مجسر مشاة باب المعظم - شارع الخلفاء/ الجمهورية).

في سنة 1956 أنقسمت كلية الاداب والعلوم الى كليتين مستقلتين هما؛ (كلية الاداب) التي انتقلت الى بنايتها بمنطقة الاعظمية، وتحديداً خلف المجمع العلمي العراقي/ في البناية التي تشغلها حاليا كلية القانون. (ولاحقا في سنة 1969 أنتقلت كلية الاداب الى مبناها الحالي - بمجمع كليات باب المعظم -، والمشيد 1960، والذي كانت تشغله قبلها كلية التجارة ). اما (كلية العلوم) فقد توزعت اقسامها في بنايتين مؤجرتين في الاعظمية/ شارع المشاتل، ثم استقرت في بنايتها الجديدة أنذاك في الأعظمية/ ساحة عنتر.

* كلية التجارة؛ تأسست 1946 من معهد العلوم المالية المؤسس 1936، والذي كان ضمن كلية الحقوق، وأنتقلت كلية التجارة الى مبناها الجديد المشيد 1960 (مجمع باب المعظم، مبنى كلية الأداب الحالي)، وتحولت كلية التجارة سنة 1968- 1969 إلى كلية الادارة والاقتصاد بمبناها المجاور لكلية القانون/ الوزيرية.

* كلية الشريعه؛ تشكلت 1946 في الأعظمية، وإلحقت بجامعة بغداد 1963، وحاليا كلية العلوم الاسلامية.

* كلية الزرعة؛ أسست 1952 في ابي غريب/ بغداد، وتخرجت أول دوراتها 1956 برعاية ملك العراق فيصل الثاني.

* كلية طب الاسنان؛ أسست 1953 بجوار كلية الطب (جوارموضع مدينة الطب الحالي).

* كلية الطب البيطري؛ أسست 1955 في ابي غريب/ بغداد، بموقعها/ العامرية غرب بغداد.

* جامعة الحكمة اليسوعية، مؤسسة أكاديمية أهلية تم تأسيسها سنة 1955، وفي سنة 1969 تم تأميم جامعة الحكمة وإلحاقها بجامعة بغداد.  سميت جامعة الحكمة سنة 1956 وبدأت بثلاثة اقسام؛ ادارة الاعمال والهندسة والفنون الحرة والدراسات العربية، وأنجزت بنايتها 1959 على قطعة أرض (272 دونما) في الزعفرانية جنوبي شرقي بغداد، واعتبارا من 1969 اصبحت بناية معهد التكنولوجيا/ بغداد.

* جامعة بغداد؛ (الجامعة الام) أقدم جامعة حديثة في العراق، وشرع لأول مرة قانون تأسيسها سنة 1956.

* كلية التمريض؛ فتحت 1962 قرب كلية الطب (جوارموضع مدينة الطب الحالي).3930 الجامعة المستنصرية

* الجامعة المستنصرية، أستحدثت (جامعة خاصة) 1963، وأستقرت سنة 1968 بمبناها الجديد الذي شيدته مؤسسة كولبنكيان الخيرية، وهو المبنى الحالي الذي يقع في الرصافة من مدينة بغداد/ شارع فلسطين، وأعتبرت جامعة رسمية حكومية سنة 1974. وتضم حاليا 13 كلية وبكافة التخصصات، (سميت نسبة إلى؛ المدرسة المستنصرية العباسية العريقة ذات المركز العلمي والثقافي، والتي تم تأسيسها ببغداد سنة 1233م على يد الخليفة العباسي المستنصر بالله 1192 - 1243م ).

* جامعة البصرة، أستحدثت سنة 1964 من خمسة كليات، وتضم الان 22 كلية بمختلف الاختصاصات العلمية، وشيدت بنايتها الاولى شرق شط العرب/ التنومة، ثم انتقلت الى مبانيها الجديدة  في كرمة علي 1983.

* كلية التربية الرياضية؛ تشكلت 1966 - 1967 من ضم المعهد العالي للتربية البدنية، واستقرت بمبناها (التي تشغله حاليا كلية التربية الرياضية للبنات) يسارمدخل شارع المغرب ومقابل منطقة الوزيرية، ثم أنتقلت الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1985.

* اكاديمية/ كلية الفنون الجميله؛ فتحت 1967، في بنايتها الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من منطقة الوزيرية/ يمين شارع ابي طالب، (وكانت بنيتها قبل توسيعها وتطويرها دارا لرئيس الوزراء الأسبق نوري سعيد).

* جامعة الموصل؛ تأسست سنة 1967 في مبانيها في الجانب الايمن/ المجموعة الثقافية. وسبق تأسيسها فتح كليات عديدة؛ أولها كلية الطب/ وزارة الصحة، والتي ألحقت بجامعة بغداد 1960، وتبعها فتح كليتا العلوم والهندسة 1963، وكلية الزراعة والغابات وكلية الصيدلة 1964، وكلية البنات 1967.

* جامعة السليمانية، أستحدثت سنة 1968، ثم نقلت الى اربيل سنة 1981 باسم (جامعة صلاح الدين /الحالية)، وفي سنة 1992 أعيد فتح جامعة السليمانية/ الحالية.

* الجامعة التكنولوجية، ببغداد/ حي الوحدة - شارع الصناعة، وتم أستحداثها سنة 1975، وتضم 13 (كلية/ قسما) هندسيا علميا، وأساسها ( المعهد الصناعي العالي) المؤسس 1960، والذي تحول الى (كلية الهندسة التكنلوجية) التي أرتبطت لعدة سنوات بكلية الهندسة/ جامعة بغداد.

جامعـة بغـداد:

أقدم جامعة حديثة في العراق (الجامعة الام)، ولم تبدء بالأدارة لافتتاح الكليات لاحقا، انما بدأت بضم كليات مضى على تشكيل بعضها أكثر من ثلاثون سنة، وشرع لأول مرة قانون تأسيس جامعة بغداد رقم 60 لسنة 1956، وتشكل مجلسها الاول 1957 برئاسة الدكتور متي يوسف عقراوي/ فلسفة (أول رئيس للجامعة)، وفي 1958 صدر قانون رقم 28 تنفيذا لقانون 60، وترأسها الدكتور عبد الجبار عبدالله الشيخ سام/ فيزياء 1958 (وحاليا؛ يتصدر تمثاله النصفي ساحة برج جامعة بغداد في الجادرية)، وفي 1963 ترأسها الدكتور عبد العزيز عبد الكريم الدوري/ تأريخ، وفي 1968 ترأسها الدكتور جاسم محمد خلف الركابي/ جغرافيا. وتنقلت رئاستها  بعدة أبنية تابعة لكلياتها ومعاهدها وفي بناية وزارة التعليم، وذلك في كل من؛ باب المعظم والاعظمية والطيران/البتاوين، ثم انتقلت الى بنايتها في الجادرية.

لقد تشكلت جامعة بغداد من؛ تسعة كليات سابقة التأسيس هي؛ الحقوق، التربية، الطب، الصيدلة، الهندسة، الأداب، العلوم، التجارة، الزراعة. كما الحقت بها المعاهد العالية الاتية؛ العلوم الادارية، اللغات، المساحة، الهندسة الصناعية، والتربية البدنية. وخلال السنوات العشرة اللاحقه لتأسيس جامعة بغداد  ضمت عدد من الكليات الأقـدم والمستحدثة وهي؛ الشريعة، طب الاسنان، التمريض، التربية الرياضية، أكاديمية/ كلية الفنون. وتبع ذلك ايضا أستحداث كليات عديدة منها؛ اللغات، العلوم السياسية، التربية للبنات. وتضم جامعة بغداد حاليا 24 كلية و4 معاهد و16 مركزا بحثيا و36 مجلة علمية، وتخرجت منها الدورة 66 لسنة 2023. ومن حيث التأسيس عدت جامعة بغداد الأولى عراقيا، والثانية عربيا بعد جامعة القاهرة/ 1816م، وفي سنة 2023 صنفت جامعة بغداد علميا بالمرتبة الاولى من بين 122 جامعة عراقية، والمرتبة 41 من بين 1365 جامعة عربية، والمرتبة 1571 من بين 12002 جامعة عالمية.

مجمع كليات باب المعظم

تشكلت جامعة بغداد من عدة كليات كانت تابعه لوزاراتها التي استحدثتها لأول مرة، وبالمقدمة وزارة المعارف/ مجلس التعليم العالي، وتركزت مؤسساتها منذ البدء بمركز منطقة باب المعظم لكونها المركز الحكومي الأول منذ العهد العثماني، وبالتالي تزايد الروابط فيما بين تلك المؤسسات خاصة الابنية والتجهيزات والعلاقات التعليمية والعلمية، ومنذ سنة 1943 بدء البحث عن الموقع المناسب لتشييد جامعة بغداد، وفي سنة 1955 شرعت وزارة المعارف بتشكيل لجنة تضم عدة أعضاء من وزارات ودوائر عدة برئاسة الدكتور عبد العزيز الدوري، لتشييد مباني للكليات خارج مبانيها القديمة/ المتفرقة بمركز منطقة باب المعظم، وذلك بسبب؛ التزيد السنوي لأعداد الطلبة، وتصاعد احتجاجاتهم ومظاهراتهم قرب المؤسسات الحكومية/ بباب المعظم في أعقاب الاضرابات الادارية المطلبية، والتظاهرات السياسية المتعاقبة منذ 1948، وخصوصا تلك التي جرت سنة 1952 بالساحة المقابلة لكلية الاداب والعلوم ( باب المعظم/ موضع مجسر مشاة تقاطع شارع الخلفاء/ الجمهورية)، وهكذا تم اختيار عدة مناطق ببغداد، وبوشرأولا بالانتقال الى محيط مركز منطقة باب المعظم.

يقع (مجمع كليات باب المعظم) في الركن الشمالي الشرقي لمدينة بغداد القديمة (المسورة)، مابين (منطقتي الفضل والشيخ عمر، وطريق محمد القاسم من الجهة الجنوبية الشرقية)، وبين ( شارع صفي الدين الحلي/ منطقة الوزيرية شمالا، وشارع ابي طالب غربا). لقد كانت عائدية أرض مجمع كليات باب المعظم تابعة للأوقاف، وهي بالاصل حقول زرعية للرز ومحاجر للطابوق وخندقا لتجمع المياه، وبعد 1917 شيد البريطانيون فيها كل من؛ سدة المدينة الترابية 1917- على طول حافتها الشمالية تفاديا لفيضان نهر دجله، وهي السدة الأقرب للمدينة من مسار سدة ناظم باشا 1911. كما شيدو؛ مقبرة لجنودهم، وحديقة عامة/ المعرض، ومعسكرا للخيالة، وخطا متريا لسكة حديد. مع بناء المسقفات والمخازن والدور السكنية للعاملين بمحطة قطار باب المعظم (محطة قطار شمال بغداد/ خانقين - كركوك - أربيل)، والمرتبطة بمحطة قطار باب الشيخ (محطة قطار شرق بغداد/ بمنطقة النهضة - مقابل مستشفى الكندي).

لقد حضي مجمع كليات باب المعظم لأهميته المكانية بالأهتمام الجامعي المبكر، فقد تم تشييد البناية الأولى (دارالمعلمين العالية 1952/ لاحقا كلية التربية 1958) قبل صدور قانون جامعة بغداد 1956، ثم (( بناية كلية التجارة 1960 - التي ضمت البناية الأقـدم منها/ ثانوية الصناعة والمشيدة 1953 - وحاليا هي بناية كلية الأداب))، ثم تبع ذلك تشييد بنايات الكليات السابق ذكرها، كما شيدت بنايات علمية وخدمية ذات أهمية علمية وجامعية وهي؛ المكتبة المركزية 1959/ يسار مسار شارع صفي الدين الحلي/ مقابل منطقة الوزيرية. وشيد مجمع الوحدة السكني/ دار الطلاب 1960، يسار مدخل شارعي (الكفاح/غازي، والشيخ عمر) من جهة باب المعظم. وأعيد مقابل كلية اللغات تشييد البناية الجديدة لمركز بحوث التأريخ الطبيعي (متحف التأريخ الطبيعي) سنة 1973. وتم كذلك بناء مجمع التعاون لأسكان الطالبات/ وسط المجمع في يسار مبنى كلية اللغات سنة 1975.

يضم المجمع حاليا عدة كليات تم تجديد أبنيتها مرارا مع توسيع ملحقاتها على مدى أكثر من نصف قرن وهي؛ الاداب، التربية/ابن رشد، الصيدلة، العلوم الاسلامية/الشريعة، اللغات، التمريض، والكلية التقنية، ومعهدي الادارة والرياضة. إضافة الى (ملحق الجامعة المستنصرية/ كلية الهندسة). كما تنتشر أبنية كليات المجمع بأتجاه نهر دجلة (المجموعة الطبية/ كليات الطب وطب الاسنان)، وتتبع المجمع أيضا كليات اخرى؛ الفنون الجميلة/ في الوزيرية. والادارة والاقتصاد، والقانون، والتربية/ أبن الهيثم في الاعظمية.3931 جامعة الموصل

مجمع الجادرية

في سنة 1955 تم أختيار الجادرية أرضا (بمساحة 1300 دونم = 325 هكتار) لأبنية جامعة بغداد وفقا لأحدث التصاميم الهندسية للجامعات العالمية أنذاك؛ وتم الاختيار على اساس بعدها عن المركز، وفرادت موقعها وموضعها، وسعة مساحتها للتوسع المستقبلي. وتقع أرضها جنوبي شرقي مدينة بغداد الكبرى، يسار مجرى نهر دجلة الذي كون تعرجه تلك الارض الأقرب لشبه جزيرة، وفي 1957 أنجز تصميم برجها، وبوشر بالبناء 1963، وأكتمل تشييد برج الجامعة ( 19 طابقا بارتفاع 80م ) سنة 1967، وتم لاحقا توسيع أبنيتها الاخرى سنة 1982، وقد أنتقلت الادارة/ رئاسة الجامعة (ببرج مجمع الجادرية) ابتداء من سنة 1975، ثم تبعتها كليات العلوم، الهندسة والرياضة سنة 1983، ولاحقا كليات البنات، الاعلام، الزراعة، السياسية، والطب البيطري.

تطورالمستوى العلمي للتعليم العالي:

في سنة 1958 أستحدثت وزارة التربية والتعليم بدلا من (وزارة المعارف/1921)، وتتبعها كل مؤسسات التعليم، وفي 1970 تشكلت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المسؤولة عن الجامعات والكليات والمعاهد والمراكز البحثية مما زاد من تنظيمها اداريا وعلميا، والتي كانت لسنوات تدار من قبل وزارة المعارف ثم وزارة التربية والتعليم.

لقد أنطلقت من جامعة بغداد الملاكات التدريسية والفنية والإدارية المدربة تدريباً عال المستوى لصالح المؤسسات الحكومية. ولتنتشر ايضا في الجامعات العراقية التي تم تأسيسها في مدينة بغداد وخارجها، إعتماد على امكانات جامعة بغداد من حيث إعداد التدريسيين والكوادر الادارية والفنية وخبرات التشييد والتطوير والأداء العلمي ومنها؛ جامعات المستنصرية، البصرة، الموصل، السليمانية. ومجموعة جامعات 1987 وهي؛ الكوفة، القادسية، تكريت، الانبار. وجامعة المتميزين/ النهرين حاليا ببغداد/ الجادرية. كما أسست الجامعة العراقية ببغداد/ الاعظمية 1989. وتبع ذلك تدريجيا تأسيسس العشرات من الجامعات المستحدثة ومنها على التوالي؛ ديالى، سامراء، كركوك، ودهوك. وعبر السنوات الخمس والعشرين اللاحقة لتأسيس جامعة بغداد أمست جامعات البصرة، الموصل، المستنصرية؛ ذوات مكانة وشهرة علمية رصينة محليا وخارجيا، وتضاهي قي ذلك المكانة المرموقة لجامعة بغداد من حيث الإداء والكفاءة.

في أعقاب التدني التدريجي لنسبة الأمية في العراق، وتنامي مستويات التعليم بكل مراحلة، تسببت الأحداث المتكررة؛ بالتراجع التدريجي لتلك المستويات وبضمنها التعليم العالي، مما أدى الى تزايد هجرة الكفاءات التي لها دورا علميا كبيرا، كما ان التسرع بأستحداث الأعداد الكبيرة والمتزايدة للجامعات الحكومية والخاصة، والتوسع العام، قد أربك توجهات التعليم العالي نتيجة؛ الضغط المتزايد على الأمكانات المتاحة العلمية منها والأدارية وكذلك البنى الأرتكازية.[3]

هكـذا بـدا مشهد التعليم في العراق عبر أكثر من مئة سنة، مشرق النشأة التي تصاعد تألقها الذهبي تربويا - تعليما وعلميا في عقد الخمسينات وعقد السبعينات من القرن العشرين. ولازال التعليم ينحو جاهدا رغم الأحداث القاسية للإتجاة المستقيم، وذلك بالجهد المتراكم عبر السنيين للعقول النيره لكل من الساده؛ المشايخ، الائمة، الخطباء. والمعلمين، المدرسين. والتدريسيين، الأساتذه. والعلماء، والمفكرين المبدعين ... وجميعهم يستحقون الإحترام.

***

مجيد ملوك السامرائي

 جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي - ويكيبيديا.

.........................

المراجــع:

1. مجيد ملوك السامرائي، سامراء رؤية جغرافية للتأريخ، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان،2022. صص 154-156. منشور على موقع – نيل وفرات،  https://www.neelwafurat.com https  .

2. ابراهيم العلاف، تطور التعليم الوطني في العراق، 1982.

3. علاء خميس الحميري، تطور التعليم في العراق،2019.

4. عقيل عبد ياسين حسين، مشاكل التعليم العالي في العراق،2023.

 

تمر هذه الأيام ذكرى وفاة أبو عمار، وحتى يفهم المرء إرث عرفات  لا بد  له من متابعة نشأة هذا الإرث تاريخيا، التحرير، والمبادئ التي حكمت نشأته وتقلبت متأثرة بالمتغيرات التي ألمت بواقع الحال السياسي – فلسطينيا وعربيا وعالميا.

كان ياسر عرفات الرجل الذي أسس "حركة فتح" قد ولد بمصر وتحدث بلسانها لكنه لم يكن مصريا... كذلك كانت رئاسته وسلطته إلى سلطة أو دولة.. فتح عيونه على قضية وأغمضها عليها... اتهم اثيرين بخيانته واتهموه بالخيانة.. إنه أبو عمار الختيار أو ياسر عرفات وهو في الأصل يسمى محمد عبد الرحمن بن عبد الرؤوف بن عرفات القدوة الحسيني، ومحمد عبد الرحمن هو اسمه المركب، والحسيني قبيلة غزاوية غير تلك المقدسية الشهيرة، في حين أن والدته من كانت تنتسب ولعائلة حسيني المقدسية ذائعة الصيت والتي ينحدر منها أمين الحسيني مفتي القدس وزعيم النضال الفلسطيني أيام الاستعمار البريطاني.

استقرت أسرة عرفات في العشرينيات من القرن الماضي في القاهرة وتحديدا في حي السكاكيني، حيث كان الأب عبد الرؤوف يعمل بتجارة الأقمشة، وزوجته ربة منزل، ولهم سبعة أبناء السادس فيهم كان محمد عبد الرحمن الذي سيعرف لاحقا بياسر، وقد ولد ياسر 1929 وبدأ طفولته فيها ومنها اكتسب لكنته المصرية التي رافقته طويلا، وبعد أربع سنوات من ولادته توفيت أمه لينتقل للعيش في القدس عند أحد أقربائه في حي المغاربة.

هناك فتح عرفات الولد عيونه على الثورة الفلسطينية الأولى عام 1936 ثم ما لبث والده أن تزوج بامرأة أخرى، وايتدعى ابنه من القدس للقاهرة مرة أخرى ليتربى ياسر مع زوجة أبيه، الأمر الذي سيدفعه لكره والده والتمرد عليه، حتى أنه لم يحضر جنازته عام 1952، ولم يزر قبره في غزة ولا مرة واحدة، ولطالما كان عرفات كثير التردد على الأحياء اليهودية، دون أن يعلم أحد لماذا!، ما أغضب والده منه كثيرا، وفي الأحياء اليهودية تعرف عرفات بموشي ديان الذي سيصبح لاحقا قائد جيش إسرائيل ووزير الحرب فيها، كما كان عرفات الشاب كثير التردد أيضا على جلسات أمين الحسيني الذي كان الإنجليز قد نفوه إلى القاهرة لترسم طفولة عرفات في القدس وحياته في القاهرة ملامح تكوين شخصيته  فيما بعد ليأتي العام 1948 وتندلع أولى الحروب العربية – الإسرائيلية ليشارك فيها عرفات كجندي مصري ثم فدائي فلسطيني في غزة، لكن نهاية الحرب ستكون سريعة ليعود بعد عام للقاهرة ويكما فيها دراسة الهندسة المدنية وينخرط في العمل السياسي الطلابي فانتخب كرئيس لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة في النصف الأول من الخمسينيات، وخلالها جرت أحداث انقلاب الضباط الأحرار على الملكية في مصر ليتبنى الجيش المصري عقيدة القومية العربية وتحرير الأراضي العربية وتوحيدها لتندلع ثاني الحروب العربية – الإسرائيلية سنة 1956.

وتم استدعاء عرفات للمشاركة فيها لكن مصادر تؤكد أنه قاتل في أرض المعركة ولاحقا تدخل أممي لحل النزاع حل عبد الناصر قوات الوافدين العرب والذي كان عرفات احدهم ليبدأ في التفكير بالهجرة وتقدم بين عامي 1956-1957 بعدة طلبات للحصول على تأشيرة، وكان من هذه الدول كندا والسعودية والكويت، لكن لم يقبل إلا طلبه السفر للكويت، وهناك عمل في الهندسة بداية والتقى بأصدقاء قدامي كصلاح خلف (أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد) وفاروق القدومي وخالد حسن، وليبدأوا التفكير معا بفعل شيء لخدمة قضية بلادهم التي كانت قد احتلتها إسرائيل لتشهد الفترة من عام 1958 -1960 ولادة حركة جديدة على ساحة النضال الفلسطيني والتي ستعرف باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني وتعرف اختصارا باسم " فتح" ويرأسها محمد عبد الرحمن عرفات الذي كان اتخذ من اسم ياسر اسما له واختار اسم أبو عمار اسما حركيا وذلك تيمنا باسم آل ياسر والذي وعدهم الرسول الكريم بقوله " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".

وفي تلك الفترة ارتدى عرفات الكوفية الفلسطينية التي ترتبط هي الخرى بالنضال والكفاح الفلسطيني وتصبح رمزا للقضية برمتها، وفي البداية اعتمدت الحركة على الاقتطاعات من مرتبات الأعضاء والمتعاطفين من الفلسطينيين أنفسهم، ذلك أن عرفات لم يكن يرغب بالحصول على دعم دول بعينها كي لا تكون حركته مرهونة بسياستها، لكن هذا في البدايات فقط، ولكن لاحقا بدأ بالتعرف على رجال الأعمال الفلسطينيين الموزعين عبر العالم وفي الخليج وفي الدول العربية.

وفي قطر عام 1961 تعرف بمحمود عباس الذي  سيصبح جزءا من الحركة والتي سيصبح لها حضورا على الساحة الفلسطينية والعربية سريعا ليأتي بعد ذلك بأعوام وتحديدا العام 1964 تأسيس منظمة تنضوي تحتها الحركات الفلسطينية والتي تعد " فتح" جزءا منها وستعرف باسم " منظمة التحرير الفلسطينية" PLO والتي سيعلن عن قيامها في مؤتمر القاهرة وتنال اعتراف الدول العربية وتتخذ من القدس مقرا لها ويعين أحمد الشقيري رئيسا لها.

وعقب تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بثلاثة أعوام اندلعت حربا عربية – إسرائيلية جديدة ستعرف لاحقا باسم " النكسة" أو حرب حزيران، وعلى إثرها تنتصر إسرائيل على الدول العربية وستتوسع دائرتها بعد احتلال مناطق جديدة أهمها القدس والضفة وغزة وسيناء والجولان، وستتعرض لمصر لهزيمة كبيرة ليستغل عرفات الهزيمة في إعادة زمام القضية للفلسطينيين بعد أن كانت ملفا مصريا وعربيا، ثم يأتي العام 1968 وتندلع معركة على الحدود بين الأردن وإسرائيل وتعرف بمعركة الكرامة وينتصر فيها الفلسطينيون تحت قيادة عرفات رفقة الجيش الأردني زمن الملك حسين على الجيش الإسرائيلي ليسطع نجم أبو عمار أكثر ويصبح بعدها بعام رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تعد الممثل الشرعي الوحيد لفلسطين.

وبعد معركة الكرامة بات المنظمة أكثر قوة ورأت أنها باتت قادرة على تحقيق انتصارات أكثر، حتى أن وجودها في الأردن  أخذ دفعة معنوية كبيرة وبات تنافس الجيش الأردني وسعت لإنشاء دولة داخل الدولة ورأت في الأردن قاعدة تنطلق منها لتحرير أرض فلسطين دون أي اعتبار لسيادة الأردن وسلطة الملك حسين، الأمر الذي سيستفز الأردنيين وقيادتهم سيما بعد تصرفات أُعتبرت مسيئة لعلاقات الأردن الدولية قامت بها بعض الحركات الفلسطينية على الأراضي الأردنية كخطف الطائرات وتفجيرها، مما دفع الجيش الأردني للتحرك لتبدأ مرحلة جديدة في حياة منظمة التحرير وفصائلها تحت قيادة عرفات وليبدأ فيما سيعرف لاحقا " أيلول الأسود" حيث اندلعت عام 1970 مواجهات بين الجيش الأردني وفصائل المنظمة أسفرت عن مقتل العديد في كلا الطرفين وأحدثت انقساما عربيا كاد يتوسع لحربا بين الدول العربية لولا تدخل عبد الناصر في أيامه الأخيرة لينتهى العام 1970 بخروج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان.

وفي لبنان بدأت مرحلة جديدة قادها عرفات تمثلت بالعمل المسلح وطرح الحلول السياسية على الطاولة والسعي لنيل الاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية، فسرعان ما طرح عرفات فكرة إقامة دولة فلسطينية على ما يحُرر من أراضي فلسطين وقبل ضمنيا بفكرة " حل الدولتين"، ما سمح له عام 1974 بالذهاب إلى الأمم المتحدة وإلقاء خطابه الشهير هناك، كأول رئيس لمنظمة غير رسمية يسمح له بإلقاء كلمة للعالم.

إن موقف عرفات السياسي دفع فصائل فلسطينية لتأسيس ما يعرف بجبهة الرفض والخروج من المنظمة، لكن عرفات حاول الموازنة من خلال إبقاء خيار السلاح وبنفس الوقت عدم قطع الطريق على السياسة، لكن سرعان ما ستندلع حرب أهلية في لبنان سيجد عرفان نفسه طرفا فيها وستؤدي لاجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 وستنتهي أيضا بخروج الفلسطينيين من لبنان، لكن هذه المرة إلى " تونس. وتحت إشراف دولي لتصبح المقاومة الفلسطينية أبعد خطوات كثيرة عن الأراضي الفلسطينية.

فبعد طردسها من سوريا والأردن ولبنان والتي تعرف بدول الطوق حطت رحالها في تونس، وهناك باتت الحلول السياسية أكثر واقعية من تلك العسكرية وهو أمر لم ينتبه له أبو عمار سابقا فيما اعتبر سنوات الفرص الضائعة حيث ظلت الضفة والقدس وغزة سنوات طويلة تحت حكم العرب ولكن مطالب المنظمة كانت كامل فلسطين دون وضع استراتيجية واضحة لهذا المطلب، كما أن اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 اشترطت على إسرائيل إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، لكن المنظمة رفضتها.

ثم ليعلن من الجزائر سنة 1988 قيام دولة فلسطين مستغلا قيام الانتفاضة الفلسطينية التي فتحت أنظار العالم على القضية الفلسطينية أكثر لتبدأ مرحلة جديدة من حياة أبو عمار ليلقي بعدها السلاح ليرفع غصن الزيتون في مواجهة الاحتلال.

جاء عقد التسعينات وأقر عرفات رفقة المجلس الوطني الفلسطيني المنبثق عن منظمة التحرير مبادرة السلام الفلسطينية والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل فكان الأمر مفاجئة لكل الأطراف وحتى الفلسطينيون أنفسهم باستثناء أن الإسرائيليين اعتقدوا أنها مناورة من عرفات، لكن تلقف الإدارة الأمريكية للمبادرة الفلسطينية جعل إسرائيل ترضخ وتجلس على طاولات المفاوضات وبعد سلسلة من المفاوضات السرية تم الإعلان عام 1993 عن اتفاقيات أوسلو للسلام والتي قبلها بعام كان عرفات تعرض لحادث سقوط طائرته ومقتل ثلاثة من مرافقيه فيما تأثر هو بإصابته ستجعله يرجف تلقائيا عند الكلام، وكذلك قبل ذلك بعامين استفز عرفات دول الخليج ودولا عربية أخرى بعد تأييده لغزو صدام حسين للكويت.

أحداث سرعت من بحث الرجل عن مخرج تمثل في اتفاقية أسلوا للسلام والتي جعلت العالم يعترف به رئيسا للسلطة الفلسطينية وكممثل شرعي ووحيدا لها، لكنها بالمقابل خلقت له معارضين ومنشقين من داخل البيت الفلسطيني وخرجت له حركة حماس كمنافس قوي حيث رأى البعض في الاتفاقية اعترافا بإسرائيل بلا مقابل ؛ في حين رأى أنصارها حلا مؤقتا للوصول للحل النهائي الذي لم يأتي حتى الآن ورغم كل ذلك تمت الأمور وعاد عرفات ومنظمته للأراضي الفلسطينية عام 1994 وبدأ عهد جديد في حياة عرفات الذي أنفق من عمره 30 سنة سابقة حاملا فيها السلاح ضد من باتوا الآن جيرانها الذين اتسمت علاقته بهم بطابع من الشد والجذب، فتارة تتهمه إسرائيل بالتحريض على العنف، وتارة ينسق عرفات معهم أمنيا حتى أن سلطته اتُهمت بأنها باتت الشرطي الإسرائيلي على الفلسطينيين ونال على ذلك عرفات جائزة نوبل للسلام رفقة قادة إسرائيل.

لكن السلام لم يدوم طويلا أو هكذا بدأ وتحديدا مع اندلاع الانتفاضة الثانية التي بدأت مع مطلع الألفية الجديدة واتهمت إسرائيل عرفات بالوقوف وراءها والتحريض  عليها والتي كانت سببا مباشرا بحصار إسرائيل لعام 2002  لعرفات ومرافقيه في مقر إقامته في رامله ما صاحب ذلك من اقتحام وتدمير لمقراته وقتل وإصابة مرافقيه، وكانت رسالة إسرائيل واضحة من هذا التصرف أن لا سلطة تعلو فوق سلطة الاحتلال لتبدأ صحة الرجل الذي بات يلقب بالختيار، حتى جاء عام 2004 حتى غادر عرفات وطنه لباريس وعاد إلى وطنه جثة حملها حملها الفلسطينيون على الأعناق ليودعوه في مثواه الأخير.

وهكذا كان رحيل ياسر عرفات استثنائياً، مثلما كانت حياته تماماً. فقد شيعته ثلاث قارات معاً: أوروبا وأفريقيا وآسيا. ونعاه معظم قادة العالم امثال فيدل كاسترو وجاك شيراك وطوني بلير والبابا يوحنا بولس الثاني وفلاديمير بوتين، وأقيمت له جنائز رمزية في جميع مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية والأردن وغزة، وسارت مسيرات حزينة تكريماً لاسمه في باريس وروما وواشنطن وغيرها. وفي باريس حمل نعشه جنود فرنسيون. وعزفت موسيقى الجيش الفرنسي نشيد المارسلياز ثم النشيد الوطني الفلسطيني: فدائي، فدائي يا أرضي يا أرض الجدود.. فدائي، فدائي يا شعبي يا شعب الخلود.. فلسطين داري، فلسطين ناري.. فلسطين ثاري وأرض الجدود.. الموت والطائرة المشطورة.... رحم الله أبو عمار.. جيفارا العرب.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع:

1- قناة استيب: ياسر عرفات من المهد إلى اللحد - وثائقي الختيار.. يوتيوب.

2- محمود عباس: طريق أوسلو، بيروت شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994.

3- الموسوعة الفلسطينية، دمشق هيئة الموسوعة الفلسطينية، ج1، م2.

منذ مغادرته العراق قبل عشرين عاماً، لم ينقطع الكاتب والصحفي والاذاعي عبد اللطيف السعدون عن التواصل مع أصدقائه في الوطن الذي فارقه على الكراهةِ من غير عودة، وليس بين الحِين والحينِ كما كان الجواهري يفارق أم البساتينِ. وقبل أيام قلائل أعلم السعدون هؤلاء الأصدقاء بأنه ترك المستشفى في كاراكاس حيث مغتربه الفنزويلي، بعد عمليتين جراحيتين فرضهما عليه المرض الخبيث، وخاطبهم بالقول: أستميحكم عذراً في أنني قد لا أستطيع الرد على رسائلكم أو متابعة ما تنشرونه، لكنني سأحرص بقدر استطاعتي على التواصل معكم.

ينتمي السعدون الذي تجاوز الثانية والثمانين عاماً إلى جيل أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات الصحفي، وقد ملأ فضاء الصحافة والاعلام بمواهبه ووظائفه التي تعدت العمل في الصحف والإذاعة والتلفزيون إلى العمل الاكاديمي مدرساً لمادتي التحرير الصحفي والتخطيط الإعلامي في كلية الاعلام بجامعة بغداد، فضلاً عن عمله الدبلوماسي مستشاراً اعلامياً للسفارات العراقية في الخرطوم  وبودابست وروما والرياض، وبسبب ذلك كانت حياته "هجرات متقطعة" كما يصفها، قبل أن ترغمه ظروف ما بعد 2003 على الهجرة النهائية التي كان يظنها واحدة من هجراته المتقطعة لكنها امتدت إلى عقدين حتى يومنا هذا، وكان من اقسى ما واجهه في السنوات العشر الأخيرة معاناته في تجديد جواز سفره العراقي وجوازات عائلته ليتمكنوا من السفر والعودة إلى الوطن، مما اضطره منذ العام 2019 لأن يكتب لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء، وسانده في ذلك سياسيون وناشطون وكتاب وصحفيون ممن يعرفون قدره حق المعرفة.

لم تكن سنوات كاراكاس للخمول والكسل، بل لمزيد من العمل، فقد واصل عبد اللطيف السعدون عمله الصحفي، واستمر في كتابة المقالات والاعمدة الصحفية في عدد من  الصحف والمواقع الإخبارية الدولية، ومنها تحديداً موقع " العربي الجديد" الذي انطلق من لندن مع صحيفة ورقية يومية. لكن العمل الأكثر ارهاقاً كان عكوفه على أعمال الترجمة التي مارسها منذ أن هجر العمل الدبلوماسي وأنجز فيها عدداً من الترجمات لدراسات ومقالات ورحلات مهمة، منها كتاب "عرب الأهوار" الذي نشرته كاملاً جريدة الاتحاد الإماراتية وهو للكاتب البريطاني وولفريد ثيسجر، وكتاب " الليالي العربية " الذي صدر في عَمان، ويتضمن مذكرات سيدتين أمريكيتين في العراق وقبيلة شمر، هما روث وهيلين هوفمان وقد زارتا العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، وعاشتا في بغداد ردحاً من الزمن، ثم حلتا في ضيافة شيخ عشائر شمر في الشمال.

في مذكرات السيدتين الأمريكيتين، المثير والطريف والسعيد في حياة البغداديين ولياليهم قبل تسعين عاماً، وعن الحياة في الخيام وسط القبائل العربية. ولا شيء من السعادة في ليالي السعدون الفنزويلية وهو مريض في غربته، وبعيد عن بغداد.

***

د. طه جزاع – كاتب وأستاذ أكاديمي

علمتنا الحياة بأنه لا تعيش أي أمة بلا عدل، فإن غاب اضطربت الأحوال، وهامَ الناس على وجوههم حائرين مغبونين قانطين حانقين، ينظرون إلى الحياة من زاوية ضيقة حرجة لا تلبث أن تسْوَدَّ فى عيونهم، فيكسو الظلام كل شىء.

ولهذا فقد اهتم ديننا الحنيف كثيراً بكل عناصر العدالة، وشملت منظومته كل ما من شأنه أن يحقق العدل على أرض الواقع، حيث لا ينبغي أن ينصب الاهتمام على التشريعات والقوانين وترك من يطبقونها من دون إعداد وتأهيل، أو تركهم يطبقونها بأسلوب عشوائي خال من الانضباط والنظام.

ولهذا ربما لا أكون مبالغا إن قلت بأنني لست من أنصار وأتباع من يكابرون ويتبرمون على الجهر بالحقيقة وفي وقتها القانوني دون أن تطالهم صافرة اللوم والنقد والعتاب مهما يكن من أمر أو تشتد بهم العواصف العاتية والرياح الهوجاء التي قد تجرفهم في تيارها الواسع البعيد في نقطة اللاعودة، ولأن أستاذ القانون العام كما اعتقد هو ذلك الكيان المسكون والمخلوط بروح العطاء الخارق، فهو يمثل الرسالة البيضاء المليئة والمتدفقة في كل الجامعات والمحافل الفلسفية أينما كان وحيثما وجد فلولا هذا الأستاذ ما أطلت علينا نسائم وبشائر التفوق في عالم القانون، وما شعرنا بقيمة الرجال العظماء والمفكرين الأفذاذ، وما تلذذنا بطعم الكلمات والتعليقات الساخرة واللاذعة التي تقطر بها أقلامهم وتلهج بها ألسنتهم وتخطها أناملهم في كبريات المؤتمرات غير عابئين أو مكترثين بما يعترضهم من مصاعب ومشاق.

والدكتور دويب حسين صابر – أستاذ القانون العام وعميد كلية الحقوق الحالي، بجامعة أسيوط، يعد واحداً من الأساتذة المصريين الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في القانون العام من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارما إلي أبعد حد: فالنص التشريعي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه في مجال القانون العام.

ونظرة عامة في سيرته الذاتية فقد كان الدكتور "دويب "، حيث  تم تكليفه قبل صدور قرار تعيينه عميدا لكلية الحقوق بقرار رئيس الجمهورية- الرئيس عبد الفتاح السيسي،  خلال الأشهر السابقة بالقيام بأعمال عميد كلية الحقوق، ووكيل كلية الحقوق للدراسات العليا والبحوث؛ وكان قبل ذلك شغل الدكتور دويب منصب رئيس قسم القانون العام، كما شغل منصب المشرف على قسم القانون العام، والمشرف على قسم المالية العامة، والمشرف على قسم تاريخ القانون، كما تم تكليفه بالقيام بأعمال عميد لكلية الحقوق بجامعة جنوب الوادي، ومستشار قانوني (خبير قانوني) بمجلس الشوري بسلطنة عمان.

ومن هنا أقول بعد هذا السرد : لقد جمع الدكتور " دويب " في شخصه الكريم، نزعة دينية أخلاقية نابعة من خلال تبنيه الاتجاه العقلي في تمحيص القوانين العامة المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة، وسلوكه الإسلامي الذي ألتزم به في الحياة العامة، وكان تجسيد لنظريات القانون العام بجانبيه النظري والعلمي، وعند المتخصصين في القانون العام هناك علاقة قوية بين الجانبين، فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي، محتذياً بأساتذته الأجلاء .

وهو بالإضافة إلي ذلك بأنه يعد الدكتور "دويب "نموذج عملاق للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الاكاديمية والوظيفة علي أحسن ما يكون الأداء أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي.

والدكتور "دويب " يمثل في نظري ظاهرة تستوجب الاحترام وتستحق التقدير فدراساته المتنوعة حول القانون العام تجمع بذكاء بين روح القانون وواقع الحياة السياسية دون مغالاة أو شطط، فقد علمته الحياة دروسًا تراكمت في وجدانه، مثلما تراكم العلم في عقله؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه يتمتع بذكاء خارق ومقدرة ظاهرة وكامنة أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل، وكان حيوياً ونشيطاً في عمله.

