شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

لم أكن اتخيل يوما انني ساتحدث مع هذا الزبون الانيق، وان حواراً سيدور بيني وبينه عن الكتب، كان هذا الزبون كلما يدخل المكتبة ينهض صاحب المكتبة مرحبا، ويدعوه الى الجلوس، لياتي له بالكتب والمطبوعات التي صدرت حديثا كتب فرنسية او كتب تراث وبعض المجلات الثقافية، كنت اشعر دائما باهمية هذا الزبون الذي يملك وجها حضريا، جميل التقاسيم، الجبين مدور، العينان قويتان بارقتان، ابرز ما في وجهه الابتسامة الخفيفة التي تنم عن تواضع وطيبة، اناقته بسيطة لكنها ملفتة للنظر، الدهشة حين ينظر الى كتاب جديد هي كلمة السر المنتشرة بين ملامح الوجه والتي تفشي بأن صاحب هذا الوجه قارئ لا يستهان به . كان الدكتور علي جواد الطاهر من الزبائن الدائميين للمكتبة، ينقطع احيانا لأكثر من شهر او شهرين، ثم تجده امامك بابتسامته المحببة يقلب في الكتب.ذات يوم قال أنه عمل في مكتبه عندما كان طالبا في المتوسطة، وكانت مكتبة المدرسة، يفتحها صباحا، ويقف يلبي طلبات المستعيرين خلال فرص الاستراحة بين الدروس، ثم اضاف: كنت في تلك المرحلة مغرما بمجلة الهلال اجمع اعدادها، واقرأ باستمتاع روايات جرجي زيدان، العجيب ان الصبي عامل المكتبة  قال دون تردد: قرأت رواية " فتاة القيروان " لم استسغها . في تلك السنوات كانت روايات جرجي زيدان تباع بشكل جيد ونادرا ما يمر اسبوع دون أن يسالني احد الزبائن: هل عندكم روايات جرجي زيدان .يبتسم الدكتور الطاهر: وماذا يعجبك من الكتب . اجبت وبسرعة وكأنني انتظر هذا السؤال: سلامة موسى وطه حسين .

قال الطاهر: قرأت سلامة موسى عندما كنت في الثالث متوسط . كان اكتشافا بالنسبة لي، فتاثرت به كثيرا، وما زلت ارى أن اراءه كانت صائبة، حيث يدعو القراء الى العلم والمعرفة، واضاف اما طه حسين فقد شاهدته عن قرب وسمعته، وهو اقرب الكتاب الى نفسي، يتذكر الطاهر انه قرأ في المتوسطة كتاب طه حسين قادة الفكر:" فعجب ولم یّعجب، لطه حسين كیف یقرب البعید، ویدني القصي ویلينُ العصي فینتقل بك بين هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكأنه ینتقل بك من صدیق إلى صدیق وانك لتألف هؤلاء الأصدقاء حتى حين لاتكون مالكاً لعناصر الائتلاف – علي جواد الطاهر من كتابه اساتذتي -

اخذت انتظر زيارة العلامة الطاهر الى المكتبة لاطرح عليه بعض الاسئلة عن الكتب، وكان الرجل لفرط بساطته يجيب ويحاورني وكاأني احد طلبته . ذات يوم سيدخل الدكتور الطاهر ومعه شخص آخر، نادرا ما كان الطاهر يرافق احدا في زيارته للمكتبة، لكن هذه المرة كان يبدو سعيدا وهو يفسح المجال للضيف الجديد للدخول، وقبل ان ينطق باسمه نهض صاحب المكتبة ليرحب بحرارة بالزائر وهو يقول للطاهر: الدكتور زبون قديم للمكتبه، لكنه تركنا وسافر. كان الضيف طويل القامة جسمه ممتلئ يرتدي نظارة طبية، ملامح وجهه صارمة، رفض الجلوس وقال انه يريد أن يتجول في المكتبة، بعد دقائق التقط كتابا من احد الرفوف وقال للدكتور الطاهر: هل تدري لقد زرت بيت عائلة برونتي وشاهدت الغرفة التي  كتبت بها هذه الرواية – كانت الرواية التي بيده جين اير لشارلوت برونتي - . اخذ يقلب بالرواية ويقول للأسف الترجمة غير كاملة، فالرواية في نسختها الانكليزية بجدود تسعمائة صفحة بالحرف الصغير، ثم اضاف منير بعلبكي مترجم جيد، يعرف مزاج القارئ ولهذا يبدو انه حذف بعض المطولات المملة .كان الضيف الجديد الذي اشاهده للمرة الاولى والاخيرة هو الدكتور صفاء خلوصي، صاحب الرأي الجريء والمثير عن اصول شكسبير العربية، قال الدكتور الطاهر انه قرأ جين اير، لكنها اتعبته باجوائها السوداوية والكآبة التي سيطرت على بطلة الرواية والشعور بالأسى والحزن .

منعني الخجل من ان احشر نفسي في الحوار . اتذكر غلاف رواية جين اير الذي يبرز من احد الرفوف، فتاة ترتدي معطفا وقبعة وسط غابة، يبدو في الصورة شاب وحصان، فيما الثلج يملأ المكان، والقمر يبدو ساطعا . لم اكن قد قرأت رواية جين إير بترجمة منير بعلبكي، لكني تعرفت على ملامح القصة وحياة المؤلفة من خلال سلسلة كتابي.. ومثل أي قارئ مبتدئ كنت متلهفا لمعرفة نهاية جين آير اقلب الصفحات على عجل بحثا عن مصائر الشخصيات وهل ستنتهي الرواية نهاية سعيدة ام حزينة وكئيبة مثل صاحبتها التي عرفت انها عاشت في بيت منعزل لقسيس يخدم الكنيسة .في هذا البيت الذي زاره الراحل صفاء خلوصي قضت شارلوت ايامها وحيدة وتعيسة .

تكتب فرجينيا وولف:" عندما نفتح كتاب جين آير لا نستطيع ان نخفي توقعاتنا في أننا سوف نقابل دنيا عتيقة من صنع خيالها، دنيا لا تتفق والعصر الحديث " - القارئ العادي ترجمة عقيلة رمضان -

حين توفيت جين اوستن في في ١٨ تموز عام ١٨١٧ عن واحد وأربعين. كانت شارلوت برونتي صاحبة الرواية الشهيرة " جين آير " قد بلغت عامها الاول – فيما ولدت اميلي برونتي التي ابدعت "  مرتفعات وذرينغ " بعد عام من ولادة شقيقتها شارلوت، وفي مطبخ البيت كانت اكثر الطقوس اهمية للشقيقات برونتي، هي قراءة اعمال جين اوستن حتى أن شارلوت برونتي كتبت انها قرأت  " كبرياء وهوى "  سبعة عشر مرة.، ومثل والد جين كان والد شارلوت يجلس في غرفته التي يعد فيها مواعظه الدينية التي يلقيها في الكنيسة حيث يعمل كاهنا، يهوى كتابة الشعر ويعيش في غرفته عيشه وصفتها اميل برونتي:" في توحد محموم محتد وعديم القدرة "   في اوقات الفراغ يقرأ باستمتاع ما كتبته ابنته شارلوت من صفحات رواية سيطلق عليها اسم " جين اير "، والغريب ان اسرة برونتي عاشت قصص حب لم تكتمل، فقد احبيت شارلوت استاذها المتزوج واخذت تراسله، الى ان ابلغها بضرورة التوقف عن ملاحقته برسائلها، وقد نشرت " جين آير "  عام 1847 وبعدها بعام نشرت رواية  شقيقتها اميلي روايتها الوحيدة " مرتفعات وذرينغ " وبينما كانت شارلوت تشعر دائما بان وضعها كامراة  جعلها في مرتبة اقل، لم تشعر اميلي باي احباط لكونها امرأة .

سادت صورة " شارلوت برونتي  " العانس التي تجلس في زاوية من غرفتها تكتب بقلم رصاص على اوراق ملونة، وكأنها نسخة مكررة من كاتبتها المفضلة " جين اوستن " التي حرّضتها على الكتابة عن الحب الذي  لا يجتاز حدود العقل، لتقدم الى القراء صورا فنية عن المشاعر الانسانية الدفينة،  فيما اختارت " إميلي برونتي "، عالما أخرا أكثر ثراء من اي حقيقة اجتماعية، لا يشبه عالم شقيقتها المشغول بالبحث عن الراحة في الخيال، وإنما عالم تسير فيه مدفوعة بعواطف جامحة، حيث تقودها طبيعتها الخاصة، لأنها امنت أن حياتها أمر يخصها لوحدها، لا علاقة له برؤى الخيال .

ولدت شارلوت برونتي في 21 نيسان 1816 في غرب انكلترا، وكانت الابنة الثالثة من بين ستة أطفال لربة البيت ماريا برانويل و القس من اصول ايرلندية باتريك برونتي. في عام 1820، انتقلت العائلة  إلى قرية هاوورث، حيث تم تعيين الاب مشرفا على كنيسة سانت مايكل . في الخامسة من عمرها توفيت والدتها بمرض السرطان، تاركة خمس بنات، ماريا وإليزابيث وشارلوت وإميلي وآن، وابنها برانويل، لتعتني بالعائلة خالتهم إليزابيث برانويل.

في الحوار الوحيد الذي استمعت فيه للراحل الكبير صفاء خلوصي، قدم وصفا للبيت الذي عاشت فيه عائلة برونتي، كانت غرفة الاب على اليمين حيث اختار لنفسه حياة منعزلة بعد وفاة زوجته، وقبالة غرفة الاب كانت غرافة الاخوات، وفي زاوية من البيت غرفة الاخ برانويل وكان يعشق الرسم، فكان يرسم بورتريهات لشقيقاته، وهناك المطبخ الذي يجتمع فيه الابناء لتناول الطعام، واجراء مسابقات ادبية بينهم، وفي المطبخ يتوسط موقد ناري تصفه اميل برونتي في احدى قصائدها:

" البيت عتيق

الاشجار جرداء

وبدون قمر تنحني القبة المضيئة

ولكن أي شيء عزيز على وجه الارض

يثير اللهفة والشوق كموقد بيت دافئ ؟ " .

عند قراءتي لجين آير وبعدها مرتفعات وذيرينغ مرة ثانية، كنت في ذلك الوقت احمل الكتب معي في كل مكان، على السرير، اثناء تناول الطعام، اوقات الاستراحة في المكتبة، واحيانا اخبئ رواية بين كتبي المدرسية، ومع كل رواية كنت اتخيل كيف كان مؤلفها يعيش، سرحت مرة مع اجواء بيت القس برونتي والسكون الذي يحيط به، والمطبخ الذي تجتمع فيه الاخوات حول مائدة الطعام، وكنت اسأل نفسي ترى بماذا كن يتحدثن، وأي الكتب كانت تستهويهن ؟  

في آب 1824، دخلت شارلوت ومعها شقيقاتها إميلي وماريا وإليزابيث إلى مدرسة بنات رجال الدين، وستخبرنا شارلوت برونتي من  أن الظروف السيئة في المدرسة أثرت بشكل دائم على صحتها ونموها البدني، وسرعت بوفاة  شقيقتها ماريا التي توفيت بمرض السل لتلحقها بعدها باشهر شقيقتها اليزابيت  بنفس المرض، مما اضطر الأب ان يمنع بناته من اكمال دراستهن .

في البيت قامت شارلوت بدور الأم والشقيقة الكبرى لأخواتها، في الثالثة عشر من عمرها كتب اول قصيدة لها، وقد شجعها والدها فانجزت خلال اعوام كتابة اكثر من 200 قصيدة، كانت تبعث بها الى المجلة التي تصدر في مدينتهم الريفية وبعد عدة محاولات قرأت اسمها مطبوعا على احد الصفحات، وجدت شارلوت في حياتها الرتيبة ملاذا خاصا، حيث يمكنها أن تتصرف وفقا لرغباتها وهوياتها المتعددة، إلا ان هذه الحياة الرتيبة جعلتها تعيش في صراع نفسي داخلي بين ولائها للدين الذي لا يبيح الشهوة الجنسية ويطالب بكبتها، وبين ولعها بالحب . وقد دفعها هذا الصراع أن تقرر كتابة قصص تشرح فيها حالتها، لكنها كانت تحتفظ بها في خزانتها الخاصة خوفا من اطلاع والدها القس على خيالات ابنته واحلامها الرومانسية، الامر نفسه كانت تقوم به اميلي إلا ان خيالاتها كانت اكثر جرأة . بعد اعوام قليلة ستقدم شارلوت لوالدها دفترا ضخما يحتوي على رواية بعنوان " الاستاذ " . وفي هذه الرواية تسلط الضوء على موضوع طالما شغلها، وهو علاقة الطالبة باستاذها، وهو يمثل انعكاسا على بعض جوانب حياتها، فقد احبت شارلوت برونتي معلماً بلجيكياً  درست عنده اللغات . كان المسيو إيجيه متزوجا ولديه اولاد، لاحظ موهبتها في الكتابة وشجعها، ففسّرت اهتمامه على انه نوع من انواع العشق . كتبت له العديد من الرسائل وفي واحدة منها ترجوه أن لا يغضب منها وتخبره بان قلبها الممتليء بالحب هو الذي يدفعها للكتابة، لكن الاستاذ، طلب منها ان تتوقف عن مراسلته .

قرر الاب ان يبعث بروايته ابنته " الاستاذ " الى احدى دور النشر، لكن جميع دور النشر رفضت طباعتها، ولم تطبع إلا بعد وفاة شارلوت برونتي بعامين .

عام  1846 نشرت الأخوات شارلوت وإيميلي وآن مجموعة مشتركة من القصائد تحت الأسماء المستعارة " كورير بل - إليس بل - آكتون بل" كتبت شارلوت حول استخدام الأسماء المستعارة ما يلي: " تجنبا للدعاية الشخصية، أخفينا أسماءنا الأصلية خلف الأسماء المستعارة: كورير بل - إليس بل - آكتون بل.اخترنا هذه الأسماء الغامضة رغبة منا في استخدام أسماء ذكورية حيث لم نكن نود أن نكشف عن هويتنا كنساء، لأنه في ذلك الوقت كان سيتم التعامل مع طريقة كتاباتنا وتفكيرنا على أنها (أنثوية)، كان لدينا انطباعا قويا أن مؤلفاتنا سيُنظر إليها باستعلاء، حيث لاحظنا كيف يستخدم النقاد في بعض الأحيان أسلوب المهاجمة الشخصية كوسيلة عقاب وأسلوب الغزل كمكافأة، وبالتالي لا يُعتبر ذلك إشادة حقيقية لأعمالنا " . – الروارنولد كيتل مدخل الى الرواية الانكليزية ترجمة هاني الراهب -

عام 1947 توافق دار النشر التي رفضت رواية " الاستاذ " على نشر رواية" جين آير " ولم تصدق أن القراء والنقاد سيهتون بها وستوضع روايتها  ضمن قائمة الكتاب الاكثر مبيعا، وعندما قرأ ت ما كتبته احدى الصحف من ان جين اير "  رواية من صميم روح شهدت الكثير من الكفاح والمعاناة والتحمل."، اغمي عليها وظلت لاسابيع تعتقد ان الامر مجرد خيال يدور في رأسها .