وفي كل ذلك فإن الدكتور "دويب" يمثل شخصية إصلاحية بامتياز، معتدلة من غير ذي عوج، منفتحة بلا ذرة انغلاق أو تعصب، متسامحة بكل ما يعنيه التسامح من تعايش وقبول للآخر، خاصة بعد أن أستطاع، الجمع بين ثوابت الإسلام ومتغيراته، وبين عطاء الحضارة الإسلامية العربية والحضارة الغربية، وبين الواجب الشرعي والواقع العملي جمعًا صحيحًا.

هذا بالإضافة إلي كونه بحاثة من طراز متفرد، يصغى إلى نوره الداخلي، يحمل في خلاياه هموم كل البشر والمخلوقات، خاصة البسطاء؛ أوجاعهم في أضعف لحظات العجز، وأحمالهم الثقيلة، وأحلامهم المتكسرة، في وقت ربما لا يجيد العديد منا سوى الشكوى من أبسط عثراته الشخصية.

فتحيةً أخري للدكتور "دويب" ذلك الرجلٍ الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل تاريخ القانون العام من بوابة واسعة متفرداً.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

السابع من نوفمبر.. شتاء مبكر يغزو خريف العاصمة الجزائر بغيوم داكنة.. اللهجة أردت ألا تكون عائقاً لدى حديثى معهم.. هؤلاء النخبة من أدباء وشعراء وروائيي الجزائر.. تعمدت التحدث بالفصحى التى أرانى بها تلقائياً أكثر من العامية.. بادرنى حميد عبد القادر بضحكة رنانة: كلنا نفهم العامية المصرية ونحبها.. لكننى كنت مستمتعاً بالفصحى، كأنى انتهزت الفرصة لأكون على سجيتي.. أحب لهذه الواشجة بيننا كعرب تظل موصولة بلغتنا العربية الفصيحة السهلة كما كان يردد عميدنا طه حسين: اللغة العربية يسر لا عسر..

هذا ما لمسته فى إصرار الشاعر عز الدين ميهوب وزير الثقافة الجزائرى، والسيد حميدو مسعودى محافظ صالون الجزائر الدولى للكتاب (السابقين) بحرصهما على التفوه بالعربية السلسة المفهومة لدى الكافة، رغم إجادتهما للفرنسية كأغلب الجزائريين.. هناك حب عميق للغة العربية فى الجزائر، ولابد أنه فى مناهجهم، أو قل فى دمائهم !

"امبراطورية ميم".. الفيلم الشهير لفاتن حمامة هو أول وأشد ما أدهشنى فى المعرض.. عندما وجدت لافتة جذابة بطرافتها لصاحبة دار النشر الجزائرية المولد، مصرية الهوى، السيدة آسيا على موسي.. ألفيتها تقلد نفس قصة الشعر التى أدرات بها الفنانة فاتن حمامة فيلمها القديم.. كان منتشراً حينها!

هنا أدركت كم أن الفن المصرى آنذاك كان عميق التأثير بعيد المرامى شديد الفاعلية لدرجة أنه يجعل المثقفين المصريين فى الخارج لهم ذات الثقل والعمق، لمجرد أن قوانا الناعمة المتمثلة فى مشاهير الفن والأدب والرياضة والصحافة لها اليد الطولى فى سائر المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج..

 ذات مساء.. من الإثنى عشرة ليلة التى قضيناها ضيوفاً على صالون الجزائر الدولى للكتاب فى طبعته الحادية والعشرين.. التففنا تسعة على مائدة عشاء مستطيلة عامرة بالمقبلات والأسماك وزجاجات الماء البارد الفاخرة.. كنا نتكلم ونضحك أكثر مما نأكل.. العبد لله وزملائى أحمد عبد القوى"صدى البلد"، وياسر الغبيري"البوابة نيوز"ومعنا الروائي حميد عبد القادر والناقد الدكتور محمد عبد الكريم والإعلامي جمال شعلال، وثلاثة آخرون..

 فى صباح اليوم السابق استمتعنا بالمرور السريع للموسيقار الراحل أحمد الحجار والشاعر المصري ناصر دويدار وهما يداعبان عواطف السامعين ويعيدان للذاكرة المحشوة أطياف الغناء الأصيل.. تلك السويعات البسيطة أنقذت الموقف ومنحت قبلة الحياة للبرنامج الثقافى المصري الهزيل بالمقارنة لكونها ضيف شرف الصالون! أعادت لنا النغمات ثقتنا فى قدرتنا على عبور أزمة الخريف الاقتصادية، وأعاد لنا الشعر الرصين ثقتنا وتفاؤلنا فى غد أفضل.. فربما كانت أغنية أقوى أثراً من ألف خبر يقين!

 لا أدرى متى ولا كيف ولا لماذا تسرب إلى قلبي القلق وأنا أدفعه بتناول المقبلات والمضغ، وظللت ألوك الكلمات وأمضغ الحديث محاولاً إخفاء قلقى تحت جلدى، وأنا محاط بهذه الكوكبة من كبار الأدباء.. وامتد بى الحوار مع الإعلامى والروائى الجزائرى حميد عبد القادر الذى يجيد الكتابة باللغتين العربية والفرنسية وصدرت له عدة مؤلفات فى الرواية والتاريخ والأدب، ومع الكاتب الصحفى أنيس بن هدوقة ابن الروائى الجزائرى الأشهر "عبد الحميد بن هدوقة".

أسهبت فى الحديث عن روايات الطاهر وطّار و"مولود فرعون" المعروفة بين أوساط المثقفين والقراء فى مصر منذ سبعينيات القرن العشرين.. وكان حديثي ينساب بلغة عربية رصينة عملت على ضبط مخارج حروفها بوضوح وجلاء تام.. ثم قيل لى: إن الحاضرين يحبون اللهجة المصرية ويفهمونها.. فتجاهلت النصيحة وزاد إصرارى على التمتع بالفصحى طوال الأمسية التى امتدت طويلا..

 حميد عبد القادر تبسط فقص علينا طرفة فريدة حدثت معه لدى لقاء الطاهر وطّار مع كاتب فرنسي آخر، فقال: انتهزت الفرصة وبدأت حماستى فى الحديث تتحول إلى جرأة جعلتنى أصف الطاهر بأنه كاتب يسارى، ولم أقصد شراً.. فما كان من وطار إلا أن مال علي، وهمس في أذني: أنه ما كان ينبغي وسمه بهذه الصفة شديدة الخطورة آنذاك، فقد كانت الطعنات والهجمات الإرهابية الغادرة خلال سنوات العشرية السوداء، لم تزل تفتك بالجزائريين بفعل إرهاب الجماعات المتأسلمة.

لابد أن أى مثقف عربي فى الجزائر سوف تراوده تساؤلات الهوية.. تلك البلد التى تعرضت لواحدة من أبشع المذابح وأشد أنواع الاستعمار فتكاً ودموية على مدار 130 عاماً لدرجة أن يحتفظ الفرنسيون بجماجم ضحاياهم من أبطال الجزائر فى متاحفهم المصبوغة بدماء الشهداء.. حتى أنك تتذكر بألم قصيدة الشاعر الفلسطينى محمود درويش هاتفاً ضد المستعمر الإسرائيلي، بل ضد كل مستعمر أجنبى لأرض عربية:

 سجل..

أنا عربي.. أنا اسم بلا لقب

صبور فى بلاد كل ما فيها.. يعيش بفورة الغضب

جذورى..

قبل ميلاد السنين رست.. وقبل تفتح الحقب

الإعلامى جمال شعلال.. تسمى على اسم الزعيم جمال عبد الناصر.. كان نوعاً من الناس الذين يحفرون فى الذاكرة لهم مكاناً أبدياً.. له لسان طلق بليغ العبارة قوى الحجة وعقل راجح يزن الأمور ويحسن وضعها فى نصابها.. هناك سمة تميز لغة أبناء الطبقة الجزائرية المثقفة ذات الرؤية النافذة والبصيرة المدركة لطبيعة وخطورة ما تتعرض له بلداننا العربية من حروب بالوكالة.. ومن فتن ومؤامرات تتربص بالكافة لتضرب هؤلاء بأولئك وتتسبب فى انقسامات مجتمعية تتضخم لتلد أزمات مستمرة وتمزقات تصيب نسيج الأمة، ثم هناك سوء إدارة لمواردنا الطبيعية وثرواتنا البشرية.. والجزائر بلد غنى بثرواته وبموارده الطبيعية والبشرية، لكنه ككل البلدان العربية غارقة حتى أذنيها فيما سماها الأستاذ هيكل:"العقد النفسية للشرق الأوسط"!

الرائع فى الأمر أنك تجد فى صحبة هذه النخبة الرائعة صباحاً بين أروقة الصالون وفى صحبة الناشرين ما تفتقده فى معارض الكتب الأخري.. فبين زحام الجماهير الغفيرة المنتشرة فى كل ربوع وزوايا المعرض، تفتقد تلك الفئة الهادئة المحبة للعزلة من كبار الأدباء والشعراء والمفكرين، لا لتستمع لهم فى ندوات جامدة ومحاضرات سابقة الإعداد، وإنما لتجلس معهم جلسة سمر ودية تتجاذبكم أطراف الحديث الشيق المثمر فى شتى هموم وقضايا الثقافة والسياسة والمجتمع..

استوقفتنى دار النشر الخاصة بالسيدة آسيا المتأثرة بفاتن حمامة.. وعلى بعد خطوات قليلة منها لفت انتباهى شيخ متأنق يدعي "رشيد خطاب"، يجلس خلف طاولة وضع فوقها كتابين اثنين أحدهما بالعربية والآخر بالفرنسية هما " أصدقاء الخاوة والرفاق "، ولشد ما أدهشني العنوان، توقفت عنده طويلا، أعرف معني كلمة "الرفاق"، أما " الخاوة " هذه فلم تمر علي مطلقا خلال نحو أربعين سنة قضيتها بين أوراق الكتب القديمة والحديثة علي السواء، الأمر الذي حفزني لطرح سؤالي عليه وقلت له : سيدي أريد أن أسألك عن معني هذه المفردة، ومن أين اشتققتها، وما إذا كانت صحيحة لغويا أم لا؟ ثم دار بيننا حوار ممتع وجذاب، حوار بين جيلين، استغرق نحو الساعة أو أكثر.. "رشيد خطاب"الذي ذهب إلي باريس في السبعينيات، وتعلم في جامعاتها، والعبد لله ابن ثمانينيات جامعة القاهرة، وقد أخذنا نعيد ونزبد في بحور اللغة العربية وشواطئها، وهل هي لغة قابلة للتطور أم لا؟

عدت إلي القاهرة، بعد اثني عشر يوما قضيتها ضيفا علي صالون الجزائر الدولي للكتاب.. تركت بعضاً مني هناك لدي الجزائر هذا البلد الحبيب.. وهذا الشعب العربي الأمازيغي الأبي مرفوع الهامة عالي الهمة، ثابت الأقدام في أزمنة صعبة تتسارع فيها خطي الفوضى والارتباك المعولم.

***

د. عبد السلام فاروق

وقائع تاريخ فكري ونضالي غير معلن

رسالة من محمد هادي السبيتي

حدثني أبي قال انه وصلت عن طريق أحد الأشخاص الثقاة رسالة من أبو حسن السبيتي، وقد كانت رسالة حزينة جداً؛ إذ تضمنت في جوهرها بعض تفاصيل زيارته اليتيمة إلى طهران في صيف عام 1980، وقد طلب منه أن يترك عمان والإقامة في إيران من أجل استئناف المقاومة ضد نظام البعث في بغداد، لكنه رفض العرض وفضل البقاء في الأردن.

وفي السياق ذاته يخبر أبو حسن والدي في الرسالة نفسها أنه حصل لقاء مع القادة الكورد في سوريا، وبالتحديد في منزل صديقه السيد مهدي الحكيم، وقد التقي بكاك مسعود بارزاني، ومام جلال، ودكتور محمود عثمان، وقد زرعوا في ذاته الأمل في تأسيس جبهة عسكرية، وبرنامج سياسي موحد لتخليص العراق من نظام البعث على حد تعبيره.

ورداً على رسالة السبيتي التي أرسلت بيد نفس المصدر أخبر والدي السبيتي أنه سيفاجئه بزيارة لعمان قريباً جداً، وطلب منه أيضاً أن يدرس طلب سيد مرتضى العسكري، وأبو زينب الخالصي بخصوص الإقامة في إيران، وأن طلبهم فيه نوع من الخوف علي سلامته الشخصية، وسلامة عائلته إذا كانت موجودة معه في الأردن، ويحلل والدي للسبيتي طبيعة العلاقة الراهنة بين العراق والأردن، ويخبره أنه عندما طلب الأقامة والعمل في الأردن عام 1976 كانت الأردن في حينها على علاقة سيئة مع النظام العراقي، ومن ثم فأنه كان من الممكن أن تقبل الأردن بأي شخص يعمل ضد النظام في بغداد، وأما الآن ونحن نتجه نحو نهاية عام 1980، وأن الحرب مع إيران قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فأن هناك إشارات  عديدة عن تلاقي الاستراتيجيات بين العراق والأردن، وقد بدأت العلاقات تتحسن بسبب التحدي الإيراني، ومن ثم من الممكن ان تصبح لتلك المتغيرات تأثير على وجوده في الأردن، ولاسيما أن الاعترافات الاخيرة لعبد الأمير المنصوري التي أخذت منه من دون وعي منه قد تكون فيها معلومات عن طبيعة عمله السياسي ومكان تواجده الحالي، ومن ثم أقترح عليه والدي، إما العودة إلى سوريا، أو لبنان إن لم يرغب  بالإقامة في إيران.

والدي في عمان للقاء أبو حسن السبيتي

في بداية عام 1981 قرر والدي السفر إلى عمان للقاء أبو حسن السبيتي لكن السفر كان ممنوعاً بسبب حالة الحرب بين العراق وإيران، فضلا عن أن جوازه لم يتجدد، وقد كان كاك فرهاد نجل فؤاد عارف هو الذي يتكفل بتجديد جواز سفر والدي، وهو الآن في فترة راحة بعد إجراء عملية قلب له في لندن، ومن أجل تجديد جواز السفر طلب والدي من صديقه أبو عمار رئيس اتحاد نقابات العمال فرع الطرق والجسور ان يتوسط لدى أخيه العميد علي حسين علوان الساعدي (أبو حسين) الذي يعمل معاونا لمدير الأمن العام للشؤون الفنية من أجل تجديد جوازه، وبالفعل تم تجديد الجواز بجهوده النبيلة التي لا يمكن أن تحصل من دون أن يحصل والدي على موافقة السفر التي وفرها له المرحوم عبد الوهاب المفتي؛ وذلك بالذهاب مع رتل الشاحنات المتجهة إلى ميناء العقبة من أجل تحميل المعدات الخاصة بالطرق والجسور وشحنها إلى بغداد.

وبالفعل يذهب والدي مع رتل الشاحنات إلى الأردن ويترك الجماعة ليذهب إلى عمان حيث مكان اللقاء مع السيد محمد هادي السبيتي الذي كان في عمان للمشاركة في دورة لإدارة المنشآت الكهربائية، وقد كان لقاء عشاق فقد طار السبيتي من الفرح لوجود والدي في عمان، وقد أقام السبيتي وليمة عشاء لوالدي وتحدثا عن الكوارث التي حصلت بعد ما تمكن فاضل البراك من القاء القبض على ساعده الأيمن القائد عبد الأمير المنصوري.

يخبر أبو حسن السبتي والدي أنه قبل أن تبدأ الحرب كان في طهران وقد التقى برفاقه السيد مرتضى العسكري، والسيد محمود الشهرودي، والشيخ أبو زينب الخالصي، والشيخ الآصفي؛ وقد طلبوا منه الالتحاق بهم في الجمهورية الاسلامية وقيادة المقاومة ضد النظام من ايران، لكنه رفض رفضاً شديدا قيادتها من الجمهورية الاسلامية في ايران لأنها ستلحق الضرر بشدة بتنظيم الدعوة الاسلامية الذي سيظهر بمظهر مذهبي وهو ما قد لايحصل على أي مصداقية في العراق والوطن العربي، وبدوره يخبره والدي أن رسالة وصلت من الشيخ أبو زينب الخالصي فيها اعتذار شديد من السيد مرتضى العسكري، والشيخ الآصفي، والسيد محمود الشهرودي لما حدث له من مواجهة معهم في مكتب السيد مرتضى العسكري وقد كتب الشيخ الخالصي للسبيتي ما معناه أنهم يقبّلون يده قبل رأسه لقبول اعتذارهم، وينسى ما حدث من جدال عنيف، وبالفعل كما يخبرني والدي أن السبيتي أخبره ان الموضوع قد أصبح من الماضي ولا يستحق الذكر، وأنه يجلّهم كثيراً.

لكن والدي طلب من أبو حسن ترك الأردن والالتحاق إما بزملائه في إيران، وإما الذهاب إلى سوريا فهي أكثر أماناً له ولعائلته؛ وقد أخبر السبيتي والدي بطلب السيد مهدي الحكيم الذي يتضمن التنسيق مع الحزب الديموقراطي الكوردستاني؛ ولاسيما بعد عام من لقاءه كاك مسعود بارزاني في دمشق، وقبلها كاك إدريس بارزاني.

وبعد اللقاء التاريخي يعود والدي إلى بغداد وقد كان قلقاً من وضع السبيتي الذي كان مهموماً، وحزيناً جداً لما تعرض له حزبه من ضربة قاضية على يد الأمن العامة؛ ولاسيما بعد سقوط أشجع رجال حزب الدعوة (عبد الامير المنصوري) بيد أذكى رجال الأمن العامة (د. فاضل البراك)، ومن مواقف رفاقه الذين يطلبون منه الالتحاق بركب الجمهورية الاسلامية من أجل استئناف النضال ضد صدام حسين تحت راية خط الإمام الخميني، وهو ما يرفضه بشدة لاختلاف خصوصية الوضع العراقي عن الوضع الايراني.

أبو حسن السبيتي في بغداد!!!!

حدثني والدي قال: إنه في صيف عام 1982* التقي بصديقه ضابط المخابرات العميد هوشنك سيد أحمد وقد عرض عليه جولة في شوارع بغداد وبالتحديد منطقة الكرادة وجسر المعلق، وقد انتهت الجولة بأحد المطاعم في الكرادة، لكن والدي كان قلقاً جداً من وضع كاك هوشنك النفسي، ووجد أنه يريد أن يقول شيئا مهماً لكنه متردد جداً، وقد حثّه على قول ما في صدره من شيء.

يقول والدي انه بعد أن انتهينا من تناول العشاء وبدأنا بشرب الشاي أخبرني كاك هوشنك أن ابو حسن السبيتي يرسل تحاياه واشتياقه لجنابكم، وقد استغرب والدي من هذا الكلام الخطير الذي يمكن أن يؤدي إلى الموت وفناء العائلة، فوالدي بطبعه الشجاع لايخشى من أي موقف مهما كانت خطورته، لكن تلك المفاجأة سقطت كالصاعقة عليه فتوقف عن الكلام من شدة تلك المفاجأة الأليمة والمرعبة واللامتوقعة معاً، أبو حسن السبيتي في بغداد كيف حصل ذلك؟

وقد سأل والدي كاك هوشنك كيف وصل اليك أبو حسن السبيتي فهو حسب علمي موقوف في مقر المخابرات الأردنية، فأجاب:

لقد تم نقله من الأردن إلى مقر جهاز المخابرات العراقية في بغداد وأنا اليوم بأمر من أستاذ برزان مسؤول على وجوده في السجن الانفرادي بمقر المخابرات، لأن جلالة الملك حسين قد طلب من أستاذ برزان عدم مسه بأي سوء فهو، أي محمد هادي السبيتي كان رجلا صالحاً، ومخلصاً في عمله، ولم يمس أمن المملكة بأي سوء، وقد وعده أستاذ برزان أنه سيكون بأيدي أمينة ولم يتم التحقيق معه بطرق عنيفة.

يرى برزان التكريتي أن مجرد نقل أبو حسن السبيتي من عمان إلى بغداد يعد نصراً كبيراً لشخصه، ونصراً على منافسه فاضل البراك، ولجهاز المخابرات الذي يديره حسب قول هوشنك سيد احمد، الذي قرر برزان أن يجعله المسؤول الأول للحفاظ على سلامة السبيتي، وبالفعل يدخل كاك هوشنك بحوارات عميقة معه وقد شكر السبيتي الله تعالى أن يكون كورديا مسؤولاً عنه في مقر المخابرات، واخبره أنه يحترم الكورد كثيراً، وان لديه علاقات قوية معهم.

يخبر كاك هؤشنك والدي أن السبيتي أنساناً حكيماً وهيبة فهو عندما يناقشه يشعر به أن لديه ثقافة عالية وهدوءا قل نظيره، وقد وثق به بعد أن أخبره أنه عمل في الاستطلاع العميق داخل إيران وقد كان يرسل رسائل رجال الدين من النجف إلى إيران في زمن الشاه، ولاسيما من الإمام الخميني، ونجله السيد مصطفى، وتلامذته من قبيل الشيخ محمد منتظري، والسيد محتشمي إلى داخل إيران وقد تم توقيفه من قبل السافاك الايراني بعد أن كشف أمره.

وبعد هذه المقدمة يخبر أبو حسن السبيتي كاك هؤشنك سيد أحمد أنه هو أيضا كان يؤيد خطوات الأمام الخميني عندما كان يقاوم من النجف نظام الشاه.

يقول كاك هؤشنك لوالدي أنه بعد أن خلق جو الثقة بينه وبين السبيتي إقترح عليه إذا كان يريد لقاء أي شخص في بغداد أو العراق يريد مقابلته، فأنه سيؤمّن له الأمان، (فنحن الكورد لا نخون الأمانة) على حد تعبيره، لكن السبيتي أجابه:

أنا اعلم ما معنى الأمن والمخابرات في العراق، لكني سأغامر واعطيك إسم شخص كوردي أرغب في لقاءه وهو عزيز جداً عليّ، وهو كاك حسين الجاف؛ (أي والدي)، عندها أخبره كاك هوشنك أتقصد كاك حسين الجاف الذي يقيم في شارع فلسطين، ويعمل في الطرق والجسور؟ فأجابه نعم هو ذاك، وأجبته سيكون طلبك ممكناً، إذا وافق اللقاء بكم.

وبالتأكيد وافق والدي على ذلك اللقاء الخطير، فهو مشتاق للسبيتي ومستعد للتضحية من أجله، وقد أخبر وكاك هوشنك أن السبيتي شخصية عظيمة، ويستحق الحماية والآمان وهو؛ أي والدي سعيد أن يكون في قاطع مسؤوليته؛ أي مسؤولية كاك هوشنك.

يرى والدي أن ما يحدث الآن لأبي حسن السبيتي من عناية لهو قدر من الله وليس صدفة، وإلا كيف يمكن أن تحدث ساعة رحمانية لبرزان التكريتي ويختار هوشنك سيد احمد مسؤولا للإشراف على السبيتي، وإن كلا الطرفين؛ أي هوشنك، والسبيتي يرتبطان بعلاقة قوية بوالدي، فذلك هو قدر إلهي بامتياز.

لقاء والدي بأبي حسن السبيتي

لقد أتفق كاك هوشنك سيد احمد مع والدي أن يرسل له سيارة خاصة يوم الجمعة حيث مقر الجهاز يكون أغلب منتسبيه يتمتع بعطلة الجمعة، وأن والدي سيدخل بوصفه ضيفاً على مدير القسم الإيراني في جهاز المخابرات الذي هو بالتأكيد العميد هوشنك سيد احمد، وبالفعل يصل والدي عصراً، وقد كان السائق أحد الموظفين الذين يعملون بأمرة كاك هوشنك، وقد عملوا مفاجئة لأبي حسن السبيتي الذي كان مذهولاً من شدة المفاجأة التي عملها له هوشنك، وقد احتضنه والدي بشدة لدقائق كثيرة، وقد كان السبيتي أنيقا وجميلاً كعادته، لكن لحيته طويلة، وقد شربا الشاي سوية.

يقول والدي: لقد حزنت وبكيت كثيراً لما آلت إليه أمور السبيتي، لكنه؛ أي السبيتي هون عليه وأخبره أنه لما سار على هذا الدرب كان يدرك تماماً هذا المصير الذي يكون أعلى درجاته الشهادة، وقد سبقه على هذا الدرب أبو عصام، والشيخ عارف البصري، وغيرهم من الدعاة.

أثناء اللقاء يخرج كاك هوشنك من المعتقل الانفرادي المخصص لأبي حسن السبيتي من أجل أن يبقى والدي منفردا معه، لأنه لقاء أحبة، وقد سأل السبيتي والدي عن أخبار الحرب المجنونة بين العراق وأيران؟ فأجابه أن إيران قد اخرجت العراق من المحمرة، وقد تعرض الجيش العراقي لخسائر كبيرة.

ويجيب أبو حسن السبيتي أن هذه الحرب من صنيعة الرأسمالية القذرة التي ترى أنه يجب تدمير الإسلام، وبث روح الطائفية بين المسلمين، وقد أخبر والدي انه منذ شهرين في العراق ولا يعلم ماذا يحصل في العالم الخارجي، لكنه يشكر الله تعالى أن الجماعة (جماعة المخابرات) يعاملونني بوصفي أمانة وضعها جلالة الملك حسين عندهم، وأن الأخ هوشنك يتعامل معي في قمة الرقي، وانه لحد الآن لم يتم التحقيق معه.

وبعد الزيارة التاريخية جمع والدي ملابس أبو حسن السبيتي وجلبها إلى البيت التي قامت والدتي بغسلها وكيها عند المكوى في منطقتنا، وقد تم إيصالها من قبل سائق حدده كاك هوشنك، والشيء اللافت أن السبيتي قد طلب من والدي أن لايبلغ أي شخص بوجوده مهما كانت صلته بي، وذلك من أجل أن يظهر أنه مازال في الأردن، وأيضاً من أجل عدم تعرض أي شخص للأذى بسبب وجوده في بغداد الذي من الممكن أن يعرض الآخرين لخطر الموت، فنظام صدام مازال يعدم أي شخص يشك بإنتمائه لحزب الدعوة، وقد التزم والدي بوعده فلم يبلغ أي شخص بوجود السبيتي في بغداد.

وأما كاك هوشنك سيد احمد المسؤول المباشر عن السجن الانفرادي لأبي حسن السبيتي فقد كان يتعامل بإنسانية عالية جداً مع سجينه، وقد كان يرسل السائق الذي حدده لبيتنا من أجل تقديم الخدمات من غسل الملابس، وتقديم بعض الأطعمة بشكل سري جداً.

بقي وضع التواصل مع السبيتي على حاله لمدة سنة، وبعدها تم عزل برزان التكريتي من منصبه كرئيس لجهاز المخابرات، وتعيين اللواء الركن هشام صباح الفخري رئيساً مؤقتاً لجهاز المخابرات وقد كان شديداً جداً؛ ولذلك توقف كاك هوشنك على تقديم التسهيلات التي كانت موجودة في زمن برزان التكريتي، وهنا يخبر والدي كاك فؤاد عارف بالموضوع وطلب مساعدته من خلال الاتصال باللواء الركن محمود شيت خطاب الشخصية الاسلامية والوطنية الذي على صلة قربى باللواء هشام صباح الفخري، وبالفعل يحث فؤاد عارف محمود شيت خطاب بدافع الصداقة القديمة بينهما أن يطلب من اللواء الفخرى التوسط لإطلاق سراحه من المعتقل، أو تسهيل الدخول اليه لتقديم الخدمات له.

لكن محمود شيت خطاب أخبر فؤاد عارف أنه يخشى أن يتوسط للسبيتي ويحصل له مكروه كما حصل مع سيد قطب عندما توسط له من أجل عدم تنفيذ حكم الإعدام بحقه، لكن حصلت موافقته، وقد دخلت مع والدي هذه المرة، بمساعدة كاك هوشنك للقاء السبيتي الذي بدأ يقلق على والدي، لكن والدي أخبره أن كاك هوشنك شخصية نافذة في المخابرات، ومن ثم فإن الأمور تسير بيسر ودقة عالية جداً.

أثناء وجود مام جلال في بغداد من أجل المفاوضات أخبره كاك فؤاد عارف ووالدي بموضوع أبو حسن السبيتي، وطلبا أن يتوسط له عند صدام، وبالفعل يفتح مام جلال موضوع السبيتي مع طارق عزيز، لكن طارق عزيز يغضب بشدة على مام جلال، وطلب منه عدم فتح أي موضوع يتعلق بحزب الدعوة وعملاء ايران، لكن مام جلال كما يخبر كاك فؤاد عارف أنه أخبر طارق عزيز أن السبيتي ليس عميلا لإيران، وأنه التقى معه في دمشق عام 1980، وفيه روح وطنية عالية جداً، لكن طارق عزيز طلب منه عدم فتح الموضوع ويبقى مركزا على المهمة  الخاصة التي جاء من أجلها وهي حقوق الشعب الكوردي في العراق.

فاضل البراك رئيساً لجهاز المخابرات

في بداية عام 1984 يصبح فاضل البراك رئيساً لجهاز المخابرات، وقد عرف بأنه هو الذي تمكن من تفكيك تنظيم حزب الدعوة عندما كان مديراً للأمن العامة عام 1980،وبهذا الصدد يخبر كاك هوشنك سيد احمد والدي أنه حدثت مواجهة بين البراك والسبيتي، وقد تحدث البراك بغرور مع السبيتي، وأبلغه انه لم يعد شيئاً مهماً فالتنظيم؛ أي تنظيم الدعوة قد تم تفكيك جناحه العسكري، وأن رئيس جهاز المخابرات السابق (برزان التكريتي) قد بالغ بأهمية السبيتي وأصراره على إعادته للعراق، وأن القيادة أيضاً قد بالغت عندما منحت مائة دبابة وبعض المدفعية هدية للمملكة الاردنية الهاشمية لقاء إعادة السبيتي للعراق فهو لم يعد فاعلاً مهما في تنظيم الدعوة، ولاسيما بعد تفكيك الجناح العسكري الذي كان يرتبط به.

يخبر كاك هوشنك والدي أن فاضل البراك طلب من السبيتي إن أراد ان يبقى على قيد الحياة، ويلم شمله مع عائلته مرة أخرى، مع وعد بإعادته لمنصب كبير في وزارة الصناعة، أن يظهر على شاشة التلفزيون ليتبرأ من حزب الدعوة، ويقدم ولائه للثورة والحزب، ولقيادة صدام حسين للحرب ضد إيران، لكن السبيتي وقف وقفة شجاعة وأخبر البراك أين ساحة الاعدام؟ أريد أن اشنق نفسي بيدي، ولا أقدم على هكذا تعهد وولاء لعصابة نذر نفسه من اجل القضاء عليها.

ومن الجدير بالذكر أن كاك هوشنك أخبر البراك أن محمد هادي السبيتي هو أمانة الملك حسين، لكن البراك أخبره أن هذا الرجل يجب ان لايبقى حبيساً في جهاز المخابرات فهو من أعمال مديرية الأمن العامة، ويجب ترحيله فوراً، وبالفعل تم نقله إلى مديرية الأمن العامة التي أصبح علي حسن المجيد رئيسها، وأنه منذ ذلك الوقت أختفى نهائياً ولم يعد له أثر مع أن المعلومات التي حصل عليها كاك هوشنك من الأمن العامة أن أبو حسن السبيتي قد بقي على قيد الحياة في فترة إدارة على حسن المجيد، وقد انتقلت إدارة مديرية الأمن العامة بعده إلى عبد الرحمن الدوري عام 1987.

يقول والدي رحمه الله أنه (أنا وهو؛ أي والدي) كنا محظوظين أكثر من عائلة القائد السبيتي الذين لم يشاهدوه، ولم يعلموا شيئاً عن مصيره، وقد كان ذلك بطلب منه، فهو قد إعتقد أنه سيعاد إلى الأردن كون سجله نظيف في دوائر المملكة الاردنية.

بخبرني الأخ والزميل جعفر البهادلي المهتم بجمع تراث الشهيد محمد هادي السبيتي، أنه تم الوصول إلى شهادة وفاة تثبت إعدامه بتاريخ 9-11-1988؛ أي بعد ثلاثة أشهر من وقف إطلاق النار بين العراق وأيران، وهذا يعني أن الشهيد السبيتي قد بقي حياً لأكثر من ستة سنوات في سجون العراق، أي بين سجن المخابرات، وسجن الأمن العامة، وسجن أبو غريب.

***

الدكتور كريم الجاف

أكاديمي- العراق

...........................

* ملاحظة للأخوة الذين يطلعون على المقالة الخاصة بالشهيد السبيتي يمكن أن تكون هناك بعض الاشكالات في التواريخ المذكورة فهي قد اعتمدت على ذاكرة والدي رحمه (1918-1998) الذي سرد تلك الاحداث عام 1987 .

معركة القسطل: عبد القادر الحسيني ورفاقه في مواجهة خيانة الرسميين العرب ودموية الصهاينة!

حدثت معركة القسطل قبل النكبة وهزيمة جيوش الحكومات العربية التي شاركت في الحرب المهزلة ولكن في السنة ذاتها (1948). جرت هذه المعركة في قرية القسطل وهي من مداخل مدينة القدس الدفاعية الاستراتيجية. وقاد المقاومة الفلسطينية فيها الشهيد السيد عبد القادر موسى كاظم الحسيني (ولد في القدس في 1908 واستشهد في 8 نيسان/ أبريل 1948، والده هو شيخ المقاومين المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني الذي شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين اليمن والعراق ونجد وإسطنبول ذاتها بالإضافة إلى فلسطين).

عملية القسطل هي عملية عسكرية بدأت بها العصابات والمليشيات الصهيونية التي كان هدفها الاستيلاء على مدينة القدس بالكامل. يقول بن غوريون في كتابه "بعث إسرائيل" ما يلي: "ما أن أطلّ شهر نيسان/أبريل 1948 حتى كانت حربنا الاستقلالية قد تحولت بصورة حاسمة من الدفاع إلى الهجوم. لقد بدأت عملية (نخشون) باحتلال الطريق المؤدية إلى القدس حيث نقف الآن وكذلك بيت محيسير وتوّجت باحتلال القسطل التلّة الحصينة قرب القدس".

بدأت المليشيات الصهيونية بدعم بريطاني بتنفيذ عملية نخشون لفك الحصار عن القدس في مطلع أبريل 1948، ولكن المقاومة الفلسطينية تصدت لها وهزمتها في المعركة الأولى وبقي طريق باب الواد إلى القدس مغلقاً إلى ما بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين.

كما هاجم المجاهدون الفلسطينيون مستعمرة مشمار هاعمك أثناء انهماك الصهاينة في الهجوم على القدس القديمة لتصفية قوات "الجهاد المقدس" التي كان يقودها الحسيني وفي محاولة فك الحصار المضروب عليهم بفتح الطريق إلى تل أبيب.

في الثاني نيسان/إبريل من عام 1948 قامت قوات مليشيا الهاجاناه الصهيونية بمهاجمة قرية «القسطل» غربي القدس، واستولت عليها وطردت كل سكانها منها وكانت القسطل تشكل بداية لخطة يهودية لاحتلال الجزء الأكبر من فلسطين قبل الإعلان رسميا عن إنهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو من عام 1948.

واستباقا لما سيحدث قام القائد عبد القادر الحسيني بمواجهة هذا الهجوم بقوات فلسطينية متفرقة وقليلة مجهزة بأسلحة بدائية وقليلة الفعالية في الحروب، ولم تتلق هذه الجماعات المقاومة الفلسطينية أي دعم من حكومات البلدان العربية.

أخذ القائد عبد القادر الأمور على عاتقه، وفي 5 نيسان / إبريل من عام 1948 توجه بقواته البسيطة نحو القسطل، وليس معه سوى 56 مقاتلا، واستطاع فعلا أن يحاصر القسطل، لكن قبل أن يضرب حصاره على القسطل، توجه إلى جامعة الدول العربية يطلب عبثاً إمداده بالسلاح والذخيرة من حكام العرب مستغيثاً بهم واحدا تلو الآخر وهم يرفضون المساعدة ويماطلون فيها.

تتحدث كتب التاريخ عن لقاء بين عبد القادر الحسيني واللجنة العسكرية العربية. يقول الحسيني أن اللجنة العسكرية طالبته بعدم افتعال تصرفات فردية، وأن جامعة الدول العربية قد أوكلت قضية فلسطين إلى لجنة عسكرية عليا تتولى تحرير فلسطين، وطالبوه بعدم الذهاب نحو القسطل، فقال ردا عليهم:  "إنني ذاهب إلى القسطل وسأقتحمها وسأحتلها ولو أدى ذلك إلى موتي، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحب إلى من نفسي من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة، إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين ".

وبعدها قَدِمَ الحسيني إلى القسطل بقواته وأسلحته البسيطة، وصادف أن كانت إحدى الجيوش العربية بقيادة إنجليزية موجودة ومتمركزة في رام الله (أرجح أن يكون المقصود هو الجيش الأردني الذي كان يقوده الجنرال البريطاني جون غلوب)، فطلب عبد القادر من هذا الجيش مساندته وتزويده بالسلاح، فاعتذر قادة الجيش وطلبوا منه تأجيل القتال حتى يحدث الانسحاب العسكري البريطاني في 15 أيار/ مايو من عام 1948.

لم تكن الدول العربية تريد مواجهة مع بريطانيا، ورأت أن أي عمل عسكري الآن سيعني مواجهة حتمية مع بريطانيا وفقدان الدول والحكم الذي وعدتهم بريطانيا به، ولكن الحسيني بدأ يرسل المتطوعين في فلسطين ومصر إلى جبهات القتال ضد المليشيات الصهيونية، ثم إنه طوق القسطل وبدأ يستنجد مرة أخرى بالقيادة العسكرية، وأرسل إليهم بأنه بمساعدتهم سينهي الوجود الصهيوني فيها، بيد أن القيادة العسكرية للجامعة العربية أصرت على موقفها. وأثار ذلك الترنح في مواقف الجامعة العربية حفيظة الحسيني، وثارت ثائرته فأطلق صيحته قائلا: "نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم".

وقد ذكرت «جريدة المصري» أن اللجنة العسكرية العليا التابعة للجامعة العربية جعلت تسخر من عبد القادر الحسني، وضعف قوته وعتاده اللذين يحملهما لمواجهة الصهاينة، وسخر منه الضابط العراقي الملكي والذي أصبح رئيسا للوزراء لمدة شهرين سنة 1941 طه الهاشمي، شقيق رئيس الوزراء ياسين الهاشمي مرتين في الثلاثينات، وأخبره أن لدى اللجنة العتاد والسلاح، ولكنها لن تعطيه له (لعبد القادر الحسيني)، ولكنها ستنظر بالأمر بعد 15 أيار فكان رد الحسيني عليه: "والله يا طه باشا إذا ترددتم وتقاعستم عن العمل فإنكم ستحتاجون بعد 15 أيار إلى عشرة أضعاف ما أطلبه منكم الآن، ومع ذلك فإنكم لن تتمكنوا من هؤلاء اليهود، إني أشهد الله على ما أقول، وأحملكم سلفاً مسؤولية ضياع القدس ويافا وحيفا وطبرية، وأقسام أخرى من فلسطين".

ولكن أعضاء اللجنة لم يتهموا لقوله وسخروا من حماسه واندفاعه، فاستشاط عبد القادر غضبا، صرخ بهم: "إنكم تخونون فلسطين ...إنكم تريدون قتلنا وذبحنا!"

أما رفيقه المجاهد قاسم الرمادي فقد قال: "ليسقط دمي على رأس عبد الرحمن عزام (أمين الجامعة العربية)، وطه الهاشمي وإسماعيل صفوت (قادة القوات العسكرية التابعة للجامعة العربية) الذين يريدون تسليمنا لأعدائنا لكي يذبحونا ذبح النعاج، لكننا سنقاتل بدمائنا وأجسادنا، وليبق السلاح مكدسا في عنابر اللجنة العربية، وفي مزابلها، سنرجع إلى فلسطين لنحقق أمنيتنا بالفوز بإحدى الحسنين إما النصر وإما الشهادة ". ثم قفل عائدا إلى القسطل، وجعل يردد قول أخيه القائد الشاعر عبد الرحيم محمود الذي قُتل في معركة الشجرة:

بقلبي سأرمي وجوه العـداة... فقلبي حديد وناري لظى

وأحمي حماي بحد الحسـام... فيعلم قومي بأني الفتى

أخوفاً وعندي تهون الحياة؟! أذلاً وإني لـربي أبى؟!

ثم تَجَّمَعَ من المتطوعين مع عبد القادر الحسيني 500 رجل مجاهد انضموا إليه في حصار القسطل، في 8 إبريل من عام 1948 بدأ الهجوم الشامل على القرية، وانتهت المعركة بمقتل 150 يهوديا وجرح 80 منهم، وتم تحرير القسطل، ولكن بعد استشهاد عبد القادر الحسيني في المعركة. فحين قام الحسيني باقتحام قرية القسطل مع عدد من المجاهدين، وقع ومجاهديه في كمين الصهاينة وتحت وطأة نيرانهم فهبت نجدات كبيرة إلى القسطل لإنقاذ الحسيني ورفاقه، وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمر باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها.

وفي التفاصيل نعلم الآتي: عند وصول فصيلي المدافع الفلسطينية إلى سفح مرتفع قرية «بدو» المشرفة على القسطل والقدس بعد ظهر 8 أبريل 1948 واجهتهم صعوبة وهي استحالة صعود السيارات قاطرة المدافع وحاملة الذخائر إلى ذلك المرتفع لوعورة الطريق. وكان يجب الاستعجال بوضع المدافع في مرابضها لدخول المعركة بأسرع وقت ممكن. وتقرر ترك فصيل الـ 75 مم في السفح ريثما يتم تعبيد الطريق إلى المرتفع، وبفك مدفعي الـ 105 مم، كل مدفع إلى أربع قطع، وحمل هذه القطع مع الذخائر على سواعد الرجال. وهنا الأهالي والقرويون من سكان المنطقة من رجال ونساء وصبية لمساعدة المجاهدين في حمل أجزاء المدفعَين والذخيرة، فحملوها وصعدوا بها إلى أعلى المرتفع بسرعة خارقة فاجأت الجميع! ثم إنهم عادوا جميعاً إلى الطريق وعبّدوه بالحجر ونظّفوه ليصبح صالحاً لتقدّم السيارات عليه. وتم تجهيز المربض للمدفع على مرتفع «بدو» في أقل من ساعتين مع فصيل 105 مم وذخائره جاهزاً للرمي على القسطل ومستعمرة مودسا التي ما كانت سوى حيّ شرقي لها. وفتحت النيران قبيل الساعة الخامسة على الأهداف المحددة، فصعق الصهاينة الذين فوجئوا تماماً بحضور المدفعية. وصمتت رشاشاتهم التي كانت تلعلع عند وصول القوة. ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى كان الصهاينة يلوذون بالفرار ويقوم مقاتلو "الجهاد المقدس" باستعادة القسطل. وعند غروب الشمس كان الطريق إلى مرتفع «بدو» صالحاً لصعود السيارات، فوصل فصيل الـ 75 مم وربض إلى جانب الـ 105 مم، ووصلت كل الذخائر.

لقد استشهد عبد القادر صبيحة الثامن من إبريل عام 1948، حيث وجد جثمانه قرب بيت من بيوت القرية، وجسده مثخن بالرصاص محتضنا بندقية رشاشة من طراز ستن (STEN)، فنقل جثمانه في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد، وقد استشهد وهو في الأربعين من عمره وهو في أوج عطائه الجهادي. المقاوِم.

يومها خرج جميع المقادسة الفلسطينيين لتشييع السيد عبد القادر الحسيني تشييعا مهيبا، وردا على هزيمتهم المخزية رد الصهاينة بارتكاب مجزرة جبانة أخرى بحق المدنيين فعمدت مليشياتهم إلى مهاجمة قرية دير ياسين غربي القدس وأبادت سكانها فلم يبقَ فيها شيء ينبض بالحياة سوى ركام المنازل وأشلاء المدنيين الفلسطينيين. وكانت العصابات الصهيونية التي ارتكبت هذه المجزرة الدامية بقيادة المجرم مناحيم بيغن الذي اقتسم مع أنور السادات جائزة نوبل للسلام بعد سنوات. أما كريتش جونز كبير مندوبي الصليب الأحمر فقد صرح بعد المذبحة قائلا: "لقد ذُبح 300 شخص في دير ياسين بدون أي مبرر عسكري أو استفزاز من أي نوع، وكانوا رجالاً متقدمين في السن ونساءً وأطفالاً رضع"!

***

علاء اللامي

في صيف عام 1964 وقفت فتاة تبلغ من العمر "28" عاما امام قاضي شرطة الاخلاق الذي سألها: لماذا تكتبين بهذه الطريقة؟ ارادت أن تقول: هل يحق لأحد ان يسأل فنانا لماذا يكتب هكذا؟، لكنها استدركت لتجيب على سؤال القاضي بصوت مرتفع: لانني اعتبر نفسي اتمتع بحرية الرأي والفكر والعمل الممنوحة لكل شخص في لبنان. يقول لها القاضي وهو ينظر الى تسريحة شعرها الغريبة: ألا يتهيج المراهقون بعد قراءة كتابك.. تصمت قليلا ثم تجيب: " الكتاب يتكلم عن البشر، عن الناس، عن الاشخاص، في هذا البلد. يصور الواقع بطريقة ادبية فنية، واذا كانت تجب مصادرته فالاصح ان يصادر البشر هنا لانهم مادته "

وعندما يسالها القاضبي ثانية: لماذا استخدمت بعض الكلمات الخادشة للحياء. تصمت، فبماذا تجيب وهل عليها ان تفسر لماذا يستخدم الاديب هذه الكلمة بالذات دون غيرها. انتهى الاستجواب: " كانت الدقائق ثقيلة تزحف في عيني، والصمت يزيد غضبي واستنكاري الاخرس، كان المقصود ان يشعرني القاضي بالخجل مما اكتب، وبالذنب، واحسست فقط انني وجدي في غابة، وكنت مليئة بالحزن، حخزن كبير يغرق العالم " – ليلى بعلبكي دفاعا عن الحرية مجلة حوار 1964 –

خارج المحكمة انقسمت الصحافة بين مدافع عن ليلى بعلبكي وبين من يرى ان ما كتبته يسيء للاخلاق العامة كتب يوسف الخال: " سوقوها للسحن ولا تخيبوا ظننا. الماء ركدت واسنت بما فيه الكفاية، وحان ان تحركها هذه الصخرة "، وكتب جميل جبر: " القضية التي اثارت اهل القلم عندنا تتجاوز ليلى بعلبكي وكتابها. انها قضية كرامة كاتب واحترام رأي " وكتب انسي الحاج في صحيفة النهار ان ليلى بعلبكي: " ذهبت ضحية لأنها امرأة ولانها معروفة ولأن رايها صريح في النظام البوليسي " واصدر عدد من الكتاب بيانا استنكروا فيه مصادرة الكتاب واستجواب مؤلفته امام شرطة الاخلاق.

كانت شرطة الاخلاق قد القت القبض على ليلى بعلبكي بعد مصادرة مجموعتها القصصية " سفينة حنان الى القمر "، تم احتجاز الكاتبة لعرضها على قاضي التحقيق. بعد ضغط الراي العام والصحافة صدر القرار بوقف التعقيبات الجارية ضد بحق ليلى بعلبكي التي ستكتب: " جاء يوم خلاصنا.. نعم خلاصنا نحن. الذين عي القضية قضيتهم. يشرفني ان اكون سبب هذا الحادث التاريخي ".

نهاية عام 1963 اصدرت ليلى بعلبكي مجموعة قصصية بعنوان " سفينة حنان الى القمر - تضم " 12 " قصة نشرت معظمها في عدد من المجلات منها " شعر، حوار، ادب "، وكانت القصص امتداد لوجه نظر الكاتبة عن الحياة، حيث تدور معظم احداث قصصها حول فتاة تطالب بحريتها، فنجدها في قصة " لم يعد صدرك مدينتي " تقدم لنا الفتاة التي غادرت قريتها الى باريس، تسخر من الذين يؤجلون مشاعرهم لتعلن: " انا امراة مجنونة ياعزيزي، وانت ! وانت ياعزيزي رجل عاقل رزين يؤمن بالمساقبل.. خذ مستقبلك لك. خذه على حذائي " – بعلبكي سفينة حنان الى القمر صادرة عن.ستهدي ليلى بعلبكي نسخة من امجموعتها القصصية الى الصحفي المصري مفيد فوزي الذي كان يكتب زاوية في صباح الخير باسم مستعار " نادية عابد ". في العدد الصادر 4 حزيران عام 1964 من محلة صباح الخير كتبت نادية عابد – مفيد فوزي -: " اهدتني السيدة ليلى بعلبكي، الاديبة اللبنانية كتابها الاخير.. عبارة عن مجموعة قصص لم أكن قد قرأتها من فبل.. تسلمت الهدية بلهفة.. أنا متحمسة للكاتبات والاديبات.. مضى الوقت الذي يعبر فيه الرجل عن احاسيس المرأة.. قلبت كتاب ليلى بعلبكي بسرعة وتوقفت عند مطوية. عدلت الصفحة ولمحت عيناي اربعة سطور غريبة (وسألته أتذكر كم كانت حلوها جارحا جدا، ولم يعد السيد يحتمل فهتاج، واخيرا نطقها بشراهة.. برغبة: لن تذهبي.. لحوس أذني، ثم شفتي، وحام فوقي، ثم ارتمى وهمس انه ملتذ وأنني طرية ناعمة مخيفة.. وانه افتقدني كثيراً) شعرت – هذا كلامي أنا – بقشعريرة وبتقزز، وقلت لنفسي بضيق: ياست ليلى بعلبكي.. لحوس إيه، وحام إيه، وطرية وناعمة إيه.. وادب إيه.. ملعون هذا الادب ياشيخة "— مجلة صباح الخير حزيران 1964 -. عندما قرأت ليلى بعلبكي كلمات مفيد فوزي شعرت بالاستياء، لكنها لم تتوقع هذه السطور الساخرة زوبعة ادت الى مصادرة المجموعة القصصية واعتقالها من قبل شرطة الاخلاق. كانت المجموعة قد اثارت النقاد، فقصصها الجريئة وتصويرها للعلاقة بين الرجل والمراة جعل صحفيا مثل سعيد فريحة يكتب في مجلته الصياد: " كيف يمكن لليلى بعلبكي ان تكتب ادب جنس ما دام ادي الجنس هو ادب التجارب، وليى فتاة شرقية ما تزال في عمر الورود "3870 ليلى بعلبكي

لم تكن هذه هي المرة الاولى التي تتمرد فيها ليلى بعلبكي على واقعها، فابنة الجنوب اللبناني وقفت ذات يوم من شهر ايار عام 1959 لتلقي محاضرة بعنوان " نحن، بلا اقنعة " – نشرت خالدة سعيد نص المحاضرة في كتابها يوتوبيا المدينة المثقفة - ستتحول الى بيان لجيل جديد يرفض سلطة الكبار ويطالب بحريته، ويسعى للخلاص من هيمنة كل الكبار، من الأباء الى السلطة السياسية، يرفض القسمة الى حاكم ومحكوم، يرفض القيم التي لم يسهم في صنعها، ويرفض القوانين التي صنعت للقيود التي صُنعت للابناء والنساء والرعايا: " نحن.. جيل اليوم.. تفنن البعض في تسميتنا المتمردون، الكارثة، الضائعون. الشاذون، الفوضويون. المصيبة.. الى آخر ما هناك من القاب مرعبة " ووسط دهشة الحاضرين تعلن بصوت عال: " كل ما على الارض لا يمثلنا ولا يرضينا لأنه من صنع غيرنا ". اصدرت روايتها الاولى " أنا احيا " التي نشرتها مجلة شعر في ايلول من عام 1958، بعد ان روجت لها باعلان على صفختها الاخيرة جاء فيه: " ان هذه الرواية سيكون لها أثر بديع في مستقبل الرواية العربية وستصفها الناقدة يمني العيد فيما بعد بانها اولى الروايات النستئية الحديثة التي شكلت علامة بارزة على تطور الكتابة الروائية العربية ".

اتذكر الرواية في غلافها الكريمي اللون والخطوط الخضراء التي تصور امرأة كأنها تقف وسط الطريق واسم ليلى بعلبكي على يمين الغلاف، وعبارة منشورات مجلة شعر والمكتبة العصرية اسفل الغلاف، عثرت عليها بين اكوام الكتب عند عبد الرحمن السامرائي " ابو عوف " الذي كان يتخذ من دكان صغير في بداية سوق السراي مقرا له، أذهب اليه كلما زرت شارع المتنبي، وكانت العربة التي يستخدمها في عرض الكتب وفي التنقل مصفوف عليها كتب من كل شكل ولون، وانا انبش فيها بحثا عن رواية او كتاب في المسرح، لمحت غلاف " انا احيا "، كان الاسم قد مر عليَّ كثيرا في المكتبة التي اعمل فيها والزبائن يبحثون عن روايتها هذه ورواية ثانية بعنوان " الآلهة الممسوخة ". وعندما سالت عنها ذات يوم المرحوم الناقد الكبير عبد الجبار داود البصري وكان من زبائن المكتبة قال لي بهدوءه المعهود وصوته الهاديء، انها كاتبة لبنانية جريئة اثارت ضجة في بداية الساينيات لكنها اعتزلت الكتابة منذ سنوات. ادرك الآن ان ذلك الفتى الذي التقط الكتاب من عربة " ابو عوف " كان متلهفا لكي يعرف: ماذا كانت تريد ان تقول ليلى بعلبكي، وماذا يحمل هذا الكتاب المُصفر من اسرار وخفايا؟. لم انتظر طويلا،جلست في مقهى صغير يقع في زاوية وسط سوق السراي، فتحت الصفحات برفق لاقرأ: " فكرت وانا اجتاز الرصيف، بين بيتنا ومحطة الترام: لمن هذا الشعر الدافئ المنثور على كتفي؟ أليس هو لي، كما لكل ححي شعره يتصرف به على هواه؟ الست حرة في أن اسخط على هذا الشعر، الذي يلفت إليه الانظار حتى أمسى وجودي سببا في وجوده. الستُ حرة في ان امنح حامل الموس لذة تقطيع خصلاته وبعثرتهاا بين قدميه، ليرميها حامل المكنسة، في تنكة قديمة صدئة. تمضي السطور من امام عيني سريعة، تعلن الروائية انها " من الآن وحتى المساء، سابني مستقبلا لحياتي "، التفت حولي فقد توقغت ان زبائن المقهى ينظرون اليَّ وانا اتلصص على حياة بطلة الرواية، اغلقت الكتاب ووضعته بين كتب كنت اشتريتها وقررت ان اكمل الرواية في البيت من دون ان يعرف احد بانني اغوص في حياة امراة تريد ان تتحرر.تمضي الصفحات سريعة، ها هي بطلة الرواية لينا تقع في غرام طالب عراقي " بهاء " يقدم نفسهلها: " طالب في السنة النهائية من الجامعة، من الريف العراقي.. سئمت الحياة وجسدي بدأ يهرم وانا مازلت في الخامسة والعشرين من عمري ". تاخذنا ليلى بعلبكي في رحلة استكشافية داخل عالم فتاة تجد نفسها ضحية الشرط الانساني القاس الذي يفرضه عليها المجتمع، بطلة الرواية لينا تعلن ثورتها على فراغ الحياة، وعلى كل ما مترسخ من تقاليد بالية في اذهان الناس، وتثور على عائلتها وعلى مرؤسها بالعمل، انها رواية هجائية تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الشعوب العربية.. وتقدم شهادة على ان الطريق مختلف بين الرجل والمراة: " فالمرأة تنشد التحرر والرجل لا يستجيب إلا لرواسبه ". اننا نحيا في رواية ليلى بعلبكي احساسها الداخلي وطريقة تخيلها للعالم الذي تريد العيش فيه، نحيا معها بطريقة صاخبة غربتها وتمردها. ان قصة التمرد عندها تبدأ: " حين وعينا فجأة انفسنا، ومررنا بيدنا على وجوهنا وصدورنا، نتحسس اجسادنا، وتلفتنا بحذر نتمعن في ماضينا. وحملقنا باستغراب، ننقب عن صلة تربطنا بالاشخاص حولنا. ثم قفزناعلى الطريق هاربين "، تكتب خالدة سعيد: " عبرت ليلى بعلبكي عن جيلها بلغة هذا الجيل، ودافعت عن مشروعية تمرده، ورفضه بلا اقنعة ولا مساومة " – يوتيبيا المدينة المثقفة – يصف انيس منصور رواية " انا احيا " بالبصقة في وجه القرن العشرين: " ولم تكن لليلى بعلبكي رسالة ابعد من ذلك، فقد جائت روايتها خلاصة ما لديها فقالت كلمتها واختفت" - مع الآخرين -.

عام 1960 تنشر روايتها الثانية والاخيرة "الآلهة الممسوخة " وفيها تقدم عالما جديدا لا صلة له بعالم " انا احيا".هناك اسرة تتكون من الزوج " نديم " استاذ التاريخ والزوجة " عايدة " التي تتلهف لانجاب طفل. الزوج يعيش في عالم غارق بذكريات العلاقات النسائية عندما كان يدرس في اوربا، مشغول بدروسه وابحاثه، يدمن الشرب تخلصا من هموم حياته الزوجية، فالزوجة الغنية والتي لاتملك جمالا قد خدعته عندما تزوجها واكتشف انها على علاقة سابقة برجل، تقتصر علاقته بها على شؤون حياتهم اليومية، يتجنب النوم معها. يسمع الناس تقول: " مسكين نديم.. هذه المراة مرعبة. تزوج دراهمها التي تطير ساقيها الرخوتين. وعايدة لاتهتم لهجر زوجها لها، حيث تعوضه بدمية كبيرة اسمتها " نانا " تنام معها على السرير وتحتضنها، تشير عايدة مطرجي ادريس " ان شخصيات رواية " الالهة الممسوخة " ليس فيها من يستطيع ان يخلق لدى القارئ حس المشاركة ". انها تقدم رواية عالمها مكون من افراد كل منهم يسعى الى ذاته بالطريقة التي يراها تحقق غايته: " غداً سامارس كل هنيهات يومي واهنأ بها ".

ليلى بعلبكي المولودة في احدى قرى النبطية بجنوب لبنان في التاسع عشر من تشرين الاول عام 1936 لعائلة كان الجد فقيها يعلم الاطفال القراءة والكتابة، والدها يكتب الشعر العامي، تغقت بجدها كثيرا وفي مكتبته الصغيرة قرأت كتاب نهج البلاغة وتعلقت باشعارابي تمام والبحتري وقالت لجدها ان المتنبي يحب نفسه كثيرا.اكملت دراستها الابندائية والثانوية، دخلت جامعة القديس يوسف لدراسة الادب الشرقي، لكنها ستتوقف عن الدراسة لتعمل سكرتيرة في مجلس النواب اللبناني بين عامي 1957 و1960، ثم كصحفية في عدة صحف يومية. بين عامي 1960- 1961 تسافر الى باريس لتبدا دراستها في السوربون تجذبها مقاهي باريس، كانت الوجودية آنذاك في اوج تالقها، تترك الجامعة من جديد.. تقرا فرانسو ساغان فتتعلق بها.. تعود الى بيروت تنشر روايتها الثانية ومجموعتها القصصية الوحيدة ".. عشية الحرب اللبنانية تهاجر الى لندن لتستقر هناك، بعد ان تزوجت.. تتوقف عن الكتابة.. تعود الى بيروت عام 1979، تقضي سنواتها بين بيروت ولندن تظهر فجاة عام 2009 في معرض بيروت للكتاب بعد ان اقنعتها دار الاداب باعادة نشر كتبها الثلاثة، كتبت ليلى بعلبكي عن حب لم تسعد به، وباتت سيدة تعيش عزلتها مع ذكريات الماضي الصاخبة، موهوبة ومستقلة تدرك ما يدور حولها. ارتابت بالعواطف، وعرفت ظلم السياسة وجدت في البيت ملاذها الاخير من عالم وصفته ذات يوم بانه منحاز للرجال صرخت " نحن مخاوقات نفكر، ونحس، ونعي، ونستسلم، ونقاوم ".رفضت ان تتحول الى اداة بيد المجتمع: " لن انتظر امام المرآة طويلا.. من انتظر، ولماذا انتظر؟ لانني انثى؟ انتظر من يرفع لي الحجارة.. من يطعمني اللقمة..انا سجينة و لايمكنني ان اتجاهل ذلك ".. عبرت عن جيلها بلغة الجيل نفسه، ودافعت عن مشروع تمردها. في سنواتها الاخيرة اختارت عزلتها الطوعية حتى اعلان خبر وفاتها يوم 21 من هذا الشهر تشرين الاول عام 2023 لتسدل الستار على صفحة مثيرة من تاريخ الرواية العربية.

***

علي حسين - رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

مصدر هذه الأحداث هو المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي، الذي اعتمد على ما قاله أحد الجنرالات اليونانيين المشاركين في المواجهات. وقعت ثلاث مواجهات عسكرية دموية بين القوات اليونانية والسكان الأنباط في مدينة سلع التي يسمونها باليونانية "بترا" عاصمتهم ومحيطها. بدأها الجنرال اليوناني أنتيغونوس الأول الملقب بالملك الجنرال الأعور لأنه فقد إحدى عينيه في إحدى المعارك، سنة 312 قبل الميلاد. وبعد الوصول إلى إدوم، إلى الشمال مباشرة من بترا، أصبح أنتيغونوس مدركاً لثروة الأنباط، الناتجة عن قوافل تجارة التوابل.

* جمع الأنباط ثروة كبيرة عن طريق التجارة التي كانت تمر بعاصمتهم سلع "بترا". وكان لديهم نظام خزانات مياه سرية محفورة في الجبال لا يعرفها أحد سواهم، فإذا ما هاجمهم العدو وغزا بلادهم انسحبوا منها الى الجبال الجرداء التي لا ماء فيها ولا طعام إلا ذاك المُخَبَّأ لهم بسرية وبدأوا ضد الغزاة حرب عصابات. وكانوا يتاجرون باللبان والمر والبهارات الأخرى في قوافل من اليمن، عبر شبه الجزيرة العربية، عبر البتراء وإلى ميناء غزة لشحنها إلى الأسواق حول البحر الأبيض المتوسط. وقد فرض الأنباط ضرائب على القوافل المارة بأراضيهم ووفروا الحماية التي دفعوا مقابلها.

* المواجهة الأولى: كلَّف أنتيغونوس بتعيين أحد ضباطه، أثينيوس، بمهاجمة الأنباط وأخذ قطعانهم وثرواتهم كغنيمة. سار أثينيوس مع 4000 جندي من المشاة و600 فارس في بترا، معقل الأنباط، أثناء الليل بينما كان الرجال النبطيون يتاجرون بعيدا. وبعد وصوله من مقاطعة يهودا، بعد ثلاثة أيام من السفر لمسافة 160 كم، سيطرت قوات أثينيوس على المنطقة والمدنية بسهولة حيث كان هناك نساء وأطفال فقط ولم يقاومهم أحد، ثم انسحبت القوات اليونانية محملة بكميات كبيرة من اللبان والمر كما سرقوا حوالي 13.7 طناً من الفضة. وأخذوا معهم نساء وأطفالا لبيعهم كعبيد.

* أعاد أثينيوس وقواته تجميع صفوفهم، وانطلقوا عائدين إلى المكان الذي أتوا منه، وجعلوا خيمهم على بعد حوالي 36 كم، على افتراض أنهم كانوا بسلام بعيداً عن الأنباط. وقد رصدهم بعض البدو أثناء مغادرتهم. ثم تجمع 8000 جندي من سلاح الفرسان النبطي، متفوقين على الخيول والجمال في مثل هذه التضاريس القاحلة، لمطاردتهم بعد ساعات فقط. وخلال الليل هرب عدد قليل من الأسرى الأنباط من المخيم وتمكنوا من تحذير القوة النبطية وإبعادها عن مكان المخيم. وعند الساعة الثالثة ليلا هاجمت القوات النبطية معسكر القوات اليونانية بالرماح بينما كانوا نائمين، وقتل المهاجمون جنود المشاة اليونانيين الأربعة آلاف كلهم لم ينجوا من سلاح الخيالة الأربعمائة إلا خمسون مقاتل كما نقل هيرونيموس عن ديودوروس، وتم تحرير العائلات من الأسر.

* وبعد المعركة، أرسل الأنباط رسالة شكوى باللغة الآرامية، اللغة المشتركة للشرق الأوسط القديم، إلى أنتيغونوس. جادلت الرسالة بأن الأنباط لم يكونوا يريدون الحرب، لكنهم اضطروا لمهاجمة الإغريق دفاعاً عن النفس ولإنقاذ نسائهم واطفالهم. أجابهم أنتيغونوس أن أثينيوس تصرف من تلقاء نفسه وأن الأنباط كانوا معذورين حقًا.

* المواجهة الثانية: ومع ما قاله أنتيغونوس للأنباط، فقد أرسل بعد ذلك ابنه ديميتريوس مع 4000 فارس و4000 من المشاة في مسيرة نحو أرض الأنباط. كانت القوة مسلحة تسليحًا خفيفًا وتم تزويدها بالمواد الغذائية. ومع ذلك، نظر الأنباط إلى رسالة أنتيغونوس السابقة بعدم ثقة، وأنشأوا ملاجئاً وبؤراً استيطانية أعلى الجبل. بعد ثلاثة أيام، تجمع اليونانيون للمعركة قبل أن يفاجئوا بأن الأنباط على استعداد تام لمواجهتهم. لقد أرسلوا قطعانهم وجمعوا ما تبقى من ثروتهم على جبلٍ عالٍ احتجزه المقاتلون الذين تمكنوا من صد عدد من الاعتداءات.

بحلول اليوم التالي، طالب ديميتريوس، المعروف للعالم اليوناني باسم «بيزير»، بتقديم الأسرى والهدايا الثمينة كجزية. ومع ذلك، لم يتلق الجزية المطلوبة ثم انسحب. ولكن المؤرخ اليوناني فلوطرخس ذكر في وقت لاحق: «من خلال قيادة ديمتريوس اللطيفة والحازمة، فقد تغلب على البرابرة لدرجة أنه استولى منهم على 700 جمل وكميات كبيرة من الغنائم وعاد في أمان".

المواجهة الثالثة: بقي ديميتريوس في البحر الميت بعد انخراطه الفاشل مع الأنباط، لمعرفة المزيد عن صناعة القار. كانت بقايا البيتومين "زيوت سوداء تشبه القار مكونة من خليط من الهيدروكربونات وتستعمل كمواد لاصقة" التي تطفو بشكل عشوائي على السطح تجعل سكان المنطقة، بما في ذلك الأنباط، يخرجون في قوارب (في البحر الميت القريب) لجمع العينات التي كانت سلعة باهظة الثمن في العالم القديم. أبلغ ديميتريوس والده عن هذه الصناعة المربحة وكيف يمكن تسخيرها لدعم طموحاته الإمبريالية. أرسل أنتيغونوس بعثة استكشافية بقيادة هيرونيموس إلى البحر الميت. قام الأنباط، الغاضبون من توغل يوناني آخر، بقتل معظم البعثة باستخدام سهام النار. في ضوء هذه الهزيمة، تخلى أنتيغونوس عن خططه ولم يعد يفكر بالأنباط.

***

علاء اللامي

...................

* اعتمدنا في تحرير هذه المادة على ما ورد في فيلم وثائقي إضافة إلى ما ورد في الموسوعات الحرة بشيء من التعديل والتوضيح وتوثيق.

كيف بدأ هذا التَحول عند المفكر حسين مروة؟ وكيف مالَ الى الشيوعيين مع عدم الإنتماء الحزبي؟ وكيف أُبعدَ من العراق قسراً؟

هذا ما سأتعرض إليه الآن مُحاولاً الإختصار ما استطعت:

ترك مروة وعائلته مدينة الناصرية متوجهين الى العاصمة بغداد في سنة 1941، وأصبح مروة أستاذاً للأدب العربي في "ثانوية شَمَاش" التابعة للطائفة اليهودية العراقية في شارع الرشيد.

(في بغداد كنت لدى إنتقالي إليها، معروفاً الى حدِ ما، فلم أجد صعوبة في تكوين صداقات وعلاقات في الوسط الثقافي والسياسي العراقيَيِن. أمضيت العام الأول من إقامتي في بغداد في خط الفكر القومي ـ حزب الإستقلال ـ المعادي للشيوعيين واليساريين، لم أبدأ التحول الى الماركسية إلا بعد تَعرفي بحسين محمد الشبيبي، وقد أعارني "البيان الشيوعي" لكارل ماركس، وقد قرأته مرات عدة وتَمعنت في معانيه، ثم إجتمعت به ثانية فأعطاني كتاب لينين "الدولة والثورة". فإطلاعي على هذين الكتابين أثار إهتمامي بالماركسية ودعاني الى إلتماسها والبحث عنها، وبقيت علاقتي بحسين الشبيبي سرية، فقد عرفت أنه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي. لم أتعرف على "فهد" شخصياً، ولكنني تعرفت على بعض قياديي الحزب الشيوعي في جملة من تعرفت في الجو الثقافي والصحافي والسياسي، وخاصة بعد أن بدأت أعمل في جريدة "الرأي العام" لصاحبها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، ومجلة "الحضارة" لصاحبها الكاتب محمد حسن الصوري. ولكنني لم ألتزم خطأ فكرياً وتنظيمياً بواحد من هذه الأحزاب).

بدأ التحول عند مروة "حياتياً" أكثر منه فكرياً، بعد إعدام زعيم الحزب الشيوعي فهد، وحسين الشبيبي، وقد وقف مروة في التظاهرات آنذاك موقفاً مؤيِداً ومشارِكاً بحزم، وقد كتب مقالة "في عرس جعفر" بعد استشهاد الأخير في معركة الجسر، وهو جعفر الجواهري أخ الشاعر الكبير الجواهري.

(إنتهت الإنتفاضة بنجاح، وتشكلت وزارة وطنية شارك فيها حزب قومي، ما إن دخل الحكم حتى تخلى عن أهداف الإنتفاضة وشعاراتها... وإنطلاقاً من موقفي الوطني وملاحظاتي الموضوعية لسلوك ومواقف شتى الأحزاب صرت على يقين من أن الشيوعيين وحدهم يَتَحَمَلون بموقفهم وسلوكهم اليومي عبء صيانة الإنجاز الأساسي للإنتفاضة).

(من هنا تَكَونَ عندي ميل للشيوعيين يتقاطع مع نظرتي المادية وموقفي الوطني، ومن هنا بدأ يبدأ تَحولي الحاسم الى الشيوعية، رافق ذلك نَهَمُ الى الإطلاع الى الفكر الماركسي من مؤلفاته الأساسية، لكنني على الرغم من ذلك لم أنتمِ الى الحزب الشيوعي العراقي، فلم تكن قد نضجت عندي بعد فكرة الإنتماء الحزبي).

"التَعقل والعاطفة عند نوري السعيد"

آخر مقال نُشر لمروة في بغداد، وقد كتبه رداً على دعوة نوري السعيد للناس الى التَعقل. حاول مروة في هذا المقال تفسير ماذا يعني نوري السعيد بالعقل وماذا يعني بالعاطفة.

جاء نوري السعيد الى الحكم بعد أسبوع من نشر المقال، ولم يمر أسبوع آخر حتى أُخرج مروة من العراق وصودرت كل أوراقه الثبوتية.

"أنا عراقي .. وإن"

مقال تركه مروة عند رئيس تحرير جريدة "صوت الأحرار" البغدادية، ونُشر المقال بعد مغادرة مروة، ومما جاء فيه:

(وأنا ـ بعد ـ عراقي لأن حياة الشعب العراقي قد إنصهرت في حياتي، ولأن حياتي قد إنصهرت في حياة هذا الشعب، أكاد لا أعرف ألماً غير آلامه، ولا مطمحاً غير مطامحه، ولا عذاباً غير ما يلقاه من ألوان العذاب، وحتى أكاد لا أعرف لنفسي حاضراً غير حاضره، ولا مستقبلاً غير مستقبله. سواء عَلَيَ أكنت فوق أرضه المباركة وتحت سمائه المتجددة، أم كنت طريداً وراء الحدود.

وأنا منذ اللحظة التي ينفلت فيها من عينَيَ آخر مشهد من مشاهد العراق على "الحدود" أشعر أنني أول "عراقي" ينفلت من "عراقية" مقيدة مغلولة، الى "عراقية" طليقة من القيود والأغلال).

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...........................

يُراجَع:

سيرة حسين مروة كما أرادها أن تُكتَب ـ وُلدتُ رجلاً وأموت طفلاً، إعداد: أحمد حسين مروة، دار الفارابي بيروت ط1 2018، يُنظَر الصفحات:

242، 255، 256، 271، 272، 276، 277، 278، 279، 280

كلّما وجدتني هارباً من مصير البنفسجة الطموح في"العواصف"، أراني أدلف الى حديث التواضع لدى نبي أورفليس، وعندما أتساءل عمّا دهى "خليل الكافر" في الأرواح المتمرّدة، أتساءل مع المطرة عن المحبة.

وعندما تفيض مشاعري أسىً وأنا أقرأ عن مرتا البانية في "عرائس المروج"، تراني ألوذ إلى نبيّ جبران، أغمر مداركي بطيف ما أتى به هذا العبقري من ملامح خالدة تلامس الوجد وتغافل أردان المجتمع الى كلّ ما هو علويّ.

بعد مئة سنة على كتاب النبي، جئتُ أقارب الحياةِ والموت، الطعامِ والشراب، الحبِّ والزواج، جئت أستمع الى «المصطفى» الذي ظلَّ بعيدًا عن وطنه اثني عشر عامًا، وعاش بين سكان جزيرة «أورفليس» كواحدٍ منهم، منتظرًا عودته إلى مسقط رأسه .

جئت الى الكتاب الذي تُرجم إلى أكثر لغات العالم، وجعل من جبران ثالث أكثر الشعراء مبيعاً عبر التاريخ، بعد شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه.3847 JOUBPDF

جئت اصافح المصطفى، استعيد اقانيمه الثلاثة قبلةً لأسفاري، معه اقدّس الحب، معه اؤمن بالمساواة، ومعه اطبع الوفاء لوطني وشماً على جبيني. جئت أعيش اللحظة الجبرانية التي ما خانتني ولا خنتها يوماً. جئت أسيرُ في مواكبه انسج اثواباً بيضاء لعرائس مروجه انشد الصفاء خلف ارواحه المتمرّدة جئت أعبر مع عواصفه، انحني مع اقاح الجبال معانقاً بنفسج الوهاد، جئت اسكن في ليله ارصد النجوم لأنعم بنور الصباحات، وجئت أطير بأجنحته المتكسّرة التي كسرت الصمت وحطّمت اغلال التقاليد. انا الكافر الجبراني الذي اينعت حبّة الخردل في سطوره إيماناً في نفوس المُتعبين. انا المجنون الجبراني الذي ألهم العقلاء وعصر عناقيد الحكمة في كؤوسهم وسقاهم رحيق الرحمة والتسامح. انا العاشق الجبراني الذي أفرد للوطن قلباً لا تؤرّقه مفاتن النساء ولا ينال منه غبار المسافات. انا جبران النيويوركي ابكي جياع بلادي انا جبران الانسان انسج من دمعتي ابتسامة للفقراء احمل وجع الناس أغني لعصافير الشرق. انا جبران الذي قال : لو كنت جائعاً بين اهلي الجائعين مضطهداً بين قومي المضطهدين لكانت الايام أخفّ وطأة على صدري انا لست من يقيم المؤسسات والجمعيات لأخاصم اهلي باسم المراكز والمناصب. انا جبران الرغيف على موائد بلاده والسنبلة في ترابها والثمرة في بساتينها والطير في سمائها. ولست من يسحب اللقمة من افواه الجائعين ويعقر بطونهم برماح الجشع. انا جبران لبنان والشرق وكل الطوائف جبران الذي لم يجعل للقلم هوية دينية وللحرف حدوداً ولست جبران العصبية والمناطقية والانانية والاستئثار. انا دولتي الامداء والآفاق والادمغة وليست برجاً او قصراً او مربعاً. انا جبران الوفي اردّد تحت كل سماء: «إن لم يكن لبنان وطني لاخترته وطناً لي» ولست الذي يجعل لبنانه لبنانين يفتش عن وطن سواه. محبة الوطن عندي عاطفة وضعية وفضيلة علوية وليست ادعاءً وتودّداً للرذيلة أراني لا أمتهن العداء باسم المحبة والنيرونية باسم الفضيلة. اردّد مع جبران : «ويلٌ لأمّة مقسّمة الى اجزاء وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة». ولا انتمي الى قوم هذا الزمن الذين يقسمون ويمزّقون ويفرّقون باسم الحفاظ على الأمة انا جبران المؤمن بالاخوة الشاملة والعدالة والحرية والمساواة والتضامن الاجتماعي وطمأنينة اللبنانيين ورفاهيتهم. انا لست لا اتنكّر للحق وامارس الظلم والطمع والكبرياء انا جبران الذي قال ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين. ولست الذي يتمذهب ويتمترس خلف الطائفة والدين وينصب كمائن الحقد لأبناء وطنه. انا جبران القائل ويلٌ لأمة تحسب المستعبد بطلاً وترى الفاتح المذلّ زعيماً وويل لأمّة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودّعه بالصفير لتستقبل آخر بالتصفيق والتذمير. ولست اكتب لأمة اصبحت شوارعها ساحاتٍ للتطريب السياسي وجدرانها ملصقات فتنة وابناؤها رهائن العقائد وآلهتهم ابواق المنابر ومنتهى طموحهم جوازات السفر. انا جبران البوسطني الذي قال: انا ههنا بعيد عن النكبة والمنكوبين، ولا استطيع ان افتخر بشيء حتى ولا بدموعي. انا لست من يحوّل النكبة الى تجارة مربحة ويفخر بالصفقات على حساب سعادة الناس . فمن ضميره وجع الناس يبقى خالداً ومن حليبه نجيع الثلوج يبقى ناصعاً ومَن ضلوعه غصون الارز  يزداد صلابة ومَن جبهته شموخ المكمل ومرآته وجه الله يبقى مؤمناً ومن أمّه بشري وحضنه قاديشا يبقى لبنانياً خالصاً. معه اقرأ في البدائع والطرائف قائلاً للسياسيين : «لكم لبنانكم ولي لبناني، لبنانكم موّظفون ومديرون ولبناني تأهّب الشباب وحكمة الشيوخ. فهل من ابناء لبنانكم من يمثل الفرح في صخور لبنان ام النبل في ارتفاع جباله ام العذوبة في مائه. فهل بينكم من يتجرأ على القول: اذا متّ تركت وطني افضل قليلاً مما وجدته عندما ولدت؟ هل بينكم من يتجرأ ان يقول: لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان ودمعة بين احضانه او ابتسامة على ثغره؟

 أنا بريء من قوم يحسبون القحة شجاعة واللين جبانة؛ وأنا بريء ممن يتوهم الثرثرة معرفة والصمت جهالة والتصنع فنًّا

أنا مع جبران الذي يرى أن العواصف القوية تقتلع الشجر الضعيف إلا أنها غالباً ما تدفع الشجر القوي لبناء جذور أعمق."

فمن يطبّق اليوم كلام جبران واين الساسة الذين يعطون اكثر مما يأخذون، اين التجرّد والشهامة والاخلاص في زمن الانتشاء بخمرة السلطة والمركز واذلال الآخر؟ فجبران لم يسيّس الأدب، بل ادّب السياسة، حرّرها، نقّاها ورقّاها جاعلاً اياها في خدمة الشعب ومصالحه. ألمح جبران عاشقاً في بوسطن، اقرأه اديباً في نيويورك واسامره رساماً في باريس وارافقه ناهلاً للحرف في بيروت ليغافلني نبياً في اورفليس، وبين هذه وتلك يلملم الضوء سطوراً ويعلّقه ثريات في وطنٍ قمح البيادر فيه حنطة تزيّن ثغور أطفاله وليست اكياس رملٍ للفصل بين ابنائه. معه اعلق النواقيس على شرفات الكون لتبقى القرنة السوداء منارةً للعالم. معه اراقص قناديل المصطفى فوق كل موجة، ارفع الشراع مع اغنية كل صياد واغرق في مكتبات العالم سائلاً عن المطرة والمحبة والاولاد، امتطي حصاناً ابيض في حديقة النبي، اطبع جبيني بوداعة الفلاحين وانحناءة السنابل. معه أثور ليكون الوطنُ وطناً وليس مزرعة، معه اتمرّد وارسم بريشة الوفاء، اخطّ درباً الى مرقد العنزة، معه اخبز ارغفة الناس سماحاً وليس حقداً، معه يفيض لبنان خميراً ورسالة، معه جئت اليوم سفيراً لبلادي ليس كالسفراء طيراً ليس كالطيور عابراً للآفاق بدون جواز سفر، هاتفاً للقلوب بمفاتيح الرحماء وليس الظالمين، ألوّح للبيوت بمعاصم الاحرار وليس بأغلال العبيد اشقّ امواج العودة بمجذاف قدموسي وليس بعصا من حوّلوا امّ الشرائع شريعة غاب، معه جئت انتصر لأهل الحرف وليس للطلاسم. انا جبران الأبعد من الامداء والاسمى من الحلم ولست الأديب الذي حاولوا تعليبه على قياس عقائدهم. جئت اليوم افتح معكم صفحات هذا العبقري الوطنية استلهم منها وجهاً واحداً ولساناً واحداً وولاءً واحداً لأن من له وجهان يموت بلا وجه، ومَن له لسانان يموت بلا صديق، ومَن له ولاءان يعيش بلا وطن.