عندما قرأت لاول مرة رواية " جين اير " باجزائها الثلاثة الصغيرة، وجدتها رواية مملة، فيها امرأة مجنونة واخرى تعشق صاحب البيت، ومشاهد الحريق، وعندما عدت إليها بعد اكثر من 10 سنوات، في ترجمة منير بعلبكي، اكتشفت انها رواية طويلة، لكن صاحبتها تتقن سرد حكاية انسانة متمردة عنيدة تقترب من سيرة شارلون برونتي نفسها، فالفتاة جين تسرد لنا احداث حياتها منذ طفولتها حين نشأت في مدرسة تتبع الكنيسة، وتلتزم المدرسة بمبدأ اذلال الجسد للقضاء على أية شهوات قد تراود الفتيات . فالفصول الاولى من الرواية توضح لنا خلفية جين التربوية وتاثيرها على تكوين شخصيتها التي سوف تنضج فيما بعد . وتعكس براعة شارلوت برونتي في تصوير الظروف المحيطة بالشخصية وما يسود عالمها من تجاذب بين الحرية والكبت . كانت " جين آير " الطفلة التي مات والديها بمرض التيفوئيد وعمرها سنة واحدة، تولى خالها السيد ريد رعايتها، تعاني من قسوة زوجة الخال التي تعاملها كالخادمة، تلوذ الفتاة بزاوية هادئة لتعيش مع عالم آخر من خلال الكتب التي تقرأها، تعلقت برحلات جالفر "، عندما تدخل المدرسة ستجدها أسوأ من المنزل الذي غادرته. المعلمات قاسيات ومعقدات مثل زوجة خالها، الطعام رديء، الغرف باردة جدا، اللباس رث والأحذية خشنة .تكمل دراستها وتصبح معلمة. وفي وظيفتها الجديدة تتعرف على روشيستر المتزوج من امراة مصابة بالهستريا، تقع في حبه لكنها ترفض الزواج منه في اللحظة الاخيرة، تترك بيت روشيستر وترتبط بعلاقة مع صديق قديم تتفق معه على الزواج، لكنها ستهرب ايضا لتعود الى منزل روشيستر وقد تحول الى اطلال بعد نشوب الحريق فيه وموت زوجته واصابة روشيستر بالعمى فتقرر الزواج منه .

بعد أن أعدت قراءة جين آير، أردت أن أعرف من هي هذه الكاتبة التي خلقت هذا العالم المليء بالآسى والاحباط، يصف المقربين من شارلوت برونتي انها كانت امراة نحيفة صاحبة وجه محمر وفم كبير، وشرود دائم . كانت خجولة، لديها ولع خاص بالمقبرة الموجودة مقابل منزلهم . تكتب في يومياتها:" هل سأقضي أفضل جزء من حياتي في هذه العبودية البائسة  ؟ اجلس يوما بعد يوم مقيدة بالسلاسل إلى هذا الكرسي المسجون داخل هذه الجدران العارية الأربعة، بينما شمس الصيف المجيدة تحترق في السماء والسنة تدور في أغنى وهجها وأعلن في نهاية كل يوم صيفي أن الوقت الذي أفقده لن يأتي مرة أخرى؟ " .

في المقابل ظلت رواية اميلي برونتي " مرتفعات وذرينغ " التي صدرت عام 1848 توصف بأنها نتاج غريب، وفي المقدمة التي كتبتها شارلوت لرواية شقيقتها قالت انها رواية:" لفتاة ريفية لم تخرج خارج بيئتها الضيقة " .انها قصة حب غامض  او كما تقول فرجينيا وولف ان مرتفعات وذيرينغ فيها " حب لكنه ليس بحب رجال ونساء "، لقد قررت اميلي التي توفيت في الثلاثين من عمرها بعد ان اصيبت بمرض السل مثل شقيقاتها ان تعلن حربها على الحب الزائف . كانت تتمتع بشيء قليل من الجمال، طويلة بقوام نحيف، لم يكن لها الصبر لسماع المواعظ التي يلقيها الاب كل مساء، كانت خجولة تخاف السير بمفردها، وصفها اهل القرية التي عاشت فيها بأنها اشبه بالصبي منها الى الفتاة، وقد قيل عنها انها لم تكن تجد الراحة مع البشر وتفضل الاهتمام بالحيوانات . كتبت شارلوت تصف اختها اميلي بانها:" لم تكن تنشد التعاطف أو العون، وكانت ترفض أن يقوم احد بأية خدمة لها " – سومرست موم عشر روايات خالدة ترجمة سيد جاد – . فتاة عنيدة، تقوم في البيت باشق الاعمال، تعشق الطهي، وكانت تلاحظ دائما والكتاب في يدها حتى، واحيانا كانت تمسك ورقة تسجل فيها بعض الملاحظات، لم يكن احد في البيت يتخيل أن هذه الفتاة ستصبح روائية، وعندما انتهت من روتيتها "  مرتفعات وذرينغ " لم يدر ببال شقيقتها شارلوت أن اختها قد كتبت هذه الرواية المدهشة، وعندما نشرت الرواية بعد وفاة اميلي باشهر قليلة كتبت شارلوت مقدمة قالت فيها:" اميلي لا تسمح للقارئ بلحظة سعادة خالصة، فكل شعاع من الشمس إنما ينفذ من خلال كتل سوداء من السحب التي تنذر بالمطر،وكل صفحة مشحونة بكهرباء اخلاقية " .يكتب سومرست موم ان اميلي برونتي افصحت في روايتها عن اعمق اعماق غرائزها .:" لقد هبطت الى اعماق بئر الوحدة التي تعيش فيها " – عشر روايات خالدة -

عندما توفيت شارلوت برونتي في 21 نيسان عام 1855 بسبب مضاعفات الحمل، كانت قد وصلت تقريبا إلى عيد ميلادها التاسع والثلاثين. ولعل قراءة حياة شارلوت برونتي تعني كشف حقائق رواياتها. فقد استطاعت ان تكج حياتها  في نسيج قصصها. كانت امرأة قوية، لم تستطع  الأحزان أن تسحقها، لم تفسح المجال للحظة  يأس واحدة ان توقف مسيرتها، تقول فيرجينيا وولف في مقال نشرته في كتابها القارئ العادي – ترجمة عقيلة رمضان -: "ان شارلوت رقيقة جداً وذكية التفكير. وتضيف: نحن نقرأ شارلوت برونتي لشخصيتها الرقيقة، التي لها ملاحظات جميلة، تعبر عن شخصيتها، التي تحمل افكارا فلسفية . وتقدم لنا وولف شرحا لرواية جين آير حيث تصفها بانها:" مكتوبة عبر مشاعرها واخطائها ايضا. فهذه الرواية توصيف عن النمو الثقافي، كتبتها روائية ذكية، وهي تدفعنا الى ان ننتهي من قراءة الكتاب دون ان تعطينا فرصة للتفكير أو التردد، ولا تسمح لنا بان نرفع اعيننا عن صفحاته .. نستغرق في القراءة لدرجة انه اذا تحرك احد في الغرفة، فان هذه الحركة تبدو كأنها ليست في غرفتنا وانما في منزل جين . ان الكاتبة تمسك زمامنا بيديها وتدفعنا الى السير في طريقها لا نرى إلا ما تراه هي . ولا تتركنا لحظة ولا تسمح لنا بان ننساها " .. وعندما توفيت اميلي برونتي في التاسع عشر من كانون الاول عام  1848  كان مخطوط روايتها "  مرتفعات وذرينغ " يرقد الى جانب سرير شقيقتها شارلوت . كانت قد انتهت من روايتها التي تصفها فرجينيا وولف بانها اصعب من رواية جين اير .

لا اعتقد ان الذاكرة ستخونني عندما اقول انني قضيت اوقاتا ممتعة لكنها مشحونة بالتوتر مع جين آير، وشعرت بالأسى وانا انتهي من مرتفعات وذرينغ، ولم اشعر ان الاختين كتبتا روايات من الخيال، بل وجدت نفسي اتجول داخل بيت ال بونتي، كنت مغمورا في عالمهم الصغير، مستغرقا ذاتيا للغاية لأرى انني كنت وحيدا مثل جين، في الوقت نفسه تمنيت ان اعيش وسط البلاد التي تصفها اميلي برونتي في مقدمة روايتها  مرتفعات وذرينغ:" إن هذه البلاد الجميبة حقا،ولا اعتقد،باستطاعتي أن أجد مكانا في جميع إنجلترا يشبه هذا المكان بهلوه كليا من ضجيج الحياة الاجتماعية " .

اقنعت نفسي بأن قدري ان اتماهى مع شخصيات الاختين برونتي،لقد انشغلت كثيرا بصراعي الداخلي بأن أبدو مثل ابطال الروايات التي اقرأها، وما عدت اعرف من أنا .كُنت عالقا في الخيال .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ولد رسول حمزانوف في 8 ايلول / سبتمبرعام 1923 في داغستان، وتحتفل الاوساط الادبية الروسية منذ  بداية ايلول عام 2023 بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الداغستاني الكبير، وقد خصصت صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا)  الاسبوعية كثيرا من صفحات عددها الصادر في 6-12 ايلول 2023 للحديث عن الذكرى المئوية لميلاد رسول حمزاتوف هذه لدرجة يمكن القول، ان هذا العدد من (ليتيراتورنايا غازيتا) خاص تقريبا بهذه الذكرى، ونعرض في مقالتنا هنا  للقارئ العربي قراءة وجيزة جدا (او بتعبير أدق نظرة سريعة ليس الا) للمواد العديدة والمتنوعة التي نشرتها هذه الصحيفة، وهي تحتفل بهذه المناسبة، لاننا نرى في تلك المواد وقائع جديدة وطريفة عن هذا الشاعر، الذي يعرفة القراء العرب حق المعرفة ويتقبّلون ابداعه باهتمام واعجاب كبيرين .

في الصفحة الاولى لذلك العدد من الصحيفة توجد صورة كبيرة للشاعر رسول حمزاتوف وهو يلقي قصائده على ما يبدو، وفوق الصورة مانشيت عريض عن الذكرى المئوية لحمزاتوف ومقطع من مقالة منشورة باكملها على الصفحة 22 حول تلك الذكرى، وتبدأ الصفحات المكرسّة لحمزاتوف في العدد المذكور من الصفحة 18 و19 و 20 و 21 و22 و23 و24 و 25 و26 و27، اي(10) صفحات باكملها (نكرر باكملها) عدا الصفحة الاولى، التي أشرنا اليها .

يكتب محمد محمدوف، وهو بدرجة بروفيسور وحاصل على شهادة دكتوراه علوم في الفيلولوجيا (اللغات وآدابها) ورئيس شعبة الادب الافاري في اتحاد ادباء داغستان، يكتب مقالا (وهو واقعيا بحث علمي واسع و عميق) وعلى صفحتين اثنتين (18 و19) بعنوان – (داغستان مهد الشعر لرسول حمزاتوف)، وتحته يأتي عنوان اصغر وهو – (... جيد النظر الى العالم، عندما تشعر بارضك الحبيبة تحت قدميك ...)، وهو مقطع من قصيدة لحمزاتوف، واختيار هذا المقطع لم يكن عفويا ابدا، اذ ان جوهر هذا البحث الكبير يكمن بالذات في هذا المقطع، فالباحث اثبت بما لا يقبل الشك، ان رسول حمزاتوف وصل الى مكانته العالمية في دنيا الفكر لانه كان يقف بثبات على ارض وطنه داغستان، ولانه كان يتحدث في ابداعه عن مشاعره الجيّاشة حول شؤون شعبه الانسانية الاعتيادية ليس الا. لقد جاء هذا البحث عن حمزاتوف في اول تلك الصفحات عن مئويته، اذ ارادت الصحيفة ان تتكلم عن الشئ الاهم والاكبر في مسيرة حمزاتوف، وهو الموقف من الوطن (اي داغستان)، اذ ان حمزاتوف اصبح الان رمزا لداغستان، فعندما نذكر حمزاتوف نتذكر داغستان، وعندما نذكر داغستان نتذكر حمزاتوف، وما أعظم هذا التمازج بين الفن والوطن، والذي استطاع حمزاتوف ان ينجزه عن طريق ابداعه .

في الصفحتين 20 و 21  نجد ملحمة في سونيتات بعنوان (ازمان وطرق) لرسول حمزاتوف مع صورة كبيرة له وهو يجلس قرب والده عام 1983 عندما كان رسول شابا، علما ان والده شاعر داغستاني شهير ايضا، وتشغل هذه الملحمة كل الصفحتين 20 و21 وتحتوي على 33 سونيت، ومضمون تلك الملحمة الكبيرة يتناول موضوع انهيار الدولة السوفيتية ويعبّر بشكل واضح وصريح عن موقف حمزاتوف الرافض لتلك الاحداث رفضا قاطعا، وهذه مسألة معروفة في الاوساط الثقافية الروسية، والتي ازداد الحديث عنها في الوقت الحاضر بالذات،  لان هذا الموضوع يرتبط الان بالوضع الحالي للدولة الروسية، اذ غالبا مانسمع بين الناس الرأي القائل، ان هذه الاحداث المأساوية التي تجري الان(بما فيها الحرب الروسية – الاوكرانية) لم تكن ممكنة الوقوع في اطار الدولة السوفيتية الموحدة آنذاك، وغالبا ما يذكرون هذه الآراء محبو حمزاتوف بفخر شديد.

لا يمكن الاستمرار حتى بهذا العرض الوجيز لكل ما جاء في صفحات (ليتيراتورنايا غازيتا) عن مئوية حمزاتوف، ولكننا لا يمكننا ايضا عدم التوقف عند صفحة رقم 23، والتي نشرت في نصفها الاعلى وبترجمة مراد أحمدوف مقاطع من كتابات رسول حمزاتوف تحت عنوان (المسموع  و المبتكر)، وهي كتابات نثرية قصيرة و مليئة بالحكمة والرشاقة والابتكار، وكلها صفات امتاز بها ابداع حمزاتوف،وتذكرنا بالقصة القصيرة جدا، وتذكرنا بقصيدة النثر، وتذكرنا بالحكم والامثال عند الشعوب،وباختصار، فانها لوحات فنية مرسومة بالكلمات تعبّر عن مواقف الشاعر الكبير حول شؤون الحياة عموما، ونقدم للقارئ نماذج مختارة منها:

الانسان الشرير لا يرى حبيبته  في الاحلام .