جئتُ أقول مع المصطفى:

"المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطة، وتدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم

وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم، وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج

وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدكم لنارها المقدسة

لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدّسة

المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها

المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة.

أكتفي بقول المصطفى عن المحبة لأننا نفتقدها أكثر ونخسرها أكثر ونجانبها أكثر، وما أحوجنا بعد مئة سنة الى العودة الى نبيّ أورفليس؟!

***

أنطوان القزي – رئيس تحرير صحيفة التلغراف في سيدني - استراليا

الصوت الاول

استلمت كتاب محمد عارف الموسوم – أسفار في العلوم والتكنولوجيا، الصادر عن دار المدى الرائدة في بغداد قبل أشهر من العام الحالي (2023)، وتذكرت رأسا غائب طعمه فرمان، الذي قال لي قبل اكثر من خمسين سنة مضت، وبعد ان تحدّث عن مكانة واهمية عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي في مسيرة القصة العراقية، ان محمد كامل عارف لو استمر بنشر قصصه القصيرة لاصبح واحدا من أعلام السرد الادبي في العراق، ولكن الصحافة سرقته من الادب، لكن محمد يكتب في مقدمة كتابه (أسفار في العلوم والتكنولوجيا) قائلا – (...وعندما سألني العالم اللبناني الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء الياس جيمس خوري عن تخصصي العلمي وشهادتي قلت له انا كاتب قصصي احكي قصة العلوم فحسب ....) . تذكرت غائب طعمه فرمان، واردت ان اقول له، ان النبوءة قد تحققت فعلا يا ابا سمير، ولكن غائب قد رحل قبل اكثر من ثلاثين سنة، ولهذا، قررت ان (استخدم !!!) عنوان واسلوب روايته الرائعة - (خمسة أصوات) لمقالتي هذه عن اسفارمحمد عارف في العلوم والتكنولوجيا، احتراما واجلالا لغائب طعمه فرمان ولتلك النبوءة التي قالها لي آنذاك حول الموقع المحتمل لمحمد كامل عارف في خريطة الابداع الادبي العراقي (ومن غير غائب كان يمكن له ان يتنبأ بتلك النبوءة الدقيقة!!!) ....

الصوت الثاني

محمد كامل عارف عمل ثلاثين سنة باكملها لكتابة اسفاره هذه، من عام 1991 الى عام 2021، ولهذا لا يمكن لاي قارئ ان (يلتهم!!!) هذا الكتاب بسرعة ابدا (كما يحدث مع الكتب التي نحبها وننتظر حصولنا عليها بفارغ الصير)، اذ ان هذا الكتاب يحتوي على أكثر من ثمانين (قصة!!!) حول العلوم والتكنولوجيا بالتمام والكمال، أكثر من ثمانين قصة صاغها محمد كامل عارف بهدوء وعناية فائقة مثل اي صائغ من صاغة الذهب باسلوبه (السهل الممتنع) الساحر الجذاب والملئ بالمرح والعمق والجمال والصور الفنية المدهشة، وباسلوبه هذا يدخل الى قلب القارئ وعقله رأسا، وهي الصفة التي امتاز بها محمد طوال مسيرته الفكرية سواء في ابداعه القصصي، او، في عمله الصحفي، منذ قصصه الاولى في خمسينيات بغداد الى اصداره صفحة (آفاق) الرائدة  بجريدة الجمهورية في بغداد السبعينيات مع رفيق دربه المبدع سهيل سامي نادر، الصفحة التي كان ينتظرها يوميا مئات القراء . 

  الصوت الثالث

لقد مزج محمد كامل عارف موهبته القصصية مع موهبته الصحفية، واستطاع ان يمنحنا قصة قصيرة رشيقة وجديدة ومبتكرة بكل معنى الكلمة  باسفاره  في العلوم والتكنولوجيا ، قصة قصيرة ابطالها الكومبيوتر والانسان الآلي والتلفون المحمول، ولا علاقة لهم بتاتا بقيس الذي كان (يقبّل ذا الجدار وذا الجدارا) في تلك الاطلال، حيث كانت تسكن ليلى قبل الاف السنين . قصص محمد عارف تعتمد على الوقائع والوثائق، اي انها (واقعية !) و (وثائقية !) حسب مفاهيم النقد الادبي . لنقرأ ملاحظة وزير الاتصالات وتقنية المعلومات سابقا في السعودية عنه – (...معظم الصحفيين يكتبون مقالاتهم بالصيغة التقليدية وهي سؤال معد سلفا وجواب، الا ان اسلوب محمد عارف كان مختلفا عن الاسلوب التقليدي ...فاتفقنا على ان يقضي يومين او أكثر يلتقي مع الباحثين مباشرة في مكاتبهم ومعاملهم ويستمع الى قصصهم ويشاركهم أحاديثهم على الغداء وفترات القهوة والشاي، وبعد ذلك كتب انطباعاته وتحليله ....وخرج من تلك اللقاءات بمادة لمقالين او أكثر.... وقد اعطت تلك المقالات صورة صادقة ومتوازنة عن وضع العلوم والتقنية .....)، اي ان محمد (يرسم صورا !!!) في مقالاته، او بتعبير أدق، يكتب قصصا في تلك المقالات عن دور العلوم والتكنولوجيا في حياتنا . 

الصوت الرابع

عناوين القصص مثيرة جدا، وهي تدعو القارئ للاطلاع عليها حتما – تأملوا معي هذه النماذج – بابل ..سينهض العراقيون // عام ابن الهيثم // ابن خلدون في قلب العالم وعقله // اسراء العلوم والتكنولوجيا الى فلسطين // كل عام والانترنيت بخير //  اليابانيون صنعوا بشرا آليين يعلكون  ويرقصون // .......الخ ...الخ . وعندما تقرأ تلك القصص، تندهش، اذ انه يتحدث هناك عن (حقائق) لا يلاحظها القارئ الاعتيادي، وهكذا نكتشف في تلك القصص ماذا قال محمد عارف لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن غزو العراق، وكيف اعلنت الامم المتحدة عام 2015 السنة الدولية للضياء بمناسبة مرور الف عام على تاليف ابن الهيثم (كتاب المناظر)، وكيف اخترع ابن خلدون علوم الاجتماع واكتشف وجود ايقاع لصعود وانحدار السلالات الحاكمة، ونعرف لماذا تسمى بغداد ب (الوردة في تاريخ الحضارة الانسانية)......

الصوت الخامس

قال لي صاحبي – لو توجد في العراق جائزة نوبل للقصة القصيرة، فانه يرشّح كتاب محمد عارف (اسفار في العلوم والتكنولوجيا) لها، قلت له ضاحكا، العراقيون يبالغون دائما، ولكني ارشحه لجائزة البطولة والصمود، لانه كتب في مقدمة كتابه هذا ما يأتي –

ماذا كان الرحالة السندباد البحري سيعمل عندما يجابه جدارا لا يمكن عبوره ؟ لعله كان يغني، وهل غير الغناء معبرا من جدار العمى و الشلل اللذين اصاباني؟.

***

أ.د. ضياء نافع

مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، انها قد تمنح فقط الزوايا الأكثر وضوحاً، استرجاع الاشياء والاحداث تفتقد الى الدقّة بعض الشيء، إلا أن اللقاء بذلك الاستاذ الوسيم الذي دخل قاعة الدرس، ثم اعتلى المنصة بشيء من البساطة والعفوية، لا أنساه مطلقاً.

كانت البداية أوائل تشرين من عام 1964، منذ خطواتنا الأولى في الدراسة الجامعية، نحن طلبة المرحلة الاولى في كلية التربية بإرثها العلمي والادبي، امتداداً لأهم صرح اكاديمي، تأسس في العهد الملكي، هو دار المعلمين العالية، ها نحن أمام الدكتور هادي الحمداني، يشد انتباهنا، نصغي اليه بشوق في محاضرة عن الادب العربي، كانت فرصة له في التعرف على اهتمامات الطلبة، بأسئلة هادئة، وديعة، غمرنا شعور من المحبة والألفة لم نعتدها في حياتنا الدراسية السابقة، لقد هجسنا منذ تلك اللحظة أن طاقة غير اعتيادية تتفجر بين جوانحه، وان مظهره الخارجي الذي يوحي باهتمام بالغ، يخفي ثراءً واضحاً بموهبة متميزة.

بمرور الأيام نمت العلاقة  واتسعت، لتتحول فيما بعد الى صداقات مع أولئك الطلبة الذين أظهروا ميلاً نحو الشعر والأدب عامة، كنت حينذاك من هؤلاء الذين حظوا برعايته وتوجيهه، تعلمنا من تواضعه وعلميته، كان داخله عدتّه وكلماته، أسمعني من كلمات الاعجاب وهو يستمع مع زملائي في الصف أثناء قراءتي لقطعة نثرية تميزت ببساطة لغتها وموضوعها، أذهلني شوقه وتعلقه بمدينة طفولته وصباه، وشبابه (الشطرة)، حين كنت أصف رحلتي لها عبر نهر الغراف.

قادتني هذه الذكرى لأستعيد مجداً علمياً وأكاديمياً شيده كبار مثقفي ومفكري وعلماء العراق، طواه الزمن، وعلاه الغبار، لأننا لانقيم اعتباراً لأساتذتنا ورموزنا،

للحمداني اهتمامات عديدة الجوانب، فهو المعلم والاستاذ والشاعر والخطاط والرسام، تنوعت مساهماته الثقافية، واتسعت دائرة معارفه، فأصبح اسمه من بين الاعلام العراقيين في ميدان اللغة والأدب والشعر، على الرغم من قلة انتاجه المنشور، إذ أعطى الدرس اهتمامه الأول، فكان نموذجاً متوهجاً ينير عقول طلبته بالمعرفة، ويثير زملاءه للاقتداء الجميل، والحذو المثابر، في التمكن من أدواته، بلغة شفافة جميلة، وصوت عذب.

ومثلما عرفه زملاؤه وطلابه عالماً جليلاً في تخصصه الأكاديمي، فقد عرفه الكثيرون شاعراً وخطاطاً، مازلت أحتفظ حتى هذه اللحظة بديوانه الشعري (ديوان الحمداني)، الذي ذيله لي بتوقيعه - وانا طالب انهل من علمه وادبه - بخطه الجميل الذي اعتز به غاية الاعتزاز. كما أعتز بأول طبعة لكراسة قواعد الخط العربي للخطاط هاشم محمد البغدادي، أهداني إياها، وهي موقعة من قبله.

بدأ الراحل الحمداني مسيرته معلماً في مدارس الشطرة، انتقل بعدها ليكمل دراسته الجامعية الأولى في دار المعلمين العالية في خمسينات القرن الماضي، ومن ثم الانتقال الى مانجستر البريطانية، ليكمل في معاهدها، دراسته العليا، ولشدة تأثره بالشاعر أبي فراس الحمداني، كانت رسالته للدكتوراه في شعر ابي فراس، ومن الطريف ان ديوان هادي الاول كان بعنوان (ديوان الحمداني)، وسمّى ابنه البكر (فراس)، فعرف هادي الحمداني أيضاً باسم ابي فراس الحمداني.

في قراءة سريعة لقصائده، نلمس بوضوح شدة حماسه للشعر العربي العمودي، ودفاعه عنه، غير ميّال للقصيدة الحديثة، واتجاهات التجديد فيها، على الرغم من انه عاصر جيلاً بدأ يكتب الشعر، متأثراً بهذه الاتجاهات. وتأخذ الأخوانيات مساحة واسعة من أغراض الشعر التي كتب فيها، إذ نكتشف عمق الصداقات النبيلة التي عاشها الحمداني، وتفجرت في قلبه بأصدق المشاعر، واسمى العواطف، وهي مقياس صادق لمبلغ الوفاء لأصدقائه.

كانت الاخوانيات بالنسبة له مرتكزا اساساً في حياته وشعره، لما ينطوي عليه من دلالات فكرية وأخلاقية، فضلاً عن أبعاده النفسية والحسية، فهو يدافع من خلال هذا المرتكز عن نفسه شاعراً، وعن محفزات الأخوّة في تفجير قدراته الشعرية.

أستاذي الحمداني...

لا أريد أن أرثيك، لكن هل يتسنى لي أن أردّ بعض الدين..؟؟ كنت مثل جميع الذين سبحوا في بحر المعرفة، لا يملكون سوى مجاذيف الحكمة والأمل، مضيت بعيداً في ارهاق قلبك، كنت جمالياً ذواقاً، تستثيرك الصورة الرائعة، وجمال الوجوه والعينين، وعذوبة الشعر.

أسفاً يوسدك الثرى!

***

جمال العتّابي

بقلم : تاتانج موليانا سيناجا

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لم يتوقع الكاتب والكاتب المسرحي النرويجي جون فوس (64 عاما) ذلك عندما أعلن فوزه بجائزة نوبل في الأدب لعام 2023. واحتفل بسعادة حصوله على هذه الجائزة المرموقة من خلال تناول العشاء مع عائلته.

شعر جون فوس ببعض الخدر عندما علم بفوزه بجائزة نوبل للآداب 2023. ولم يتوقع أن ينال الجائزة عن أعماله المبتكرة التي تعبر عما لا يمكن وصفه.

وكان فوس يقود سيارته في منطقة ريفية على الساحل الغربي للنرويج عندما اتصل به أمين الأكاديمية السويدية ماتس مالم لإبلاغه بفوزه بجائزة نوبل في الأدب يوم الخميس (2023/10/5). كانت المحادثة قصيرة حيث كان على فوس أن يركز على القيادة في طريقه إلى المنزل.

وفي مقابلة بثتها وكالة أسوشيتد برس، الجمعة، اعترف الكاتب المولود في هاوجيسوند بالنرويج في 29 سبتمبر/أيلول 1959، بأنه سعيد للغاية بالجائزة ويعتبرها شرفا كبيرا. ليس لديه طموحات كبيرة للحصول عليها.

قال: "أريد أن أكتب وأكسب رزقي بطريقة أو بأخرى. ويسعدني قبول كل الأشياء الجيدة التي تأتي في طريقي، لكن ليس لدي آمال كبيرة. أنا فقط لا أريد أن أستسلم ".

أصبح فوس رابع كاتب نرويجي يحصل على جائزة نوبل في الأدب. الكتاب الثلاثة السابقون هم Bjørnstjerne Bjørnson/ بيورنشتيرن بيورنسون  في عام 1903، وكنوت هامسون في عام 1920، وسيغريد أوندست في عام 1928. ونتيجة لهذه الجائزة، يحق لفوس الحصول على جائزة قدرها 11 مليون كرونة سويدية أو حوالي 15.6 مليار روبية.

تشمل أعماله العظيمة المكتوبة بلغة النينورسك النرويجية أنواعًا مختلفة، تتكون من الأعمال الدرامية والروايات والمجموعات الشعرية والمقالات وكتب الأطفال والترجمات. وترجمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة. وفي الوقت نفسه، تم عرض أعماله الدرامية أكثر من ألف مرة في جميع أنحاء العالم.

يعرض فوس في عمله مواقف يومية يمكن التعرف عليها مباشرة في الحياة الواقعية. يكتب بأسلوب مميز أصبح يعرف فيما بعد باسم  Fosse minimalism تتناول كتاباته أشياء قد يكون من الصعب التعبير عنها، مثل الأعمال الدرامية المفجعة للحياة.

أثارت روايته الأولى بعنوان راودت، سفارت (أحمر، أسود) عام 1983 موضوع الانتحار. تحدد هذه الكتابة المتمردة والعاطفية الاتجاه للأعمال اللاحقة في تقديم صورة مظلمة للحياة.

في روايته الثانية "Stengd Gitar" (1985)، يقدم فوس تنوعًا مخيفًا في أحد موضوعاته الرئيسية، أي اللحظة الحرجة من عدم اليقين. يُقال إن أماً شابة غادرت شقتها لرمي القمامة في البالوعة. أغلقت الأم الباب على نفسها، لكن طفلها كان لا يزال في الداخل. لم تذهب لطلب المساعدة لأنها لم تستطع ترك طفلها. يتم استكشاف هذه الرواية مع العرض المتعمق. وفي الوقت نفسه، هناك شعور قوي بالخوف والتناقض.

أسلوب حياة

بالنسبة لفوس، الكتابة هي أسلوب حياة. بدأ الكتابة في سن الثانية عشرة وجعلها ضرورة في حياته. وقال "إذا لم يكن لدي ما أكتبه، فلا أعرف ماذا أفعل. طالما أنني أستطيع الكتابة بشكل جيد، فهذا يكفي للنشر". ذكر فوس أن الكتابة هي عملية سلسة. إذا كان لديك الرغبة في الكتابة، يرجى الاستمرار. ومع ذلك، إذا لم يكن الأمر كذلك، فليكن دون إجبار.

أصبح فوس رابع كاتب نرويجي يحصل على جائزة نوبل في الأدب. الكتاب الثلاثة السابقون هم Bjørnstjerne Bjørnson في عام 1903، وكنوت هامسون في عام 1920، وسيغريد أوندست في عام 1928. ونتيجة لهذه الجائزة، يحق لفوس الحصول على جائزة قدرها 11 مليون كرونة سويدية أو حوالي 15.6 مليار روبية.

وقال "لا يمكنك الكتابة لأنك تعتقد أنك ستحصل على جائزة نوبل. بالتأكيد لن تحصل عليها. يجب أن تكتب لأنك تريد ذلك".

صرح رئيس لجنة جائزة نوبل، أندرس أولسون، أن عمل فوس يركز على انعدام الأمن البشري والقلق. تجمع كتاباته بين جذور اللغة والخلفية النرويجية والتقنيات الفنية الحديثة.

إن عنصر القرب في الكتابة يرسخه في عواطف القارئ. وهذا يجعل القارئ يشعر كما لو كان في البيئة الموصوفة في الكتابة.

قال أولسون: "الشيء المميز هو أنه يمس أعمق مشاعرك". تجمع بعض كتابات فوس بين الروابط المحلية اللغوية والجغرافية القوية مع النرويج.

وفقًا لأولسون، يعتبر فوس كاتبًا استثنائيًا في نواحٍ عديدة. كتاباته مؤثرة جدًا، مما يجعل من يبدأ بقراءة أعماله مهتمًا بقراءة أعماله الأخرى.

أربعة عقود:

نشأ فوس في منطقة زراعية صغيرة في ستراندبارم بالنرويج. درس الأدب في جامعة بيرغن. بالإضافة إلى كونه كاتبًا، عمل أيضًا كمترجم، بما في ذلك ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة النرويجية.

قبل نشر روايته الأولى Raudt, Svart,، كتب القصة القصيرة "هان" التي صدرت عام 1981. وكانت هذه القصة القصيرة بداية مسيرته الأدبية لأكثر من أربعة عقود.

تتميز كتابة فوس بعدد من الخصائص المميزة، مثل استخدام التكرار والمونولوج الداخلي والأسلوب الموسيقي المثير. في الثمانينيات، كان ينشر بانتظام النثر والشعر وكتب الأطفال.

وبعد أن أثبت نفسه كروائي وشاعر وكاتب مقالات، انطلق إلى عالم الكتابة المسرحية. كانت كتابته الدرامية الأولى في عام 1992 بعنوان Nokon Kjem Til å Komme (شخص ما سيأتي). وأعرب عن أن أقوى المشاعر الإنسانية هي القلق والعجز في أبسط العبارات اليومية.

مع ذلك، فإن أول دراما تم عرضها كانت Og Aldri Skal vi Skiljast (ولن نفترق أبدًا). عُرضت هذه المسرحية على المسرح الوطني في بيرغن عام 1994.

كان فوس كاتبًا مسرحيًا غزير الإنتاج. جاء ظهوره الدولي لأول مرة في عام 1999 عندما قام المخرج الفرنسي كلود ريجي بعرض Nokon Kjem Til å Komme. وفي العام التالي، جاء دور مسرح شوبوهن الشهير في برلين بألمانيا لتقديم مسرحية نامنيت في مهرجان سالزبورغ. ساعد هذان الإنتاجان في تمهيد الطريق لوصول أعمال فوس إلى المسرح العالمي.

على الرغم من أنه معروف عالميًا في المقام الأول ككاتب مسرحي، إلا أن فوس لديه أيضًا أعمال أدبية أخرى مثيرة للإعجاب. على سبيل المثال، تحكي روايتاه بعنوان "ميلانخولي 1" و"ميلانخولي 2" قصة حياة الرسام النرويجي لارس هيرترفيج، الذي يعذبه الحب بلا مقابل.

على الرغم من أنه لم يكن يتوقع الحصول على جائزة نوبل في الأدب، إلا أن فوس كان سعيدًا بهذا الإنجاز وأراد الاحتفال به بطريقة بسيطة. وقال: "أريد أن أحتفل بتناول عشاء لطيف مع عائلتي"

جون فوس:  ولد فى  هاوجيسوند، النرويج، 29 سبتمبر 1959

التعليم: جامعة بيرغن. الجوائز ومنها: جائزة نوبل للآداب 2023

وقائع تاريخ فكري ونضالي غير معلن

هل مازالت الكتابة عن القائد محمد هادي السبيتي (1930- الخالد) ممكنة؟ وما معنى أن نكتب عنه الآن، وقد رحل عن عالمنا منذ عقود من الزمان؟

عندما أقول معنى الكتابة، فإنني أشير بالتأكيد إلى أثر، وأهمية، والدور الذي لعبه ذلك الإنسان، والقائد، والمفكر الذي ملء الدنيا وشغل الناس بشخصه، وأخلاقه، وأفق تفكيره، وتمرده، وفي كيفية استشهاده.

تدعى هذه المقالة التي أكتبها راهناً تقديم سيرة محمد هادي السبيتي بشكل جديد ومختلف ومن خلال معطيات جديدة، تسعى إلى فك رموز بعض الإشكاليات التي تتعلق بالطبيعة النضالية في إطار نشاطه كقائد لحزب الدعوة الإسلامية في فترة الستينات، والسبعينات، والسنة الأولى من الثمانيات من القرن المنصرم، ولاشك أن واحدة من تلك الإشكاليات تكمن في إبراز شخصيته الحقيقية كمناضل سياسي ذي وجه إنساني نشطت دينامياتها في عمله كقائد لحزب تجلى نشاطه في لحظات مصيرية من تاريخ العراق المعاصر هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى أجد أن ما أكتبه عن السبيتي ستكون دعوة من أجل أن تتعرف الأجيال الجديدة إلى الأشخاص الذين يحضون بتاريخ مشرف وأصيل، فالتعرف على هؤلاء الأشخاص؛ ولاسيما السبيتي سيخلق نوعاً من التواصل، وصناعة المثل الوطنية العليا التي يحتاجها شبابنا في عراقنا الراهن، وأرى أنها من المسائل المهمة؛ وذلك لأن الجيل الحالي من الشباب ليس لديه معرفة بأسماء السياسيين الذي صنعوا التاريخ وأحدثوا فارقاّ في المجال التاريخي الذي نشطت دينامياتهم النضالية فيه؛ إذ إن سرد سير هؤلاء القادة سيضع تلك الأجيال على إطلاع بتجارب سياسية عراقية أصيلة ومخلصة قادرة على صناعة روح التحدي إنطلاقاً من تلك السير التي تكتب عنهم بموضوعية، فضلاً عن إعادة هيكلة الكيفية التي ينبغي بها مواجهة التحديات المصيرية؛ ولاسيما السياسية والفكرية منها.

ومما لاشك فيه أن هذه المقالة ستفجر العديد من الأسئلة في الأوساط السياسية والاجتماعية بشأن طبيعة النضال السياسي والفكري له؛ وذلك لما تنطوي على معلومات تنشر لأول مرة بشأن سيرته الفكرية، والنضالية، التي تختلف كثيراً، وبشكل جذري عمّا كتب عنه من قبل مؤيده، أومعارضيه.

بداية العلاقة

لقد عاصر والدي حسين الجاف (1918- 1998) شخص محمد هادي السبيتي منذ عام 1969 وتعرف عليه عن كثب عندما كان يدير خلية استخباراتية أستئنفها القائد الكوردي ملا مصطفى بارزاني، وقبلها كانت من مسؤولية الشيخ لطيف محمود الحفيد، وقد أشرف على بعض حلقاتها السياسية الشخصية الوطنية العراقية الكوردية اللواء فؤاد عارف؛ إذ كانت أحدى مهام هذه الخلية التواصل السري مع المرجع الديني للشيعة سيد محسن الحكيم عبر أنجاله سيد يوسف، والسيد مهدي، والسيد علاء، والشيخ عارف البصري، وعبد الصاحب دخيل (أبو عصام)، من أجل التنسيق بين المرجعية الدينية للشيعة، والثورة الكوردية التي كان يقودها ملا مصطفى بارزاني آنذاك.

وبعد الأحداث التي اتهم بها السيد مهدي الحكيم بالعمل على الإطاحة بنظام الحكم في بغداد عام 1969، ومن أجل حمايته من الإعتقال عندما كان يقيم في مدينة الكاظمية في حينها، فقد تم اختيار بيتنا في شارع فلسطين (منطقة الطرق والجسور) لتكون ملاذا آمناً له؛ وذلك بعد الاقتراحات التي قدمها عبد الصاحب دخيل  بأن يكون بيته في الحرية، أو بيت محمد هادي السبيتي ملاذا آمناً للسيد مهدي الحكيم، لكن شقيقه سيد علاء الحكيم وجد بعد (الاستخارة) أن بيتنا هو الملاذ الأكثر اطمئناناً وأمناً على حياة شقيقه سيد مهدي.

وبعد هذه المناسبة التاريخية الخطيرة في نوعها يتعرف والدي على المهندس محمد هادي السبيتي، وقد كان من الصدف الطيبة أن يكون من سكنة شارع فلسطين (حي 14 تموز) وهي منطقة قريبة جداً من محل سكننا، وقد اخبر أبو عصام والدي أن المهندس أبو حسن السبيتي هو من الثقاة (وهي لفظة يتداولها مراجع الدين الشيعة ويطلقونها على الأشخاص المخلصين، وعلى قدر المسؤولية)، ويمكن التعامل معه بحرية ومن دون قلق، أو خوف وبالفعل يتعرف والدي عليه، وقد جمعتهما صداقة سرية جداً بسبب نشاطهما السري والخطير جداً، وقد طلب والدي منه أن لا يعرّفه على عائلته؛ لأن العمل الذي يقوم به خطير وحساس جداً، وقد تعلم من ملا مصطفى بارزاني القاعدة الاستخباراتية الذهبية التي تقول: إن أي نشاط استخباري تقوم به يجب أن لا تعلم به يدك اليسرى ما تقوم به يدك اليمنى.

لذلك فقد كان التواصل مع الداعية الاسلامي المهندس أبو حسن السبيتي بالقرب من منطقة قناة الجيش التي تقع شرق شارع فلسطين والقريبة من محلات سكن بيتنا وبيت السبيتي، ومن الجدير بالذكر أن والدي لم يتعرف عليه بوصفه أحد مؤسسي حزب الدعوة الاسلامية، بل تعرف عليه بوصفه داعية اسلامية قريب من المرجعية الدينية، وهذا دليل على قوة السرية والكتمان الذي كان يمتاز به ذلك أشخاص ذلك الحزب، ولم يعلم بحقيقة، إلا في نهاية سبعينات القرن المنصرم، فكل ما يعلم عنه أنه داعية اسلامية ومهندس يشتغل في وزارة الصناعة، ويعمل ضمن مشروع معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية في سامراء.

السبيتي ورفاقه في كوردستان

في ربيع عام 1971 اقترح أبو عصام على والدي زيارة كوردستان ولقاء القادة الكورد، وقد رحب والدي بالفكرة، وأرسل المقترح إلى كاك صالح اليوسفي وحصلت موافقة كاك إدريس بارزاني الذي كان مسؤول المكتب العسكري في حينها، وبالفعل تحققت الفكرة بزيارة كوردستان وقد ضمت مجموعة دعاة الإسلام كل من: أبو حسن (محمد هادي السبيتي)، أبو عصام (صاحب دخيل)،  والشاب أبو زينب ( مهدي عبد المهدي)، وقد تخلف عن ركب الزيارة الشيخ عارف البصري بسبب انشغاله في إدارة اعماله في الكرادة.

يخبرني والدي أن جدول الزيارة تضمن ضيافة ولقاء في مقر كاك وهاب آغا جندياني عضو مجلس قيادة الثورة الكوردية وثقة ملا مصطفى بارزاني، وقد فرح كثيراً بهذه الشخصيات التي تتعاطف مع الثورة الكوردية وتتبرع بالمال والأدوية، وقبلها تمت زيارة الشيخ محمد آغا ميركةسوري وعائلته بمناسبة مقتل ولده جميل، وقد كان في استقبالهم بطل معركة هندرين كاك فاخر ميركةسوري نجل شيخ محمد الذي تعرّف عليهم أصلا في بغداد، ولا سيما الأخ أبو حسن السبيتي، وأبو عصام، والشيخ عارف البصري.

وبهذه المناسبة أيضاً يحدث لقاء بين كاك إدريس بارزاني ومجموعة الدعاة وقد استقبلهم في منطقة قسري، ودار حديث عن هموم النضال في مقارعة البعثيين، وما يخلقونه من مشكلات ومؤامرات ضد قيادة الثورة الكوردية على المستوى العائلي والعشائري، وبهذه المناسبة سلّم أبو عصام معلومات لكاك إدريس عن مخططات لضرب البنية الاجتماعية لقيادة الثورة الكوردية يقودها جهاز الأمن العام لناظم كزار وطلب من قيادة الثورة الكوردية الحيطة والحذر، فجماعة ناظم كزار يمارسون نفس اللعبة داخل المرجعية الدينية عبر اطلاق الاشاعات وزرع وكلاء أمن من رجال الدين المقربين للمرجعية من أجل إشاعة الفوضى داخل المذهب الشيعي. وبمناسبة زيارتهم لكوردستان قدم الدعاة مبلغا مالياً لدعم الثورة الكوردية.

يقول والدي أنه أثناء لقاء كاك إدريس بارزاني مع محمد هادي السبيتي ورفاقه، سأل كاك إدريس الجماعة إن كان لديهم تنظيماً عسكرياً لمواجهة نظام البعث، فكان جواب السبيتي اننا كدعاة مؤيدين من المرجعية نسعى إلى تحقيق دولة الإسلام في نفوس المؤمنين سلماً، وليس بالقوة الآن، لكن الظروف هي التي ستفرض اشتراطاتها في المستقبل إن كانت المقاومة العسكرية لنظام حكم البعث ضرورة وطنية.

وبعدها حصل حوار شخصي وثقافي بين كاك إدريس الذي فتح حوارا فكرياً مع السبيتي، وقد اخبره أنه عندما كان تلميذاً في متوسطة الغربية إطلع على كتاب جمهورية افلاطون وقد كان معجباً بفلسفته، ولا سيما في تناوله موضوع العدل، وهنا يخبره السبيتي أنه أطّلع على كتاب الجمهورية باللغتين العربية في بغداد، والانجليزية في أمريكا، وكان يرى أن العنوان الأفضل للكتاب ليس (الجمهورية) بل (ما العدل؟) فالكتاب كما شرحه السبيتي يبحث في كل أجزائه عن العدل ويجدها في الدولة العادلة التي يحكمها الفلاسفة، وهنا يعجب السبيتي كيف ان كاك إدريس قد إطلع على الكتاب في المتوسطة وقد تكون لغته العربية ضعيفة جداً، لكن كاك إدريس يخبر السبيتي أنه كان من المتفوقين في مادة اللغة العربية بشهادة المعلمين الذين درّسوه وزملائه من بني قومه، وزملائه التلاميذ العرب أيضاً.

بعد أن تمت زيارة كاك إدريس في مقره العسكري يقترح أبو حسن السبيتي زيارة دهوك، فقد سمع أن جبالها تشبه جبال لبنان التي يعشقها كثيراً، وبالفعل يأخذ والدي مجموعة الدعاة إلى دهوك، وقد تم ضيافتهم من قبل شيخ الدوسكية العام والمناضل كاك ديوالي آغا، وقد كان معهم كاك جميل جميل برواري (والد اللواء فاضل برواري قائد العمليات الخاصة في جهاز مكافحة الإرهاب) الذي اصطحبنا برحلة جبلية في منطقة برواري بالا، وهي منطقة جميلة جداً تقع عند الحدود التركية، فضلا عن انها مكان تواجد عشيرة كاك جميل.

وفي هذه الزيارة طلب أبو زينب الخالصي أن نزور مقرات الثورة الكوردية، وقد نفذ والدي طلبه بزيارة منطقة زاخو حيث مقر القائد عيسى سوار الذي استقبل الضيوف بحفاوة شديدة، وقد أهدى مسدسات إليهم، وبدورهم جمع الضيوف الأسلحة  وأعطوها إلى أبو زينيب ليستعملها عند الضيق، وبعدها قال أبو حسن السبيتي باللغة الانكليزية ( In Kurd I trust ). وقد بقي تواصل السبيتي مع الكورد بعد لقاءه الأول بكاك إدريس بارزاني الذي يعد أول تواصل بين مجموعة الدعوة الأسلامية بالثورة الكوردية، وأما اللقاء الثاني في عام (1980) فقد كان في سوريا وفي بيت السيد مهدي الحكيم، وقد كان مع مام جلال، وكاك مسعود بارزاني، والدكتور محمود عثمان، وغيرهم من القادة الكورد.

لم يكن والدي مثقفاً  بمستوى أبو حسن السبيتي، لكنه كان ذكياً وقد تعلم منذ شبابه المبكر على يد الملالي والكتاتيب في الجوامع بين منطقة بينجوين، وسنندج، وكرمنشاه اللغة الفارسية، والعربية، والانجليزية، والتركية، بل وحتى الروسية، وقد تأثر بالشخصية الوطنية الكوردية (توفيق وهبي) على المستوى الثقافي، وقد كانت حصيلته الثقافية قراءة جمهورية أفلاطون، وأشعار الخيام، وسعدي، والجواهري، وزرادشت نيتشة الذي كان والدي يعتقد أنه كتاب النبي زرادشت حتى جاء السبيتي ليصحح لوالدي حقيقة الكتاب الذي ليس لزرادشت، بل للفيلسوف الالماني نيتشة الذي أختار زرادشت عنواناً لكتابه الفلسفي، لأجل تداوله كثقافة مضادة لكل ما هو روحاني، ومن أجل تعظيم دور الجسد، وإرادة القوة في صناعة تاريخ الوجود الانساني.

وبعدها تعلم والدي من السبيتي أن نيتشة يرى أنه يجب العناية بالجسد وعدم احتقاره، فعقولنا توجد في أجسادنا، وليست في أنفسنا؛ لذلك ومن خلال ماسمعته من والدي فقد كانت شخصية السبيتي الثقافية ذا ثراء فكري ومعرفي فهو شخص ألمعي أتقن الإنجليزية، وعلوم الهندسة، فضلاً عن جولاته المهنية في أوربا وأمريكا التي يبدو أنها شكلت أفقه الثقافي غير التقليدي، كما شكل الأخوان المسلمين، وحزب التحرير، وتراثه الديني أفقه الأسلامي، لكن بشكل أحدث الفارق في هويته الثقافية.

لقاء تاريخي بين السبيتي  وفؤاد عارف

في صيف (1971) إقترح أبو حسن السبيتي إقامة وليمة للشخصية الوطنية الكوردية فؤاد عارف؛ وذلك من أجل التعرف عليه عن كثب كونه كان متصرفاً لكربلاء، بعد ثورة 14 تموز، وله أدوار مشرفة كما يذكر سيد مهدي الحكيم في كل مناسبة يذكر فيها هذا الرجل، وبالفعل ينقل والدي الدعوة إلى كاك فؤاد عارف الذي يستعد في كل صيف السفر خارج العراق، وقد قبلها بكل سرور.

وبحسب خطة أبو حسن السبيتي كما يخبرني والدي تكون بداية اللقاء عند جامع المرادية مقابل وزارة الدفاع، وبعدها يتم سيراً على الاقدام لشرب الشاي في مقهى حسن عجمي، وبعدها الذهاب إلى الكرادة عند الشيخ عارف البصري حيث مكان إقامة الوليمة، وبالفعل حدث اللقاء بحسب الخطة المرسومة من قبل أبو حسن السبيتي الذي يتقن عمله بطريقة أنيقة، كإناقته التي تشبه إناقة نجوم السينما، ومرتبة ورقيقة وحضارية جداً.

لقد حضر فؤاد عارف ونجله فرهاد، ووالدي، بالموعد المقرر، وعند جامع المرادية يستقبل أبو حسن ضيفه كاك فؤاد عارف ويتجاذبان أطراف الحديث عن المدينة، والسياسة، ودور العسكر في إدارة العراق، وكان ذلك في مقهى حسن عجمي الذي تحدث عنه فؤاد بحسب والدي عن دور المقهى الذي كان مكان للقاء الوزراء والعسكر قبل الذهاب إلى وزارة الدفاع من أجل حضور اجتماعات الزعيم عبد الكريم قاسم التي تبدأ الساعة العاشرة مساءا وتنتهي عند الفجر مع فطور يقيمه الزعيم للمجتمعين على حسابه الخاص.

وبعد جلسة المقهى يذهب المدعوين برفقة السبيتي إلى الكرادة حيث مقر الشيخ عارف البصري الذي كان بانتظار الضيف ومعه عدد من الشخصيات من قبيل: السيد محمد باقر الصدر، والسيد علاء محسن الحكيم، والسيد محمود الشاهرودي، والأخ أبو عصام الذين احتفوا بفؤاد عارف وأثنوا على عمله ونشاطه ومواقفه، وبدوره شكر كاك فؤاد الحضور وأخبرهم أن كل ما قام به هو واجب، ولخدمة العراق، ويتشرف بخدمة الناس الشرفاء أصحاب المواقف، ولا سيما مواقف السيد محسن الحكيم في حرمة دم الكورد.

لكن الشيء المهم الذي وجده والدي في هذه الوليمة المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها أبو حسن السبيتي، ذلك الأفندي الأنيق الذي يجلس بين رجال الدين الذين يتمتعون بهالة القداسة، فقد كان أشبه بقائد كبير بين الحاضرين، وكان عندما يتكلم يصغي اليه الجالسون بشيء من القداسة والطاعة كالتي يشاهدها في مجلس ملا مصطفى بارزاني، فضلا عن ثقافته العالية جداً، وقد أخبر والدي انه ينتظر أن تستقر الأمور لكي يقرأ: إبن خلدون، وزرادشت نيتشة، وعلي الوردي، وجمهورية أفلاطون، والسياسة لأرسطو، والمدينة الفاضلة لكارل بيكر فهي كتب مهمة لتأسيس العقل المستنير على حد تعبيره.

في أواسط عام (1985) حدث لقاء في مطعم بشارع السعدون وكان القائم على هذا اللقاء كاك كريم فتاح بيك الجاف وحضرته أنا شخصياً، وكاك فرهاد نجل فؤاد عارف الذي أعتبره مثقفا من الطراز الممتاز قد تحدث بشكل مفصل عن دعوة السبيتي التي أقامها عند الشيخ عارف البصري صيف عام 1971، وكان من أهم ما أخبرنا به هو الثقافة العالية التي يتوافرها محمد هادي السبيتي عند حديثه عن الهموم السياسية، والفكرية، والاجتماعية للمجتمع العراقي بخاصة، والإسلامي بعامة، وقد كان معجباً بتجربة الحزب المسيحي الديموقراطي في المانيا؛ ذلك الحزب الذي جمع البروتستانت والكاثوليك، بل وحتى الملحدين جبهة واحدة بقيادة اديناور لإعادة إعمار المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ورأى أن خلاص الأمة العربية والإسلامية هو بتكرار هكذا تجارب لحصول النهضة فيها من خلال توحيد المذاهب، والأديان، والأحزاب في كتلة وطنية تسعى لإعمار الأوطان، وهذا على المستوى السياسي.