*

لا توجد جروح اكثر ألما، من الجروح التي تؤلمنا اليوم .

*

الشجرة الكبيرة القديمة تحمينا من الشمس ومن الثلوج ومن المطر . وكذلك الانسان العجوز .

*

ما فائدة الكراسي الكثيرة حولي، اذا كنت لا اقدر ان اجلس على اي كرسي منها .

*

عندما يبكي الطفل يصبح أكبر، وعندما يبكي العجوز يصبح أصغر .

*

اطلق تسمية بابا و ماما حتى على مئة شخص، فانك لن تجد ابا و اما بينهم، وكذلك لا يمكن ان يصبح البلد الغريب وطنا .

*

الذهب، حتى عندما يبقى لمدة عشرين سنة في الاوساخ، يبقى ذهبا برغم ذلك، والقصائد الجيدة مهما تبقى مجهولة طوال سنين عديدة، فانها تبقى رائعة برغم ذلك .

*

لا يمكن حلاقة اللحية من قبل اثنين رأسا، فواحد يحلقها بشكل قصير، والثاني يريد ان يحلقها أقصر، وهكذا الامر بالضبط مع القصائد في ايدي المحررين والنقاد .

***

تحية للذكرى المئوية لميلاد رسول حمزاتوف، وتحية لصحيفة ليتيراتورنايا غازيتا على احتفالها الابداعي بذكرى الشاعر الداغستاني والعالمي رسول حمزاتوف......

***

أ. د. ضياء نافع

أقف في المكتبة المكتضة بالعناوين، أدير مناقشةً مع أحد الزبائن حول كتاب "اصل الانواع" لتشارلز داروين، يسألني عن ثمن الكتاب، وهل توجد نسخة ملخصة منه، لم يتقبل الزبون مبرراتي بقراءة الكتاب الذي لم اقرأه انا في تلك الفترة، كانت تنتابني نوبة من الحماس عندما يطلب مني زبون أن اختار له كتابا ما، كنت الح بأن قراءة الكتاب الاصلي افضل من قراءة الملخص، قال لي وهو يلقي نظرة على الملخص الموجود على ظهر الكتاب:  احتاج كتاب يشرح لي مجلد داروين الضخم هذا . ثم اضاف:  احب قراءة ملخصات الكتب ليكمل بعدها قائلا: " لا أملك الوقت اللازم لقراءة كتب كهذة، واشار بيده الى بعض الكتب المجلدة .

طوال سنوات عملي في المكتبة لم اسمع قارئ يقول انه قرأ كتاب " اصل الانواع " من الجلاد الى الجلاد، كان المقربين من داروين يشكون من ضخامة كتابه، وفي رسالة يوجهها له صديقه توماس هنري هكسلي يخبره فيها ان كتاب اصل الانواع: " من أصعب الكتب استيعابا "، ومع ذلك فهو كتاب تتلاقفه الايدي منذ أن صدرت طبعته الاولى في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1859 وكانت عدد النسخ " 1250 " نسخة، لم يكن الناشر متأكدا من اقبال القراء على مثل هذه النوعية من الكتاب، إلا ان النسخ بيعت جميعها في اليوم الاول .

ثمة مفاجأت اخرى تنتظر تشارلز داروين، فسيكتشف ان كتابه قسم القراء بين مؤيد لنظرية التطور، وبين من اعتبر المؤلف زنديق يجب الاقتصاص منه. يكتب الى احد معارفه: " لا عجب ان يكون مصير كتابي هذا كمصير غيره من الكتب التي يساء فهمها " .

قال لي ذات يوم الروائي الراحل غالب هلسا أن بعض الكتب ترغمك على تصفحها وقراءة بعض صفحاتها، بالنسبة الى" اصل الانواع " لا تكمن قوته بحجج داروين العلمية، وإنما بالجدال والشائعات التي لا تزال ترافق الكتاب .

في مقالته حول جمع الكتب يشير الفيلسوف الالماني والتر بنيامين الى ان معظم محبي الكتب قد قرأوا في افضل الاحوال 10 في المئة من مكتباتهم، ويؤكد بنيامين ان الروائي الفرنسي الحائز على نوبل انانول فرانس كان يملك مكتبة ضخمة وذات يوم طرح عليه السؤال المعتاد:  هل قرأت كل هذه الكتب سيد فرانس، فكان جوابه: " ليس عُشرهم لا افترض انك تستخدم أواني الخزف كل يوم " –مكتبة هتلر الشخصية ترجمة سارة جمال– .

كان جبرا ابراهيم جبرا يقول ان فن جمع الكتب يُصبح ناضجا بمرور السنين، فنحن في بداياتنا نختار كتب من كل نوع وشكل، ومع مرور الوقت لن يسمح لأي كتاب بالدخول دون قرار حاسم بقراءته . في صباي كنت اقدر الكتب لاسباب معينة، اللغط الذي يدور عنها في المكتبة، الغلاف الانيق، اسم الكاتب الذي تلهج به السن الزبائن . اصبحت حيازة الكتب غاية في حد ذاتها بالنسبة لي، كان هناك تسارع تنمو فيه مكتبتي البيتية بشكل تدريجي، حيث امتلأت خزانة صغيرة، بعدها تراكمت الكتب في اكوام موزعة في ارجاء الغرفة، ذات نهار سياخذني والدي إلى محل نجارة في احد شوارع البتاوين، تحدث مع النجار عن مكتبة خشبية بأرفف، وكنت انا غارقا في تخيل شكل المكتبة التي ساصبح من خلالها صاحب مكتبة خاصة .

في طريق العودة قلتُ لوالدي بحماس صبياني:  " سيأتي اليوم الذي املك فيه كتبا اكثر من المكتبة التي اعمل فيها .

تَطلَّع إليّ وهو يبتسم من سذاجتي:  نعم ! سنحول البيت من اجلك الى مكتبة .

في هذه السنوات لم تكن قراءاتي غير مراقبة من شقيقي الأكبر، اتذكر عندما قال لي قريبي صاحب المكتبة ان كتاب اصل الانواع لا ينفع لصبي بعمري، آنذاك كنت اتوجس خيفة من بعض الكتب، ولا اجرؤ على تصفحها اثناء العمل . وكان امرا غريبا بانني لم احصل على اجابات بخصوص الكتب التي يجب ان لا اقترب منها، لكني اتذكر في يوم من الايام، ذهبت الى الكشك الواقع مقابل نصب الحرية والذي كان يملكه الراحل حسن عذافة، قبل ان ينتقل الى الجهة المقابلة ويفتتح مكتبة النهضة العربية، كان الكشك اشبه بمغارة علي بابا، مليء بالنفائس، ولان صاحب الكشك صديقا لعائلتي فقد استغرب عندما اعطيته ثلاثة اوراق من فئة الربع دينار وطلبت منه نسخة من كتاب " اصل الانواع "، سألني هل ارسلك قاسم ؟ يقصد صاحب المكتبة، أشرت بالإيجاب، وكانت كذبة قبضت ثمنها ربع دينار اعاده لي من ثمن الكتاب ظنا منه ان الكتاب سيباع الى احد الزبائن . اخذت الكتاب بعد ان وضعه لي في كيس وذهبت مباشرة الى البيت، وجدت نفسي في حيرة، لأني لا استطيع أن اقرا " اصل الانواع " خارج نطاق الغرفة التي انام فيها، خوفا من ان اضبط متلبسا بالجرم الشنيع، قراءة كتاب يدعي صاحبه إن الانسان اصله قرد، وهو جدال لا يزال مستمرا كلما شاهد البعض كتاب اصل الانواع معروضا على رفوف المكتبات، بالطبع كنت آنذاك من هذا النوع من القراء، تملكني الفضول لمعرفة اصل الانسان، ولهذا عندما سنحت لي الفرصة ان اختلي بكتاب داروين، لم اهتم للمقدمة الطويلة التي كتبها المترجم اسماعيل مظهر وكانت بعنوان " المذاهب القديمة في النشوء "، ووجدت فيما كتبه من أن: " مذهب النشوء والارتقاء قديم يرجع تاريخه إلى آلاف من السنين، وقد نرى أثره في الخرافات الدينية التي وضعها حكماء بابل وآشور ومصر، فكانوا يقولون بأن أثر الكواكب واشتراك بعضها مع بعض كان السبب في نشوء الأحياء في الأرض"، لم يكن هذا الكلام يهمني، فانا ابحث عن اجابة لسؤال:  هل صحيح ان الانسان اصله قرد ؟، بعدها وجدت نفسي غريبا وانا اقرأ المصطلحات العلمية التي امتلأت بها الصفحات الاولى من اصل الانواع، قلبت المجلد الذي تجاوزت صفحاته الـ " 800 " صفحة، وايقنت ان مغامرتي في فهم الكتاب ذهبت أدراج الرياح، لم أدرك حينها ان الكتاب كتب بلغة علمية لكنها سلسة . كانت عيناي تتوقف على جملة احاول تفسيرها، أو احصاءات علمية . إلاعجاب بالكتب المملة أو الصعبة لا يجعل منك قارئا سيئا، العكس هو الصحيح، لأن هذه الكتب تشعرك بالتحدي .يكتب ديفيد كوامن: " علينا ان لا نغفل الحقيقة في انه ولمئة عام واكثر، قليل من القراء تمكنوا من هضم كتاب اصل الانواع " - داروين مترددا – وبالتاكيد كنت واحدا من هؤلاء القراء الذين سيكتشفون بعد سنوات من القراءة انهم امام أثر فكري عظيم . فكما أن القراءة الاولى لكتاب داروين كانت محبطة، إلا ان القارئ سيكتشف فيما بعد ان بامكانه التعامل مع كتاب لم يحبه في بداية الأمر، وان الصعوبات التي نواجهها مع بعض الكتب تدعونا لأن نتكبد عناء قراءة الكتاب كاملا مرة ومرتين .يكتب جورج اورويل والذي عمل في بداية حياته بائعا للكتب: " كان لدى متجرنا مخزون لافت على نحو استثنائي، ومع ذلك أشك ما إذا كان عشرة بالمئة من زبائننا قد عرفوا كتابا جيدا من آخر رديء، وكان المتفاخرون اكثر شيوعا " – لماذا اكتب ترجمة علي مدن – بالتاكيد كنت في ذلك الوقت من الذين يتفاخرون باقتنائهم اكبر عدد من الكتاب، ومن العشرة بالمئة الذين لا يفرقون بين كتاب رديء وآخر جيد، بدليل انني شعرت بالندم لكوني خسرت مبلغا من المال، وعشت لحظات من الخوف من اجل كتاب غامض كتبه رجل يبدو في صورته المنشورة مع الكتاب اقرب الى رجال الدين .

يكتب سلامة موسى الذي اصبح فيما بعد دليلي لعالم السيد تشارلز داروين ان ما قام به صاحب كتاب " اصل الانواع " يعد من اهم المغامرات الفكرية في تاريخ العالم، فهذا الرجل الذي بيدو في الصورة بملامح إنسان حذر وخجول، برأسه الأصلع ولحيته الكاملة، والذي أوصى بأن يدفن في كنيسة وستمنستر،. الرجل صاحب الوجه الذي يبدو خاملا، يضعه تاريخ العلم بمنزلة واحدة مع كوبرنيكوس الذي نبه البشر لحقيقة أننا لا نشغل وضعا محوريا في الكون. فجاء داروين لينقل ليمتد علم الفلك إلى البيولوجيا.

كتب داروين ذات يوم في أحد دفاتر ملاحظاته:  كثيرا ما يتحدث الناس عن الحدث الرائع لظهور الإنسان العاقل"، لم ينبهر كثيرا ببزوغ " الإنسان العاقل ، ويبين لنا في رسائله ويومياته أنه منذ بداية تأملاته حول كتاب " أصل الأنواع " كان ينكر المكانة المتميزة التي خصها البشر لأنفسهم، وكان يسعى لوضع الانسان في معترك الصراع والتغير.

عندما صدر كتاب " اصل الانواع " للمرة الاولى، لم يكن صاحب دار النشر يتوقع ان هذا الكتاب الذي تبدو على ملامح صاحبة حالة من الشرود ، ستباع جميع نسخه، وان اصحاب المكتباتت ظلوا يلحون بان تطبع نسخ نسخاً جديدة، لتتم اعادة طبعه ثلاث مرات في نفس السنة وتصل مبيعاته في السنة الأولى الى أكثر من عشرة آلاف نسخة، الجميع يقرأ الكتاب أو يتصفحه ثم يسأل نفسه: هل حقاً يريد منا صاحب هذا الكتاب الغريب ان نؤمن اننا جئنا سلالة القرود؟.

كان تشارلز داروين المولود في الثاني عشر من شباط عام 1809، طفلا بليداً، في السيرة الذاتية التي كتبها بفسه يقول: " لا بد أنني كنت فتًى ساذجًا للغاية في بداية عهدي بالمدرسة وذهابي إليها " – تشارلز داروين:  حياته وخطاباته ترجمة الزهراء سامي - . توفيت والدته وهو في الثامنة عمره: " من الغريب أني لا أستطيع أن أتذكر أيَّ شيء عنها سوى الفراش الذي ماتت عليه، وردائها الأسود المخملي، ومنضدة عملها ذات التصميم الغريب" .

في المدرسة يشتكى الأساتذة منه لأنه لايستوعب الدروس، كانت شقيقته الاصغر اكثر نباهة منه، قال له والده ذات يوم: "أنت لاتهتم بشيء غير الكلاب والصيد واقتناص الفئران، وإنك ستكون عاراً على نفسك وعلى أسرتك". إلا أن الصبي لم يهتم لكلام الاساتذة ولا رأي والده، فهو مشغول البال بالحيوانات والنباتات يسجل الملاحظات في دفتر صغير ويكتب في يومياته: "اعتقد إنني متفوق على زملائي في المدرسة من حيث ملاحظة الأشياء التي يخطئها الانتباه بسهولة، ومن حيث ملاحظتها بعناية كبيرة".

أراد الأب أن يصبح أبناؤه أطباء مثله، فأرسل داروين مع شقيقه إلى جامعة أدنبرة لدراسة الطب، وبعد سنتين قرر الأساتذة إنه لايصلح لهذه المهنة فترك الطب، حاول بعدها دراسة القانون لكن المدرسين وجدوه لايستوعب الدروس جيدا، وفي النهاية نجح في الحصول على شهادة في اللاهوت من جامعة كمبردج. كان ينتظر وظيفة قس في أحد الارياف، عندما جاءه عرض مفاجئ حيث دعُي للسفر على متن السفينة"البيجل"التي تقوم بمهمة المسح القومي في المياه الإقليمية. ولم يكن اختيارداروين مرتبط بشغفه في دراسة أحوال النبات والحيوان، لكن قائد السفينة كان يبحث عن شخص يرافقه في السفر بعد أن تركه مساعد القبطان، كانت مهمة قائد السفينة أن يضع خريطة للمياه الساحلية، لكنه كان مولعاً بالبحث عن تفسير ديني للخلق، وبما أن داروين درس اللاهوت فقد قرر قائد السفينة دعوته لمرافقته. قضى داروين على متن السفينة خمسة اعوام من عام 1831 الى عام 1836، كانت رحلة البيجل التي وثقها داروين فيما بعد بكتاب – رحلة البيجل ترجمة مجدي المليجي - - أشبه بمغامرة استطاع من خلالها أن يجمع كميات من العيّنات انشغل معها لسنوات، عثر على مجموعة نفيسة من النباتات البحرية، نجا من زلزال في تشيلي، واكتشف أنواعاً من الدلافين، وطوّر نظرية حول تكوين الشُعب المرجانية، وفي سن السابعة والعشرين من عمره عاد الى بلدته..الشيء الوحيد الذي لم يفكر به وهو على متن السفينة كان نظرية النشوء والارتقاء.. فقد كانت هذه النظرية قد طُرحت قبل خمسين عاماً، فقد كتبها جده الدكتور أرازموس وهو مهتم بعلوم الطبيعة ويكتب الشعر وله قصيدة بعنوان"معبود الطبيعة" يناقش فيها موضوع التطور لكنها لم تثر اهتمام الحفيد، إلا أن الصدفة تلعب دورها حين يقرأ داروين مقاله لهربرت سبنسر عن التطور، فيقرر ان يرسل له رسالة اعجاب، إلا ان الفيلسوف الشهير اهملها ولم يرد عليها ، ثم وقع في يد داروين كتاب توماس مالتوس"مقالة في مبدأ السكن"التي أكد فيها إن الزيادة في الطعام والمؤونة لا يمكن أن تتماشى أبداً مع النمو السكاني لأسباب رياضية، وهو ما أثار انتباه داروين الذي وجد خلال رحلته إن جميع الحيوانات تتنافس على الموارد، وأولئك الذين يمتلكون التفوق الفطري سيزدهرون ويمررون ذلك التفوق الى سلالتهم، بهذه الوسيلة ستتحسن الأنواع. قال داروين وهو يرمي كتاب مالتوس جانباً: "إنها فكرة بسيطة جداً، كم كنت غبياً لأنني لم أفكر فيها".واقتنع داروين أخيراً بأن الأنواع لم تكن دائماً كما كانت منذ الخلق ولكنها خضعت للتغيير.

وعلى مدى خمس سنوات، من كانون الأول عام 1831 إلى تشرين الأول من عام 1836، ظل داروين بعيداً عن المنزل حيث كانت السفينة تجوب جميع أنحاء العالم. كان يشعر بدوار البحر، لذلك أمضى معظم وقته على الأرض، وخاصة في أميركا الجنوبية. كان مراقباً ماهراً لجميع أنواع الظواهر الطبيعيةوالناس وعاداتهم، والنباتات والحيوانات والأحفوريات. جمع الآلاف من العينات وأرسلها إلى المنزل، وكانت كلها مصنفة بعناية. كان يحتفظ بكراسة يسجل فيها ملاحظاته، نشر محتوياتها بعد عودته إلى بلاده .نال كتابه الأول " رحلة على السفينة البيجل الذي صدر عام 1893 شعبية واسعة، وما يزال يمثل رواية كلاسيكية عن واحدة من أهم الرحلات العلمية التي تمّ القيام بها على الإطلاق.

أمضى داروين السنوات القليلة التالية في العمل على العديد من الأشياء التي جمعها في بعثته، وألف ثلاثة كتب. كما تزوج من ابنة عمه إيما ويدجوود، وانتقل إلى منزل كبير في ريف كينت. سيتحول فيما بعد الى متحف، عاني في السنوات الاخيرة من عمره من مرض غامض وكان كثير الشكوى من الامراض، لكنه كان غزير الانتاج من الكتب والمقالات. في هذا المنزل تلقى هديه عبارة عن مجلد كبير بعنوان " رأس المال " ، مع اهداء من كاتب اسمه " كارل ماركس " يقدم نفسه كاحد المعجبين المخلصين، فيرسل داروين رسالة قصيرة الى ماركس يشكره على الهديه ويعتذر عن عدم قدرته قراءة كتب من هذا النوع .

يشرح تشارلز داروين العناصر الرئيسية لنظريته في القسم الأول من كتاب " اصل الانواع"، حيث نجده يناقش الاعتراضات التي يمكن أن تثور ضد نظريته. أما في الأقسام الاخرى من الكتاب، فإنه يخصصها في الحديث عن الجيولوجيا والتوزع الجغرافي للنباتات والحيوانات والحقائق ذات الصلة بعلم الأجنّة.

أما الأساس الذي يبني عليه داروين فرضيته تلك، فيتعلق برصد التغيرات التي طرأت على النباتات والحيوانات الأليفة، لا سيما منها تلك التي يتحكم بها الإنسان. ويقارن داروين ذلك، أي الفروقات في الأنواع الناتجة عن "الانتخاب الصناعي"، بالتغيرات الحاصلة في الطبيعة من دون تدخل الإنسان، أي الناتجة عن "الانتخاب الطبيعي" ليخلص إلى أنه: " حيثما هناك حياة، ثمة تغير وتطور مستمران ناتجان أساساً من الصراع من أجل البقاء، حيث أن الانتخاب الطبيعي يتفحص كل يوم وكل ساعة وفي كل أنحاء العالم، أبسط التغيرات رافضاً السيئ منها ومضيفاً الجيد إليها، عاملاً بصمت ومن دون إحساس على تحسين كل خلية حية"،- اصل الانواع ترجمة مجدي المليجي - وهو يؤكد أننا في الحياة اليومية:  "لا نلاحظ أياً من هذه التغيرات البطيئة أثناء عملها، بل ستلاحظ حين تحفرها يد الزمن على مر العصور" .

احتفظ في مكتبتي باكثر من نسخة من كتاب " اصل الانواع " آخرها الترجمة المتميزة التي قام بها المترجم القدير مجدي المليجي والذي ترجم ايضا موسوعة دارين باجزائها الثلاثة " نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي " وكتاب " " التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوانات"، و" سرد أحداث رحلة البيجل"، لكن لاتزال النسخىة الاولى التي عانيت وانا ادخلها الى غرفة نومي تمثل لي ذكريات جميلة عن مغامراتي مع الكتب، وفي بعض الاحيان انالى صورة الرجل الذي غرد خارج السرب، فادرك ان المعركة حوله وحول كتابه " اصل الانواع " قائمة. فكثيرون حتى بين من يقولون إنهم يوافقون على نظريته عن التطور وانهم معجبون بكتابه " اصل الانواع "، يرفضون الاقكار الجريئة التي كتبها حول " الانتخاب الطبيعي" وينظرون لها بنوع من الريبة، ولهذا فان النقاش حول داروين ونظريته لم ينته حتى هذه اللحظة، ويثبت كل يوم ان صاحب اللحية الكثة البيضاء استطاع أن يغير الطريقة التي ننظر بها الى العالم وكيف نفهم انفسنا .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

أكتب اليوم عن الدكتور "خالص جلبي" ذلك المفكر السوري العملاق الذي أتحقنا بالعديد من الدراسات والأبحاث الفلسفية المتعمقة في مجال التنوير، وتحرير العقل الإسلامي ، ونبذ العنف في شجاعة نادرة تمثلت في مواجهة كل أنوع الاستبداد والفساد ، فهو والله ذو أصالة شامخة ، فممارساته كانت قادرة على إيصال رسالته الفكرية للسوريين وبأن الفكر المبني على الجهد بحثي دؤوب وشاق ومازال وسيزال.

ولهذا عُرف  "خالص جلبي" بأفكاره الجريئة في مختلف القضايا المحورية في المشهد السياسي العربي والإسلامي.. قادته آراؤه للسجن في سوريا، وعمل فترة في القصيم بالسعودية، ومنها واصل كتابته في الصحف وطرحه الجريء في القضايا الجدلية. كما عرف عنه اهتمامه الواسع بالثقافة، واقتناعه الراسخ بالفكر كضامن للتقدم والرخاء.

ويعرف خالص جلبي نفسه بقوله: "إنني سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، وألماني التخصص، وكندي الجنسية، وعالمي الثقافة، ثنائي اللغة، لغة التراث ولغة المعاصرة, وأدعو إلى الطيران نحو المستقبل بجناحين من العلم والسلم" .

ولد في مدينة القامشلي شمال شرق سورية، وتخرج من كلية الطب عام 1971 وكلية الشريعة 1974.. سافر إلى ألمانيا وأتم هناك تخصصه في جراحة الأوعية الدموية، وعاش فيها حتى عام 1982 حصَّل دكتوراة في الجراحة ـ ألمانيا الغربية 1982 م ثم عمل كرئيس لوحدة جراحة الأوعية الدموية في المستشفى التخصصي ـ القصيم ـ السعودية .

كتب جلبي مئات المقالات في الصحف والمجلات السعوديّة والعربيّة، وشارك في العديد من المؤتمرات العلميّة العربيّة والدوليّة.. وألّف كتباً علمية عديدة منها: الطب محراب الإيمان، وعندما بزغت الشمس مرتين: قصة السلاح النووي، وأين يقف العلم اليوم، والإيدز طاعون العصر، والعصر الجديد للجراحة -من جراحة الجينات إلى الاستنساخ الإنساني، والإيمان والتقدم العلمي، وحوار الطب والفلسفة..

ومن كتبه الفكرية: فلسفتي، ومخطط الانحدار وإعادة البناء، وقوانين التغيير ظاهرة المحنة- محاولة لدراسة سننية، وضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية، وسيكولوجية العنف وإستراتيجية العمل السلمي".

تأثر خالص جلبي  في فكره بمفكرين غربيين كما تأثر ببعض المثقفين العرب الآخرين في عصر النهضة حيث كانت من أبرز الأفكار التي نادى به نتيجة هذا التأثير هي أن تحقيق النهضة في المجتمع يستوجب التمثل بالغرب وذهب إلى القول أن الحضارات تسقط بالانتحار الداخلي، وليس بالهجوم الخارجي، وبالمرض الطويل الذي يسلّمها إلى النهاية المحتمة: الانهيار والاندثار".

كما انتقد خالص جلبي ما يسميها ظاهرة اغتيال المثقفين في العالم العربي، حيث يقول "لم يبق في الغابة إلا الضواري تسرح، وأما المثقفون فداخل أقفاص الغابة بين متهم وعميل ومشترٍ ومنسحب وخائف على نفسه يترقب أن يخرج من اعتقال إلى إقامة جبرية إلى ملاحقة قانونية، وأحيانا ضربا باليمين على الوجوه والأدبار".

وكان يرى أنه ليس هناك من مسألة عويصة وغامضة مثل الزمن، وليس هناك من قضية واضحة مثل الزمن، فهي العملة التي بها نتعامل كل لحظة، ولا نتحرك وننجز دون معرفة تدفق الزمن وكم الساعة؟ وليس من أحد لا يحمل ساعة يد، بغض النظر عن شكلها الجمالي وثمنها مرتفعا أو هابطا.

كان خالص جلبي قارئ للتاريخ حيث قال إن قراءة التاريخ مفيدة. ولولا ذلك لم يعتبرها القرآن مصدرا للمعرفة. «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل». وأنا أحياناً يعتريني شعور أشبه بالدوار، حينما يسبح خيالي في تصور البشر الذين سبقونا؛ فأقول هل يعقل أن يكون قد عاش قبلنا أجيال وأجيال، ولم نجتمع بأحد ولم نر أحداً؟ ولكن القبور تتحدث أخبارها ويكذبني الواقع!! فأقول ولكن من أين جئت أنا؟ ثم أقول كيف عاشوا وكيف عانوا وكيف ماتوا؟ وما شعورهم حينما دخلوا الأبدية؟ وكيف كانوا ينظرون إلى ظروف أيامهم؟ ويأتني الجواب من سجف الغيب؛ لقد عاشوا تماما مثلنا، فأكلوا وشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا. وأحياناً أسبح في التفكير إلى درجة أن تدمع عيني، عندما أتصور طوابير لا تنتهي من أجدادنا، سلكوا إلى العالم الأخروي؛ فلا نسمع لهم ركزا.

كما كان خالص جلبي يؤمن أن هناك ثلاث أفكار رئيسية تجمل فلسفة هذا الرجل، الحرب هي أم كل الأشياء. ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين. والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون. وكل يوم هو في شأن. وفي الغالب لم يفهم الرجل على نحو واضح، مع أن نظرته للعالم تتمتع بشيء كبير من القوة والتماسك، فحواسنا تضللنا كثيرا عن الحقيقة المختبئة.

وكان يرى على أنه إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) .

كما كان يرى أن إن الفوضى الاجتماعية في العالم الإسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكيك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي .

وكان يرى أنه :" ليس أبغض على النفس من النقد ولا أحلى عسلا من الثناء، ولكن لا تصحيح بدون مراجعة، ولا تقدم بدون تعديل. قانون الحذف والإضافة أساسي في تصحيح أي مسار وكل مسار.. كارثة المسلمين اليوم أنهم يحيلون في تردي وضعهم إلى قوى خارجية؛ فلا يقومون بمراجعة للذات. وبهذا تحبط أعمالهم، فلا يخرجون من حفرة الخطأ.. إن مبدأ النقد الذاتي أساسي في أي وحدة عمل، سواء كانت عملية جراحية أو بناء هندسيا أو زواجا وتأليف كتاب. أداة نفض مستمرة للوعي. وليس مثل الوعي نور.

يقول جلبي:" إننا نعيش في عالم متوقف فقير أنهكه التعب، عالم فقير سياسيا، تغادره العقول وتهرب منه، ولدخول العالم المعاصر لابد من إدراك هذه الوضعية علي النحو التالي :

1- نحن أولا أمام (نقد) الفكر الديني وليس (نقض) الفكر الديني. بمعنى أننا من داخل هذا الإطار نحاول أن نقوم بتجديد الفكر الديني.

2- نحن أمام كسر التابو الثلاثي؛ المتمثل في الدين والجنس والسياسة؛ فالفقهاء والكهنة يحتكرون الحديث والحقيقة تحت مظلة الرب والله. ويحتكر السياسيون السلطة والمال والسلاح، ويأخذ الجنس قوته من التأرجح بين الستر والغطاء، فدخل الدين على الخط ليتحدث عن الحشمة حرصا على إبقاء هذا الدافع شغالا لإنتاج الحياة؛ ذلك أن مستودع الحياة هو الجنس.