وأما على المستوى الفكري فقد كان رأيه بالتجربة الوجودية، والشيوعية في العالم العربي، فقد أنتقد السبيتي كما يخبرنا كاك فرهاد بشدة الفلسفة الوجودية لا بسبب الحادها، بل بسبب تقديمها البعد الفردي للإنسان على حساب وجوده الإجتماعي بشكل متطرف وقد علمنا أرسطو بحسب السبيتي أن الإنسان كائن اجتماعي، وقد أعاب السبيتي ايضاّ على العقيدة الشيوعية التي تستنتد إلى دكتاتورية العمال والفلاحين وتهمل التعددية الاجتماعية.

ويستمر كاك فرهاد في الكلام ويقول أن السبيتي من الناحية العلمية كان معجباً بالقانون الثاني للثرموديناميك، ذلك القانون الذي يرى أن كل شيء يتجه نحو الفوضى ويفقد انتظامه الأصلي، ولا يمكن اعادته، أو تكراره، بإعادته إلى نهج أسلافه، لذلك فقد كان يقترح أمام ضيوفه فكرة تجديد أفكارنا وعقائدنا الدينية إنطلاقاً من المتغيرات العملاقة التي يتعرض له الوجود الانساني في مناحيه كافة، ويستمر كاك فرهاد في كلامه ويقول أن الشخص الوحيد الذي كان يتفاعل مع السبيتي بجدية هو السيد محمد باقر الصدر الذي كان يقول أن السبيتي هو ملهمه، ومصدر الافكار الجديدة التي يغتني بها، وأن كل لحظة يلتقي فيها بالسبيتي يكتسب عقله فكرة جديدة تنير وجوده الفكري والمعرفي.

هذا ما حدثنا به فرهاد فؤاد عارف لما سمعه من آراء فكرية لمحمد هادي السبيتي التي أرى أنها نتاج تجارب فكرية شخصية شكلت منظوراته الفلسفية ورؤيته للعالم، وهي أشبه بوجهات النظر التي أبتكرتها الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، والفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي اللذان نطلع على أعمالهما الفكرية راهناً، تلك الأعمال التي تعزز في الوجود الأنساني روح المشاركة والاعتراف بالآخر المتعدد، وتنبذ ثقافة الفكر الواحدي، والإقصائي من الفضاء العمومي الذي يلتقي فيه الناس.

تلك الأفكار التي تنبه اليها السبيتي في بواكير فكره السياسي والديني، والتي تعبر عن أصالته في التفكير، والروح الانسانية التي تقطنه التي هي على حد تعبير فرهاد فؤاد عارف نتاج ثقافة البحر المتوسط، ثقافة التعدد الثقافي والمشاريع الفكرية الغربية التي يتأثر فيها العالم كله؛ إذ إن السبيتي حتى وإن ولد في العراق فقد كانت جذوره الأولية (اللبنانية) سببا في تشكل ثقافته الإنسانية، وهي وجهة نظر لا تخلو من الصحة.

تشكلات "الظاهرة السبيتية": الحدود والآفاق

يمكن القول مما تقدم: لقد مثل محمد هادي السبيتي تجربة نضالية أصيلة يمكن أن نطلق عليها (الظاهرة السبيتية)، تلك الظاهرة التي تشكلت في ضوء تجربته السياسية والدينية، وتمكنت من أن توصل أسئلتها الخاصة عن الوضع السياسي العراقي في إطار الدولة الوطنية التي تأسست عام 1921، وانتجت تجربة سياسية إسلامية، إلى جانب التجارب الشيوعية، والقومية، والبعثية، لكن التجربة الاسلامية في حلتها السبيتية على عكس التجارب التي ذكرناها ابتكرت نسقاً ثقافياً، وفكرياً شكلت تجربة سياسية أصيلة، تجربة كانت تسعى إلى إثارة الأسئلة النضالية غير المحملة بالحمولات الأيديولوجية المغلقة، أسئلة تكتسب معطياتها في أطار راهنيات الواقع العراقي والإسلامي، وتمثل إضافة نوعية إلى التجارب السياسية النضالية العراقية، لكن المشكلة التي كانت تواجه السبيتي تكمن في التضاد الحاد بين هرم القيادة والهيكل الداخلي لتنظيمه؛ أي بين حداثته النهضوية، وأصولية رفاقه الذين يمثلون الجانب التقليدي، وهم بعض رجال الدين، أو مقلديهم في سياق التجربة الاسلامية الشيعية في العراق.

لقد نشأ السبيتي متمرداً وثائراً، وكانت ثورته تنبع على وجه التحديد من ردة فعله تجاه القيم، والعادات، والتقاليد التي تتأسس عليها ثقافته الدينية، والمذهبية، والسياسية السابقة؛ أعني تجربته مع حركة "الاخوان المسلمين"، و"حزب التحرير"، وبعدها تنظيمه الذي يقوده "الدعوة الاسلامية"، وقد كانت تلك الظروف والمناسبات هي التي شكلت تكوينه وتنشئته، وغذاه شعور عام بالرفض والتحدي الذي اجتاح جيله في الجامعات، والعمل السياسي.

لا شك أن من يطلع على تجربة السبيتي السياسية، سيجد أنها تتأسس على الاستقلال الذاتي لإرادة كل من تنشط دينامياته في العمل السياسي كقائد/ داعية اسلامية وهي في جوهرها فردية وتتحقق في إطار الحرية، وأن أي قيادة سياسية يجب أن تزيح من أدبياتها ثقافة القطيع والانقياد الأعمى في العمل السياسي، لذلك يجد السبيتي أن القيادة الحقيقية هي تلك التي تحول الدعاة إلى شخصيات بارزة تنشط دينامياتها في إطار "الارادة الحرة"، و"الوجدان الاجتماعي"، و"العقلانية" التي هي الاشتراطات المعقولة لعمارة الأرض كما عرضها في مانفيستو التفاهم عام (1980)،وهي بالتاي ليست في حاجة لمرجعيات مركزية( دينية، حزبية، سياسية)، بل حتى تلك المرجعيات تغدو افرادا، واعضاءا في تنظيماتها السياسية، وليست لديها ولاية على الآخرين، فالتنظيمات التي يؤمن بها السبيتي؛ ولاسيما في المجال السياسي يجب أن يكون القائد والجماعة التي يقودها أحراراً، وليس عبيداً، ويقودهم هدفاً مشتركاً؛ فضلا عن أنه يجب عدم الاهتمام بالأصول الفكرية والاعتقادية للمشاركين في التحالفات السياسية عند العمل في إطار إعمار الأرض حسب السبيتي، وهذا ما يمكن اعتباره مثالاً للمثقف العضوي الذي يسعى إلى تحقيق وجوده في إطار كتلة تاريخية تشكل مشروعاً ثقافياً وسياسياً من أجل تأسيس عراق يتحقق فيه مفهوم العدالة الاجتماعية، واحترام كرامة الإنسان.

خلاصة القول، وانطلاقاً من المعطيات اللامفكر فيها، والتي حجبتها عنا الظروف التي شكلت تحديات مصيرية للقائد الخالد محمد هادي السبيتي، نجد أنه كان يتعامل مع أشكال الحياة بوصفها منظومات ديناميكية مفتوحة، تلك المنظومات التي تأبى أن تكون ايديولوجيات مغلقة تعمل بشكل روتيني، أو مكيانيكي تؤسس لدوام الأشياء وثباتها على وتيرة واحدة لا تتغير مطلقاً؛ وذلك لأن أشكال الحياة يستحيل اختزالها في سياق عقيدة مغلقة، وهي مفتوحة على الاحتمالات كافة من أجل احتمال مستحدثات الأمور، وتجعل من أفرادها شخصيات بارزة ترتفع بوضوح بما حولها، وترفض الرتابة وتتعامل مع راهنيات عالمها بقوة حضورها الخاص، وليس بشكل آلي يسعى إلى التطابق مع ما هو سائد، بل مع ما هو ممكن يفسح المجالات للمفكر، أو القائد الاستراتيجي استئناف التفكير، والتحليل، والنقد؛ وذلك لأن منظومات الحياة المعقدة لاشيء مستقر في نظامها، وكل شيء فيها يتغير، أو يتحول بفعل الظروف، والمستجدات إلى واقع جديد قد يحدث الفوارق.

ولاشك أن هذا التأليف الجديد من التجربة الفكرية والسياسية التي أطلقنا عليها مجازاً"الظاهرة السبيتية" قد أحدثت صدمة كبيرة عند أصحاب الفكر التقليدي من الدعاة الذي يسعون إلى الدفاع عن مبادئهم بوصفها حقائق مطلقة؛ تلك التي كان السبيتي يرفضها رفضاً تاماً ان تكون منطلقاً للعمل السياسي والفكري؛ ولاسيما تلك التي تتعامل مع الواقع السياسي العراقي بالثقافات المذهبية المليئة بالتعقيدات التاريخية، والايديولجية الحزبية المغلقة التي رفض السبيتي أن تكون قواعداً لتأسيس ثقافة سياسية للدعاة الاسلاميين الذين يسعون إلى تغيير الواقع السياسي العراقي، وإحداث الفارق فيه*.

تكتفي هذه المقالة بسرد الواقع الفكري لنضال القائد محمد هادي السبيتي، وقريباً سيصدر كتاب بعنوان: "ذكريات رجل عادي: قصة العمليات الاستخباراتية للثورة الكوردية" فيها معلومات تقال أول مرة عن اعتقال السبيتي وما حصل له في العراق قبيل استشهاده.

***

الدكتور كريم الجاف

أكاديمي- العراق

الروائي الذي قرر أن يُشغل النقاد " 300" عام

لا يمكنك أن تكون من عشاق الرواية دون أن تتعثر برواية " يوليسيس "، وسيطلب منك مؤلفها المواطن الايرلندي جيمس جويس أن تكون صبورا، ولا يهم أن تتململ احيانا، وترمي الكتاب جانبا في احيان اخرى، وربما تعصر دماغك وأنت تقرأ كلماته، بينما يُخرج لك ابطال الرواية السنتهم ساخرين لأن معرفة كيف يكتب جيمس جويس رواياته هي دليلك للدخول إلى عالم الرواية الحديثة. عندما تعثرت للمرة الاولى برواية جيمس جويس، كنت تحت تاثير مسرحيته " منفيون " التي كتبها جويس عام 1918- صدرت ترجمتها العربية في اوائل السبعينيات ضمن سلسلة المسرح العالمي –،وهي المسرحية الوحيدة التي كتبها جويس، وكانت تجربة صعبة لابطال منعزلين يبحثون عن ذواتهم، وكنت اتمنى ان اقرأ روايته يوليسيس التي يتم ذكرها أكثر من مرة في المقدمة التي كتبها المترجم امين العيوطي.

مجلة الكاتب المصري كانت نفطة الانطلاق نحو جويس، فقد عثرت فيها على مقال كتبه لويس عوض بعنوان " جيمس جويس " وفيه ينبهني الى ان صاحبنها الذي سخرت من مسرحية يعد " إمام القصة في القرن العشرين ومجددها " قال عنه ت.س. اليوت انه اعظم من كتب بالانكليزية بعد الشاعر جون ميلتون مؤلف " الفردوس المفقود "، ويخبرني لويس عوض بما فعله برنادشو عندما قرر ان يجعل من رواية يوليسيس طعاما لنار المدفأة وهو يردد :" إن هذا الكتاب يثبت ان رجال دبلن وغلمانها لا يزالون على ما كانوا عليه في أيامي من قذارة في التفكير لا سبيل الى ازالتها ". هذه اذن رواية يوليسيس التي اصابت روائيا شهيرا مثل  د.ه.لورنس بالملل.

ألم يسبق لك أن وقعت في سوء فهم مع كاتب الى حد كنت تخشى الاقتراب من كتبه، وإلى عدم الرغبة في مواصلة قراءته، وبكلمة واحدة ان تشعر بالخوف منه ؟ سيفهم قصدي كل من جرب قراءة يوليسيس او رواية البحث عن الزمن المفقود أو حتى السيدة دالاواي، مثل هذه الروايات كنت اسمع زبائن المكتبة يتكلمون عنها دون أن يقرأونها كاملة، الكثير منهم جرب قراءة يوليسيس، لكنه بعد عدة صفحات يقرر اعادة الكتاب الى الرف، ألم يخبرنا جويس نفسه ان القراء والنقاد سينشغلون بحل الغاز روايته لمئات السنين.

في الثاني من شباط عام 1922 اعلنت مكتبة " شكسبير ورفاقة " التي اسستها السيدة الامريكية " سيليفا بيتش " عام 1919 في باريس عن اصدار طبعة كاملة من رواية جيمس جويس " يوليسيس ". كانت سيليفا بيتش قد قابلت جيمس جويس عام 1920 في احدى الحفلات الادبية وتصف لنا لحظة مشاهدتها للكاتب الايرلندي في كتابها " شكسبير ورفاقه " – ترجمة رياض حمادي " قائلة :"كان متوسط الطول نحيفا منحنيا قليلا، وبملاحظة يديه ستجدها هزيلتين للغاية يضع خاتمين في اصبعيه الوسطى والثانية، من يده اليسرى، مرصعين بحجرين ثقيلين، وعيناه ذات اللون الازرق القاتم. كانتا في غاية الجمال. لكني لاحظت العين اليمنى لها مظهر غير طبيعي، وان العدسة اليمنى لنظارته كانت اكبر سمكا من اليسرى. كان شعره كثيفا، رملي اللون، مموجا، ومنسدلا من جبينه العالي المسطر فوق رأسه الطويل. يعطي جويس انطباعا بالرقة والشفافية. كانت بشرته فاتحة جميلة، فيها قليل من النمش، ومتوردة الى حد ما. انفه جميل الشكل، وشفتاه رفيعتان ومحددتان بعناية. سحرني صوت جويس بنغماته الحلوة التي يلفظها كمغني تينور. نطقه واضح على نحو استثنائي ".

في نهاية عام 1917 أنهى جيمس جويس الفصول الأولى من يوليسيس واستعد لطباعتها على الآلة الكاتبة، وكان قد عرض ذلك على ناشرة مجلة " الفيردي"  وهي مطبوع صغير كان له تأثير في الحياة الأدبية، أن تحاول إصدار الرواية على شكل حلقات، وبما أن الآنسة ويفز صاحبة المجلة، كانت تؤمن إيماناً راسخاً بعبقرية جويس، فقد وافقت فوراً على نشر الفصول الأولى،  إلا أن الرواية لم تلاقِ النجاح المطلوب بسبب غرابة أحداثها، والتعقيد الذي تعمده جويس في لغتها، كما أن الحكاية تروى بطريقة معقدة جداً، لأنها تصوير لنشاط الإنسان في هذا العالم وليس مجرد وصف لجماعة من الأفراد في مدينة دبلن. وقد كان جيمس جويس يرى في أوديسة هوميروس الرواية الكاملة الأدب من خلال شخصية يوليسيس، وكان يحلم بأن  يعيد بعث هذه الشخصية في القرن العشرين ليعرض من خلالها الإنسان بكل جوانبه، فهو جبان وبطل معاً، حذر ومتهور في أن واحد، ضعيف وقوي في الوقت نفسه، زوج وعاشق أيضاً، كريم وبخيل معاً، طالب ثأر ومتسامح وسخيف، ولهذا فقد حاول جويس أن يجعل مغامرات بطله ليبولد بلوم تسير على غرار ذلك النموذج في ملحمة هوميروس، لذلك يمكن للقارئ أن يجد في كل الأحداث التي يمر بها بلوم خلال يومه الطويل في دبلن، ما يقابلها في مغامرات يوليسيس في الأوديسة، فبلوم هو كل إنسان عاش في هذا العصر، ودبلن هي العالم مصغراً. بعد أن شعر جويس بأن الرواية لم تنل حظّها في لندن، طلب من صديقه " عزرا باوند"، أن يساعده هذه المرة في نشر الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية.، تظهر الحلقة الأولى من الرواية في نيويورك في العاشر من آذار عام 1918. وقد لقيت الفصول الأولى نجاحاً كبيراً، لكن هذا النجاح لم يبدّد قلق باوند على الرواية، حيث كان متيقناً أن بعض أقسام يوليسيس سوف تُمنع من النشر. وكما توقع قامت دائرة البريد الأميركية بمصادرة وحرق المجلة التي نشرت فصول الرواية بعد ان قال الرقيب ان الرواية تحوي على ألفاظ بذيئة تسيء الى المجتمع، وقام سكرتير جمعية نيويورك لمحاربة الرذيلة برفع شكوى رسمية ضد الرواية، ليصدر قرار المحكمة باعتبار الكتاب مثيراً للقرف.

كان السؤال الذي طرحته سليفيا بيتش عند لقائها الاول بجيميس جويس هو: ما هي اخبار يوليسيس؟.. قال لها انها تعاني مزيدا من القمع .. كانت الرواية تخوض معارك في لندن ايضا حيث كانت المطابع الانكليزية متحفظة على اسم جويس.

ارتبطت سليفيا بلتش بعلاقة صداقة مع عائلة جويس، كانت تذهب الى بيتهم باستمرار.. وتقول في مذكراتها انها استغريت من استمتاع جيمس جويس لوصف زوجته " نورا " له بالكسول الذي لا يرجى منه خير. لم تكن زوجة جيميس جويس تحب قراءة الكتب، قالت مرة انها لم تقرأ ولا صفحة من " يوليسيس. تتذمر من زوجها الذي لايكف عن الكتابة، والذي يبحث دائما عن الورق وقلم الرصاص الذي " يخرمش" به على حد تعبيرها. كان جويس من جانبه يعتبر نورا افضل الحظوظ التي حالفته في حياته. كان في الثانية والعشرين من عمره عندما التقاها للمرة الأولى في ذلك اليوم عام 1904 على أحد جسور دبلن، كانت فتاة متوسطة الجمال، تعمل منظفة للغرف في أحد الفنادق. وما أن رآها حتى قرر أن تكون له، وأن يكون لها! وفي ما بعد سوف تحضر في معظم أعماله. وستكون مؤثرة فيها بشكل كبير، وستوحي له بكتابة مونولج (ليوبولد بلوم) الشهير الذي أنهى به روايته" يولیسیس".

جيميس جويس المولود في الثاني من شباط عام 1882 بمدينة دبلن في ايرلندا، أكبر الأولاد لعائلة من اثنى عشر فرد، عاشت سنبنها الاولى في بحبوحة وثراء، إلا ان ادمان الاب على الخمر والقمار  نقلها إلى الفقر، ارادت والدة المتدينة ان يصبح ابنها قسيسا، فادخلته مدرسة اليسوعيين، لكنه وهو في الثانوية اخذ يشكك في المعتقدات الدينية، فانتقل لدراسة اللغات، واخذ يقبل على قراءة الادب اليوناني وخصوصا ملاحم هوميروس، واغرم بدانتي وكان يحفظ بالايطالية مقاطع كاملة من "الكوميديا الإلهية ". عام 1905 حاول جويس نشر اول اعماله " ناس من دبلن "، قدمها إلى خمسة عشر ناشرا. الجميع رفض طباعتها إلا بعد اجراء تغيرات عليها خوفا من الرقابة، لكنها ستصدر عام 1906 من مطبعة صغيرة، وستواجه الناشر مشكلة بعد ان قررت الرقابة مصادرة الكتب المطبوعة، عام 1916 حاول جويس نشر عمله " صورة الفنان في شبابه مرة اخرى ستواجه بالرفض إلا بعد ان تتم مراجعتها وهو الامر الذي كان يرفضه جويس دائما.

عاني في حياته التي بلغت " 59 " عاما – توفي في الثالث عشر من كانون الثاني عام 1941 في سويسرا -  من مشكلات صحية، فقر دائم للدم والام في المفاصل، وخضع لخمس وعشرين عملية جراحية في عينيه انتهت الى اصابة احداهما بالعمى التام.

 ذات يوم ستقول سيلفيا بيتش لجويس: " هل تسمح لشكسبير ورفاقه ان تحظى بشرف نشر يوليسيس؟ لم تتوقع ان يوافق كاتب كبير ان تنشر روايته دار نشر صغيرة، لكنه سيعود اليها في اليوم التالي ليعلن موافقته. بعد ايام ستنشر سليفيا بيتش اعلانا في احدى الصحف بان رواية " يوليسيس " ستنشر كاملة. ونص الاعلان على ان الطبعة محدودة بالف نسخة وستوقع من قبل الكاتب وان باب الحجز مفتوح على نسخ من الرواية، ثم وضعت في الاعلان صورة صغيرة لجيمس جويس يبدو نحيلا وملتحيا.. لم تتوقع بيتش ان الاعلان سيحفز الناس على الاقبال لحجز نسخ من الرواية.. ففي الاسبوع الاول تراكمت الاستراكات. ترك لها عزرا باوند اشتراك بمبلغ محترم يحمل اسم الشاعر الشهير ويليام ييتس، كما حجز ارنست همنغواي عدة نسخ. وهناك نسخ حجزها سكوت فيتزجيرالد ولم يكن قد اصدر غاتسبي العظيم بعد – صدرت عام 1925 – ونسخة حجزها الناقد ارشيبالد ماكليش. ورفض برنادشو الاشتراك  قائلا :" انني سيد ايرلندي مسن، فانت كنت تتصورين بأن اي ايرلندي،، سيدفع 150 فرنكا في مثل هذا الكتاب، فانت تعرفين القليل عن ابناء بلدي "

انتشرت أخبار " يوليسيس سريعا في باريس وازداد الطلب عليها، لكن بعد مرور عدة شهور، بدأ المشتركون بشعرون بالقلق، وكانت سيلفيا بيتش معرضة لتهمة خداع الجمهور. وكان من بين من طالبوا بسرعة تزويدة بنسخته الروائي الانكليزي " د.ه.لورنس ".. لكن الطباعة ستتأخر، وكانت احدى المشاكل تتعلق بالغلاف حيث اصر جويس ان يكون لون الغلاف ازرق مثل لون بحر ايجه اليوناني.. وايضا واجهتهم صعوبة في تنضيد الرواية، لغرابة خط جيمس جويس والمفردات التي استخدمها، ويتذكر جويس ان احدى الضاربات على الآلة الكاتبة، قرعت جرس شقته ذات يوم وما ان فتح الباب حتى القت الصفحات في وجهه.. ظلت الطباعة تتقدم ببطء. وستتعرض اجزاء من الرواية المخطوطة الى التلف حين التقط زوج احدى كاتبات الطابعة اوراقا منها وما ان قرأها حتى القاها في النار وهو يشتم الكاتب. تمت الاستعانة بنسخة مخطوطة موجودة عند احد اصدقاء جويس في نيويورك.. في هذه الاثناء تعرض جويس لآلام في عينه توجب اجراء عملية جراحية له، في ذلك الوقت كان يعاني من مشاكل مالية، الافلاس يحاصره، يعمل في تدريس اللغات لاعالة عائلته، لكنه توقف عن العمل بسبب يوليسيس التي كان يخصص لها سبعة عشر ساعة كل يوم لمراجعتها، قررت الناشرة سيلفيا بيتش ان تمنحه بعض السلف المالية على حساب الرواية لاعالة عائلته المكونة من اربعة افراد. كان عيد ميلاد جويس يقترب وقررت صاحبة " شكسبير ورفاقه " ان تصدر الرواية في عيد ميلاده المصادف الثاني من شباط، وهذا ما حصل حيث وصلت نسختان من الرواية صبيحة الثاني من شباط عام 1922 الى مكتبة شكسبير ورفاقه، لتسرع سيلفيا بيتش الى شقة جويس تسلمه النسخة رقم واحد، اما الثانية فقد احتفظت بها في المكتبة. هاهي يوليسيس اخيرا بين يدي جيمس جويس بغلافها الازرق اليوناني، تحمل العنوان واسم المؤلف بحروف بيضاء وبعدد صفحات " 732 ". ستصل بعد ايام الالف نسخة الى المكتبة التي تم بيعها في غضون شهر. تمت إعادة طبع الكتاب بسرعة، ولكن بسبب المنع الذي صدر ضد الرواية ، لم يكن من الممكن نشرها في بريطانيا أو أمريكا. كانت الطبعتان الثانية والثالثة، قد نفذتا في تشرين الاول عام 1922، تم مصادرة عشرات النسخ المهربة الى امريكا وبريطانيا.ستصدر الطبعة الرابعة والخامسة والسادسة بغلاف مختلف اللون.عام 1933 صدر قرار المحكمة بالسماح بنشر يوليسيس في الولايات المتحدة الامريكية، وقد قال القاضي في قراره ان :" "الكلمات التي يتم انتقادها على أنها قذرة هي كلمات يعرفها جميع الرجال تقريبا  ". وخلص القاضي إلى أن جويس فنان عظيم في الكلمات وان الكتاب لا يمكن اعتباره إباحيا. في عام 1936 سحبت المحاكم البريطانية اعتراضاتها على يوليسيس ، لتصدر طبعتها الاولى في لندن .

هل يمكن تلخيص رواية " يوليسيس " ؟، قبل ذلك ساروي حكايتي مع الرواية. في منتصف السبعينيات عثرت في دار الكتب القديمة التي كانت تقع في شقة وسط شارع الرشيد على نسخة من يوليسيس بعنوان " عولس " ترجمة محمد لطفي جمعة الذي عرفت فيما بعد بأنه مترجِم ورِوائي، موسوعي، ويجيد العديد من اللغات، كتب وترجم في الفلسفة والاقتصاد والادب وكتابه الشهير " تاريخ فلاسفة الاسلام " يعد مصدرا مهما. الجزء السهل في كتاب محمد لطفي جمعة هو المقدمة التي كتبها للرواية وفيها يدافع بحرارة عن جيمس جويس حيث يصف روايته بانها " قصة رائعة، لا أول لها ولا نهاية ولا وسط، لانها قصة الحياة بفرحها وحزنها وعبرتها، قصة كونية رائعة خالدة ".بعدها يكتب بحماس مفرط :" جاهل من ظهر جاهل، سواء أكان في الشرق او الغرب من يزعم ان عولس ليس كتابا كاملا، راعى فيه مؤلفه تسلسل الزمان ووحدته، بل من يقول ذلك اعمى منه واضل سبيلا من يقلده قبل أن يقرأ تلك الملحمة الكبرى قراءة درس وفحص وتمحيص ".

قالت الرواية اشياء لم افهمها حقا، وكان لا بد ان استعين باحد زبائن المكتبة المترجم يوسف عبد المسيح ثروت سألته :" هل قرأت عولس؟ اكتشفت ان السؤال كان غبيا عندما ابتسم بضيق وهو يصحح لي الكلمة  : يوليسيس وليس عولس، واضاف : نعم. تحدثت معه عن جيمس جويس كان عندي فهم ضبابي للغاية عن هذا الكاتب المحير، معلوماتي مستمدة من مقدمة مسرحيته " المنفيون " كنت ارددها امام المترجم القدير مثل الببغاء، اضافة الى انني لم اقرأ من رواية " عولس " سوى صفحات قليلة. كنت اريد ان اقول شيئا لا يكشف عن جهلي ويظهر انني قارئ جيد، كما افعل مع معظم زبائن المكتبة، حدق في الكتب المرصوصة على احد الرفوف، كما لو كان يدرك جيدا انني وفعت في مأزق مع هذه الرواية قائلاً: من الصعب وضع طريقه لقراءة رواية مثل يوليسيس. قد يكون من الأسهل قراءة فصل واحد في كل مرة، مع مراجعة لادب جويس . فلت له: إلا يمكنك قراءتها بالكامل، قال وهو يمد يده لسحب احد الكتب : يعتمد ذلك على مدى قدرة دماغك على استيعاب الرواية. ثم اضاف : الترجمة التي نشرت للرواية ليست كاملة، أنها طويلة جداً، إنها رواية استثنائية لانها تروي لنا احداث يوم واحد فقط. بعدها قدم لي نصيحته الذهبية اقرأها باعتبارها رواية، صحيح انها معقدة بموضوعاتها، فهي وقبل كل شيء درس كبير في الاتقان الفني، إذا لم تتمكن من اكتشاف روعة الجانب الفني فيها، عليك ان تتركها لتعود لها بعد ان تصبح ناضجا. استغرق الأمر مني سنوات حتى اصبح قارئا ناضجا، واعود من جديد الى يوليسيس وهذه المرة بترجمة طه محمود طه، والذي اتحفنا قبل صدور ترجمته بموسوعة ثمينة عن جويس واعماله كانت مفتاحا للدخول الى يوليسيس من جديد رغم ان المترجم طه محمود طه ينبهني الى ان " عوليس " رغم انها لا تزال تثير اهتمام النقاد والادباء وحجزت لها مكانا في بحوث علم النفس، فانها تحتاج الى مفاتيح ليتمنك القارئ من الخوض في هذه المتاهة التي ما زالت ترفض البوح باسرارها. اعود الى يوسف عبد المسيج ثروت وهو يقدم لي نصيحة جديدة خلاصتها ان القراءة الجيدة لعمل مثل يوليسيس يتطلب البطء والتركيز، فالقارئ الجيد هو من لا يفوته شيء في النص. واضاف ان مثل هذا القارئ يتوقف عند كل كلمة أو عبارة ذات دلالة، وينظر إلى ما قبلها وما بعدها بيقظة، عليه ان يكون حريصا على ان لا يباغته الكاتب فيمرر عليه اشياء في غفلة منه. يصف نيتشه القارئ المثالي بانه شديد الفضول. في الترجمة الاخيرة التي قام بها الشاعر والمترجم القدير صلاح نيازي يضع عبارة مهمة "بالبحث المتأني تجد طريقك الى جيمس جويس ". يكتب جويس  انه استقى نظريته في الكتابة من جملة لتوما الاكويني يقول فيها :" ان الاشياء الثلاثة التي ينبغي توفرها في الجمال هي : الاكتمال.. التوافق.. الاشعاع ".عندما أعدت قراءة " يوليسيس " بترجمة صلاح نيازي وقعت تجت تاثير سحر ابطالها، وكنت الآن ارى دبلن التي يعيد جويس بنائها، شارع شارعا، قال جيمس جويس إن إعادة بناء دبلن اذا دُمرّت يوماً، يمكن ان تتم من خلال روايته " يوليسيس". اكتشفت انني عندما قرأتها للمرة الاولى لم اكن قادرا على ممارسة القراءة البطيئة، ولم اكن أريد اصلا أن امارسها، وكنت اشعر بالضيق حين اكتشف ان هذه الرواية ليست عملا واقعيا مسليا. لكن هل كانت قراءاتي آنذاك خاطئة ؟، اعترف يانني اشعرفي مرات كثيرة بشيء من الحنين عندما اتذكر ذلك المراهق وهو يصدق كل ما يقرأه، يكتب جيمس ميلر :" ان لم يقرأ المرء العمل الادبي قراءة بريئة اولاً، فهو يحرم العمل مقدما من فرصة في ان يكون له تاثير ذو قيمة على القارئ " – عن الادب ترجمة سمر طابه -.  

يعتبر كثيرون "يوليسيس" رواية القرن العشرين، وفيها اختار جويس ثلاث شخصيات تعمق في تصوير حياتها خلال احداث يوم واحد.

في النهاية إذا اردت ان تصبح قارئاً جيدا، عليك أن تكون اكثر شبها بجيمس جويس وهو يصر على اتقان الكتابة الجيدة. انه درس تعلمته ببطء وعلى مدى اكثر من اربعين عاما.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

أعلنت اللجنة المشرفة على جائزة نوبل في الطب والعلوم الأخرى والآداب في السويد خلال الأيام القليلة الماضية عن منحها الجائزة لعدد من العلماء كلا في مجال أختصاصه ولأديب واحد من النرويج... وهنا نلخص للقاريء الكريم أهم ما جاء في بيانات لجنة جائزة نوبل بصدد منح الجائزة للبحوث الطبية والعلمية الأخرى والآداب، والأسباب التي دعت اللجنة لمنح جوائزها لمثل هذه البحوث...

جائزة نوبل في علم الفيزياء لعام 2023

تم منح جائزة نوبل في علم الفيزياء للبحوث التي تتناول "الطرق التجريبية التي تولد نبضات ضوئية من الأتوثانية لدراسة ديناميات الإلكترون في المادة".

وقد تم تكريم الفائزين الثلاثة بجائزة نوبل في الفيزياء 2023 لتجاربهم التي أعطت البشرية أدوات جديدة لأستكشاف عالم الإلكترونات داخل الذرات والجزيئات. لقد أظهر بيير أغوستيني وفيرينك كراوس وآن لويلير طريقة لإنشاء نبضات ضوئية قصيرة للغاية، يمكن أستخدامها لقياس العمليات السريعة التي تتحرك فيها الإلكترونات أو تغير الطاقة.

فالحوادث سريعة الحركة تتدفق إلى بعضها البعض عندما يدركها الإنسان، تمامًا كما يُنظر إلى الفيلم الذي يتكون من صور ثابتة على أنه حركة مستمرة. إذا أردنا التحقيق في أحداث قصيرة جدًا، فنحن بحاجة إلى تكنولوجيا خاصة. في عالم الإلكترونات، تحدث التغيرات في بضعة أعشار الأتو ثانية - الأتو ثانية قصيرة جدًا لدرجة أن عدد التغييرات في الثانية الواحدة يعادل عدد الثواني التي مرت منذ ولادة الكون.

أنتجت تجارب الفائزين بنوبل الفيزياء لهذا العام نبضات ضوئية قصيرة جدًا بحيث تم قياسها بالأتوثانية، مما يدل على أنه يمكن أستخدام هذه النبضات لتوفير صور للعمليات داخل الذرات والجزيئات.

ففي عام 1987، أكتشفت آن لويلير أن العديد من الدلالات المختلفة للضوء نشأت عندما أرسلت ضوء الليزر تحت الأحمر عبر غاز خامل. وقد كان لكل دلالة ما يمكن أن نطلق عليه بالموجة لضوئية التي لها عدد معين من الدورات في ضوء الليزر. وكل هذا ناجم عن تفاعل ضوء الليزر مع الذرات الموجودة في الغاز، والذي يمنح بعض الإلكترونات طاقة إضافية تنبعث بعد ذلك على شكل ضوء. وقد واصلت آن لولييه أستكشاف هذه الظاهرة، مما مهد الطريق لتحقيق اختراقات لاحقة.

وفي عام 2001، نجح بيير أغوستيني في إنتاج ودراسة سلسلة من نبضات الضوء المتتالية، حيث أستمرت كل نبضة 250 أتو ثانية فقط. في الوقت نفسه، كان فيرينك كراوس يعمل على نوع آخر من التجارب، ومنها تجربة جعلت من الممكن عزل نبضة ضوئية واحدة تستمر لمدة 650 أتوثانية.

وقد مكنت مساهمات الفائزين الثلاثة بنوبل علم الفيزياء من التحقيق في العمليات التي كانت سريعة للغاية وكان من المستحيل متابعتها في السابق.

تقول لجنة تحكيم الجائزة حول ذلك:

"يمكننا الآن أن نفتح الباب أمام عالم الإلكترونات. تمنحنا فيزياء الأتوثانية الفرصة لفهم الآليات التي تحكمها الإلكترونات. تقول إيفا أولسون، رئيسة لجنة نوبل للفيزياء: «الخطوة التالية ستكون الاستفادة منها".

ومما يذكر فأن هناك تطبيقات محتملة في العديد من المجالات المختلفة في الإلكترونيات. منها على سبيل المثال، أهمية فهم كيفية تصرّف الإلكترونات في المادة والتحكّم فيها، حيث يمكن أيضًا أستخدام نبضات الأتو ثانية لتحديد الجزيئات المختلفة، كما هو الحال في التشخيص الطبي.

جائزة نوبل في علوم الطب ٢٠٢٣

تم منح جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في اليوم الثاني من شهر أكتوبر/تشرين أول الحالي لأثنين من العلماء الذين طوروا التكنولوجيا التي أدت إلى لقاحات فيروس كورونا المعروفة بتقنية ال mRNA  وستتقاسم الدكتورة كاتالين كاريكو والدكتور درو وايسمان الجائزة.

ومن المعروف أن التكنولوجيا الخاصة هذه كانت تجريبية قبل الوباء، ولكنها أعطيت الآن لملايين الناس في جميع أنحاء العالم.

ولابد من التأكيد على أنه يتم الآن البحث عن نفس تقنية مرسال الحامض النووي الريبوزي لمعالجة أمراض أخرى، بما في ذلك السرطان.

وقالت لجنة جائزة نوبل: "لقد ساهم الفائزان في المعدل الزمني غير المسبوق لتطوير اللقاحات خلال أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان في العصر الحديث".

وتقوم اللقاحات بتدريب الجهاز المناعي على التعرف على التهديدات مثل الفيروسات أو البكتيريا ومكافحتها.

وقد استندت تكنولوجيا اللقاحات التقليدية إلى النسخ الميتة أو الضعيفة من الفيروس أو البكتيريا الأصلية - أو بأستخدام نماذج العامل المعدي. بينما أستخدمت لقاحات مرسال الحامض النووي الريبوزي نهجا مختلفا تماما.

وخلال وباء كوفيد ١٩، أستند كل من لقاحات مودرنا وفايزر/بيونتك على تقنية مرسال الحامض النووي الريبوزي.

هذا وكان قد ألتقى الدكتوران كاريكو ووايسمان في أوائل التسعينيات عندما كانا يعملان في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة.

جائزة نوبل في علم الكيمياء 2023

منحت جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2023 لأكتشاف وتطوير النقاط الكمومية، والتي هي جسيمات نانوية صغيرة جدًا لدرجة أن حجمها يحدد خصائصها. تقوم هذه المكونات الأصغر من تكنولوجيا النانو الآن بنشر ضوئها من أجهزة التلفزيون ومصابيح LED، ويمكنها أيضًا توجيه الجراحين عند إزالة أنسجة الورم، من بين أشياء أخرى كثيرة.

ويعلم كل من يدرس علم الكيمياء أن خصائص العنصر تحكمها عدد الإلكترونات الموجودة فيه. ومع ذلك، عندما تتقلص المادة إلى أبعاد نانوية تنشأ الظواهر الكمومية؛ وهذه تحكمها حجم المادة.

لقد نجح الحائزون على جائزة نوبل في الكيمياء 2023 في إنتاج جسيمات صغيرة جدًا لدرجة أن خصائصها تحددها الظواهر الكمومية. والجسيمات، التي تسمى النقاط الكمومية، لها الآن أهمية كبيرة في تكنولوجيا النانو.

"تتمتع النقاط الكمومية بالعديد من الخصائص الرائعة وغير العادية. يقول يوهان أكفيست، رئيس لجنة نوبل للكيمياء: "الأهم من ذلك أن لها ألوانًا مختلفة اعتمادًا على حجمها".

لقد عرف الفيزيائيون منذ فترة طويلة أنه من الناحية النظرية، يمكن أن تنشأ تأثيرات كمومية تعتمد على الحجم في الجسيمات النانوية، ولكن في ذلك الوقت كان من المستحيل تقريبًا النحت بأبعاد نانوية. ولذلك، يعتقد عدد قليل من الناس أن هذه المعرفة يمكن تطبيقها عمليا.

ومع ذلك، في أوائل الثمانينات، نجح أليكسي إكيموف في إنشاء تأثيرات كمومية تعتمد على الحجم في الزجاج الملون. جاء اللون من الجسيمات النانوية من كلوريد النحاس، وأثبت إكيموف أن حجم الجسيمات يؤثر على لون الزجاج من خلال التأثيرات الكمية.

وبعد سنوات قليلة، أصبح لويس بروس أول عالم في العالم يثبت التأثيرات الكمومية المعتمدة على الحجم في الجسيمات التي تطفو بحرية في السائل.

وفي عام 1993، أحدث مونجي باوندي (من أصل تونسي) ثورة في الإنتاج الكيميائي للنقاط الكمومية، مما أدى إلى إنتاج جسيمات مثالية تقريبًا. وكانت هذه الجودة العالية ضرورية لأستخدامها في التطبيقات العملية.

ومن المعروف أن النقاط الكمومية تضيء الآن شاشات الكمبيوتر وشاشات التلفزيون المعتمدة على تقنية  QLED  كما أنها تضيف فارقًا بسيطًا إلى ضوء بعض مصابيح LED، ويستخدمها علماء الكيمياء الحيوية والأطباء لرسم خريطة للأنسجة البيولوجية.

وبالتالي فإن النقاط الكمومية تحقق أكبر فائدة للبشرية. ويعتقد الباحثون أنه في المستقبل يمكنهم المساهمة في الإلكترونيات المرنة، وأجهزة الأستشعار الصغيرة، والخلايا الشمسية الأرق، والأتصالات الكمومية المشفرة - لذلك بدأنا للتو في أستكشاف إمكانات هذه الجسيمات الصغيرة.