3- يعد النقد مؤشرا للنضج، وإن كنا في الثقافة العربية الإسلامية لا نعرف (النقد) فضلا عن النقض.

4- ضرورة تشبع النفس الإنسانية بروح النقد؛ فاللوم الذاتي هو أعظم مؤشر على وضع آلية التصحيح، وليس الجلد الذاتي، اللوم الذاتي هو قدرة مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ وعدم الإصرار عليه.

5-علينا أن نؤسس لعملية النقد الديني، لأنه ليس من نهضة بدون إصلاح ديني؛ ولتحقيق ذلك، لا بد من الاطلاع والاستفادة من علماء، أمثال ماكس فيبر، وهو من علماء الاجتماع الألمان (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية) والمؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي.

ولكن أعيب على خالص جلبي الحدية الشديدة التي كانت يكتب بها ضد النظام السوري ، ومن مظاهر ذلك قوله في 11 أكتوبر عام 2011 ، كتب مقالا بعنوان " الثورة السورية وحق الفيتو حيث كتب يقول : حق الفيتو أو (النقض) يعني أن العالم كله لو قال إن الشمس تطلع من مشرقها، فيمكن لأحد أعضاء مجلس الأمن الدائمين أن يقرر أن الشمس تطلع من مغربها بدون أن يبهت الذي كفر. وحق الفيتو، ثانيا، يعني أن العالم مكون من طبقتين، سادة وعبيد، فمن أصل ستة مليارات من البشر يتكلم بالنيابة عنهم أقلهم، والحل والعقد بيد خمس دول، يبلغ تعداد سكان أربعة منهم أقل من سكان الهند. وحق الفيتو، ثالثا، يقسم الكرة الأرضية إلى نادٍ يفرض الوصاية على العالم، ويمكن لديناصورات القوة في هذا المجلس أن تلغي إرادة العالم كله.وحق الفيتو، رابعا، هو ضد الديمقراطية، فيمكن لأعظم قرار أن يعطِّله أي عضو، مما يقتل أهم آلية في الديمقراطية من جانبين: التمثيل الفعلي لسكان الأرض، واتخاذ القرار بأغلبية الأصوات. والعصابة الخماسية دائمة العضوية فيه هي ألعن من حكومات العالم الثالث، فلا أمل في تغييرها بموت أو انقلاب، ويمكن لأعدل قضية أن تموت في ساحتها. ألا ساء ما يزرون.. حق الفيتو، بكلمة ثانية، هو ضد المنطق، وعنصري ضد الإنسانية، وضد الديمقراطية. وبتعبير جودت سعيد، حسب (الدين) يساوي الشرك بالله الذي لا ينفع معه أي عمل.. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. وللحديث بقية في قابل الأيام.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط.

(1930 –2014) Gary Becker

گـَـرِي بَكَر هو استاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا أولاً، ثم استاذ الاقتصاد والاجتماع في جامعة شيكاغو. وهو الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1992 على مساهماته النظرية التي وسعت رقعة دراسة الاقتصاد والتي تميزت بكونها جديدة وجريئة وسباقة في ادخال التحليل الاقتصادي على مواضيع وقضايا لم لم يتضمنها الاقتصاد من قبل. فولم يحاول أحد قبله بتحليلها ضمن النظرية الاقتصادية، ذلك انها صنفت في ميادين اخرى كالاجتماع والديموغرافيا والعلوم السياسية وغيرها. يقول ملتن فريدمن: " ان بَكَر هو اعظم اقتصادي-اجتماعي عاش وعمل في النصف الثاني من القرن العشرين". علما انه تتلمذ على يد فريدمن الذي كان درسه في الاقتصاد الجزئي سببا لاهتمام بَكَر بدراسة الاقتصاد والتعمق فيه.

منذ البداية، كانت أشرت اطروحة بَكَر للدكتوراه التي قدمها لجامعة شيكاغو عام 1955 بعنوان " اقتصاديات التمييز العنصري في مجال العمل" اهتمامه ، ثم استمر اهتمامه بدراسة مواضيع اخرى في حقل السلوك الانساني التي ، لاتلتقي مع المواضيع التقليدية التي اهتم الاقتصاد بدراستها والتي تميزت بتمحورها حول السلوك الانساني في انتاج وتوزيع واستهلاك المنتجات والخدمات التي تخدم السوق. ولذا فقد اطلق بَكَر على مواضيعه مصطلح Non-market products and behavior. أي المنتجات التي لا تروّج في السوق والسلوك المتعلق بانتاجها واستهلاكها. شملت هذه المواضيع التي اهتم بدراستها بَكَر رأس المال البشري، والجريمة والعقاب، والادمان على الكحول والمخدرات، وانتاج واستهلاك الأُسرة والعائلة وتقسيم العمل داخل المنزل وقضايا وقرارات العائلة كالزواج في الزواج والطلاق وانجاب الاطفال وحجم العائلة المرغوب ومعدل الولادات والميراث والتضحية والايثار وغيرها. وهكذا فقد فتح بَكَر الباب على مصراعيه لشتى المواضيع الاجتماعية التي خضعت اصبحت تحت مجهر الللتحليل العلمي بموجب النظرية الاقتصادية. وتجدر الاشارة هنا الى التمييز بين الاسرة Household أو اهل البيت أي الافراد الذين يسكنون منزلا واحدا وقد يكونوا او لايكونوا مرتبطين بقرابة، وبين العائلة Family التي تتميز علاقة افرادها بصلة الدم والزواج.

ولد بَكَر عام 1930 في پوتسفل – پنسلفينيا لعائلة يهودية بسيطة، حيث لم يستطع والداه مواصلة الدراسة بعد المرحلة المتوسطة. فكان والده يجاهد من اجل التمكن من امتلاك محل صغير لبيع المواد المختلفة. وبعد ان تمكن من ذلك بفترة قصيرة اصيب بالعمى فواصلت والدته ما بدأه الوالد. وكان ويذكر گـَـرِي انه اعتاد ان يقرأ لوالده ماينشر في الصحف حول اخبار السوق المالية والاخبار السياسية، مما زوده بالمواد الثقافية الاولى لتأجيج اهتمامه بالاقتصاد.. انتقلت العائلة من پوتسفل بوتسفل الى بروكلن – نيويورك عندما كان گـَـرِي في الخامسة من عمره، مما اتاح له ان ينشأ ويترعرع في مدينة نيويورك ويلتحق بمدارسها لغاية قبوله في جامعة برنستن في نيوجرسي عام 1948 . وقد تألق في برنستن فحصل على البكالوريوس بثلاث سنوات ليلتحق بعدها مباشرة بالدراسات العليا في جامعة شيكاغو، ويصبح طالبا وزميلا لملتن فريدمن وجورج ستگلر وگرگ لوس وثيودور شلتز وآخرين، . ويحصل على الدكتوراه عام 1955، حيث اُعتبرت اطروحته عن التمييز العنصري موضوعا غريبا على المواضيع التقليدية وجديدا في التحليل الاقتصادي.

في عام 1957 عمل استاذا للاقتصاد في جامعة كولومبيا في نيويورك، وباحثا في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية NBER. وفي عام 1965 اصبح زميلا لجمعية الاحصاء الامريكية، وفي 1967 فاز بجائزة جون بيتس كلارك المخصصة للاقتصاديين الشباب اللامعين تحت الاربعين. في عام 1970 عاد الى شيكاغو ليبقى ليتبوأ درجة الاستاذية في حقلي استاذا لالاقتصاد والاجتماع. فبقي في هذا الموقع لغاية تقاعده من العمل الجامعي.

يقول بَكَر : "بعد ثلاثة عشر عاما من العمل المثمر في جامعة كولومبيا، عدت الى شيكاغو، حيث المناخ الاكاديمي الحيوي الذي افضله والذي كنت محظوظا ان اجد فيه اطيب الاصدقاء واحسن الباحثين. مع عودتي لشيكاغو تركز اهتمامي هذه المرة على اقتصاديات العائلة، فبدأت في العمل بالكتاب الرئيسي في هذا المجال، كما افتتحت سمنارا خاصا بهذا الموضوع شاركني فيه الزميل شيرمن روزن".

في عام 1972 اصبح بَكَر زميلا لاكاديمية العلوم والفنون الامريكية، وفي عام 1973 اصبح زميلا في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، ثم في عام 1990 اصبح باحثا اقدم فيه. كما اصبح وعضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم عام 1975. في عام 1981 نشر كتابه المركزي الهام حول اقتصاد العائلة والذي اسماه Treatise on the Family. يقول بَكَر: "لم تثر دراساتي اهتماما كبيرا في الوسط الاقتصادي خلال الربع قرن الاول من عملي الاكاديمي. لكن الانتباه اليها والاهتمام بها كان قد تفجر في مطلع الثمانينات". وما دعوته ليكون استاذا مشتركا في قسمي الاقتصاد والاجتماع الا واحدة من علامات تأكيد ذلك الاهتمام المستحق المتأخر. و في عام 1985 بدأ بكتابة عمود صحفي في مجلة الـ Business Week ممثلا الاتجاه المحافظ في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والذي نشر بالتناوب مع عمود الجانب اليساري الذي كان يكتبه استاذ الاقتصاد في برنستن ألن بلايندر. وقد استمرت هذه المناظرة الصحفية لغاية 2004. وفي هذا العام بدء، بالاشتراك مع القاضي ريجرد ريچرد بوزنر تجربة صحفية اخرى تمثلت باطلاق ما سمي بـ Becker – Posner Blog الذي يخاطب الجمهور العام حول قضايا راهنة كانتشار الاسلحة وتفشي الجريمة وسبل السيطرة عليها وقضايا الضرائب والزواج والطلاق والاطفال وحمل المراهقات والعواقب الاقتصادية لهذه المشاكل ومسؤولية الدولة والقوانين المنظمة لذلك.

وكان بَكَر قد انخرط في العمل كمستشار اقتصادي للحملة الانتخابية الرئاسية للمرشح الجمهوري السناتور بوب دوول عام 1996. وفي عام 2000 حاز على الميدالية الوطنية للعلوم. في عام 2007 قلده الرئيس أوباما وسام الحرية الرئاسي من النوع المدني وهو اعلى تكريم تمنحه الدولة لمواطنيها المدنيين تقديرا لخدماتهم الابداعية. وفي عام 2008 نال شرف جامعة برنستن التي ادرجته بتسلسل 11 في قائمة اكثر خريجيها شهرة وابلغهم تأثيرا في المجتمع، حيث اخذ المرتبة الاولى الرئيس الامريكي وأحد الآباء الاوائل جيمس مادسن الذي كان ضمن دورة عام 1771.  في عام 2011 استحدثت جامعة شيكاغو مركزا للبحوث الاقتصادية اطلقت عليه اسم Becker-Friedman Institute for Economics .

نستطيع ان نلخص مساهمات بَكَر الاساسية في الموضوعات التالية:

التمييز العنصري في مجال العمل Discrimination in the Labor Market

كان هذا موضوع اطروحة الدكتوراه المقدمة الى قسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو عام 1955، والذي استمر بَكَر بتطويره وتنقيحه ونشره بكتاب صدر عام 1957. وقد، حيث اعتبرت هذه الدراسة أول معالجة نظامية تفصيلية لاستخدام النظرية الاقتصادية في تحليل الغبن والاجحاف في مجال العمل والتعيين وقضايا الادارة المدنية للعاملين في الرواتب والترفيعات والترقيات والعلاوات. في البداية لم يعتقد اغلب الاقتصاديين بأن هذا الموضوع ينتمي لصلب الاقتصاد اضافة الى اعتقاد اغلب علماء الاجتماع والديموغرافيا والادارة بأن ادخال النظرية الاقتصادية كان يشكل نشازا منهجيا في التحليل الاجتماعي السائد. إلا ان اغلب اقتصاديي شيكاغو رحبوا بالفكرة واشادو بشجاعة بَكَر لتناولها، واعتبروها مساهمة اصيلة لربط الاقتصاد بالعلوم الاخرى . وكان على رأس المتحمسين فريدمن وشلتز ولوس. وبدعم منهم اصبح بَكَر استاذا مساعدا وهو مايزال في سنة دراسته العليا الثالثة. في ملخص سيرته الذي كتبه الى لجنة جائزة نوبل تحدث بَكَر عن هذا الدعم العظيم، شاكرا وممتنا : " ان التبني والدعم المخلص الذي تلقيته في قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو اشعرني بأن من الاصلح لي أن اخرج عن طوق تلك الرعاية المستفيضة من اجل ان لا اعول عليها فاصبح معتمدا وانا انشد الاستقلال والحرية. ولهذا فقد فضلت ان اترك عملي كاستاذ مساعد وألتحق بجامعة كولومبيا بوظيفة بنفس العنوان ولكن براتب أقل".

المقصود بالتمييز هنا هو تحيز بعض اصحاب العمل أو العاملين وكذلك بعض المستهلكين ضد بعض المجموعات الاجتماعية التي لايرغبون فيها من ناحية توصيفها على اساس العرق والعنصر والخلفية الاثنية واللون والدين او الجنس. ويتجلى ذلك بالامتناع عن استخدامهم كعاملين او عدم بيعهم المنتوجات كمستهلكين. ويشير بَكَر الى ان هذا التمييز يحصل بالرغم من انه يزيد كلفة العمل . فعدم تشغيل العمال السود مثلا سيزيد من اجور العمال الاخرين المرغوبين بالتوظيف. فاذا كان صاحب العمل مستعدا لتحمل نسبة مئوية قدرها d، من الاجور، فان كلفة الاجور ستكون w(1+d) . وبهذا سيكون بالامكان اعتبار d كعامل التمييز Discrimination Coefficient (DC) . وبنفس الطريقة سيتخذ عامل التمييز هذا اشكالا مختلفة كأن يشير كميا الى رغبة واستعداد جماعة من البيض لمقاطعة سلع ومنتجات منتج أسود، حتى لو كلفهم ذلك أكثر. كما يشير الى ان خسارة اصحاب العمل بسبب التمييز ستتحول الى كسب من قبل اصحاب العمل الذين لا ينتهجون التمييز. وكلما زادت المنافسة بين اصحاب العمل، قلت وطأة التمييز. وطبيعي فان التمييز يشتد في مجالات الانتاج غير التنافسية وتلك التي تقل فيها حمى الربح والخسارة، فيما تنخفض شدة التمييز في المجالات و المحكومة باجراءات وضوابط معينة كمؤسسات الدولة. كانت هذه الطروحات رائدة في وقتها ، وهي بالطبع غير معصومة من النقص والهنات لكنها فتحت الطريق فحدثت تحسينات كبيرة عليها ، خاصة في دراسات أررو (1972) وأكيرلوف (1976).