الفائزون بنوبل الكيمياء 2023

* مونجي جي باوندي، ولد عام 1961 في باريس، فرنسا. دكتوراه 1988 من جامعة شيكاغو، إلينوي، الولايات المتحدة الأمريكية. أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، كامبريدج، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية.

*لويس إي بروس، ولد عام 1943 في كليفلاند، أوهايو، الولايات المتحدة الأمريكية. الدكتوراه 1969 من جامعة كولومبيا، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. أستاذ بجامعة كولومبيا، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.

* أليكسي إكيموف، ولد عام 1945 في أتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق. دكتوراه 1974 من معهد يوفي الفيزيائي التقني، سانت بطرسبرغ، روسيا. كبير العلماء سابقًا في شركة Nanocrystals Technology Inc.، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.

جائزة نوبل في الآداب 2023

حصل الكاتب النرويجي يون فوسه على جائزة نوبل في الأدب "لمسرحياته المبتكرة ونثره الذي يمنح صوتًا لمن لا يملك صوتا".وكان الكاتب البالغ من العمر 64 عاما يقود سيارته في الريف شمال مدينة بيرغن عندما علم بالخبر. وقال إنه "مرهق وخائف إلى حد ما". وقال فوسه في بيان: "أرى أن هذه جائزة للأدب الذي يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى أن يكون أدبا، دون أي أعتبارات أخرى".

ولد فوسه عام 1959 على الساحل الغربي للنرويج، وقد كتب العديد من الروايات والمقالات وكتب الأطفال والترجمات. وهو أيضًا أحد الكتّاب المسرحيين الأكثر شهرة وأداءً على نطاق واسع، وقد تمت الإشادة به لأسلوبه البسيط، والذي أصبح يُعرف باسم "البساطة Fosse". ومن المعروف أنه قد تم ترشيحه منذ فترة طويلة لجائزة نوبل.

يعتبر الكثيرون يون فوسه أحد أهم المؤلفين في عصرنا، حيث تمت ترجمة أعماله إلى أكثر من 40 لغة، وكان هناك أكثر من 1000 إنتاج من مسرحياته في جميع أنحاء العالم. حصل فوسه على عدد لا يحصى من الجوائز المرموقة، سواء في موطنه النرويج أو في الخارج، وظهر لأول مرة ككاتب روائي عام 1983 برواية Raudt, svart (أحمر، أسود)، ومنذ ذلك الحين كتب أكثر من 30 مسرحية، من بينها Nokon kjem til å komme  شخص ما سيأتي Draum om hausten (الخريف) الحلم) و Eg er vinden  (أنا الريح). إلى جانب الروايات والمسرحيات، يكتب فوسه الشعر والمقالات والقصص القصيرة وكتب الأطفال.

وتشير مصادر الأدب الى أن فوسه كان قد تعرض الى حادث خطير وهو في السابعة من عمره مما أثر على كتاباته كشخص بالغ. نُشرت روايته الأولى Raudt, svart (أحمر، أسود) في عام 1983، وجاءت انطلاقته ككاتب مع رواية Naustet (Boathouse) عام 1989. تمت الإشادة بفوسه لمزجه "التجذر في اللغة وطبيعة خلفيته النرويجية".

يتكون أحد أعظم أعماله من سبعة أعمال مجمعة معًا في مجلد واحد بعنوان Septology.  ويمتد الكتاب على حوالي 800 صفحة، ويتتبع قصة رسام عجوز يعيش وحيدًا بينما يحسب حسابه مع الإله. تمت الإشادة بالعمل بسبب أبتكاره الشكلي، حيث نادرًا ما يتم مقاطعة نثر فوسه بعلامات الترقيم.

وقال الكاتب فوسه في مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز في عام 2018: "أنت لا تقرأ كتبي من أجل حبكات القصة. لكن ليس لأنني أريد أن أكون كاتبًا صعبًا. بل لأنني أريد أن أكون كاتبًا صعب المراس". لم أحاول أبدًا الكتابة بطريقة معقدة. أحاول دائمًا أن أكتب ببساطة، وبأقصى ما أستطيع، كما آمل".

وقد أشاد أندرس أولسون، رئيس لجنة جائزة نوبل، بعمل فوسه المبكر، واصفًا كيف أن مسرحيته الأولى - شخص ما سيعود إلى المنزل - التي تم إنتاجها عام 1996، عكست تميّز الكاتب.

"حتى في هذه القطعة المبكرة، بموضوعاتها المتمثلة في الترقب المخيف والغيرة المعوقة، فإن تفرد فوسه واضح تمامًا. قال أولسون: "في أختزاله الجذري للغة والحركة الدرامية يكشف القلق الإنساني والتناقض في جوهره".

وقال رئيس الوزراء النرويجي إن البلاد بأكملها "فخورة". وقد غرد جوناس جار ستور: “جائزة نوبل في الأدب ليون فوسه! اعتراف كبير بالتأليف الفريد الذي يترك انطباعًا، ويمس الناس في جميع أنحاء العالم. النرويج كلها تهنئ وتشعر بالفخر اليوم!.

وينضم فوسه إلى قائمة الفائزين بما في ذلك توني موريسون وكازو إيشيجورو وإرنست همنغواي. وكانت الفائزة في العام الماضي هي الكاتبة الفرنسية آني إيرنو، التي فازت "لشجاعتها ودقتها العملية التي تكشف بها جذور وغربة وقيود الذاكرة الشخصية". اشتهرت بمذكراتها الشخصية والمعنونة ب  Les Années أو (السنوات).

***

د. عامر هشام الصفار

من جديد تفاجئنا جائزة نوبل للاداب، وتسخر من توقعاتنا عندما نُصر ان الجائزة يجب أن تذهب إلى كاتب نعرفة وقرأنا الكثير من رواياته .كانت التوقعات تشير الى فوز الروائية الكندية مارغريت آتوود او مواطنتها الشاعرة " آن كارسون " وكنت قد اطلعت يوم امس على قائمة المراهنات على الجائزة، فكان اسم الياباني الشهير هاروكي موراكامي في المراكز المتقدمة، وايضا احتل سلمان رشدي موقعا، ومن افريقيا لا يزال الكيني نغوجي واثيونغو على القائمة منذ سنوات، واضيف للقائمة الصومالي نور الدين فارح، إلا ان السيد أندرس أولسون رئيس لجنة الجائزة ابلغنا ان الجائزة من نصيب الكاتب النرويجي " جون فوس " كما تَّردد الاسم في وكالات الانباء العربية أو "يون فوسه " كما جاء في الترجمات العربية لاعماله وهي رواية " صباح ومساء " التي ترجمتها شيرين عبد الوهاب وامل رواش عن النرويجية "، ورواية " ثلاثية" بترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش أيضاً، وصدرت له عن سلسلة المسرح العالمي مسرحية " الكلاب الميتة " ترجمة محمد حبيب .

لم يَّثر فوز جون فوس بالجائزة استغراب المتابعين في الغرب فهو على قوائمها منذ سنوات وكادت ان تذهب اليه عام 2021 عندما منحتها اللجنة للروائي عبد الرزاق جرنه. لكن هل تفاجأ جون فوس مثلنا وهو يستمع الى صوت سكرتير اللجنة ماتس مالم عبر الهاتف يخبره بالفوز؟. كان حينها يقود سيارته في الريف، توقف قليلا ليلتقط انفاسه، لاحظ سكرتير اللجنة ارتباكه فاوصاه أن يقود سيارته الى البيت بحذر. امام باب المنزل الانيق الذي يقع وسط مدينة اوسلو قرب القصر الملكي، وقد منحه اياه ملك النرويج تقديرا لمساهماته في الفنون والثقافة النرويجية. امام المنزل الملكي كانت وسائل الاعلام بالانتظار قال للصحفيين ان الأمر مدهش واصابه بالخوف الى حد ما .يخبر مراسل هيئة الاذاعة النرويجية انه كان يعد نفسه بحذر منذ عشر سنوات لتلقي مثل هذه المكالمة المدهشة، مضيفا ان الجائزة منحت " للأدب الذي يهدف أولا وقبل كل شيء إلى أن يكون أدبا، دون أي اعتبارات أخرى".

بيان لجنة الجائزة وصف "جون فوس"، بأنه "كاتب رائع في نواحٍ عديدة". وان ما يميز اعماله: " هو التقارب في كتاباته. فهو يمس أعمق المشاعر التي لدينا - القلق، وعدم الأمان، وتساؤلات الحياة والموت - مثل هذه الأشياء التي يواجهها كل إنسان "، واضافت اللجنة في بيانها أن: " هناك نوع من التأثير العالمي لكل ما يكتبه. ولا يهم إذا كان دراما أو شعر أو نثر، فهو يتمتع بنفس القدرة من الجاذبية "، فيما قال أندرس أولسون رئيس لجنة الجائزة ان فوس: " يؤثر علينا بعمق عندما نقرأه، وعندما، نقرأ عملاً واحدا، نجد انفسنا نستمر ونستمر " واصفا اياه بانه يمزج بين تجذر اللغة وطبيعة خلفيته النرويجية مع التقنيات الفنية في أعقاب الحداثة.

ناشر أعمال فوس قال للصحفيين الذين امتلأت بهم مكتبته: إنه كاتب استثنائي، تمكن من إيجاد طريقة فريدة تماما لكتابة الرواية، ما ان تفتح أي كتاب له وتقرأ سطرين، فستكتشفه انه كاتب متفرد ليس بامكان غيره ان يكتب مثل هذه الروايات والقصص " .

الكاتب البالغ من العمر 64 عاما يعد اشهر كتاب المسرح في النرويج يصر ان يكتب بلغة نينوشك أو النرويجية الجديدة، وهي لغة اهالي الساحل الغربي للنرويج، كتب حوالي 40 مسرحية بالإضافة إلى الروايات والقصص القصيرة وكتب الأطفال والشعر والمقالات التي وصفها الروائي النرويجي كارل كناوسغارد بانها: " تقف خارج الفن وتُمعن النظر فيه، تسبره وتستقصيه، متسائلة عن طبيعته بطرق مفهومة لي، لك، لنا، وترتبط بالتالي بالعالم الاجتماعي، متنقلةً بطريقة تبدو فيها، تلك المقالات، تشبه زمانها "، وهي حسب كناوسغارد تختلف عن ادبه الذي ينظر ابطاله من الداخل إلى الخارج، إلى العالم والقارئ معاً " .

ولد جون أولاف فوس في التاسع والعشرين من ايلول عام 1959 في هوجيسوند على الساحل الغربي للنرويج، ونشأ في مدينة ستراندبارم، لعائلة من الطبقة المتوسطة، تعرض في السابعة من عمره لحادث كاد أن يؤدي بحياته، يقول بأنه "أهم تجربة" في حياته، وانه صنعه ككاتب وفنان. كان يطمح في مراهقته أن يصبح عازف غيتار يقرر الانضمام الى احدى فرق موسيقى الروك قبل ان يتركها بعد ان وجد ان الكتابة هي طريقه الوحيد. نشأ في بيئة قريبة من " الحركة اللوثرية التقوية " مع جد من جماعة " الكويكرز" - جمعية الأصدقاء الدينية -، كان الجد ناشطاً من أجل السلام وتمنى ان يصبح حفيده سياسيا، لكن الشاب فوس نأى بنفسه عن محيط عائلته واعلن تمرده والحاده قبل ان يقرر اعتناق الكاثوليكية .

درس الادب المقارن واهتم بالفلسفة، شغف بكتابات جاك دريدا ادهشه كتاب دريدا " في علم الكتابة " قرأه عندما كان يعيش في الريف، أول نص ادبي كتبه عندما كنان في الثانية عشرة من عمره، كان كلمات أغنية. كتب بعض القصائد والقصص الصغيرة. يقول انه كان يشعر آنذاك انه يكتب لنفسه وبنفسه وليس للآخرين: " كان الأمر خاصا جدا. لقد وجدت مكانا أحببت الإقامة فيه " .

في الجامعة تشغله الافكار الماركسية ينضم لفترة مؤقته الى حزب ماوي، قرر دراسة علم الاجتماع، لكنه وجده علم غريب على اهتمامته، يلتحق بقسم الفلسفة، يقرأ هايدغر باهتمامه ويناقش كتابه " الكينونة والزمان، وجد فيلسوف متعب، لظل متعلقا بدريدا، يعترف ان كتاب دريدا " في علم الكتابه " اثر على طريقته في كتابة الادب . يدرس الادب المقارن، يبدا بكتابة روايته الاولى " "أحمر، أسود" والتي ستنشر عام 1983، وفيها يصفي حساباته مع الحركة اللوثرية التقوية التي كان جده يعتنقها ..فيما عرضت مسرحيته الاولى لن نفترق عام 1992 . قال ان دراسته للادب المقارن جعلته يسعى لكتابة نظريته الخاصة عن الرواية، والتي يرى ان الكاتب فيها يجب ان يكون هو المفهوم الرئيسي.

توصف اعمال جون فوس بأنها تنويع قريبة من افكار صامويل بيكيت التشاؤومية، وذاتية توماس بيرنهارد، قالت لجنة جائزة نوبل في بيانها ان: " فوس يمكن مقارنته بكتاب عظماء سابقين مثل توماس بيرنهارد وجورج تراكل وفرانز كافكا" واضاف البيان ان: رواياته تم تقليصها بشكل كبير إلى الأسلوب الذي أصبح يعرف باسم "البساطة الفوسية "

يعترف أنه اقرب الى كافكا الذي ترجم روايته الشهيرة " المحاكمة " الى النرويجية. كان كافطا افضل أدب عرفه قد فتحت عينيه على الطريقة التي يجب ان يكتب فيها الادب.

يصر على ان الكتابة دون ضرورة لا تعني شيئا: " عندما أكتب رواية. أغلبهم يقولون لا لهذا، أو نعم لذلك. واتباع كل هذه القواعد والاستماع إليها يتطلب ذاكرة وقدرة عقلية أكبر بكثير مما أعتقد أنني أملكه كشخص. لكنني أعتقد أننا أكثر بكثير مما نعرفه. نحن قادرون على أشياء غريبة.ومن بينها القدرة، أو ربما الفهم، على تنظيم علاقات أجزاء الرواية أو العمل الفني بالكل."

لا يؤمن بوضع مخطط للعمل الروائي، فهو يثق فقط بحسه الفني، يخاطب قراءه بالقول: أنتم لا تقرأون كتبي من أجل الحبكة": "الطريقة التي أكتب بها عندما أركز، كل شيء يجب أن يكون دقيقًا وصحيحا."

حصل جون فوس على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة المسرح الاسكندنافي الوطني، وجائزة مجلس الفنون النرويجي الفخري وجائزة الأكاديمية السويدية الشمالية (2007) وحاصل على جائزة الكاتب النرويجي هنريك ابسن والذي تاثر به كثيرا يقول فوس: "إنه الكاتب الأكثر هيمنة الذي أعرفه". يجد متعة بوصفالنقاد له بانه ابسن الجديد . ترشحت بعض رواياته وترشيح على القوائم القصيرة لجائزة البوكر. هاجس الاختبار جلب لجون فوس القراء والشهرة وتعيش شخصياته في عوالم شعرية مجردة تعاني واقعا باردا وقاسيا يشبه الملاحم الشهيرة، وتتحدث شخصياته قليلا في نصوصه، لكنها تكشف عن مشاعرها الداخلية الدفينة. يوصف بانه " كاتب الصمت " اشارت لجنة جائزة نوبل الى ان " أعماله النثرية تعطي صوتاً لما لا يمكن البوح به " . يغيب الوصف الخارجي المكثف عن أدب فوسه، لكنه يستعيض عنه بكشف العواطف عبر الشعر والموسيقى اللذين يعتمد عليهما في إنجاز الحبكة، وهو بذلك يخرج عن المسرح والرواية السردية التقليدية. "لا أعتقد أن اعمالي متشائمة للغاية، لكنها ليست متفائلة أيضًا". واضاف: لم أحاول أبدًا الكتابة بطريقة معقدة. أحاول دائمًا أن أكتب ببساطة، وبأقصى ما أستطيع."

يقول فوس: "عندما أكتب بشكل جيد، ينتابني شعور واضح ومميز للغاية بأن ما أكتب عنه مكتوب بالفعل .إنه في مكان ما هناك. عليّ فقط أن أكتبه قبل أن يختفي" .

إن قراءة مسرحيات فوسه ورواياته يعني الدخول في شراكة مع كاتب يشعر القارئ بحضوره بقوة أكبر بسبب جوه المشحون بالمواقف القاتمة والكوميدية في نفس الوقت، يقول انه يؤمن بالحقيقة الانسانية التي قرأها في كتب الفلاسفة وبالهيمنة الالهية التي وجدها واضحة في متب اللاهوت: " في الظلام يجد المرء النور فعندما نكون في حزن، فإن هذا النور هو الأقرب إلينا من كل شيء" ويضيف: " أشعر أن هناك نوعا من من المصالحة في كتاباتي. أو السلام " .

" أذهب إلى المجهول وأعود بشيء لم أعرفه من قبل"، هكذا قال في مقابلة مع صحيفة "إندبندنت"، متجنباً البحث عن معنى أبعد من الكتابة. كتب الروائي كارل أوفي كناوسغارد مؤلف الرواية الشهيرة " كفاحي "، والذي يعترف بانه االمذ على يد جون فوس بأن فوس: " يؤمن بالكتابة كتمرين غامض وأن التناقض بين اللامتناهي بداخلنا والقيود الخارجية هو الذي يحرك كل ما لديه".

امام الصحفيين ووكالات الانباء وقغف حون فوس هادئا متحفظا في الكلام، وبدا متوترًا بعض الشيء عندما أجاب على أسئلة الصحفيين وعلق على جائزة نوبل التي حصل عليها. واعترف بأنها "أهم جائزة يمكنك الحصول عليها، لا أكثر ولا أقل"، ولكن عندما سئل عما سيعنيه ذلك بالنسبة لمسيرته المهنية وأسلوب حياته، أجاب "القليل، وقال إنه سيحتفل بجائزته "بهدوء شديد، مع العائلة، وأشار الى ان الكتابة بالنسبة اليه اهم من الجوائز انها "حياتي". .

جائزة جون فوس هي الرابعة التي تذهب الى كاتب نرويجي ذهبت عام 1903 الى " بيورنستيارنه بيورنسون " والذي يعد من ابرز شعراء النرويج، كتب النشيد الوطني لبلاده ويصنف كواحد من عظماء الادب النرويجي .

بعد " 17 " عاما ستعيد جائزة نوبل النظر في الادب النرويجي، وتمنح جائزتها عام 1920 الى الروائي النرويجي " كنوت همسون " 1859 - 1952 " صاحب الرواية الشهيرة الجوع – ترجمها الى العربية محمود حسني "، وقد تعرفت على روايات همسون بالصدفة حين عثرت في منتصف السبعينيات في دار الكتب القديمة التي كان يملكها الراحل " ابو يعقوب " على نسخة قديمة من رواية الجوع " . لم اسمع من قبل بـ" كنوت همسون "، لكنني قرأت على الغلاف ان صاحبنا فاز بجائزة نوبل . عندما صدرت رواية " الجوع " عام 1890، كان همسون في الواحدة والثلاثين من عمره – ولد في الرابع من اب عام 1859 وعاش حتى سنة 1952 – وخلال حياته اثار ضجة كبيرة عندما قرر ان يدافع عن احتلال المانيا النازية لبلاده، ووصف هتلر بـ" آخر العمالقة " وكان من الطبيعي ان يقدم الى المحاكمة بتهمة الخيانة، ليصدر الحكم بالإعدام سنة 1947، لكن حملة قادها سارتر وهمنغواي وفوكنر، ابعدت عنه شبح المشنقة، واكتفت المحكمة بمصادرة امواله، لكنه قبل وفاته بثلاثة اعوام كتب عن تجربته في الحياة، حاول فيها ان يطلب من الجميع ان يسامحوه على ما ارتكبه من حماقات في الحياة ..

عام 1928 تعود جائزة نوبل الى النرويج للمرة الثالثة حيث تمنح الى الروائية سيغريد أوندست صاحبة الملحمة الثلاثية " كريستين لافرانسداتر " - ترجمها الى العربية توفيق الاسدي – وهو العمل الروائي الذي منحت بسببه جائزة تنوبل وبه تصف حياة امرأة من الولادة حتى الموت.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كانت تبلغ من العمر " 30 " عاما عندما قررت عام 1985 مغادرة بلادها المجر لتحط الرحال في الولايات المتحدة الامريكية من اجل ان تتابع بحوثها الطبية. بعد ٣٥ عاما وفي صبيحة اليوم الثالث من شهر ايلول عام 2022 تلقت كاتالين كاريكو جرعتها الأولى من لقاح كورونا من شركة فايزر في جامعة بنسلفانيا، ولم تكن تدري ان هذه الجرعة ستمهد لها الطريق لتحصل على جائزة نوبل للطب لعام 2023 بالاشتراك مع زميلها الدكتور درو وايزمان، حيث كان عملها رائدا في الكثير من العلوم الكامنة وراء اللقاحات التي يتم إعطاؤها لعشرات الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم .

كاتالين كاريكو المولودة في احدى احياء مديسنة زولنوك بالمجر في السابع عشر من كانون الثاني عام 1955، ابنة المهندس الذي يحمل افكارا ليبرالية وكان منتشيا بانتفاضة المجر عام 1956، والتي لم تستمر سوى اشهر قليلة بعد ان اعلنت القوات السوفيتية انهاء ما سمته بالتمرد الرجعي . واصلت الفتاة دراستها اضافة الى ولعها بقراءة الكتب الفلسفية التي كان والدها يحصل عليها من بعض المكتبات، قرأت ديكارت وهيغل، لكنها تعلقت بافكار بجان جاك روسو، كانت تأمل دراسة الفلسفة، إلا ان رغبة العائلة بان تصبح ابنتها طبيبة تغلبت على هوايتها لتحصل على الشهادة الجامعية في علم الاحياء من جامعة زيجيد، بعدها تحصل على الماجستير في علوم الكيمياء،، عام 1982 تحصل على الدكتوراه، بعدها ستنضم الى الأكاديمية المجرية للعلوم حتى عام 1985 حيث قررت السفر الى الولايات المتحدة الامريكية، لم تكن تملك المال فاضطر زوجها الى بيع سيارته ليوفر ثمن تذاكر السفر ومعها ما يقارب الالف دولار خبئتها في دمية طفلتها .

ذهبت كاتالين إلى الولايات المتحدة مُحملة بطموح كبير، تبحث عن فرصة ترضي شغفها تجاه البحث العلمي حول الحمض النووي الريبي وإمكانيات الاستفادة منه في الوقاية من الأمراض وعلاجها، وهناك انضمت إلى جامعة تمبل البحثية في ولاية بنسلفانيا في العام 1985، وتابعت بحثها الذي بدأته في المجر، ثم توّسعت فيه بعد انتقالها إلى كلية الطب في جامعة بنسلفانيا، حيث أظهرت التجارب التي كانت تجريها على الحيوانات احتمالية نجاح فرضية استخدام هذه المادة الوراثية في علاج الأمراض، مما حفزها على مواصلة البحث لإثبات إمكانية استعمال الحمض النووي الريبي، في معالجة السكتات الدماغية والتليف الكيسي. وفي عام 1989، تم تعيينها أستاذ مساعد في جامعة بنسلفانيا، حيث ظلت حتى عام 2013.

كانت كاتالين تؤمن بقدرتها على انجاز حدث علمي كبير قضت خمس سنوات تبحث عن منح لتمويل بحثها العلمي، سواء كانت منحا حكومية أو دعما ماليا من شركات، إلا أنها لم تتمكن من الحصول على أي منحة لمتابعة عملية البحث، وقوبلت كل طلباتها بالرفض. في العام 1995 توجه لها جامعة بنسلفانيا إنذارا رسميًا يضعها أمام خيارين، أولهما هو التخلي عن عملها البحثي المتعلق بالحمض النووي الريبي، بعد أن صار واضحًا استحالة استكماله في ظل انعدام فرص التمويل، وثانيهما هو القبول بتخفيض رتبتها الأكاديمية وتقليل راتبها الشهري، إذا أرادت المضي في بحثها الذي تراه الجامعة مضيعةً للوقت:" فكرت في الذهاب إلى مكان آخر أو القيام بشيء آخر تمامًا، وشعرت بأنني ربما لست جيدة بما يكفي، ولست ذكيةً بالقدر الكافي."

لم يكن ذلك هو الاختبار المؤلم الوحيد الذي وجدت كاتالين نفسها مضطرة إلى التعامل معه في ذلك الوقت، فقد علمت بإصابتها بالسرطان خلال الانذار الذي وجهتته الجامعة. وبينما كانت تستعد للعملية الجراحية، كان ذهنها منشغلا بمسألة الجامعة وتقييم الخيارين من زاوية شخصية وأخرى مهنية، حتى اهتدت إلى الاستمرار في عملها البحثي والقبول بتخفيض درجتها الوظيفية وراتبها قالت في رسالتها الى الجامعة انها ترى ان :" مقعد المختبر هو الافضل لها وعليها فقط ان تقوم بتحارب أفضل " .

العام 1997 كان نقطة تحول في حياتها ومسيرتها العلمية حيث التقت بعالم المناعة الشهير درو وايزمان، الذي انضم إلى جامعة بنسلفانيا، وكان يعمل آنذاك على تطوير لقاح مضاد لفيروس نقص المناعة، وبعد حديث بينهما ادرك وايزمان ان تعاونه مع هذه الباحثة المجرية سيؤدي في المستقبل الى انجاز علمي كبير، قدم لها وايزمان مقترح العمل معه خصوصا انه يحصل على تمويل حكومي، عاد الامل الى كاتلين التي بدأت في تحديد الأحرف الموجودة في الشفرة الوراثية الخاصة بمرسال الحمض النووي الريبي المُصنع التي تستثير جهاز المناعة، وتمكنا بعد سنوات من تطوير نسخة حديدة قادرة على إنتاج بروتينات تتصدى للفيروسات وتقي من الأمراض.

في العام 2005، نشر العالمان دراسة تثبت وتوثق إنجازهما العلمي، حملت عنوان " دراسة جديدة لجامعة بنسلفانيا تكتشف دورًا جديدًا للحمض النووي الريبي في الاستجابة المناعية البشرية" كما تقدم كلاهما بطلب لتسجيل براءة اختراع.

تصف كاتالين مشاعرها إزاء هذا الإنجاز قائلة :" لقد أدركنا في تلك اللحظة أن الباب فتح للحصول على علاجات للكثير من الامراض " . لكن الامور سارت عكس ما تمنت السيدة المجرية، فقد رفضت معظم شركات الادوية الاستفادة من ابحاثها، وحتى جامعة بنسلفانيا لم تعترف بإنجازها ورفضت إعادتها إلى منصبها الذي سبق أن أبعدتها عنه في عام 1995

عام 2013 تتلقى كاتالين عرضا من شركة شركة بيونتك الالمانية للصناعات الدوائية للعمل في مختبراتها، تعود الى المجر حيث تقوم بالتدريس في جامعة جامعة زيجيد التي شهدت انطلاقتها الاولى، اضافة الى عملها في جامعة بنسلفانيا.

كان ظهور فيروس كورونا وتفشيه قد أرغم شركات الأدوية على العمل والمنافسة في تطوير لقاح لمواجهة جائحة لم يشهد لها العالم مثيلًا خلال مئة عام، وكان من بينها شركة بيوأنتك التي كانت كاتالين تشغل فيها منصب نائبة الرئيس. وخلال أقل من عام، استطاعت الشركة بالتعاون مع شركة فايزر الأمريكية، تطوير لقاح بتقنية الحمض النووي الريبي للوقاية من فيروس كورونا.

في الحادي عشر من كانون الثاني عام 2020، اعتمدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، اللقاح الذي طوره العالمان كاتالين كاريكو، ودرو وايزمان للاستخدام الطارئ بعد تثبتها من مأمونتيه، ليصبح أول لقاح مُصنّع بتقنية الـحمض النووي الريبي، يحصل على تصريح بالاستخدام ويتلقاه البشر على نطاق واسع.

بعد ان سمعت بفوزها بجائزة نوبل للطب تلقت اول اتصال من شقيقتها التي تعيش في المجر قالت للصحفيين ان فوزها بجائزة نوبل حقق امنية ظلت تراود والدتها لسنوات حيث كانت تتابع بحرص إعلان الفائزات والفائزين بهذه الجائزة على أمل أن تجد اسم ابنتها بينهم. كان استخدام هذه التقنية العلمية ونجاحها، قبل ثلاثين عامًا مجرد فكرة تجول في خاطر كاتالين ثم صارت حلمها الكبير، بعدها تجولت الفكرة الى انجاز كان بمثابة طوق النجاة لمئات الملايين من البشر .

اثناء حصولها على جرعة من لقاح كورونا قالت كاتالين في حوار مع موقع CNN، أنها ستحتفل بهذا الإنجاز عندما تنتهي المعاناة الإنسانية الناجمة عن فيروس كورونا، وينقضي هذا الوقت العصيب، معربةً عن أملها أن يتحقق ذلك في الصيف القادم، وقالت «عندما ننسى الفيروس واللقاح، سأحتفل حقًا.

قالت لجنة جائزة نوبل في بيانها ان أن الباحثَين أُعطيا الجائزة، "لاكتشافاتهما المتعلقة بتعديلات القواعد النووية التي أتاحت التوصل إلى لقاحات فاعلة ضد كوفيد-19 قائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال". واضافت اللجنة أن "الفائزَين ساهما بوتيرة لم يسبق لها مثيل في التوصل إلى لقاحات في خضمّ أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان، وكانت اكتشافات الفائزين بجائزة نوبل حاسمة لتطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19 خلال الوباء الذي بدأ في أوائل عام 2020، ومن خلال النتائج الرائدة التي توصلا إليها، والتي غيرت فهمنا بشكل أساسي لكيفية تفاعل mRNA مع جهاز المناعة لدينا، حيث ساهم الفائزان في المعدل غير المسبوق لتطوير اللقاحات" .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

منذ يوم امس ومواقع التواصل الاجتماعي مشغولة برسالة الماجستير التي قدمتها احدى الطالبات وكانت بعنوان " صناعة الحلويات والمعجنات في كربلاء "، وبعيدا عن حالة السخرية التي رافقت العديد من التعليقات، وبعيدا عن الفديو الذي انتشر للطالبة وهي تتحدث عن بعض الحلويات، فان موضوع الطعام يعد مبحثا مهما في الكثير من الجامعات العالمية او حتى في الدراسات الانثربولوجية، وكنا قد قرأنا باعجاب كتاب ايزابيل الليندي " "أفروديت" والذي تناولت فيه موضوعة ثقافة الطعام بين الشرق والغرب، وكانت دار المدى قد اصدرت قبل سنوات مجلد ضخم بعنوان " الطباخ ودوره في الحضارة " تاليف بلقيس شرارة، فيما نشر عالم الاجتماع العراقي سامي زبيده كتاب " مذاق الزعتر.. ثقافة الطهي في الشرق الأوسط" – ترجمه الى العربية احمد خريس – اكد فيه أن الطعام يعد علامة ثقافية بارزة . وصدر بالعربية كتاب كارول كونيهان " أيديولوجيا الطعام والجسد، النوع والمعنى والقوة "- ترجمة سهام عبدالسلام - وكنت قد قرأت كتاب بعنوان" في المطعم .. ثقافة الطعام من بطن الحداثة" للكاتب الأمريكي كريستوف ربات - وترجمة محمد ابوزيد صدر عن دار كلمة – واصدر مشروع كلمة للترجمة سلسلة كتب عن التاريخ الكوني للتوابل والشاي والحلويات وللبسكويت والكعك والزيتون وللشكولاته والشاي، وقبل مدة قرأت كتابا ممتعا بعنوان "الخبز.. الأهمية الثقافية والرمزية لدى حضارات العالم المختلفة". ويمكن لي ان اعدد مئات العناوين تتحدث عن الطعام واصنافه وتاريخه .

في زيارته الاخيرة الى بغداد كنت اتحدث مع الصديق الاستاذ جواد بشارة عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل أونفري وغرابة الكتب التي ينشرها، حيث اصدر عشرات الكتب في موضوعات متنوعة، وللاسف لم يترجم منها الى العربية سوى " كتاب نفي اللاهوت " صدر عن دار الجمل واصدرت له دار سبعة السعودية كتابه عن نيتشه " الحكمة التراجيدية "، اثناء الحديث اخبرني الاستاذ بشارة والذي يرتبط بصداقة مع اونفري ان الفبسوف الفرنسي البالغ من العمر " 44 " عاما يكتب في كل شيء وان اول كتاب نشره عام 1989 خصصه لطعام الفلاسفة، ثم اصدر عام 1995 كتاب آخر بعنوان " فلسفة الطعام "

يخبرنا ميشيل اونفري انه اصيب وهو في الثامنة والعشرين من عمره بنوبة قلبية، جعلته يرقد في المستشفى ويخضع لنظام غذائي خاص افقده اكثر من عشر كليو غرامات من وزنه، وقد اوصته اخصائية اغذية بالامتناع عن الكثير من الاطعمة على حد قوله وعدته: " بطعام كئيب من أجل ما تبقى من حياتي، لو كنت أرغب في البقاء على قيد الحياة ! " من هنا جاءته فكرة كتاب " بطن الفلاسفة " حيث تخيل ان اخصائية تغذية تجبر نيتشه على تناول انواع معينة من الطعام اثاء مرضه الاخير الذي ادى بالنهاية الى وفاته

لا يحب ميشيل أونفري الحديث عن حياته التي يرى انها كادت أن تنسل منه اكثر من مرة، عندما اصيب بسكتة قلبية نجى منها باعجوبة، وبعد سنوات سيتعرض الى جلطة دماغية تقعده في السرير لعدة شهور، وتمنعه من الكتابة لأكثر من عام .

ولد ميشيل أونفري في الاول من كانون الثاني عام 1959 لعائلة ارجنتية، الأب يعمل في الزراعة، والام قضت حياتها في خدمة البيوت، وقد توفيا وهو صبي حيث ينتقل للعيش في دار للايتام، ويتذكر في تلك السنوات كيف سيطرت عليه رواية الغريب لالبير كامو، فقد ظل يردد ولسنوات الجملة التي جاءت في بداية الرواية على لسان ميرسو: " اليوم، ماتت أمي "، وسترافقه كتب كامو في مسيرته الفلسفية لينشر عام 2012 مجلدا ضخما بعنوان " النظام الفوضوي .. حياة البير كامو "، يحاول ان يعيد فيه الاعتبار لصاحب " الطاعون " أمام الهجمات التي تشن عليه بين فترة واخرى باعتباره مواليا للاستعمار، ومناهظا للافكار الاشتراكية، وفي الكتاب يتحدث اونفري عن كامو كأنما يتحدث عن نفسه، فالاثنان عاشا طفولة اتسمت بالفقر وباليتم، والاثنان عانا من المرض بوقت مبكر، كامو اصيب بالسل، واونفري ظلت الجلطات القلبية والدماغية تلاحقه، لكنهما كامو وأونفري، احبا الحياة وعشقا ملذاتها الصغيرة .. ومثل كامو احب اونفري الطعام، وعشق المطاعم، كان كامو مغرما بالمطاعم الفاخرة ربما تعويض عن الفقر الذي عانلى منه في طفولته وشبابه .

قال اونفري ان غاية طموحه في الحياة، كان الحصول على عمل في محطة القطار، إلا ان الكتب التي كان يقرأها في مكتبة المدينة منذ ان كان في الثانية عشر من عمره، غيرت حياته، فقرر ان يصبح روائيا بعد ان قضى اشهرا يحل الغاز رواية مارسيل بروست " البحث عن الزمن المفقود " ويتمتع بقوة روايات سيلين، لكنه اليوم ينظر الى رفوف الكتب التي تحتوي الروايات، ويعتبرها ذكرى جميلة من الماضي، قرأ ماركس وهو في الرابعة عشر من عمره، وسيتركه ليغرم بسيرة الفوضوي الفرنسي بيير برودون، يعترف ان حياته لا تمت بصلة الى الفوضوية، فهو يؤمن بالثورة التي يمكنها ان توفر مناخا يتساوى فيه الجميع، دون ان يسيطر اصحاب الشركات الكبرى او رجال الأيديولوجيات على الاقتصاد، يناهض الحتمية الاجتماعية والعائلية والتاريخية، ويؤمن بقدرة الفرد على التحرر وتشكيل نفسه بنفسه . عام 1986 ينهي دراسته الجامعية بعد ان قدم اطروحة بعنوان " الآثار الأخلاقية والسياسة للأفكار السلبية لشوبنهور "، بعدها يبدأ بالكتابة حيث تتوالى كتبه بشكل غزير، قرر الاستقالة من وظيفة مدرس فلسفة، لان تدريس الفلسفة في فرنسا قد تم تحريفه وأدلجته ولم يعد يؤدي الوظيفة المنوطة به أساسا، ألا وهي تنمية الروح النقدية وتقديم الفكر الفلسفي الحقيقي المغيب للطلبة بدل إلهاء عقولهم بفلسفة رسمية غبية ورجعية على حد قوله .

عام 2002 يؤسس كلية للفلسفة يطلق عليها اسم " جامعة كاين الشعبية " وقد وضع لها منهاجا خاصا، حيث يمكن لأي شخص مهما كان عمره أن يدرس فيها، من دون شروط كالشهادة، وفيها يقدم مع عدد من الاساتذة دروسا مجانية في الفلسفة .

 في الجامعة سيلقي محاضرات بعنوان " التاريخ المضاد للفلسفة " والتي صدر منها اكثر من عشرة اجزاء تناول فيها تاريخ الفلسفة قبل سقراط وصولا الى العصر الحديث، وهو يشير الى انه كتب هذه الموسوعة للرد على الذين يريدون افساد الفلسفة . يعد من اكثر الفلاسفة رواجا في سوق النشر حيث تصل مبيعات بعض كتبه الى 250 الف نسخة، يبتكر طريقة حديثة لنشر الفلسفة، لا تؤمن بالمصطلحات المعقدة، وتمزج بين الادب والفكر وعلم الاجتماع . ويلاحظ أن الفلسفة يمكنها ان تقدم لنا نصائح لمحاربة الخوف والقلق والامراض .

يرد ميشيل أونفري على الذين ينتقدون نظريته في المتعة، حتى اطلقوا عليه لقب فيلسوف المتع الزائفة، مؤكدا انه يدعو للاستمتاع بأبسط الأشياء في الحياة كالسير بين الاشجار، اوالاستمتاع بالطعام رغم نصائح الاطباء .

يرى أونفري إن الاقتراب من الفلاسفة من خلال الطعام يقدم وجهة نظر مثيرة للاهتمام. بالنسبة للبعض منهم، كانت علاقة الإنسانية بالطعام جزءًا لا ينفصم من نظام أوسع للأخلاق أو الأخلاق. أولئك الذين دافعوا عن البساطة التقشفية رأوا في الوجبة اليومية انعكاسًا لأخلاقهم الأوسع، وفرصة لتوضيح نقطة ما، وضرب مثال، وانضباط الذات. ورأى آخرون أن التقدم الحضاري ينعكس في التقدم في تقنيات تذوق الطعام والتعقيد. ورأى البعض في الأنظمة الغذائية للشعوب المختلفة انعكاسًا للقيم المتأصلة وتطور تلك الثقافات والمجتمعات.

يحضر الطعام في الكثير من محاورات افلاطون، كان صاحب الجمهورية يؤمن بأنّ على الفيلسوف المثالي ألّا يحرم نفسه من الأطعمة المنتشرة، والمتعارف عليها في محيطه. بالرّغم من أنّه يعتبر أن الطّبخ المتكرّر معرفة جوفاء. ويرى في الطّبخ وسيلةً لتفسير نظريّة المعرفة عند الإنسان أو فهمها. لذلك شغل الطّعام حيزاً من النقاشات في كتبه . لكن الفيلسوف اليوناني ديوجين اعتبر ان الحضارة قضت على قيمة الطعام الحقيقة، وان النار افسدته زلهذا كان يلجأ إلى شرب المياه من الينابيع، والتقاط الثمار من الأشجار، فيما كان يرفض طهي الطّعام.