رأس المال البشري Human Capital

المصدر الرئيس في هذا الموضوع هو كتاب بَكَر الموسوم "نظريات رأس المال البشري" الذي نشره عام 1964 واعيد طبعه في عامي 1975 و 1993. يتمثل رأس المال البشري بالقيمة الاقتصادية لصفات الفرد المتجسدة بالمعرفة والمهارة والذكاء وحسن التطبيق والخبرة وامكانية الخلق والابداع والتي لها الاثر الفعال على الاداء الاقتصادي والانتاجية. على ان هذه الصفات بامكانها ان تنمو وتتطور بالتعليم والتدريب والممارسة. والكلفة التي تترتب جراء الانفاق على التعليم والتدريب والممارسةفي هذا المجال، اضافة الى مايخسره الفرد من دخل بسبب انخراطه ببرامج التعليم والتدريب.  وهذه هي الكلفة الاستثمارية التي يؤمل ان يغطيها ويتجاوزها المردود الاقتصادي. وبذلك سيكون الهدف هو ارتفاع معدل العائد من التعليم والتدريب للحد الذي يكون فيه صافي القيمة الحاضرة ايجابيا

positive Net Present Value (NPV)، ).  وستعكس الاجور الناتج الحدي الحقيقي للعمل

real Marginal Product of Labor (MPL).

لم يكن مفهوم رأس المال البشري جديدا، ولم يأت حصريا في دراسات بَكَر. فقد جاء عموما في أدبيات آدم سمث، وورد في أدبيات إرفنك فشر. وحتى ضمن مدرسة شيكاغو فقد درسه جيكب منسر (1958) وشلتز (1961)، إلا ان معالجة بَكَر (1962،1960، 1964) كانت أشمل وأدق وجاءت بنتائج عملية للبحث التطبيقي الذي رافق الدراسة النظرية. لقد ميز بَكَر بين التدريب العام والتدريب الخاص. يزيد التدريب العام من مهارة وامكانية العامل وبالتالي يرفع من ناتجه المتوسط والحدي. ولكن لا يتحمس له صاحب العمل لانه لايستطيع الحفاظ بكل العمال المدربين حيث سيخرج بعض منهم ويلتحقوا بشركات اخرى. أما التدريب الخاص فهو الذي يفصله صاحب العمل على مقاسه، فيستثمر في العمال والمهارات الخاصة بانتاجه هو حيث سيكون من المستبعد ان يتركه بعض العمال المدربين ويلتحقوا بشركات اخرى.

الجريمة والعقاب Crime and Punishment

بدأت دراسة بَكَر لموضوع الجريمة والعقاب في نهاية الستينات، وذلك بمقالته الموسومة :الجريمة والعقاب: معالجة اقتصادية"" المنشورة في مجلة الاقتصاد السياسي لعام 1968. اصبحت هذه المقالة فيما بعد من الاصول في هذا المجال. والفكرة الاساسية هنا هي ان قرار ارتكاب الجريمة بالنسبة للمجرم يخضع، ولو بشكل ضمني ومستتر، الى حساب الربح والخسارة. فلا يقدم المجرم على ارتكاب جريمته مالم يعتقد ان ما يجني منها يفوق ما قد يخسره جراءها. وما يخسره منها هنا لا يشمل الخسارة المعنوية والعاطفية، بل يقتصر على مدى احتمال ان يُمسك ويُحاكم ويُجرّم ويُنفذ فيه الحكم. وهذه قضية معقدة وطويلة تقبل الكثير من الاحتمالات التي تُبطل فاعليتها. ولهذا فللحد من تفشي الجريمة يقترح بَكَر ان يزيد المجتمع من كلفتها على المجرم وذلك بتوسيع رقعة العقاب وتأكيد عدالته وتقوية احتمال تنفيذه بسد كل الثغرات التي يمكن من خلالها ان يتملص المجرم من تلقي عقابه. كما يناقش بَكًر مسألة الانفاق العام الذي تتطلبه تلك الزيادة في كلفة الجريمة على المجرم، ويذكر ان دوائر العدل والقانون الحكومية التي تواجه نقصا مزمنا في مواردها أو تواجه فسادا اداريا في طواقمها ستلجأ الى تعظيم الغرامات وغض النظر عن امتلاك نظم السيطرة والمراقبة العالية التكنولوجيا.

وقد ذهب بَكَر في هذا المجال الى تناول المشكلة بتحليل شقيها ، التحليل الوضعي Positive الذي يتناول سلوك المجرم وقراراته وواقع الجريمة، والتحليل المعياري Normative الذي يتناول ما ينبغي ان يكون عليه التعامل مع المجرمين وفعالية وعدالة العقاب وما ينبغي ان تكون عليه القوانين المتداولة والسياسة العامة المثلى ازاء الجريمة.

الانتاج الأُسري Household Productionأو العائلي

بادئ ذي بدء، لابد ان نفرق بين الأسرة أو أهل البيت Household وبين العائلة Family. فالأسرة هي الوحدة الاقتصادية والاجتماعية التي لا يشترط ان يرتبط اعضاؤها بروابط الدم او الزواج. فقد تكون بين اعضائها روابط قربى أو صداقة أو لاتربطهم أي رابطة سوى السكن والعيش المشترك. أما العائلة فهي التي تتميز برابطة الدم الاولى والزواج. كان عمل بَكَر الرائد في تحليل دالة الانتاج الأسري Household Production Function رائدا في هذا المجال. فبموجب الموديل النيوكلاسيكي تسعى الاسرة لتعظيم منفعتها تبعا لثلاث محددات:

- دالة انتاج الاسرة بموجب معادلة المدخلات-المخرجات، حيث ترد المدخلات التي تأتي من السوق ومن المنزل كوالوقت الذي يصرف داخل الاسرة من اجل الانتاج. مثال على ذلك وجبات الاكل التي تعدها الاسرة والتي تتُنتج بمدخلات تشتريها الاسرة من السوق كاللحم والخضروات والرز والدهن وغيرها وتستخدم الخبرة والمهارة والاجهزة والتكنولوجيا المتوفرة كالطباخ والفرن ووقت التحضير والطبخ والوقت المستقطع من وقت واحد او اكثر من الاعضاء. المخرجات ستكون انتاج الاسرة المتمثلة بوجبة الطعام التي تستهلكها الاسرة ايضا. وبذلك فان مايجري داخل الاسرة من انتاج وتوزيع واستهلاك واستثمار وادخار يؤهل الاسرة ان تشبه نفسها بمصنع صغير فيه ادارة وعمال يمكن احتساب اجورهم بمثابة كلفة الفرصة opportunity cost وقد يشتركون في صنع القرارات الاقتصادية كالانفاق والادخار والاستثمار وغيرها. وهنا يعتبر بَكَر أحد ثلاثة اقتصاديين تنسب لهم صياغة نظرية الاستهلاك الجديدة The New Theory of Consumption أو مايسمى بنظرية انتاج الاسرة Theory of Household Production التي يشاركه فيها ريجرد مووث Richard Muth (1966) وكلفن لانكاستر Kelvin Lancaster (1966).

- ثاني المحددات هو تخصيص الوقت بين المطلوب منه لانتاج الاسرة وما مطلوب منه للعمل خارج الاسرة اضافة الى ماهو ضروري للنوم والنشاطات الاخرى كالراحة والاسترخاء والترفيه Leisure time.

- -وثالث المحددات هو الميزانية المالية التي تتطلب تساوي الانفاق مع الدخل المستحصل في سوق العمل.

اقتصاديات العائلة والمرأة والخصوبة Family Economics, Women, and Fertility

بدأ بَكَر دراسته في هذا المجال في مقالته المعنونة "حول الخصوبة" المنشورة عام 1960، وقد استفاد من دراسة صديقه جيكب منسر الرائدة حول عرض العمل النسوي المنشورة عام 1962. وتحمس اكثر فقام باستحداث وادارة السمنار الخاص باقتصاديات العائلة الذي شاركه فيه جيكب منسر في جامعة كولومبيا حيث سجل فيه وتخرج منه مئات الباحثين في قضايا العائلة سواء كانوا من طلبة الاقتصاد او الاجتماع والعلوم الاحرى. كتابه اللاحق كان عن تخصيص الوقت Allocation of Time عام 1965 والذي تطور واصبح فيما بعد موضوعا قائما بذاته ومن صلب اقتصاديات العائلة التي سيوسعها ويطورها بَكَر كثيرا في كتابه الشامل A Treatise on the Family المنشور عام 1981 والذي نقح واعيد طبعه عام 1991.

في هذا الكتاب تناول بَكَر تقسيم العمل بين الزوج والزوجة وافراد العائلة الآخرين وركز على اساسيات صنع القرار حول من ينجز هذا ومن ينجز ذاك، خاصة فيما يتعلق الموضوع بالعمل في السوق من اجل استحصال دخل العائلة والعمل في المنزل من اجل الانتاج العائلي. وقد لاحظ عمليا انه كلما ازداد معدل اجور العمل في السوق كلما شعرت المرأة بضرورة انتهاز الفرصة والانخراط في سوق العمل وتدبير اعمال المنزل بتعويضات اخرى كشراء الاجهزة المنزلية التي تخفف العبء وتختصر الوقت وشراء الاطعمة الجاهزة وتناول بعض الوجبات في المطاعم واستخدام مربيات الاطفال. وبذلك فقد اصبح واضحا ان دخول المرأة في سوق العمل سيعمل على رفع قيمة وقتها ويقلل من امكانيتها ورغبتها في انجاب الاطفال، مما سيترجم بمرور الزمن الى تقليل عدد الاطفال في العوائل التي تمارس نساؤها العمل خارج المنزل. وقد اثبتت البيانات الفعلية هذه العلاقة العكسية بين عدد الاطفال وبين عمل المرأة الخارجي ودخل العائلة. تشير الاحصاءات الاقتصادية في الدول المتقدمة الى انه مع ازدياد معدلات النمو الاقتصادي ومعدل دخل العائلة انخفضت معدلات الانجاب ورغبة العوائل في انجاب عدد كبير من الاطفال لكل عائلة. ومن هنا توسع بَكَر بدراسة ما اصبح في ذلك الوقت ولحد الان موضوعا مثيرا للجدل بسبب التوصيفات الاقتصادية، حيث كان الاقتصادي الاول الذي اعتبر الاطفال ناتجا للعائلة، يُنتج كما غيره بموجب دالة الانتاج العائلية ويُطلب كما تطلب السلع الاعتيادية Normal goods التي ترتبط بعلاقة طردية مع الدخل. أي ان الطلب يزداد عليها بازدياد الدخل ويقل بنقصان الدخل. وزيادة على ذلك فانها Durable goods بمعنى انها طويلة الاجل الاستهلاكي اي انها لاتعطي منافعها بشكل عابر ووقت قصير بل تمنحها بامتداد وقت طويل. الجدل الذي اثير كان من منطلق عاطفي غير متعلم يرفض مناقشة موضوع الاطفال بمنطق الانتاج والاستهلاك. ولو دققنا علميا في معاني المصطلحات لوجدنا ان الاستهلاك تعني استحصال المتعة من امتلاك او استخدام الاشياء، ولا شك في ان العائلة تنجب الاطفال من اجل ان تجعل الحياة ممتعة بهم وتربيهم وترعاهم وتسعى ان يكونوا بأحسن حال. واحسن الحال هذا يترجم الى مفهوم نوعية الاطفال Quality of Children التي تفسر بتعليمهم وتهذيبهم ونجاحهم في الحياة. وقد قاد هذا المنطق الى اكتشاف العلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعيتهم. ولا شك فان تربية ورعاية وتعليم وتهذيب الاطفال مهام مكلفة ماليا ومعنويا. وكلما تمكنت العائلة من الانفاق الاستثماري على اطفالها كلما صح توصيفهم بانهم ذوي جودة عالية. وعلى العكس من ذلك، فان العوائل ذات الدخل المحدود لا تتمكن من توفير رأس المال الاستثماري مهما رغبت في انتاج اطفال بنوعية عالية، خاصة في هذا الزمن الذي يتطلب انفاقا عاليا على توفير السكن اللائق ووسائل النقل وادامة الصحة الجيدة وتسديد فاتورات المدارس والجامعات وشراء الكتب والمستلزمات ووسائل التعليم والثقافة الالكترونية الغالية الثمن.

تناولت اقتصاديات العائلة مواضيع عديدة اخرى كقرارات الزواج والطلاق والتضحية والايثار والارث وغيرها. وكانت اغلب الجوانب النظرية يدعمها البحث التطبيقي الذي يسفر عن النتائج العملية. فمثلا ليس صدفة ان تبوح البيانات بتزامن ازدياد معدلات الطلاق مع زيادة فرص عمل المرأة خارج البيت وزيادة قيمة وقتها ودخلها وشعورها بامكانية استقلال قراراتها نحو مستقبلها.

نظرية الطفل السيء Rotten Kid Theorem

جاءت هذه النظرية في معرض توضيح الانتاج العائلي الذي تتظافر فيه الجهود التي تجمعها المحبة ويكون نبراسها المصلحة العامة للعائلة والتي قد يساعد مناخها الصحي على من يميل الى الشذوذ عن الهدف العام. تنص النظرية على انه اذا كانت العائلة تضم على الاقل عضوا واحدا يتسم بالتفاني والتضحية والايثار من اجل الهدف العائلي الجمعي فان ذلك سيؤثر ايجابيا على اي طفل او عضو آخر اناني او متكاسل او اتكالي فيجد له الحوافز التي تدفع به في طريق السعي الى تعظيم منفعة العائلة الكلية والعودة للانسجام مع اعضائها وهدفهم الجمعي.

تزوج بَكَر مرتين، الاولى عندما كان في الرابعة والعشرين، عام 1954 ورزق ببنتين. لكن زوجته توفت عام 1970، فانتظر عشر سنين ليتزوج مرة اخرى عام 1980 وهو في الخمسين. كان اقتصاديا محافظا عبر بصراحة عن افكاره التقليدية المحافظة كالميل لتقليص حجم الحكومة ومهامها، وجعل الانتماء للقوات المسلحة بموجب التطوع الاختياري، وتفضيل كوبونات التعليم ليتسنى للعائلة اختيار مدارس اطفالها بدلا من التعليم العام الشامل، وتفضيل قوانين صارمة ضد الجريمة والاستثمار في الوسائل الفعالة لتطبيق العقاب، وجعل سوق المخدرات قانوني ومفتوح ، والتساهل مع فرض الحد الادنى لاجور العمل.

مؤلفاته الرئيسية:

- An economic analysis of fertility (1960). Demographic and economic change in developed countries

- Investment in human capital: A theoretical analysis (1962). Journal of political economy. 70 ,5

- A Theory of the Allocation of Time (1965). The economic journal 75, 299

- Crime and punishment: An economic approach (1968). Journal of political economy, 76,2

- A theory of marriage: Part I (1973). Journal of Political economy, 81,4.