كان الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط مهتما بأمرين فقط، طبعا اضافة الى القراءة والكتابة: وهما أهمية مواعيد المشي، ووجبة الطعام التي سيتناولها، وهي وجبة واحدة فقط تقدم في المساء يدعو لها بعض أصدقائه المقربين، وكانت تتضمن ثلاثة اطباق من الطعام مع الجبن وقنينة نبيذ، حيث يتناول كاسا صغيرا. يعتقد إكانط بضرورة الهضم الجيد للطعام والجلوس مدة اطول الى المائدة، وكان ينزعج من تناول الطعام بمفرده ويقال إنه أرسل العامل الذي يعمل بحدمته للحصول ذات مساء للحصول على رفيق من الشارع إذا لم يحضر احد من الاصدقاء لتناول العشاء معه . في المقابل كان ضد الشراهة في الاكل او تناول النبيذ .

فيما كتب جان جاك روسو أول عن الأطعمة الطبيعية وأهمية تناول المنتجات الموسمية. واتنقد الهوس بالموائد الفاخرة التي قال انها إلى إفقار الآخرين، ويرى روسو ان كثرة تناول اللحوم تؤثر على شخصية الانسان، فاللحوم حسب راي روسويميل الذين يكثرون من تناولها إلى العنف والهمجية، بينما الناس الذين يتناولون الخضار يميلون إلى السلام والمحبة، وعلى النقيض منه كان فولتير يعشق الاطعمة ويقيم الموائج الباذخة لاصدقائه . وكان الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي شارل فورييه يرى أن فن الطهو يجب أن يتم تدريسه منذ سن مبكرة باعتباره "علما محوريا" .

ويتساءل نيتشه عما إذا كانت الفلسفة بحاجة الى وضع نظرية مناسبة للتغذية، يصر ميشيل أونفري ان الفلاسفة ادركوا منذ فترة طويلة أن هناك علاقة عميقة جدا بين فعل الأكل وفعل التفكير ورغم هوسه بتناول اللحوم إلا انه يقرر الانحراط في النظام الغذائي النباتي،: "من الواضح أن الامتناع عن تناول اللحوم من حين لآخر، لأسباب تتعلق بالحمية الغذائية، مفيد للغاية. لكن، على حد تعبير غوته، لماذا نصنع منها " دينًا" ؟ وكتب إلى صديق: "إن أي شخص ناضج للنباتية، عموماً، ناضج أيضاً لـ "الحساء" الاشتراكي".

لكن نيتشه يثير قضية فلسفية أخرى تتجلى في الطعام: قضية الإرادة الحرة. ضد أولئك الذين جادلوا بأن تناول أطعمة معينة بطرق معينة من شأنه أن يؤدي إلى صحة جيدة وعمر طويل، يوضح أونفراي: اننا لانختار نظامنا الغذائي نظام، اننا تكتشف فقط ما هو الأكثر انسجاما مع احتياجاتنا ككائنات حياتية . من جانبه ظل جان بول سارتر كان يكره الأطعمة الطبيعية ويفضل الاطعمة الجاهزة او المعلبة التي تمت معالجتها وتسويتها وإعادة تشكيلها من خلال أيدي الإنسان.

ويتساءل أونفري ما الذي كانت حنة أرندت ستتغذى به وهي تمضغ كتاب " هايدغر " الوجود والزمان " ؟ بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة من أوروبا، هل أعربت عن أسفها على تفاهة اللحوم والبطاطس الأمريكية؟ هل كانت الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر من محبي المعجنات؟ وما علاقة سيمون دي بوفوار بالاطعمة التي تتناولها سواء مع سارتر او بمفردها .

في معظم كتاباته يستند ميشيل اونفري إلى تراث الفلسفة الرواقية التي اكدت على معنى العظمة الانسانية، وكيف نتعلم ان نفهمها، وكيف نحفز رغباتنا تجاهها .. آمن الرواقيون بان ضمان سعادة الانسان تكمن في تعلمه كيف يكون مستقلا: " الشرط الوحيد لسعادة الانسان هو في ان يقود حياة فاضلة تقوم على المعرفة ". ميشيل أونفري صاحب المئة كتاب خلال ثلاثين عاما، يُشبه نفسه بـ " ديوجين الكلبي "، فهو مثله يصر على ان يحمل بيده فانوسا في وضح النهار .. قال أن الانسان المعاصر ارتضى لنفسه أن يستسلم لحياة ضائعة . أونفري الذي يوصف بانه " متشائم نيتشوي " يرى أننا يجب ان نترك العالم يتفسخ، لكي يفسح الطريق لشيء جديد تماما، ولنظام ثقافي جديد، لمائدة بشرية جديدة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

منذ أن بادر بنشر ذكرياته عن عمله مُعيناً لعربة قطار، ثم ترقيته بعد ثلاث سنوات إلى فاحص بطاقات أو ما يطلق عليه شعبياً اسم «التيتي»، فإن عبد الجبار العتابي استطاع أن يكسب عدداً ممتازاً من المتابعين على صفحته في الفيسبوك والذين باتوا يتلهفون لقراءة المزيد من تلك الحكايات المثيرة والطريفة عن مشاهدات وأسرار ما يحدث في عربات القطار خلال رحلاته الطويلة أثناء الليل والنهار. وكنتُ من هؤلاء الذين يترقبون ما يكتبه لكونه يلج عالماً مجهولاً لأغلب الصحفيين، فليس من المعتاد أن يكتب الصحفي ذكرياته عن عمله غير الصحفي، وليس كل صحفي يمكن أن تتاح له تجربة العمل في السكك الحديد لمدة تسع سنوات، متنقلاً بين القطارات الصاعدة والنازلة بين بغداد والبصرة والموصل وكركوك والقائم، وفي المحطات التي يتوقف فيها القطار فيما بين هذه المدن، ويستمع إلى حكايات الناس، ويشاهد مواقف وحوادث ويشارك في الكثير منها مؤدياً واجبه كمعين عربة تارةً، وفاحص بطاقات تارةً أخرى، ومأمور سير في بعض الرحلات، ومسجلاً في الوقت نفسه بعين الصحفي وتطفله ما سمعه وما شاهده في تلك الرحلات منذ بداية عمله عام 1991 وحتى نهاية 1999 وهي مدة تقع ضمن سنوات الحصار الاقتصادي المرّة. غير أن صاحبنا « التيتي» الصحفي لا يكتفي بفحص البطاقات، فيزج بنفسه أحياناً في مواقف محرجة داخل العربات وخارجها، مثل ذلك الموقف الذي وجد فيه نفسه محاصراً ببدلته الأنيقة وربطة العنق، في شارع فرعي بين شابين غاضبين متحفزين ومجموعة رجال، بعد ان اغرته وأغوته شابة جميلة مكتنزة بحركاتها واشاراتها وغمزاتها، فتبعها خارج السوق مثل سكران بعد ان شتتت تفكيره وبعثرت مشاعره!. أو مثل تلك الفتاة الفاتنة التي دعاها لقضاء الليل على سرير شاغر في غرفته فلم تمانع فاقتادها والشيطان يزغرد في قلبه، ويرقص أمامه، حتى اذا دخلا الغرفة في هدأة الليل الشتوي أعلمته بأنها راهبة في طريقها إلى دير في الموصل، ليهرب الشيطان ويقضيا الليل في نقاشات عن المحرمات الدينية، وموضوعات لاهوتية في الإسلام والمسيحية، وبقيا يتجاذبان أطراف الحديث لأكثر من ست ساعات قبل أن ينتبها لأضواء الفجر وهي تتلألأ من النافذة معلنة الوصول إلى المحطة الأخيرة!.

أكثر من سبعين حكاية ضمها كتاب عبد الجبار العتابي «من ذكريات القطار .. أسرار ومشاهدات» تمثل خلاصة عمله في القطار الذي تعددت مسمياته بين الريل في جنوب العراق والترين في الشام والوابور في مصر، وتغنى به الشعراء والمطربون من ترين هوى فيروز» مشي .. مشي ترين الهوى .. يللا بينا نسهر سوا «، إلى ريل مظفر النواب وياس خضر الذي يصيح بقهر «صيحة عشك»، مروراً بوابور محمد عبد الوهاب الذي يريد أن يخبره «رايح على فين»، وتلك الحكايات متنوعة تنوع البشر وطباعهم ومزاجاتهم وتصرفاتهم وسلوكهم السوي، وانحرافاتهم التي يرصدها فضول الصحفي فيتحدث عنها بصراحة وجرأة قد تبدو غير مستساغة أو أنها تخدش الحياء العام، كما في ذكريات «الشواذ والخارجات عن الطريق» الذي يتضمن مشاهدات ومفارقات غريبة في الاختلاف بين أصحاب السلوك المنحرف بين القطارات الجنوبية والقطارات الشمالية، كما يرصد السبب الذي يدعو أحد معيني العربات لأن يعمل على أحد الخطوط ويرفض العمل على الخطوط الأخرى وهو سبب متعلق بشذوذه. وهناك العشرات من المشاهدات المؤثرة في المحطات والمدن والقرى والقصبات والصحارى والسهول والاهوار التي يلتقطها العتابي بعين الصحفي فيسجلها في ذاكرته التي سودت صفحات الكتاب، من اليوم الأول الذي قبل فيه العمل بوظيفة «معين عربة» - وهي كلمة ملطفة لوظيفة خادم عربة مؤهلاتها أن يكون المتقدم لها يقرأ ويكتب فقط – مضطراً من أجل لقمة العيش في ظروف سنوات الحصار مع أنه خريج كلية الآداب بالجامعة المستنصرية، مروراً بتحويل وظيفته إلى فاحص بطاقات لتتناسب مع شهادته الجامعية، وانتهاءً بالشهرين الأخيرين من العام 1999 إذ قرر أن يودع القطارات وأهلها بلا عودة بعد ان تعرض لموقف محرج ومجحف جعله يتمسك بعمله الصحفي ويقول للتيتي وداعاً.

واذا كانت السكك الحديد قد خسرت  «التيتي عبد الجبار العتابي»، فإن جريدة الجمهورية قد كسبته بلا شك، فهو من الصحفيين المثابرين المخلصين لمهنتهم الذين أعطوا المهنة أكثر مما أخذوا منها بكثير، وإذ يتوج سلسلة كتاباته عن ذكريات القطار بصدور هذا الكتاب الجميل المتميز بطباعته واخراجه وبمادته المُبتكرة، فإنه يكون قد فتح الباب لصحفيين آخرين لتسجيل انطباعاتهم وذكرياتهم عن مهن أخرى غير العمل الصحفي قد يكونوا اشتغلوا بها في مرحلة من مراحل حياتهم، وما كان للعتابي الإمكانية المادية لأن يطبع كتابه هذا لولا الدعم الذي قدمه زميلنا الصحفي والإعلامي والرسام والمصمم عاصم جهاد الذي تبنى بجهده الشخصي طباعة الكتاب من دون مقابل، وصمم الغلاف بنفسه، وأشرف على إخراجه في حلة جذابة وطباعة راقية.

حكايات « التيتي» عبد الجبار أشبه بمغامرات السندباد البحري، لكنه سندباد على ظهر قطار يسير على سكة حديدية هذا المرة!.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

يعود التاريخ الرسمي لتأسيس أمانة العاصمة إلى 13 شباط 1923 حين بارك الملك فيصل الأول اقتراح وزارة الداخلية بإنشاء بلدية واحدة لكل بغداد وأصدر بذلك إرادته الملكية، وتعيين صبيح نشأت أول أمين للعاصمة، غير أن محاولات تأسيس النظام البلدي تعود إلى تاريخ أقدم من ذلك بكثير، وبالتحديد إلى عام 1868 حين قررت ولاية بغداد العمل بهذا النظام تماشياً مع منهج الإصلاحات الجديدة في الدولة العثمانية. هذه المعلومات التاريخية وغيرها الكثير جاءت بين دفتي الكتاب التوثيقي الذي صدر لمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الأمانة، وشارك في إنجازه الباحثان التراثيان رفعة عبد الرزاق محمد وعادل حسوني العرداوي، إذ قدما جهداً تاريخياً وتوثيقياً طيباً وممتعاً هو نتاج حبهما العميق لبغداد، ذلك الحب الذي جسداه خلال السنوات الأخيرة بالعديد من المقالات والندوات والمحاضرات ومختلف الفعاليات الثقافية والتراثية، ثم توجا محبتهما بإصدار كتاب « أمانة بغداد في 100 عام».

كان إبراهيم افندي الدفتري أول من رأس البلدية الأولى في صوب الرصافة التي اتخذت لها بناية قريبة من سراي الحكومة، وبسبب توسع مدينة بغداد أنشئت بلدية أخرى في الرصافة برئاسة عبد الرزاق الشيخ قادر، أما البلدية الثالثة فقد شملت جانب الكرخ وقد كانت برئاسة عبد الله الزيبق وكانت من « أكثر البلديات نشاطاً، فقد أنجزت إضاءة شوارع الكرخ سنة 1878م». وكانت هذه البلديات تأخذ على عاتقها خدمات الانارة واكساء الشوارع وأعمال النظافة وإنشاء الأبنية والجسور والمستشفيات وإسالة الماء وإطفاء الحرائق والإشراف على مدرسة الصنائع وإجراء الانتخابات البلدية، ومن مهامها أيضاً: «مراقبة كل ما يخل بالآداب العامة بين الأهالي ومنعها، ومن ذلك منع دخول الأشخاص عراة الأجسام إلى النهر، ومنع السقائين من حمل كميات كبيرة من الماء على ظهور الحيوانات أو معاملتها بقسوة، ومنعت الحوذيين من ضرب الحيوانات بقوة»، وانها لمفارقة حقاً أن تهتم بلديات بغداد قبل أكثر من قرن بالحيوانات وتمنع ضربها أو معاملتها بقسوة، وذلك ما يذكرنا بقول مدني صالح  الشهير: « يجد الحمار جميع مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة النظام والتقدم وشيئاً من مفردات لائحة حقوق الإنسان، ولا يجد الإنسان شيئاً من مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة الفوضى والتخلف ولا شيء من لائحة حقوق الحمار» !.

نطوي صفحات الكتاب التي تزيد على 320 صفحة معززة بعشرات الصور التاريخية، ونمر على تواريخ وأحداث ومفارقات وشخصيات وتغييرات مهمة شهدتها بغداد في المائة عام الأخيرة، لابد للقارئ المهتم أن يعود إلى تفاصيلها في تلك الصفحات، لكن بعض الطرائف واللطائف والأيام المميزة أو الصعبة التي مر بها سكنة العاصمة تفرض نفسها في هذا المقال القصير، ومنها دخول الكهرباء إلى بغداد منذ منتصف الثلاثينات « فأنيرت الشوارع والأفرع والأزقة، وغابت مهنة اللمبجي». ومن الأيام الصعبة حريق الشورجة الذي حدث عام 1939 بسبب احتراق محل للمواد الكيمياوية مما أدى إلى انفجاره وامتداد الحريق إلى الكثير من المحال والخانات، واستشهد في عمليات الإطفاء أكثر من خمسين شخصاً من رجال الإطفاء والشرطة، واصيب ما يقارب الخمسين شخصاً، وكذلك فيضان العام :1954 «وكانت ليلة 29 آذار من أسوء الليالي، ومما زاد من الخطر هبوب الرياح القوية.. في تلك الليلة اجتمع مجلس الوزراء برئاسة فاضل الجمالي وعدد من النواب والأعيان والمسؤولين، واتخذ المجلس قراراً يقضي بإخلاء بغداد جزئياً بترحيل أهل الرصافة إلى الكرخ ، وكاد القرار أن ينفذ لولا وقوف وزير الداخلية سعيد قزاز ضده»، والسبب لأنه سأل مهندسي الري فأخبروه أن درجة الخطر تصل إلى ما يقارب الثمانين بالمائة، فقرر مخالفة القرار وتحمل مسؤولية ذلك. وفي العام 1945 تأسست شركة «بغداد الجديدة» لإنشاء الدور السكنية على غرار ما فعلته شركة «مصر الجديدة» في القاهرة، وتم استدعاء المهندس المصري الذي خطط مدينة مصر الجديدة لتخطيط مدينة بغداد الجديدة. ومما يحز في النفس ويؤلمها أن بغداد عرفت» الترامواي» أو « الكاري « كوسيلة نقل منذ العام 1869 أي قبل أكثر من قرن ونصف، ومنذ ذلك الحين لم تتطور وسائط النقل في بغداد لتصبح من: « أسوأ عواصم الشرق الأوسط على صعيد حركة السير» بحسب وصف مجلة « إيكونوميست « البريطانية في تقريرها المنشور مؤخراً.

منذ تعيينه في أمانة العاصمة عام 1976 لاحظ الصحفي والباحث العرداوي، أن هناك مجلساً استشارياً يضم في عضويته «شخصيات بغدادية من الاكاديميين والأدباء والشعراء والمهندسين ووجهاء المدينة، يناقش العديد من القضايا والموضوعات المهمة الخاصة بمدينة بغداد»، كما تم لاحقاً تأسيس «منتدى بغداد الثقافي» للإستئناس بآراء وملاحظات عدد من الشخصيات البغدادية من بينهم علي الوردي وحسين أمين وسالم الآلوسي والشيخ جلال الحنفي وناجي جواد الساعاتي. يذكر أن طبيب العيون الدكتور فائق شاكر وهو من ظرفاء بغداد قد أصبح أميناً للعاصمة عام 1946 وترك في ذاكرة العاملين في الأمانة العديد من الظرائف التي يسجل بعضها الباحث رفعة عبد الرزاق.

تطوي مدينة السلام صفحات تاريخها العجيب الغريب، فهنيئاً لمن ترك لها صفحة بيضاء، وبصم على جبينها بصمة وفاء، وكان « أميناً» حقيقياً عليها، من دون منة ولا ادعاء.

***

د. طه جزّع – كاتب وأكاديمي

مبكراً جداً بدأ محمد حسنين هيكل مشواره فى الصحافة المصرية منذ أوائل الأربعينيات، أى أنه قضى ما يزيد على سبعين عاماً فى معترك الصحافة السياسية العسير..

منذ البداية وهو يطأ حقول ألغام غير عابئ بخطورة ما يعلم أنه سيتعرض له من أعباء مع كل خطوة يخطوها يميناً أو يساراً. ورغم طول الفترة التى قضاها فى الصحافة قلما وجدت له أعداء فى مجال الصحافة. بل حتى الذين كتبوا يهجونه من كبار المفكرين احترموه وأفادوا من علاقتهم به..

ربما كانت تلك أكبر مزاياه، شبكة العلاقات الهائلة التى كونها من كبار الشخصيات فى الداخل والخارج، تلك العلاقات التى جعلته قادراً على الوصول إلى أدق المعلومات قبل أى وسيلة إعلام معروفة. حتى بات كأنه سوبر كمبيوتر يمشى على الأرض.

فى شهر فبراير توفى هيكل عن عمر ناهز التسعين، وترك إرثاً ضخماً من مؤلفاته ولقاءاته ورؤاه وأفكاره، بل وترك من أبناء مدرسته الصحفية عدداً كبيراً من قادة الرأى ورجال الإعلام والصحافة ساروا على نهجه أو على الأقل حاولوا..

زمن  هيكل.. وزمننا!

زمن الفن الجميل والأدب الرفيع والصحافة الناصعة ذلك الزمن الذى نترحم عليه اليوم..

أعلام الصحافة ورواد الإعلام والأدب والفكر عاشوا خلال تلك الفترة الخصبة من تاريخ أمتنا المصرية والعربية فتناولوا هيكل وتناولهم فى الكتب وعلى صفحات جريدة الأهرام التى رأس تحريرها لمدة 17 عاما.. أول كتاب صدر له قبل أن يكمل الثلاثين من عمره كان بعنوان (إيران فوق بركان) بعد رحلة استغرقت شهراً تحت ظل حكم الشاه رضا بهلوى فيما عرف بالدولة البهلوية فكأنها نبوءة مبكرة عن انهيار الدولة البهلوية الذى جاء بعد هذا الكتاب بنحو عشرين عاما. لم ينقطع عن إصدار المؤلفات منذ ذلك الحين ولعل من أهم إصدارات فترة الخمسينيات كتاب عبد الناصر (فلسفة الثورة) الذى حرره له هيكل وعلى إثره بات هو الصحفي الملازم له دوما. وقبيل نهاية تلك الحقبة التاريخية المهمة أصدر كتابا شهيراً بعنوان (العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط). وكانت أكثر كتبه من هذا النوع التحليلي الناقد.

وبرغم الخلاف الفكرى بينه وبين كثير من معاصريه إلا أنه ترفع عن القدح فى أى زميل له من زملاء المهنة لهذا كانت خلافاته معهم تنتهى بسرعة وبلا ضغائن. حتى خلافاته مع السادات استطاع هضمها والاحتفاظ بمكانته كواحد من رواد الصحافة فى مصر والعالم العربي.

فارق مهم وحيوي جعل الصحافة فى زمن هيكل مختلفة عن الصحافة اليوم. هذا الفارق لا يمس الشخصيات ولا الأفكار ولا الأحداث، وإنما روح العمل اليوم وأمس.. العمل اليوم صار روتينياً شكلياً خالٍ من العمق والالتحام بالواقع. أحداث اليوم ملتهبة أكثر من أمس، والصحافة تجرى فوق هذه الأحداث فتمسها مسا ولا تتغلغل فى أعماق الأحداث وما وراءها. لهذا غابت الوظيفة الاستشرافية والتحليلية فى صحافة اليوم رغم كل ما يحيطها من إمكانيات وتكنولوجيا. فهل نترحم على هيكل أم على الصحافة ؟

شاهد على عصور

بدأ هيكل حياته الصحافية عام 1942 فى عهد الملك فاروق وشهد فترة تألقه الأولى فى الخمسينيات فى أعقاب ثورة 52 وعمل وزيراً للإرشاد القومى وللإعلام وضمت له وزارة الخارجية لمدة أسبوعين ورفض الوزارة فى عهد السادات ، ثم شهد النكسة وانتصار أكتوبر ولم ينسجم مع السادات رغم أنه أراده مستشارا له وأصدر قراراً بنقله من الأهرام لقصر عابدين، فرفض هيكل تنفيذ القرار وقال : " إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك فقراري وحدي. وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي"!

وبالفعل أصدر عدداً كبيراً من الكتب منذ ذلك الحين بعضها بالإنجليزية، كما ترجمت بعض كتبه إلى عدة لغات حول العالم. وفى أواخر حياته اتجهت إليه الأنظار كقارئ للأحداث له بصيرة خاصة اكتسبها من طول ممارسته للصحافة السياسية محلياً وعالمياً، وظل محتفظاً بمصادره المتعددة التى تأتى له بالأخبار الطازجة أولاً بأول رغم تركه لمنصبه الرسمى لكن مكانته لم تهتز أبداً على مر الأجيال.

الغريب أنك إذا عدت لكتاباته أو لقاءاته تكتشف أنك أمام رؤية استثنائية وقراءة شديدة العمق والثراء تنسحب حتى على أحداث اليوم كأن لآرائه حياة متجددة.وكيف لا؟ وقد شهد على سبعة عصور تقلبت فيها المنطقة بين أحداث ساخنة كأنها ترقص فوق صفيح ملتهب.

نحو صحافة عالمية

أنشأ هيكل مجموعة المراكز المتخصصة للأهرام لعل أهمها: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ، مركز الدراسات الصحفية ، مركز توثيق تاريخ مصر المعاصر. وترك  بصمة لا تُنسي فى تاريخ مؤسسة الأهرام العريقة.

كان واضحاً أن طموح هيكل الصحفى ليس له مدى. إذ بدا أنه أراد لصحافتنا أن تبلغ مستوى عالمى كما تستحق، لهذا امتدت صداقاته إلى عدد من رؤساء كبريات الصحف العالمية فى أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وقد التقى عدة مرات مع  عدد منهم ففى الثمانينيات التقى رئيس مجلس إدارة رويترز داني هاملتون ورئيس تحرير الإكونومست آندرو نايت وهارولد إيفانز رئيس تحرير التايمز، وفى التسعينيات اجتمع مع بيير سالينجر رئيس شبكة ABC الحالى والمتحدث الأسبق باسم جون كينيدى.

لم يكن كافياً أن يبحث هيكل وحده مع قلة من قادة الصحف القدامَى عن عالمية الصحافة المصرية، كما لم يكن من السهل أن تتطور منظومة الصحافة فى ظل عيوب ومشكلات عميقة قديمة لعله ناقش بعضها فى كتاب قديم أصدره فى أوائل الستينيات بعنوان: نظرة إلى مشاكلنا الداخلية على ضوء ما يسمونه "أزمة المثقفين". ثمة عراقيل كثيرة يمكن اجتيازها وعبورها لكن يبدو أننا توقفنا عن مجرد المحاولة!

ماذا لو أنه بيننا اليوم؟

أحداث تاريخية هائلة مرت على هيكل وتحدث عنها فى وقتها، واستشرف أحداثاً تأتى..

والحق أن وسائل الإعلام العربية منذ الألفية الجديدة وجدت ضالتها فى هيكل أمام متوالية الأحداث الساخنة إقليمياً وعالمياً لا تكاد الصحف والقنوات الإخبارية تلاحقها وهى تلهث خلفها فلا تتاح الفرصة لالتقاط الأنفاس لرؤية خفايا الأمور وقراءة ما بين السطور بنظرة بانورامية ثاقبة. فكان هيكل يقوم بهذا الدور. وحتى فى أواخر عمره التسعيني كانت تنتابه الحماسة وهو يتكلم باندفاع وقوة كأنك أمام شاب ثلاثينى عبقرى وكأن خارطة الأحداث قديماً وحديثاً منبسطة أمامه على اتساعها..

نعم نحتاج اليوم وكل يوم إلى مثل هذه العبقرية الملمة بالأحداث القادرة على استشراف ما يأتى على ضوء الحقائق التى تشابكت وتكاثفت واختلطت وجمعت بين تناقضات عدة، حتى لا تكاد تجد شخصاً له رؤية تحليلية عميقة واعية إلا نادراً.

الصحافة المصرية دائماً بها نبهاء ونابغين عدة يمكنهم حقاً ضبط الدفة الصحفية والإعلامية بل والاتجاه بها نحو العالمية لكن لابد أولاً أن نمتلك الإرادة لفعل ذلك. فإذا سعينا نحو هذا الهدف المشروع والمستحق فلن نلبث أن نحققه وأن نكتشف بيننا وحولنا ألف هيكل ينهضون بالصحافة المصرية إلى المكانة التى تستحقها.

***

محمد حسنين هيكل

التاريخ سيفٌ ذو حدين، وأحداثه يمكن أن تكون للعِبرة والاعتبار. فمن تفاصيل تلك الأحداث وحكاياتها يمكن للمرء أن يشحذ روح الكراهية والبغضاء ويؤجج رغبة الانتقام في النفوس، في عالم لم يعد يتسع للأحقاد بين البشر، ويكفيه ما يعانيه من كوارث طبيعية وأوبئة وفقر وجوع ومرض.لكن يمكن للمرء أيضاً أن يجعل من تلك الحوادث عبرة لإنسان الحاضر ودرساً في التسامح والمحبة والسلام.

في مثل هذا الشهر ايلول العام الماضي اتيحت لي فرصة حضور المعرض الذي اقامته كاتدرائية سانت انطونيو الكاثوليكية الواقعة وسط شارع الاستقلال في مدينة اسطنبول، وهو الشارع السياحي الذي يكتظ عادة بآلاف السواح من مختلف بلدان العالم، وضم المعرض لوحاتٍ فنية مع شروحات لكل لوحة، كما فتحت الكاتدرائية أبوابها للزائرين في ذلك اليوم لايقاد الشموع وسماع التراتيل الكنسية والتأمل في عجائب الفن المعماري لهذه الكنيسة التي أنشئت في العام ١٩٠٦.3736 سانت انطونيو

المعرض اقيم لمناسبة مرور أكثر من ٨٠٠ عام على أول حوار تاريخي مسيحي إسلامي جرى في شهر ايلول من العام ١٢١٩ بين القديس فرانسيس الأسيوزي والسلطان الكامل محمد الأيوبي في دمياط.

وعلى الرغم من أن المراجع التاريخية الإسلامية المُعتمَدة لا تذكر شيئاً عن هذا الحوار، إلا أن المصادر التاريخية الكنسية الكاثوليكية تؤكده، بل وتركز على ما تسميه إختبار النار الذي اقترحه القديس على السلطان، غير أن الأخير لم يوافق عليه، لكنه عامل القديس باحترام واستمع إليه وحاوره، وحمله الهدايا وهو يعود سالماً إلى معسكره.

تقول شروحات اللوحات ( شتنبر / أيلول ١٢١٩. عبر الراهب فرانسيس، قادماً من معسكر الصليبيين الذين يحاصرون معقل المسلمين بدمياط في مصر، صفوف المقاتلين للقاء الملك الكامل، سلطان القاهرة ورئيس جيش الهلال، رحب به الملك واستمع اليه. في نهاية الحوار، استأذن فرانسيس وعاد سالماً إلى المعسكر. ورد هذا الحدث في مصادر تاريخية مختلفة خارجية وداخلية للرهبنة الفرنسيسكانية. على الرغم من ان هذه المصادر لا تتطابق دائماً في التفاصيل والتفسيرات، فانها تثبت كلها حقيقة اللقاء المباشر بين الأثنين، ويبدو انها تتلاقى حول نقطة مهمة، وهي ان هذا الحدث - غير المسبوق وغير المتوقع والمثير للدهشة - أثار تعجب المعاصرين).3738 سانت انطونيو

بغض النظر عن تفاصيل هذا اللقاء وواقعيتها، فهو يؤرخ لمبادرة تاريخية قام بها القديس فرانسيس الأسيزي - على الأقل وفق ماأكدته المصادر الكنسية الفرنسيسكانية - من أجل الحوار السلمي بعيداً عن قعقة السيوف، وسار بشجاعة وايمان بالسلام بين البشر، وتحمل المخاطر ليصل إلى الملك الكامل في دمياط من أجل الحوار، فكان أول حوار بين المسيحية والإسلام.

وترى الناس من كل الأجناس والأديان، يدخلون كاتدرائية سانت انطونيو، ويبادر بعضهم لإيقاد الشموع داخل الكاتدرائية.

ما الذي يخسره المرء، لو أوقد شمعة في محراب المحبة والسلام ؟.

***

د. طه جزاع – كاتب وأكاديمي

لم أكن اتخيل يوما انني ساتحدث مع هذا الزبون الانيق، وان حواراً سيدور بيني وبينه عن الكتب، كان هذا الزبون كلما يدخل المكتبة ينهض صاحب المكتبة مرحبا، ويدعوه الى الجلوس، لياتي له بالكتب والمطبوعات التي صدرت حديثا كتب فرنسية او كتب تراث وبعض المجلات الثقافية، كنت اشعر دائما باهمية هذا الزبون الذي يملك وجها حضريا، جميل التقاسيم، الجبين مدور، العينان قويتان بارقتان، ابرز ما في وجهه الابتسامة الخفيفة التي تنم عن تواضع وطيبة، اناقته بسيطة لكنها ملفتة للنظر، الدهشة حين ينظر الى كتاب جديد هي كلمة السر المنتشرة بين ملامح الوجه والتي تفشي بأن صاحب هذا الوجه قارئ لا يستهان به . كان الدكتور علي جواد الطاهر من الزبائن الدائميين للمكتبة، ينقطع احيانا لأكثر من شهر او شهرين، ثم تجده امامك بابتسامته المحببة يقلب في الكتب.ذات يوم قال أنه عمل في مكتبه عندما كان طالبا في المتوسطة، وكانت مكتبة المدرسة، يفتحها صباحا، ويقف يلبي طلبات المستعيرين خلال فرص الاستراحة بين الدروس، ثم اضاف: كنت في تلك المرحلة مغرما بمجلة الهلال اجمع اعدادها، واقرأ باستمتاع روايات جرجي زيدان، العجيب ان الصبي عامل المكتبة  قال دون تردد: قرأت رواية " فتاة القيروان " لم استسغها . في تلك السنوات كانت روايات جرجي زيدان تباع بشكل جيد ونادرا ما يمر اسبوع دون أن يسالني احد الزبائن: هل عندكم روايات جرجي زيدان .يبتسم الدكتور الطاهر: وماذا يعجبك من الكتب . اجبت وبسرعة وكأنني انتظر هذا السؤال: سلامة موسى وطه حسين .

قال الطاهر: قرأت سلامة موسى عندما كنت في الثالث متوسط . كان اكتشافا بالنسبة لي، فتاثرت به كثيرا، وما زلت ارى أن اراءه كانت صائبة، حيث يدعو القراء الى العلم والمعرفة، واضاف اما طه حسين فقد شاهدته عن قرب وسمعته، وهو اقرب الكتاب الى نفسي، يتذكر الطاهر انه قرأ في المتوسطة كتاب طه حسين قادة الفكر:" فعجب ولم یّعجب، لطه حسين كیف یقرب البعید، ویدني القصي ویلينُ العصي فینتقل بك بين هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكأنه ینتقل بك من صدیق إلى صدیق وانك لتألف هؤلاء الأصدقاء حتى حين لاتكون مالكاً لعناصر الائتلاف – علي جواد الطاهر من كتابه اساتذتي -

اخذت انتظر زيارة العلامة الطاهر الى المكتبة لاطرح عليه بعض الاسئلة عن الكتب، وكان الرجل لفرط بساطته يجيب ويحاورني وكاأني احد طلبته . ذات يوم سيدخل الدكتور الطاهر ومعه شخص آخر، نادرا ما كان الطاهر يرافق احدا في زيارته للمكتبة، لكن هذه المرة كان يبدو سعيدا وهو يفسح المجال للضيف الجديد للدخول، وقبل ان ينطق باسمه نهض صاحب المكتبة ليرحب بحرارة بالزائر وهو يقول للطاهر: الدكتور زبون قديم للمكتبه، لكنه تركنا وسافر. كان الضيف طويل القامة جسمه ممتلئ يرتدي نظارة طبية، ملامح وجهه صارمة، رفض الجلوس وقال انه يريد أن يتجول في المكتبة، بعد دقائق التقط كتابا من احد الرفوف وقال للدكتور الطاهر: هل تدري لقد زرت بيت عائلة برونتي وشاهدت الغرفة التي  كتبت بها هذه الرواية – كانت الرواية التي بيده جين اير لشارلوت برونتي - . اخذ يقلب بالرواية ويقول للأسف الترجمة غير كاملة، فالرواية في نسختها الانكليزية بجدود تسعمائة صفحة بالحرف الصغير، ثم اضاف منير بعلبكي مترجم جيد، يعرف مزاج القارئ ولهذا يبدو انه حذف بعض المطولات المملة .كان الضيف الجديد الذي اشاهده للمرة الاولى والاخيرة هو الدكتور صفاء خلوصي، صاحب الرأي الجريء والمثير عن اصول شكسبير العربية، قال الدكتور الطاهر انه قرأ جين اير، لكنها اتعبته باجوائها السوداوية والكآبة التي سيطرت على بطلة الرواية والشعور بالأسى والحزن .

منعني الخجل من ان احشر نفسي في الحوار . اتذكر غلاف رواية جين اير الذي يبرز من احد الرفوف، فتاة ترتدي معطفا وقبعة وسط غابة، يبدو في الصورة شاب وحصان، فيما الثلج يملأ المكان، والقمر يبدو ساطعا . لم اكن قد قرأت رواية جين إير بترجمة منير بعلبكي، لكني تعرفت على ملامح القصة وحياة المؤلفة من خلال سلسلة كتابي.. ومثل أي قارئ مبتدئ كنت متلهفا لمعرفة نهاية جين آير اقلب الصفحات على عجل بحثا عن مصائر الشخصيات وهل ستنتهي الرواية نهاية سعيدة ام حزينة وكئيبة مثل صاحبتها التي عرفت انها عاشت في بيت منعزل لقسيس يخدم الكنيسة .في هذا البيت الذي زاره الراحل صفاء خلوصي قضت شارلوت ايامها وحيدة وتعيسة .

تكتب فرجينيا وولف:" عندما نفتح كتاب جين آير لا نستطيع ان نخفي توقعاتنا في أننا سوف نقابل دنيا عتيقة من صنع خيالها، دنيا لا تتفق والعصر الحديث " - القارئ العادي ترجمة عقيلة رمضان -

حين توفيت جين اوستن في في ١٨ تموز عام ١٨١٧ عن واحد وأربعين. كانت شارلوت برونتي صاحبة الرواية الشهيرة " جين آير " قد بلغت عامها الاول – فيما ولدت اميلي برونتي التي ابدعت "  مرتفعات وذرينغ " بعد عام من ولادة شقيقتها شارلوت، وفي مطبخ البيت كانت اكثر الطقوس اهمية للشقيقات برونتي، هي قراءة اعمال جين اوستن حتى أن شارلوت برونتي كتبت انها قرأت  " كبرياء وهوى "  سبعة عشر مرة.، ومثل والد جين كان والد شارلوت يجلس في غرفته التي يعد فيها مواعظه الدينية التي يلقيها في الكنيسة حيث يعمل كاهنا، يهوى كتابة الشعر ويعيش في غرفته عيشه وصفتها اميل برونتي:" في توحد محموم محتد وعديم القدرة "   في اوقات الفراغ يقرأ باستمتاع ما كتبته ابنته شارلوت من صفحات رواية سيطلق عليها اسم " جين اير "، والغريب ان اسرة برونتي عاشت قصص حب لم تكتمل، فقد احبيت شارلوت استاذها المتزوج واخذت تراسله، الى ان ابلغها بضرورة التوقف عن ملاحقته برسائلها، وقد نشرت " جين آير "  عام 1847 وبعدها بعام نشرت رواية  شقيقتها اميلي روايتها الوحيدة " مرتفعات وذرينغ " وبينما كانت شارلوت تشعر دائما بان وضعها كامراة  جعلها في مرتبة اقل، لم تشعر اميلي باي احباط لكونها امرأة .

سادت صورة " شارلوت برونتي  " العانس التي تجلس في زاوية من غرفتها تكتب بقلم رصاص على اوراق ملونة، وكأنها نسخة مكررة من كاتبتها المفضلة " جين اوستن " التي حرّضتها على الكتابة عن الحب الذي  لا يجتاز حدود العقل، لتقدم الى القراء صورا فنية عن المشاعر الانسانية الدفينة،  فيما اختارت " إميلي برونتي "، عالما أخرا أكثر ثراء من اي حقيقة اجتماعية، لا يشبه عالم شقيقتها المشغول بالبحث عن الراحة في الخيال، وإنما عالم تسير فيه مدفوعة بعواطف جامحة، حيث تقودها طبيعتها الخاصة، لأنها امنت أن حياتها أمر يخصها لوحدها، لا علاقة له برؤى الخيال .

ولدت شارلوت برونتي في 21 نيسان 1816 في غرب انكلترا، وكانت الابنة الثالثة من بين ستة أطفال لربة البيت ماريا برانويل و القس من اصول ايرلندية باتريك برونتي. في عام 1820، انتقلت العائلة  إلى قرية هاوورث، حيث تم تعيين الاب مشرفا على كنيسة سانت مايكل . في الخامسة من عمرها توفيت والدتها بمرض السرطان، تاركة خمس بنات، ماريا وإليزابيث وشارلوت وإميلي وآن، وابنها برانويل، لتعتني بالعائلة خالتهم إليزابيث برانويل.

في الحوار الوحيد الذي استمعت فيه للراحل الكبير صفاء خلوصي، قدم وصفا للبيت الذي عاشت فيه عائلة برونتي، كانت غرفة الاب على اليمين حيث اختار لنفسه حياة منعزلة بعد وفاة زوجته، وقبالة غرفة الاب كانت غرافة الاخوات، وفي زاوية من البيت غرفة الاخ برانويل وكان يعشق الرسم، فكان يرسم بورتريهات لشقيقاته، وهناك المطبخ الذي يجتمع فيه الابناء لتناول الطعام، واجراء مسابقات ادبية بينهم، وفي المطبخ يتوسط موقد ناري تصفه اميل برونتي في احدى قصائدها:

" البيت عتيق

الاشجار جرداء

وبدون قمر تنحني القبة المضيئة

ولكن أي شيء عزيز على وجه الارض

يثير اللهفة والشوق كموقد بيت دافئ ؟ " .

عند قراءتي لجين آير وبعدها مرتفعات وذيرينغ مرة ثانية، كنت في ذلك الوقت احمل الكتب معي في كل مكان، على السرير، اثناء تناول الطعام، اوقات الاستراحة في المكتبة، واحيانا اخبئ رواية بين كتبي المدرسية، ومع كل رواية كنت اتخيل كيف كان مؤلفها يعيش، سرحت مرة مع اجواء بيت القس برونتي والسكون الذي يحيط به، والمطبخ الذي تجتمع فيه الاخوات حول مائدة الطعام، وكنت اسأل نفسي ترى بماذا كن يتحدثن، وأي الكتب كانت تستهويهن ؟  

في آب 1824، دخلت شارلوت ومعها شقيقاتها إميلي وماريا وإليزابيث إلى مدرسة بنات رجال الدين، وستخبرنا شارلوت برونتي من  أن الظروف السيئة في المدرسة أثرت بشكل دائم على صحتها ونموها البدني، وسرعت بوفاة  شقيقتها ماريا التي توفيت بمرض السل لتلحقها بعدها باشهر شقيقتها اليزابيت  بنفس المرض، مما اضطر الأب ان يمنع بناته من اكمال دراستهن .

في البيت قامت شارلوت بدور الأم والشقيقة الكبرى لأخواتها، في الثالثة عشر من عمرها كتب اول قصيدة لها، وقد شجعها والدها فانجزت خلال اعوام كتابة اكثر من 200 قصيدة، كانت تبعث بها الى المجلة التي تصدر في مدينتهم الريفية وبعد عدة محاولات قرأت اسمها مطبوعا على احد الصفحات، وجدت شارلوت في حياتها الرتيبة ملاذا خاصا، حيث يمكنها أن تتصرف وفقا لرغباتها وهوياتها المتعددة، إلا ان هذه الحياة الرتيبة جعلتها تعيش في صراع نفسي داخلي بين ولائها للدين الذي لا يبيح الشهوة الجنسية ويطالب بكبتها، وبين ولعها بالحب . وقد دفعها هذا الصراع أن تقرر كتابة قصص تشرح فيها حالتها، لكنها كانت تحتفظ بها في خزانتها الخاصة خوفا من اطلاع والدها القس على خيالات ابنته واحلامها الرومانسية، الامر نفسه كانت تقوم به اميلي إلا ان خيالاتها كانت اكثر جرأة . بعد اعوام قليلة ستقدم شارلوت لوالدها دفترا ضخما يحتوي على رواية بعنوان " الاستاذ " . وفي هذه الرواية تسلط الضوء على موضوع طالما شغلها، وهو علاقة الطالبة باستاذها، وهو يمثل انعكاسا على بعض جوانب حياتها، فقد احبت شارلوت برونتي معلماً بلجيكياً  درست عنده اللغات . كان المسيو إيجيه متزوجا ولديه اولاد، لاحظ موهبتها في الكتابة وشجعها، ففسّرت اهتمامه على انه نوع من انواع العشق . كتبت له العديد من الرسائل وفي واحدة منها ترجوه أن لا يغضب منها وتخبره بان قلبها الممتليء بالحب هو الذي يدفعها للكتابة، لكن الاستاذ، طلب منها ان تتوقف عن مراسلته .

قرر الاب ان يبعث بروايته ابنته " الاستاذ " الى احدى دور النشر، لكن جميع دور النشر رفضت طباعتها، ولم تطبع إلا بعد وفاة شارلوت برونتي بعامين .

عام  1846 نشرت الأخوات شارلوت وإيميلي وآن مجموعة مشتركة من القصائد تحت الأسماء المستعارة " كورير بل - إليس بل - آكتون بل" كتبت شارلوت حول استخدام الأسماء المستعارة ما يلي: " تجنبا للدعاية الشخصية، أخفينا أسماءنا الأصلية خلف الأسماء المستعارة: كورير بل - إليس بل - آكتون بل.اخترنا هذه الأسماء الغامضة رغبة منا في استخدام أسماء ذكورية حيث لم نكن نود أن نكشف عن هويتنا كنساء، لأنه في ذلك الوقت كان سيتم التعامل مع طريقة كتاباتنا وتفكيرنا على أنها (أنثوية)، كان لدينا انطباعا قويا أن مؤلفاتنا سيُنظر إليها باستعلاء، حيث لاحظنا كيف يستخدم النقاد في بعض الأحيان أسلوب المهاجمة الشخصية كوسيلة عقاب وأسلوب الغزل كمكافأة، وبالتالي لا يُعتبر ذلك إشادة حقيقية لأعمالنا " . – الروارنولد كيتل مدخل الى الرواية الانكليزية ترجمة هاني الراهب -

عام 1947 توافق دار النشر التي رفضت رواية " الاستاذ " على نشر رواية" جين آير " ولم تصدق أن القراء والنقاد سيهتون بها وستوضع روايتها  ضمن قائمة الكتاب الاكثر مبيعا، وعندما قرأ ت ما كتبته احدى الصحف من ان جين اير "  رواية من صميم روح شهدت الكثير من الكفاح والمعاناة والتحمل."، اغمي عليها وظلت لاسابيع تعتقد ان الامر مجرد خيال يدور في رأسها .

عندما قرأت لاول مرة رواية " جين اير " باجزائها الثلاثة الصغيرة، وجدتها رواية مملة، فيها امرأة مجنونة واخرى تعشق صاحب البيت، ومشاهد الحريق، وعندما عدت إليها بعد اكثر من 10 سنوات، في ترجمة منير بعلبكي، اكتشفت انها رواية طويلة، لكن صاحبتها تتقن سرد حكاية انسانة متمردة عنيدة تقترب من سيرة شارلون برونتي نفسها، فالفتاة جين تسرد لنا احداث حياتها منذ طفولتها حين نشأت في مدرسة تتبع الكنيسة، وتلتزم المدرسة بمبدأ اذلال الجسد للقضاء على أية شهوات قد تراود الفتيات . فالفصول الاولى من الرواية توضح لنا خلفية جين التربوية وتاثيرها على تكوين شخصيتها التي سوف تنضج فيما بعد . وتعكس براعة شارلوت برونتي في تصوير الظروف المحيطة بالشخصية وما يسود عالمها من تجاذب بين الحرية والكبت . كانت " جين آير " الطفلة التي مات والديها بمرض التيفوئيد وعمرها سنة واحدة، تولى خالها السيد ريد رعايتها، تعاني من قسوة زوجة الخال التي تعاملها كالخادمة، تلوذ الفتاة بزاوية هادئة لتعيش مع عالم آخر من خلال الكتب التي تقرأها، تعلقت برحلات جالفر "، عندما تدخل المدرسة ستجدها أسوأ من المنزل الذي غادرته. المعلمات قاسيات ومعقدات مثل زوجة خالها، الطعام رديء، الغرف باردة جدا، اللباس رث والأحذية خشنة .تكمل دراستها وتصبح معلمة. وفي وظيفتها الجديدة تتعرف على روشيستر المتزوج من امراة مصابة بالهستريا، تقع في حبه لكنها ترفض الزواج منه في اللحظة الاخيرة، تترك بيت روشيستر وترتبط بعلاقة مع صديق قديم تتفق معه على الزواج، لكنها ستهرب ايضا لتعود الى منزل روشيستر وقد تحول الى اطلال بعد نشوب الحريق فيه وموت زوجته واصابة روشيستر بالعمى فتقرر الزواج منه .

بعد أن أعدت قراءة جين آير، أردت أن أعرف من هي هذه الكاتبة التي خلقت هذا العالم المليء بالآسى والاحباط، يصف المقربين من شارلوت برونتي انها كانت امراة نحيفة صاحبة وجه محمر وفم كبير، وشرود دائم . كانت خجولة، لديها ولع خاص بالمقبرة الموجودة مقابل منزلهم . تكتب في يومياتها:" هل سأقضي أفضل جزء من حياتي في هذه العبودية البائسة  ؟ اجلس يوما بعد يوم مقيدة بالسلاسل إلى هذا الكرسي المسجون داخل هذه الجدران العارية الأربعة، بينما شمس الصيف المجيدة تحترق في السماء والسنة تدور في أغنى وهجها وأعلن في نهاية كل يوم صيفي أن الوقت الذي أفقده لن يأتي مرة أخرى؟ " .

في المقابل ظلت رواية اميلي برونتي " مرتفعات وذرينغ " التي صدرت عام 1848 توصف بأنها نتاج غريب، وفي المقدمة التي كتبتها شارلوت لرواية شقيقتها قالت انها رواية:" لفتاة ريفية لم تخرج خارج بيئتها الضيقة " .انها قصة حب غامض  او كما تقول فرجينيا وولف ان مرتفعات وذيرينغ فيها " حب لكنه ليس بحب رجال ونساء "، لقد قررت اميلي التي توفيت في الثلاثين من عمرها بعد ان اصيبت بمرض السل مثل شقيقاتها ان تعلن حربها على الحب الزائف . كانت تتمتع بشيء قليل من الجمال، طويلة بقوام نحيف، لم يكن لها الصبر لسماع المواعظ التي يلقيها الاب كل مساء، كانت خجولة تخاف السير بمفردها، وصفها اهل القرية التي عاشت فيها بأنها اشبه بالصبي منها الى الفتاة، وقد قيل عنها انها لم تكن تجد الراحة مع البشر وتفضل الاهتمام بالحيوانات . كتبت شارلوت تصف اختها اميلي بانها:" لم تكن تنشد التعاطف أو العون، وكانت ترفض أن يقوم احد بأية خدمة لها " – سومرست موم عشر روايات خالدة ترجمة سيد جاد – . فتاة عنيدة، تقوم في البيت باشق الاعمال، تعشق الطهي، وكانت تلاحظ دائما والكتاب في يدها حتى، واحيانا كانت تمسك ورقة تسجل فيها بعض الملاحظات، لم يكن احد في البيت يتخيل أن هذه الفتاة ستصبح روائية، وعندما انتهت من روتيتها "  مرتفعات وذرينغ " لم يدر ببال شقيقتها شارلوت أن اختها قد كتبت هذه الرواية المدهشة، وعندما نشرت الرواية بعد وفاة اميلي باشهر قليلة كتبت شارلوت مقدمة قالت فيها:" اميلي لا تسمح للقارئ بلحظة سعادة خالصة، فكل شعاع من الشمس إنما ينفذ من خلال كتل سوداء من السحب التي تنذر بالمطر،وكل صفحة مشحونة بكهرباء اخلاقية " .يكتب سومرست موم ان اميلي برونتي افصحت في روايتها عن اعمق اعماق غرائزها .:" لقد هبطت الى اعماق بئر الوحدة التي تعيش فيها " – عشر روايات خالدة -

عندما توفيت شارلوت برونتي في 21 نيسان عام 1855 بسبب مضاعفات الحمل، كانت قد وصلت تقريبا إلى عيد ميلادها التاسع والثلاثين. ولعل قراءة حياة شارلوت برونتي تعني كشف حقائق رواياتها. فقد استطاعت ان تكج حياتها  في نسيج قصصها. كانت امرأة قوية، لم تستطع  الأحزان أن تسحقها، لم تفسح المجال للحظة  يأس واحدة ان توقف مسيرتها، تقول فيرجينيا وولف في مقال نشرته في كتابها القارئ العادي – ترجمة عقيلة رمضان -: "ان شارلوت رقيقة جداً وذكية التفكير. وتضيف: نحن نقرأ شارلوت برونتي لشخصيتها الرقيقة، التي لها ملاحظات جميلة، تعبر عن شخصيتها، التي تحمل افكارا فلسفية . وتقدم لنا وولف شرحا لرواية جين آير حيث تصفها بانها:" مكتوبة عبر مشاعرها واخطائها ايضا. فهذه الرواية توصيف عن النمو الثقافي، كتبتها روائية ذكية، وهي تدفعنا الى ان ننتهي من قراءة الكتاب دون ان تعطينا فرصة للتفكير أو التردد، ولا تسمح لنا بان نرفع اعيننا عن صفحاته .. نستغرق في القراءة لدرجة انه اذا تحرك احد في الغرفة، فان هذه الحركة تبدو كأنها ليست في غرفتنا وانما في منزل جين . ان الكاتبة تمسك زمامنا بيديها وتدفعنا الى السير في طريقها لا نرى إلا ما تراه هي . ولا تتركنا لحظة ولا تسمح لنا بان ننساها " .. وعندما توفيت اميلي برونتي في التاسع عشر من كانون الاول عام  1848  كان مخطوط روايتها "  مرتفعات وذرينغ " يرقد الى جانب سرير شقيقتها شارلوت . كانت قد انتهت من روايتها التي تصفها فرجينيا وولف بانها اصعب من رواية جين اير .

لا اعتقد ان الذاكرة ستخونني عندما اقول انني قضيت اوقاتا ممتعة لكنها مشحونة بالتوتر مع جين آير، وشعرت بالأسى وانا انتهي من مرتفعات وذرينغ، ولم اشعر ان الاختين كتبتا روايات من الخيال، بل وجدت نفسي اتجول داخل بيت ال بونتي، كنت مغمورا في عالمهم الصغير، مستغرقا ذاتيا للغاية لأرى انني كنت وحيدا مثل جين، في الوقت نفسه تمنيت ان اعيش وسط البلاد التي تصفها اميلي برونتي في مقدمة روايتها  مرتفعات وذرينغ:" إن هذه البلاد الجميبة حقا،ولا اعتقد،باستطاعتي أن أجد مكانا في جميع إنجلترا يشبه هذا المكان بهلوه كليا من ضجيج الحياة الاجتماعية " .

اقنعت نفسي بأن قدري ان اتماهى مع شخصيات الاختين برونتي،لقد انشغلت كثيرا بصراعي الداخلي بأن أبدو مثل ابطال الروايات التي اقرأها، وما عدت اعرف من أنا .كُنت عالقا في الخيال .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ولد رسول حمزانوف في 8 ايلول / سبتمبرعام 1923 في داغستان، وتحتفل الاوساط الادبية الروسية منذ  بداية ايلول عام 2023 بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الداغستاني الكبير، وقد خصصت صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا)  الاسبوعية كثيرا من صفحات عددها الصادر في 6-12 ايلول 2023 للحديث عن الذكرى المئوية لميلاد رسول حمزاتوف هذه لدرجة يمكن القول، ان هذا العدد من (ليتيراتورنايا غازيتا) خاص تقريبا بهذه الذكرى، ونعرض في مقالتنا هنا  للقارئ العربي قراءة وجيزة جدا (او بتعبير أدق نظرة سريعة ليس الا) للمواد العديدة والمتنوعة التي نشرتها هذه الصحيفة، وهي تحتفل بهذه المناسبة، لاننا نرى في تلك المواد وقائع جديدة وطريفة عن هذا الشاعر، الذي يعرفة القراء العرب حق المعرفة ويتقبّلون ابداعه باهتمام واعجاب كبيرين .

في الصفحة الاولى لذلك العدد من الصحيفة توجد صورة كبيرة للشاعر رسول حمزاتوف وهو يلقي قصائده على ما يبدو، وفوق الصورة مانشيت عريض عن الذكرى المئوية لحمزاتوف ومقطع من مقالة منشورة باكملها على الصفحة 22 حول تلك الذكرى، وتبدأ الصفحات المكرسّة لحمزاتوف في العدد المذكور من الصفحة 18 و19 و 20 و 21 و22 و23 و24 و 25 و26 و27، اي(10) صفحات باكملها (نكرر باكملها) عدا الصفحة الاولى، التي أشرنا اليها .

يكتب محمد محمدوف، وهو بدرجة بروفيسور وحاصل على شهادة دكتوراه علوم في الفيلولوجيا (اللغات وآدابها) ورئيس شعبة الادب الافاري في اتحاد ادباء داغستان، يكتب مقالا (وهو واقعيا بحث علمي واسع و عميق) وعلى صفحتين اثنتين (18 و19) بعنوان – (داغستان مهد الشعر لرسول حمزاتوف)، وتحته يأتي عنوان اصغر وهو – (... جيد النظر الى العالم، عندما تشعر بارضك الحبيبة تحت قدميك ...)، وهو مقطع من قصيدة لحمزاتوف، واختيار هذا المقطع لم يكن عفويا ابدا، اذ ان جوهر هذا البحث الكبير يكمن بالذات في هذا المقطع، فالباحث اثبت بما لا يقبل الشك، ان رسول حمزاتوف وصل الى مكانته العالمية في دنيا الفكر لانه كان يقف بثبات على ارض وطنه داغستان، ولانه كان يتحدث في ابداعه عن مشاعره الجيّاشة حول شؤون شعبه الانسانية الاعتيادية ليس الا. لقد جاء هذا البحث عن حمزاتوف في اول تلك الصفحات عن مئويته، اذ ارادت الصحيفة ان تتكلم عن الشئ الاهم والاكبر في مسيرة حمزاتوف، وهو الموقف من الوطن (اي داغستان)، اذ ان حمزاتوف اصبح الان رمزا لداغستان، فعندما نذكر حمزاتوف نتذكر داغستان، وعندما نذكر داغستان نتذكر حمزاتوف، وما أعظم هذا التمازج بين الفن والوطن، والذي استطاع حمزاتوف ان ينجزه عن طريق ابداعه .

في الصفحتين 20 و 21  نجد ملحمة في سونيتات بعنوان (ازمان وطرق) لرسول حمزاتوف مع صورة كبيرة له وهو يجلس قرب والده عام 1983 عندما كان رسول شابا، علما ان والده شاعر داغستاني شهير ايضا، وتشغل هذه الملحمة كل الصفحتين 20 و21 وتحتوي على 33 سونيت، ومضمون تلك الملحمة الكبيرة يتناول موضوع انهيار الدولة السوفيتية ويعبّر بشكل واضح وصريح عن موقف حمزاتوف الرافض لتلك الاحداث رفضا قاطعا، وهذه مسألة معروفة في الاوساط الثقافية الروسية، والتي ازداد الحديث عنها في الوقت الحاضر بالذات،  لان هذا الموضوع يرتبط الان بالوضع الحالي للدولة الروسية، اذ غالبا مانسمع بين الناس الرأي القائل، ان هذه الاحداث المأساوية التي تجري الان(بما فيها الحرب الروسية – الاوكرانية) لم تكن ممكنة الوقوع في اطار الدولة السوفيتية الموحدة آنذاك، وغالبا ما يذكرون هذه الآراء محبو حمزاتوف بفخر شديد.

لا يمكن الاستمرار حتى بهذا العرض الوجيز لكل ما جاء في صفحات (ليتيراتورنايا غازيتا) عن مئوية حمزاتوف، ولكننا لا يمكننا ايضا عدم التوقف عند صفحة رقم 23، والتي نشرت في نصفها الاعلى وبترجمة مراد أحمدوف مقاطع من كتابات رسول حمزاتوف تحت عنوان (المسموع  و المبتكر)، وهي كتابات نثرية قصيرة و مليئة بالحكمة والرشاقة والابتكار، وكلها صفات امتاز بها ابداع حمزاتوف،وتذكرنا بالقصة القصيرة جدا، وتذكرنا بقصيدة النثر، وتذكرنا بالحكم والامثال عند الشعوب،وباختصار، فانها لوحات فنية مرسومة بالكلمات تعبّر عن مواقف الشاعر الكبير حول شؤون الحياة عموما، ونقدم للقارئ نماذج مختارة منها:

الانسان الشرير لا يرى حبيبته  في الاحلام .

*

لا توجد جروح اكثر ألما، من الجروح التي تؤلمنا اليوم .

*

الشجرة الكبيرة القديمة تحمينا من الشمس ومن الثلوج ومن المطر . وكذلك الانسان العجوز .

*

ما فائدة الكراسي الكثيرة حولي، اذا كنت لا اقدر ان اجلس على اي كرسي منها .

*

عندما يبكي الطفل يصبح أكبر، وعندما يبكي العجوز يصبح أصغر .

*

اطلق تسمية بابا و ماما حتى على مئة شخص، فانك لن تجد ابا و اما بينهم، وكذلك لا يمكن ان يصبح البلد الغريب وطنا .

*

الذهب، حتى عندما يبقى لمدة عشرين سنة في الاوساخ، يبقى ذهبا برغم ذلك، والقصائد الجيدة مهما تبقى مجهولة طوال سنين عديدة، فانها تبقى رائعة برغم ذلك .

*

لا يمكن حلاقة اللحية من قبل اثنين رأسا، فواحد يحلقها بشكل قصير، والثاني يريد ان يحلقها أقصر، وهكذا الامر بالضبط مع القصائد في ايدي المحررين والنقاد .

***

تحية للذكرى المئوية لميلاد رسول حمزاتوف، وتحية لصحيفة ليتيراتورنايا غازيتا على احتفالها الابداعي بذكرى الشاعر الداغستاني والعالمي رسول حمزاتوف......

***

أ. د. ضياء نافع

أقف في المكتبة المكتضة بالعناوين، أدير مناقشةً مع أحد الزبائن حول كتاب "اصل الانواع" لتشارلز داروين، يسألني عن ثمن الكتاب، وهل توجد نسخة ملخصة منه، لم يتقبل الزبون مبرراتي بقراءة الكتاب الذي لم اقرأه انا في تلك الفترة، كانت تنتابني نوبة من الحماس عندما يطلب مني زبون أن اختار له كتابا ما، كنت الح بأن قراءة الكتاب الاصلي افضل من قراءة الملخص، قال لي وهو يلقي نظرة على الملخص الموجود على ظهر الكتاب:  احتاج كتاب يشرح لي مجلد داروين الضخم هذا . ثم اضاف:  احب قراءة ملخصات الكتب ليكمل بعدها قائلا: " لا أملك الوقت اللازم لقراءة كتب كهذة، واشار بيده الى بعض الكتب المجلدة .

طوال سنوات عملي في المكتبة لم اسمع قارئ يقول انه قرأ كتاب " اصل الانواع " من الجلاد الى الجلاد، كان المقربين من داروين يشكون من ضخامة كتابه، وفي رسالة يوجهها له صديقه توماس هنري هكسلي يخبره فيها ان كتاب اصل الانواع: " من أصعب الكتب استيعابا "، ومع ذلك فهو كتاب تتلاقفه الايدي منذ أن صدرت طبعته الاولى في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1859 وكانت عدد النسخ " 1250 " نسخة، لم يكن الناشر متأكدا من اقبال القراء على مثل هذه النوعية من الكتاب، إلا ان النسخ بيعت جميعها في اليوم الاول .

ثمة مفاجأت اخرى تنتظر تشارلز داروين، فسيكتشف ان كتابه قسم القراء بين مؤيد لنظرية التطور، وبين من اعتبر المؤلف زنديق يجب الاقتصاص منه. يكتب الى احد معارفه: " لا عجب ان يكون مصير كتابي هذا كمصير غيره من الكتب التي يساء فهمها " .

قال لي ذات يوم الروائي الراحل غالب هلسا أن بعض الكتب ترغمك على تصفحها وقراءة بعض صفحاتها، بالنسبة الى" اصل الانواع " لا تكمن قوته بحجج داروين العلمية، وإنما بالجدال والشائعات التي لا تزال ترافق الكتاب .

في مقالته حول جمع الكتب يشير الفيلسوف الالماني والتر بنيامين الى ان معظم محبي الكتب قد قرأوا في افضل الاحوال 10 في المئة من مكتباتهم، ويؤكد بنيامين ان الروائي الفرنسي الحائز على نوبل انانول فرانس كان يملك مكتبة ضخمة وذات يوم طرح عليه السؤال المعتاد:  هل قرأت كل هذه الكتب سيد فرانس، فكان جوابه: " ليس عُشرهم لا افترض انك تستخدم أواني الخزف كل يوم " –مكتبة هتلر الشخصية ترجمة سارة جمال– .

كان جبرا ابراهيم جبرا يقول ان فن جمع الكتب يُصبح ناضجا بمرور السنين، فنحن في بداياتنا نختار كتب من كل نوع وشكل، ومع مرور الوقت لن يسمح لأي كتاب بالدخول دون قرار حاسم بقراءته . في صباي كنت اقدر الكتب لاسباب معينة، اللغط الذي يدور عنها في المكتبة، الغلاف الانيق، اسم الكاتب الذي تلهج به السن الزبائن . اصبحت حيازة الكتب غاية في حد ذاتها بالنسبة لي، كان هناك تسارع تنمو فيه مكتبتي البيتية بشكل تدريجي، حيث امتلأت خزانة صغيرة، بعدها تراكمت الكتب في اكوام موزعة في ارجاء الغرفة، ذات نهار سياخذني والدي إلى محل نجارة في احد شوارع البتاوين، تحدث مع النجار عن مكتبة خشبية بأرفف، وكنت انا غارقا في تخيل شكل المكتبة التي ساصبح من خلالها صاحب مكتبة خاصة .

في طريق العودة قلتُ لوالدي بحماس صبياني:  " سيأتي اليوم الذي املك فيه كتبا اكثر من المكتبة التي اعمل فيها .

تَطلَّع إليّ وهو يبتسم من سذاجتي:  نعم ! سنحول البيت من اجلك الى مكتبة .

في هذه السنوات لم تكن قراءاتي غير مراقبة من شقيقي الأكبر، اتذكر عندما قال لي قريبي صاحب المكتبة ان كتاب اصل الانواع لا ينفع لصبي بعمري، آنذاك كنت اتوجس خيفة من بعض الكتب، ولا اجرؤ على تصفحها اثناء العمل . وكان امرا غريبا بانني لم احصل على اجابات بخصوص الكتب التي يجب ان لا اقترب منها، لكني اتذكر في يوم من الايام، ذهبت الى الكشك الواقع مقابل نصب الحرية والذي كان يملكه الراحل حسن عذافة، قبل ان ينتقل الى الجهة المقابلة ويفتتح مكتبة النهضة العربية، كان الكشك اشبه بمغارة علي بابا، مليء بالنفائس، ولان صاحب الكشك صديقا لعائلتي فقد استغرب عندما اعطيته ثلاثة اوراق من فئة الربع دينار وطلبت منه نسخة من كتاب " اصل الانواع "، سألني هل ارسلك قاسم ؟ يقصد صاحب المكتبة، أشرت بالإيجاب، وكانت كذبة قبضت ثمنها ربع دينار اعاده لي من ثمن الكتاب ظنا منه ان الكتاب سيباع الى احد الزبائن . اخذت الكتاب بعد ان وضعه لي في كيس وذهبت مباشرة الى البيت، وجدت نفسي في حيرة، لأني لا استطيع أن اقرا " اصل الانواع " خارج نطاق الغرفة التي انام فيها، خوفا من ان اضبط متلبسا بالجرم الشنيع، قراءة كتاب يدعي صاحبه إن الانسان اصله قرد، وهو جدال لا يزال مستمرا كلما شاهد البعض كتاب اصل الانواع معروضا على رفوف المكتبات، بالطبع كنت آنذاك من هذا النوع من القراء، تملكني الفضول لمعرفة اصل الانسان، ولهذا عندما سنحت لي الفرصة ان اختلي بكتاب داروين، لم اهتم للمقدمة الطويلة التي كتبها المترجم اسماعيل مظهر وكانت بعنوان " المذاهب القديمة في النشوء "، ووجدت فيما كتبه من أن: " مذهب النشوء والارتقاء قديم يرجع تاريخه إلى آلاف من السنين، وقد نرى أثره في الخرافات الدينية التي وضعها حكماء بابل وآشور ومصر، فكانوا يقولون بأن أثر الكواكب واشتراك بعضها مع بعض كان السبب في نشوء الأحياء في الأرض"، لم يكن هذا الكلام يهمني، فانا ابحث عن اجابة لسؤال:  هل صحيح ان الانسان اصله قرد ؟، بعدها وجدت نفسي غريبا وانا اقرأ المصطلحات العلمية التي امتلأت بها الصفحات الاولى من اصل الانواع، قلبت المجلد الذي تجاوزت صفحاته الـ " 800 " صفحة، وايقنت ان مغامرتي في فهم الكتاب ذهبت أدراج الرياح، لم أدرك حينها ان الكتاب كتب بلغة علمية لكنها سلسة . كانت عيناي تتوقف على جملة احاول تفسيرها، أو احصاءات علمية . إلاعجاب بالكتب المملة أو الصعبة لا يجعل منك قارئا سيئا، العكس هو الصحيح، لأن هذه الكتب تشعرك بالتحدي .يكتب ديفيد كوامن: " علينا ان لا نغفل الحقيقة في انه ولمئة عام واكثر، قليل من القراء تمكنوا من هضم كتاب اصل الانواع " - داروين مترددا – وبالتاكيد كنت واحدا من هؤلاء القراء الذين سيكتشفون بعد سنوات من القراءة انهم امام أثر فكري عظيم . فكما أن القراءة الاولى لكتاب داروين كانت محبطة، إلا ان القارئ سيكتشف فيما بعد ان بامكانه التعامل مع كتاب لم يحبه في بداية الأمر، وان الصعوبات التي نواجهها مع بعض الكتب تدعونا لأن نتكبد عناء قراءة الكتاب كاملا مرة ومرتين .يكتب جورج اورويل والذي عمل في بداية حياته بائعا للكتب: " كان لدى متجرنا مخزون لافت على نحو استثنائي، ومع ذلك أشك ما إذا كان عشرة بالمئة من زبائننا قد عرفوا كتابا جيدا من آخر رديء، وكان المتفاخرون اكثر شيوعا " – لماذا اكتب ترجمة علي مدن – بالتاكيد كنت في ذلك الوقت من الذين يتفاخرون باقتنائهم اكبر عدد من الكتاب، ومن العشرة بالمئة الذين لا يفرقون بين كتاب رديء وآخر جيد، بدليل انني شعرت بالندم لكوني خسرت مبلغا من المال، وعشت لحظات من الخوف من اجل كتاب غامض كتبه رجل يبدو في صورته المنشورة مع الكتاب اقرب الى رجال الدين .

يكتب سلامة موسى الذي اصبح فيما بعد دليلي لعالم السيد تشارلز داروين ان ما قام به صاحب كتاب " اصل الانواع " يعد من اهم المغامرات الفكرية في تاريخ العالم، فهذا الرجل الذي بيدو في الصورة بملامح إنسان حذر وخجول، برأسه الأصلع ولحيته الكاملة، والذي أوصى بأن يدفن في كنيسة وستمنستر،. الرجل صاحب الوجه الذي يبدو خاملا، يضعه تاريخ العلم بمنزلة واحدة مع كوبرنيكوس الذي نبه البشر لحقيقة أننا لا نشغل وضعا محوريا في الكون. فجاء داروين لينقل ليمتد علم الفلك إلى البيولوجيا.

كتب داروين ذات يوم في أحد دفاتر ملاحظاته:  كثيرا ما يتحدث الناس عن الحدث الرائع لظهور الإنسان العاقل"، لم ينبهر كثيرا ببزوغ " الإنسان العاقل ، ويبين لنا في رسائله ويومياته أنه منذ بداية تأملاته حول كتاب " أصل الأنواع " كان ينكر المكانة المتميزة التي خصها البشر لأنفسهم، وكان يسعى لوضع الانسان في معترك الصراع والتغير.

عندما صدر كتاب " اصل الانواع " للمرة الاولى، لم يكن صاحب دار النشر يتوقع ان هذا الكتاب الذي تبدو على ملامح صاحبة حالة من الشرود ، ستباع جميع نسخه، وان اصحاب المكتباتت ظلوا يلحون بان تطبع نسخ نسخاً جديدة، لتتم اعادة طبعه ثلاث مرات في نفس السنة وتصل مبيعاته في السنة الأولى الى أكثر من عشرة آلاف نسخة، الجميع يقرأ الكتاب أو يتصفحه ثم يسأل نفسه: هل حقاً يريد منا صاحب هذا الكتاب الغريب ان نؤمن اننا جئنا سلالة القرود؟.

كان تشارلز داروين المولود في الثاني عشر من شباط عام 1809، طفلا بليداً، في السيرة الذاتية التي كتبها بفسه يقول: " لا بد أنني كنت فتًى ساذجًا للغاية في بداية عهدي بالمدرسة وذهابي إليها " – تشارلز داروين:  حياته وخطاباته ترجمة الزهراء سامي - . توفيت والدته وهو في الثامنة عمره: " من الغريب أني لا أستطيع أن أتذكر أيَّ شيء عنها سوى الفراش الذي ماتت عليه، وردائها الأسود المخملي، ومنضدة عملها ذات التصميم الغريب" .

في المدرسة يشتكى الأساتذة منه لأنه لايستوعب الدروس، كانت شقيقته الاصغر اكثر نباهة منه، قال له والده ذات يوم: "أنت لاتهتم بشيء غير الكلاب والصيد واقتناص الفئران، وإنك ستكون عاراً على نفسك وعلى أسرتك". إلا أن الصبي لم يهتم لكلام الاساتذة ولا رأي والده، فهو مشغول البال بالحيوانات والنباتات يسجل الملاحظات في دفتر صغير ويكتب في يومياته: "اعتقد إنني متفوق على زملائي في المدرسة من حيث ملاحظة الأشياء التي يخطئها الانتباه بسهولة، ومن حيث ملاحظتها بعناية كبيرة".

أراد الأب أن يصبح أبناؤه أطباء مثله، فأرسل داروين مع شقيقه إلى جامعة أدنبرة لدراسة الطب، وبعد سنتين قرر الأساتذة إنه لايصلح لهذه المهنة فترك الطب، حاول بعدها دراسة القانون لكن المدرسين وجدوه لايستوعب الدروس جيدا، وفي النهاية نجح في الحصول على شهادة في اللاهوت من جامعة كمبردج. كان ينتظر وظيفة قس في أحد الارياف، عندما جاءه عرض مفاجئ حيث دعُي للسفر على متن السفينة"البيجل"التي تقوم بمهمة المسح القومي في المياه الإقليمية. ولم يكن اختيارداروين مرتبط بشغفه في دراسة أحوال النبات والحيوان، لكن قائد السفينة كان يبحث عن شخص يرافقه في السفر بعد أن تركه مساعد القبطان، كانت مهمة قائد السفينة أن يضع خريطة للمياه الساحلية، لكنه كان مولعاً بالبحث عن تفسير ديني للخلق، وبما أن داروين درس اللاهوت فقد قرر قائد السفينة دعوته لمرافقته. قضى داروين على متن السفينة خمسة اعوام من عام 1831 الى عام 1836، كانت رحلة البيجل التي وثقها داروين فيما بعد بكتاب – رحلة البيجل ترجمة مجدي المليجي - - أشبه بمغامرة استطاع من خلالها أن يجمع كميات من العيّنات انشغل معها لسنوات، عثر على مجموعة نفيسة من النباتات البحرية، نجا من زلزال في تشيلي، واكتشف أنواعاً من الدلافين، وطوّر نظرية حول تكوين الشُعب المرجانية، وفي سن السابعة والعشرين من عمره عاد الى بلدته..الشيء الوحيد الذي لم يفكر به وهو على متن السفينة كان نظرية النشوء والارتقاء.. فقد كانت هذه النظرية قد طُرحت قبل خمسين عاماً، فقد كتبها جده الدكتور أرازموس وهو مهتم بعلوم الطبيعة ويكتب الشعر وله قصيدة بعنوان"معبود الطبيعة" يناقش فيها موضوع التطور لكنها لم تثر اهتمام الحفيد، إلا أن الصدفة تلعب دورها حين يقرأ داروين مقاله لهربرت سبنسر عن التطور، فيقرر ان يرسل له رسالة اعجاب، إلا ان الفيلسوف الشهير اهملها ولم يرد عليها ، ثم وقع في يد داروين كتاب توماس مالتوس"مقالة في مبدأ السكن"التي أكد فيها إن الزيادة في الطعام والمؤونة لا يمكن أن تتماشى أبداً مع النمو السكاني لأسباب رياضية، وهو ما أثار انتباه داروين الذي وجد خلال رحلته إن جميع الحيوانات تتنافس على الموارد، وأولئك الذين يمتلكون التفوق الفطري سيزدهرون ويمررون ذلك التفوق الى سلالتهم، بهذه الوسيلة ستتحسن الأنواع. قال داروين وهو يرمي كتاب مالتوس جانباً: "إنها فكرة بسيطة جداً، كم كنت غبياً لأنني لم أفكر فيها".واقتنع داروين أخيراً بأن الأنواع لم تكن دائماً كما كانت منذ الخلق ولكنها خضعت للتغيير.

وعلى مدى خمس سنوات، من كانون الأول عام 1831 إلى تشرين الأول من عام 1836، ظل داروين بعيداً عن المنزل حيث كانت السفينة تجوب جميع أنحاء العالم. كان يشعر بدوار البحر، لذلك أمضى معظم وقته على الأرض، وخاصة في أميركا الجنوبية. كان مراقباً ماهراً لجميع أنواع الظواهر الطبيعيةوالناس وعاداتهم، والنباتات والحيوانات والأحفوريات. جمع الآلاف من العينات وأرسلها إلى المنزل، وكانت كلها مصنفة بعناية. كان يحتفظ بكراسة يسجل فيها ملاحظاته، نشر محتوياتها بعد عودته إلى بلاده .نال كتابه الأول " رحلة على السفينة البيجل الذي صدر عام 1893 شعبية واسعة، وما يزال يمثل رواية كلاسيكية عن واحدة من أهم الرحلات العلمية التي تمّ القيام بها على الإطلاق.

أمضى داروين السنوات القليلة التالية في العمل على العديد من الأشياء التي جمعها في بعثته، وألف ثلاثة كتب. كما تزوج من ابنة عمه إيما ويدجوود، وانتقل إلى منزل كبير في ريف كينت. سيتحول فيما بعد الى متحف، عاني في السنوات الاخيرة من عمره من مرض غامض وكان كثير الشكوى من الامراض، لكنه كان غزير الانتاج من الكتب والمقالات. في هذا المنزل تلقى هديه عبارة عن مجلد كبير بعنوان " رأس المال " ، مع اهداء من كاتب اسمه " كارل ماركس " يقدم نفسه كاحد المعجبين المخلصين، فيرسل داروين رسالة قصيرة الى ماركس يشكره على الهديه ويعتذر عن عدم قدرته قراءة كتب من هذا النوع .

يشرح تشارلز داروين العناصر الرئيسية لنظريته في القسم الأول من كتاب " اصل الانواع"، حيث نجده يناقش الاعتراضات التي يمكن أن تثور ضد نظريته. أما في الأقسام الاخرى من الكتاب، فإنه يخصصها في الحديث عن الجيولوجيا والتوزع الجغرافي للنباتات والحيوانات والحقائق ذات الصلة بعلم الأجنّة.

أما الأساس الذي يبني عليه داروين فرضيته تلك، فيتعلق برصد التغيرات التي طرأت على النباتات والحيوانات الأليفة، لا سيما منها تلك التي يتحكم بها الإنسان. ويقارن داروين ذلك، أي الفروقات في الأنواع الناتجة عن "الانتخاب الصناعي"، بالتغيرات الحاصلة في الطبيعة من دون تدخل الإنسان، أي الناتجة عن "الانتخاب الطبيعي" ليخلص إلى أنه: " حيثما هناك حياة، ثمة تغير وتطور مستمران ناتجان أساساً من الصراع من أجل البقاء، حيث أن الانتخاب الطبيعي يتفحص كل يوم وكل ساعة وفي كل أنحاء العالم، أبسط التغيرات رافضاً السيئ منها ومضيفاً الجيد إليها، عاملاً بصمت ومن دون إحساس على تحسين كل خلية حية"،- اصل الانواع ترجمة مجدي المليجي - وهو يؤكد أننا في الحياة اليومية:  "لا نلاحظ أياً من هذه التغيرات البطيئة أثناء عملها، بل ستلاحظ حين تحفرها يد الزمن على مر العصور" .

احتفظ في مكتبتي باكثر من نسخة من كتاب " اصل الانواع " آخرها الترجمة المتميزة التي قام بها المترجم القدير مجدي المليجي والذي ترجم ايضا موسوعة دارين باجزائها الثلاثة " نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي " وكتاب " " التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوانات"، و" سرد أحداث رحلة البيجل"، لكن لاتزال النسخىة الاولى التي عانيت وانا ادخلها الى غرفة نومي تمثل لي ذكريات جميلة عن مغامراتي مع الكتب، وفي بعض الاحيان انالى صورة الرجل الذي غرد خارج السرب، فادرك ان المعركة حوله وحول كتابه " اصل الانواع " قائمة. فكثيرون حتى بين من يقولون إنهم يوافقون على نظريته عن التطور وانهم معجبون بكتابه " اصل الانواع "، يرفضون الاقكار الجريئة التي كتبها حول " الانتخاب الطبيعي" وينظرون لها بنوع من الريبة، ولهذا فان النقاش حول داروين ونظريته لم ينته حتى هذه اللحظة، ويثبت كل يوم ان صاحب اللحية الكثة البيضاء استطاع أن يغير الطريقة التي ننظر بها الى العالم وكيف نفهم انفسنا .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

الصفحة 2 من 7

في المثقف اليوم