- On the interaction between the quantity and quality of children (1973). Journal of political Economy, 81,2

- Law enforcement, malfeasance, and compensation of enforcers (1974). The Journal of Legal Studies 3, 1

- A theory of social interactions (1974). Journal of political economy, 82,6

- A treatise on the family (1981), (1991). Harvard university press

- Human capital, effort, and the sexual division of labor (1985). Journal of labor economics, 3, 1

- Human capital and the rise and fall of families (1986). Journal of labor economics 4, 3

- Human capital, fertility, and economic growth (1990). Becker, Murphy, and Tamura. Journal of political economy, 98,5

- Human capital: A theoretical and empirical analysis, with special reference to education (2009). University of Chicago press

- The economics of discrimination (2010). University of Chicago press

***

ا. د. مصدق الحبيب

منذ أكثر من اربعين عاما مضت، كنت اجلس في الفسحة الأمامية لبيتنا الكائن آنذاك في شارع النضال، أحمل بيدي الجزء الأول من رواية " الحرب والسلم " الصادرة عن دار اليقظة السورية، في تلك السنوات كانت هناك الكثير من الكتب التي لم اقرأها، ولكن لدي أمل في أن اقضي معها اوقاتا ممتعة ذات يوم، كنت قد قرأت كتاب " تربية سلامة موسى " وفيه يقدم لنا نصائحة للقراءة التي يجب أن تكون نافعة: " فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علما بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكًا للحياة وإحساسا بها". كان سلامة موسى يحرضني وأنا التهم كتبه أن تكون لي مكتبتي الخاصة، وأن أعتبر الكتب ضرورة من ضرورات الحياة: " فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها " – تربية سلامة موسى -، وعندما عملت في المكتبة التي يملكها احد اقاربي لم اتمسك بنصيحته التي قالها لي وهو يشير الى بعض المجلدات بأن لا اقرأها حتى انضج، فمثل هذه النصائح لم تكن تهمني، كنت اقرأ بسن مبكرة، لا اعرف كيف يمكن أن يضع احدا شروطا لما يجب أو لا يجب قرأته، لدي اقتناع بفكرة انه يجب علي قراءة ما يقع بيدي من كتب، في البيت كانت والدتي تراقب تكدس الكتب في الغرفة التي اتقاسمها مع شقيقي الأصغر، لم تكن تهتم كثيرا بالنقود التي احصل عليها من عملي وادفعها فورا لشراء كتب جديدة، ولكن لديها محرمات ابرزها ان لا تؤثر هذه الكتب على دراستي. بدأتُ قراءاتي الادبية عن طريق سلسلة " كتابي " التي كان المرحوم حلمي مراد يقدم من خلالها ملخصات لروائع الادب العالمي، في الوقت نفسه اطمح بالحصول على الروايات بترجماتها الكاملة، اشتريت " جين آير " ومعها " احدب نوتردام " وحرصت على اقتناء اوليفر تويست واعمال قصصية لتشيخوف، وامني النفس بالحصول على الطبعة الكاملة لرواية البؤساء، التي كانت معروضة في المكتبة بمجلداتها الخمس وبثمنها المخيف في ذلك الوقت ستة دنانير، فقد صرفت بعض الدنانير على شراء الحرب والسلم

اتصفح الجزء الاول من رواية تولستوي، واتذكر ما قرأته في كتاب سلامة موسى " هؤلاء علموني " من ان تولستوي هرب من المنزل الذي قضى فيه كل حياته تقريبا. لماذا هرب؟ يقول سلامة موسى لأنه شعر بان الحياة ضاقت عليه في المنزل.التفتُ حولي وتخيلت نفسي هاربا من البيت مثل العجوز الذي تجاوز الثمانين عاما. كان تولستوي قد رحل من ياسنايا بوليانا في الرابعة والنصف من فجر يوم الثامن والعشرين من شهر تشرين الاول سنة 1910، يبلغ انذاك الثانية والثمانين، استيقظ سكان بطرسبورغ وموسكو على انباء تقول أن اديبهم العظيم تسلل سراً من منزله باتجاه غير معروف تاركا لعائلته رسالة يقول فيها انه يغادر إلى الابد، بعد يوم ستنشر الصحف الخبر التالي: " رحل ليف تولستوي بالأمس في الخامسة صباحا، وكان الظلام مسيطراً جاء ليف تولستوي إلى غرفة حوذي العربة وامره بتجهيز الخيول، وصعدا إلى العربة وتوجها الى محطة توكينو " – بافل باسينسكي الهروب من الجنة ترجمة نزار عيون السود –، بعد أن عرفت زوجته صوفيا أندرييفنا بهروبه قررت الانتحار، وراحت تنتحب طوال اليوم، اندفعت لتلقي بنفسها من النافذة وهي تصرخ: " ساعثر عليه، ساركض من المنزل، ساركض الى المحطة، آه لو انني اعرف أين هو " – يوميات صوفيا تولستايا ترجمة عبد الله حبه –

بعد ايام قليلة تتلقى العائلة برقية جاء فيها: " أصيب ليف نيقولايفتش بالمرض بمحطة استابوفو "، سافر الجميع بالقطار، تتذكر ابنته الكسندرا في كتابها الحياة مع الأب انه طلب منها ان تسجل من بعده ما يقول: " لكن كان هذا مستحيلا، لانه كان ينطق بكلمات متقطعة، غير مفهومة، وعندما طلب قراءة ما كتبناه، ضعنا ولم نعد نعرف ماذا نقرأ. وهو كان يرجو ويطلب: اقرأوا، اقرأوا ".

امضيت ساعة اقرأ في الصفحات الاولى من رواية الحرب والسلم، وجدت نفسي غارقا في دوامة ابتدأت ببرقية ارسلتها آنا بافلوفنا ولم تتوقف عند الامير بازيل وحديثه عن " الدجال " نابليون الذي تصوره الرواية في صورة الوغد. يكتب تولستوي: " يمثل نابليون للمؤرخين الروس، ويا للعجب مصدراً للحماس والإعجاب. يرونه عظيماً، وهو ذلك الأداة التاريخية المتناهية التفاهة، الذي لم يظهر أي قدر من الكرامة الإنسانية في أي مكان حتى في المنفى ".

يقال أن تولستوي كان يكتب صفحات الحرب والسلم ببطأ، لكنه كان دقيقا سريعا عند كتابته " آنا كارنينا "، وسيخبرني فؤاد التكرلي بعد سنوات ان قراءة الحرب والسلم اتعبته، فهي عمل اشبه بالملحمة، شخصيات تدخل وتخرج واحداث تتواصل، كان تولستوي يقول عن روايته إنها ليست رواية، وليست قصيدة، وليست سردا تاريخيا كذلك. تخيل لو انني قلت هذه الجملة وانا انتهي من المجلدات الاربعة للرواية، سأتهم بالجهل.في تلك السنوات كنت اقرأ لكي اعرف مضمون الكتاب، لا يعنيني موقف الكاتب، وعندما اخوض نقاشا مع بعض الاصدقاء اتكلم عن الروايات التي قرأتها لأنني قادر على شرح حكاياتها، فكل حديثي عن الكتب يخلومن الاحاطة بعناصر الكتاب، فلم اكن مهتما بعلاقة الرواية بمؤلفها ومحيطها.

في السادس من تموز عام 1863 يكتب تولستوي رسالة الى أحد أقاربه يخبره فيها بأنه يستعد لكتابة قصة تتعلق بتاريخ روسيا، كانت زوجته صوفيا تشاهده وقد وضع امامه عشرات الكتب التاريخية: "لم أشعر من قبل قط كما أشعر الآن باستعدادي الذهني والخلقي للعمل والجدارة به. وعندي ما أقوم به قصة تتعلق بالفترة(1810-1820) هذا العمل الذي شغلني منذ بداية الخريف"، كان تولستوي قد تفرغ لأكثر من سنتين لقراءة عشرات الكتب عن تاريخ نابليون، والإسكندر الأول، وقد وجد نفسه مغطى بأكوام الورق والخرائط: "امتلأ ذهني باحتمال القيام بعمل عظيم، كتابة قصة نفسية عن الإسكندر ونابليون، عن كل خسة حاشيتيهما وحماقتهم وكلامهم الفارغ وخياناتهم"، شغلته كتابة الحرب والسلم خمس سنوات، وأبعدته عن كل عمل آخر، وتتذكر زوجته صوفيا أن تولستوي كان كلما يخرج من غرفته بعد أن يكون قد كتب صفحات من الرواية يقول لها: "إن قليلاً من دم حياتي إنصب في المحبرة". عملت زوجته سكرتيره له منذ بداية كتابة الرواية حتى نهايتها، تتصارع مع المسودات التي كان يغيرها بين الحين والآخر، في يومياتها تكتب: "إني أقضي وقتي بأجمعه مستنسخة قصة ليون، وهذا فرح عظيم لي، وكلما استنسخ شيئاً أعيش في عالم كامل من الأفكار والانطباعات الجديدة". وبعد شهرين تكتب: "ظل ليون يكتب هذا الشتاء بأسره، وكان طوال هذه المدة منشغلاً تطفر الدموع من عينيه، ويغلي قلبه، أعتقد أن قصته هذه ستكون عظيمة".. يطلب من زوجته ان تنسخ رواية الحرب والسلم كاملة بخطها، الذي كان يصفه بالانيق والناصع.

موضوع الحرب والسلم، هو مصير البشرية التي تتخبط في نشوة الحرب العجيبة وفوضويتها. أما المشاهد التاريخية فيستخدمها تولستوي كسند توضيحي من أجل تعزيز مواقف الشخصيات. إن الحرب والسلم تتناول حياة أسرتين، أسرة روستوف الذين أفقرتهم الظروف، وال بولكونسكي الذين يقفون على قمة المجتمع ثراءً، ويقدم لنا تولستوي فكرتين عن الحب الأولى على لسان اندرو: "من الممكن ان تحب قريبك فهذا هو الحب الإنساني، أما أن تحب عدوك، فهذا هو الحب الإلهي"، أما بيير فأنه مشغول بسؤال آخر: "ما الخير، وما الشر؟ وما ذا ينبغي على المرء أن يحب؟ وماذا ينبغي عليه أن يكره، من أجل أي شيءيعيش المرء".

ليس في الرواية بطل واحد، وانما هناك اناس مثل كوتوزوف والأمير اندريا وبلاتون كاراتاييف، بل نابوليون نفسه، حيث يستحوذون على القارئ، البعض يثير العطف والبعض الآخر يثير الغضب ، فها هو نابليون في الرواية ليس اكثر من " أداة لا معنى لها في يد التاريخ". وفي المقابل هناك الجنرال كوتوزوف الذي اراد ان يرمز به الى الارض الروسية، يعرف كيف يصبر ويتكلم ومتى يصمت ومتى يدفع بنابليون ان يهزم نفسه بنفسه. والأمير اندريا المتطلع الى المجد العسكري، وهناك ناتاشا التي ترمز إلى الحيوية ، ووسط هؤلاء نجد بلاتون، الذي يحمل في أعماقه كل تلك الأفكار النيرة والعظيمة التي اراد تولستوي ان يبثها بين الناس.

بين فترات الاستراحة يحدث زوجته عن ابطاله كما لو انهم يعيشون معه في نفس المدينة يكتب في يومياته: " إنني اكتب واشطب.كل شيء واضح.لكن ضخامة المهمة الملقاة عليّ تبعث على الخوف " – ترجم يوسف نبيل اليوميات وصدرت بستة اجزاء-. كانت قائمة قراءته في ذلك الوقت تتضمن البؤساء لفكتور هيغو التي وصفها بانها رواية ملحمية عاصفة، التهم كانط وهيغل الذي سخر من اعجابه بنابليون، ثم شوبنهاور الذي اذهله: " ما من أحد كتب قط شيئا اعمق وأكثر صحة، عن ألم الانسان بكل رغبته في الحياة "، يكتب في احدى رسائله الى تشرتكوف: " اتعرف ماذا كان صيفي ؟ حماسة لاهوادة فيها امام شوبنهاور وسلسلة من الافراح الفكرية لم اشعر بمثلها من قط "، فكر ان يترجم كتاب " العالم إرادة وتمثلا " الى الروسية، اشترى لوحة شخصية للفيلسوف الالماني المتشائم وضعها في مكتبه، يعترف ان الافكار الفلسفية التي تدور في الحرب والسلم تنبعث من افكار شوبنهاور اعاد قراءة روسو، والاطلاع على ترجمة جديدة من الانياذة لفيرجل كان حلمه ان يكتب عملا شبيها بالالياذة: " أشعر بي محلقا من الفرح لفكرة انني قادر أن اكتب عملا عظيما ".

نشر الجزء الاول من الحرب والسلم في خريف عام 1865 في مجلة الرسول الروسي ، وكانت الاعداد التي تنشر فصول الرواية تنفذ من المكتبات حال وصولها، في المقابل ينزعج دستويفسكي من وصف الرواية بانها عمل عبقري ومقارنتها باعمال بوشكين، اما تورجنيف فقال ان في الحرب والسلم عشرات الصفحات المدهشة، وكتب في احدى رسائله: " تولستوي عملاق بين زملائه في الادب "، لكنه لم يتحمل فلسفته في الرواية: " عندما يأخذ عصامي من صنف تولستوي بالتفلسف فذلك بؤس حقيقي " – رسالة تورجنيف الى أنتكوف نشرت ضمن كتاب هنري ترويا تولستوي ترجمة خليل الخوري -

ولد ليف نيكولايفيتش تولستوي في التاسع من أيلول سنة 1828 في باسنايا بوليانا، لعائلة إقطاعية روسية، تملك المال والمكانة الاجتماعية، بعد وفاة الاب ينتقل الابناء للعيش في مدينة قازان، في تلك المدينة سيكمل دراسته، وسيقرر في السادسة عشر من عمره ان يختار طريق حياته دراسة القانون، لكن الانطباعات الاولى التي تركها في نفوس اساتذته كانت غير مشجعة، فظاهرة اللامبالاة كانت تلازمه، وقد اعترف في يومياته بانه " كسول جدا "، في تلك الفترة عرف عنه حبه للهو وعدم اهتمامه بالدراسة، وقد كان يقول لرفاقه: " ماذا سناخذ معنا الى البيت مما تعلمناه في الجامعة ؟ نحن لانصلح لاي شيء، من سيحتاجنا ؟ "، في نهاية السنة الدراسية الثانية يقرر ترك الجامعة فقد وجد نفسه اشبه بـ: " "إنسان تائه في مستنقع يسحب أقدامه بجهد كبير ".وضع تولستوي برنامجاً واسعاً لحياته حيث دراسة اللغات الاغريقية واللاتينية والانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية إضافة إلى التعمق بدراسة اللغة الروسية، كذلك دراسة التاريخ والجغرافية والرياضيات والطب والزراعة والرسم والموسيقى وغيرها. وقد حقق الكثير من ذلك البرنامج يكتب في يومياته: " قراءة من العاشرة الى الحادية عشرة، ثم تمشية حتى الثانية عشرة، وكتابة من الثانية عشرة للثانية، ثم قراءة حتى الرابعة، وكتابة من الرابعة للسادسة، وقراءة من السابعة "، وفي الوقت الذي كان الاساتذة يعتقدون ان اللهو والمجون يقفان حائلا امام دراسته، كان ليف تولستوي يصر على ان الدراسة تعيقه عن السير في الطريق الذي خطه لنفسه. في التاسعة عشر من عمره يكتب في دفتر يومياته: " اليوم الثالث من آذار عام 1947 من الساعة الثامنة الى العاشرة صباحا قراءة فاوست.. من الساعة العاشرة الى الثانية عشر ظهرا قراءة جان جاك روسو.. من الساعة الثانية عشر حتى الرابعة عصرا قراءة معجم القوانين..من الرابعة الى السادسة مساء قراءة القانون الروماني.. من السادسة الى السابعة مساء قراءة القانون المدني، من السابعة حتى الثامنة مراجعة دروس اللغة الانكليزية ". في الثامنة عشر من عمره كان قد هام حبا واعجابا بجان جاك روسو، حيث قرر ان يعكف على دراسة اعماله الكاملة. كان تولستوي قارئاً نهماً، يلتهم كل ما يقع تحت يده من الكتب بغض النظر عن الظروف المحيطة به.

عندما بلغ تولستوي سنّ الرشد قررت عمته ان تمنحه نصيبه في ارث عائلته، وكان لديه مطلبا واحدا أن يكون مسقط رأسه ياسنايا بوليانا من نصيبه، وقد استجاب أخوته لطلبه هذا، في تلك السنوات أخذت تلح عليه فكرة انه مسؤول عن مصير الفلاحين الذين يعملون في ارضه وقد كتب في إحدى رسائله إلى عمته: " إنني أحسّ بنفسي القدرة على أن أكون مالكاً صالحاً، ولكي أكون كذلك فلا أحتاج إلى شهادة دكتوراه ولا إلى المناصب التي تتمنينها لي".

يلتحق ضابطا في الجيش القيصري، يشارك في الحرب التي اعلنتها روسيا على تركيا وسيسجل هذه المرحلة من حياته في " قصص من سيباستوبول " ، يكتب في دفتر يومياته: " المناصب العسكرية ليست لي، وكلما تخلصت منها بسرعة لأكرس نفسي للأدب بشكل كامل كلما كان ذلك أفضل"..العام 1856 يقرر السفر الى اوربا وكانت وجهته الاولى فرنسا، هناك حيث يرقد المعلم جان جاك روسو ، تدهشه باريس بجمالها ولياليها الصاخبة ، ومتاحفها الفنية، وبالحرية التي يتمتع فيها الناس، لكنه سيسخر من عبادة الفرنسيين لنابليون.عام 1857 يعود إلى ياسنايا بوليانا فقد قرر ان يصبح معلما في القرية. وهذا التحول ناجم عن قناعته بان: " الهدف الاساسي يكمن في تعليم الشعب. فالامل الوحيد لطلب المعرفة هو صهر كافة الطبقات في سوح العلم "، وقد اتخذ من مونتاني وروسو قدوة له في عمله: " كم اود ان اتخلى عن وجودي كسيد، لأتحول الى فلاح، فاشيد في اطراف القرية كوخا واتزوج من فلاحة شابة، واعمل مثلهم: احرث واحصد واقوم بكل شيء آخر "

1862 يعلن زواجه من صوفيا ونراه يكتب في يومياته: لا اعتقد ان مستقبل حياتي مع زوحة يضارع ما يبدو لي الان مع صوفيا.. المستقبل السعيد الهادىء الخالي من المخاوف ".

يعيش ازمة نفسية، أعلن إنه مستعد أن يتخلى عن شهرته وماله وحياته إذا تطلب الأمر تقديم خدمة لبني البشر، يرتدي ملابس الفلاحين، وسوف يتوقف عن ممارسة الطقوس المسيحية، فقد أخذ ينكر على القساوسة تعصبهم وعلى القيصر طغيانه.. يكتب في إحدى رسائله لصديق: "لعلك غير مصدق، ولكن لك أن تتصور مدى عزلتي أو مدى زراية الناس بشخصي أو هوان أمري عليهم"، كانت مأساة تولستوي أن دعوته لمثل عليا لم تلقَ استحساناً عند المقربين منه، ولم يجد مفراً سوى الهروب.يعلن عن وفاته في العشرين من تشرين الثاني عام 1910.

انتهيت خلال ثلاثة اسابيع من قراءة الحرب والسلم، واجهت خلالها صفحات عصية على الفهم. كانت الرواية طويلة جدا، بعد سنوات وانشغالي بالعمل سألت نفسي: هل استطيع قراءة الحرب والسلم من جديد ، هل املك الوقت الذي يتوزع بين العمل في الصحافة والمكتبة وقراءة الكتب الصادرة حديثا ؟. قلت انتظر، كانت سلسلة اعمال تولستوي تصدر عن وزارة الثقافة السورية بترجمة سامي الدروبي الذي قرر ان يقدم تولستوي كاملا الى قراء العربية مثلما فعل مع دستويفسكي، وصلت نسخ معدودة من الاعمال الكاملة الى مكتبات بغداد، كانت الحلرب والسلم في جزئين فقط، فقد رحل سامي الدروبي في اوائل عام 1976 وكان قد انتهى من الصفحات الاخيرة من الجزء الثاني، سيكمل ترجمة الاجزاء المتبقية صباح الجهيم. خلال السنوات الفاصبة بين قراءتي الاولى لرواية الحرب والسلام، والقراءة الثانية كنت اجمع ما يصدر من الكتب عن تولستوي وحياته الغريبة وفنه، وقد خرجت بفائدة من هذه الملاحقة للاديب الروسي، انها منحتني فرصة كي ألملم شتات ذهني عند القراءة الثانية للرواية، فبعد صدمة القراءة الاولى ادركت ان مغامرتي مع هذا النوع من الروايات كانت مجرد نزهة عبثية، وأن نفوري من الحرب والسلم كان نوعا من انواع الجهل، فهذه الرواية التي صمدت امام اختبار الزمن، لا يمكن لها أن تخضع لتقييم قارئ مراهق. اقتربت من قراءة الرواية من جديد وانا اسعى لسد النقص في معارفي وتَّقبل انني لم اقرأها في المرة الاولى قراءة جيدة. يكتب ستيفان تسفايج أن قراءة مثل هذه الرواية لا يتم مرة واحدة، لان قراءتها هو " عمل لمدى العمر " – تولستوي ترجمة فؤاد ايوب -. عمل نتمرن عليه، انها " مثل ركوب الدراجة. حيث تكون هناك اوقات يكون فيها ركوب الدراجة بشكل متكرر ويبدو كأنه غريزة ثانية " – فيف غروسموب دروس مستفادة من الادب الروسي ترجمة مامون الزائدي – اعادة قراءة الحرب والسلم ربما تعلمنا كيف يمكن ان نكون قراء جيدين. يقال ان تولستوي كان قارئا ممتازا، لا نعرف كم امتلك من الكتب، لكنه كان يتحدث ويقرأ باكثر من عشر لغات.

بعد عقود على قراءة الحرب والسلم ماذا تعلمت من هذه الرواية ؟، بالتاكيد الكثير، حتى في حالة الملل التي اصابتني، وحتى من مطولاته عن التاريخ والبشر والفكر، حيث تمكن هذا الروائي العبقري أن يهز الكثير من قناعاتي، وأن يعلمني ان الثقافة الحقيقية دواء صحي للشفاء من الغرور البشري، وكشاف ضوء ساطع ضد الاستبداد والدكتاتورية والتسلط.

هل يمكن تلخيص الحرب والسلم ؟. يجيب الناقد الشهير هارولد بلوم: " انها مهمة صعبة، لاننا امام ملحمة اشبه بالالياذة قصة أناس بعينهم وهي تشبه الانياذة بانها حكاية امة حفظت في كتاب واحد، من لدن رجل واحد لم يكن يعرف انه كان هوميروس وفرجيل واحد بعد الآخر.لقد اراد تولستوي ان يضع قصة الحياة الازلية في مواجهة الفوضى".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ولأن المجالس مدارس مثلما يقال، فإن أعظم الدروس، وأبلغ العبارات، وأعمق الحِكَم، وأطرف المواقف والنوادر، حدثت في مجالس الأدب والثقافة التي تحضرها شخصيات متنوعة من وجهاء المجتمع، جلهم من السياسيين والأدباء والصحفيين والفنانين. ولقد كانت مثل هذه المجالس والصالونات والمنتديات الثقافية المعاصرة شائعة إلى حد كبير في بغداد والبلدان العربية خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي، ويندر أن نجد سياسياً أو أديباً أو وجيهاً اجتماعياً بارزاً لم يترك بصماته في تلك المجالس، بل وكانت مقصداً للزائرين من كبار الشخصيات الذين يقصدون البلاد للتعرف على وجهائها ومثقفيها للاستماع إليهم ومحاورتهم في مختلف شؤون السياسة والثقافة والأدب والحياة.

ولقد فاتنا من أدب المجالس وحكاياتها الشيء الكثير، لولا كتاب هنا وآخر هناك، ولولا بعض ذكريات منبثة بين كتب التاريخ والسير والذكريات. واذا كانت مجالس الأدب تعقد عادة في صالونات الأدباء العرب أو في بيوتهم مثل صالون عباس محمود العقاد الذي يلتئم كل يوم جمعة في بيته بمصر الجديدة، فإن مجالس الأدب في بغداد كانت تعقد عادة في المقاهي الشعبية إلى جانب البيوت والمقاهي وإدارات الصحف، مثلما يتحدث عنها حفيد الملا عبود الكرخي الكاتب والباحث الراحل حسين حاتم الكرخي في كتابه الشيق «مجالس الأدب في بغداد»، ومن تلك المقاهي: «مقهى سبع المواجهة لوزارة الدفاع القديمة، ومقهى عارف آغا قرب جامع الحيدر خانة، ومقهى الزهاوي في الميدان، ومقهى وهب في محلة البقجة، ومقهى عزاوي الشهيرة، ومقهى المميز ومقهى البيروتي في جانب الكرخ «، وقد سجل لنا الكرخي في جزئين من كتابه الطريف هذا عشرات الحوادث والحكايات التي شهدتها تلك المجالس في سنوات ازدهارها وتأثيرها. غير أن المجلس الثقافي للأب انستاس ماري الكرملي كان على خلاف تلك المجالس يعقد في كنيسة الكرملين، وعلى غرار مجلس العقاد كان يعقد كل يوم جمعة لكن صباحاً لا مساءً حتى الثانية عشرة ظهراً، وهذا هو المجلس الذي عقدت فيه المناظرة التاريخية حول التصوف والجدل حول الحّلاج بين المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون والمحامي البغدادي عباس العزاوي، وهي المناظرة التي طالما تحدث عنها بحماسة واعجاب شديدين في جلساته المحامي الراحل طارق حرب وكتب عن مجرياتها التي شهدها مجلس الكرملي صباح يوم الجمعة 27 نيسان 1945.

في كتابه عن مجالس الأدب في بغداد ينقل لنا الكرخي عن شيخ الصحافة عبد القادر البراك، ما حدث في مجلس «صالون الجمعة» وهو غير مجلس الكرملي الصباحي، انما يعقد أيام الجمع في بيت السياسي محمود صبحي الدفتري، فقد حدث أن زار العراق الفيلسوف والشاعر والوزير التركي رضا توفيق، وهو شخصية غريبة ومتناقضة في التاريخ العثماني، لعبت دوراً تحريضيا فعالاً للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني لكنه سرعان ما ندم على ذلك بعد مجيء الاتحاديين ومن ثم وصول كمال أتاتورك إلى سدة الحكم في تركيا، وعبر عن خلجات نفسه وعظيم ندمه شعراً، ولأنه من الموقعين على معاهدة سيفر فقد اتهم من المجلس الوطني الذي أقامه اتاتورك في انقرة بالخيانة مما اضطره لمغادرة إسطنبول باتجاه الإسكندرية ومنها إلى مكة المكرمة، ثم استدعي إلى عَّمان ليساعد في تأسيس الامارة الجديدة، امارة شرق الأردن نواة المملكة الأردنية الهاشمية وتوثقت علاقته بعدد من الشخصيات المؤثرة وفي طليعتها شاعر الأردن مصطفى التل الملقب «عرار» نسبة إلى نبتة النرجس البري العاشقة للحرية في فضاء الصحراء. المهم وصل « الفيلسوف» رضا توفيق إلى بغداد عام 1940 وكان من الطبيعي أن يدعوه صديقه الدفتري لزيارة مجلسه الأدبي، ولما كان توفيق فيلسوفاً وقد عرف بذلك أكثر من كونه سياسياً أو وزيراً أو شاعراً فقد كان من المتوقع أن يخوض مناظرة فكرية أو يطرح قضية مهمة للنقاش مع الحضور، لكن أي من هذا الأمر لم يحدث، انما الذي حدث أنه أعرب عن « استعداده للمصارعة مع بعض المصارعين في العراق»! . قال له الدفتري صاحب الصالون الذي يحضره عادة جمع من السياسيين والوجهاء والمثقفين والأدباء: ليس في العراق من الفلاسفة مَن يصلح لمصارعتك إلَّا جميل صدقي الزهاوي. يواصل الكرخي نقل حديث البراك وهو يقول: فضج المجلس بالضحك لأنَّ الزهاوي – كما لا يخفى – كان مصاباً بالشلل!. ولكي تكتمل صورة هذا الفيلسوف المصارع، نشير إلى ما كتبه مير بصري في مقاله «مجلس الدفتري وطرائف الحياة الأدبية والسياسية في العراق الملكي» من أن رضا توفيق بقي أشهراً في ضيافة الحكومة العراقية: «وكان مولعاً بكثرة الكلام لا ينقطع سبيل حديثه حتى ضاق به جلساؤه ذرعاً وطووا عنه كشحاً «.

الحق يقال فإن الفيلسوف رضا توفيق أراد أن يحسم الأمر منذ البداية بطلبه مصارعة أحد مصارعي بغداد، ولا نعرف لماذا سخر منه الدفتري باقتراحه منازلة الزهاوي المصاب بالشلل، ولم يدعُ مصارع بغداد الشهير آنذاك عباس الديك لمنازلته على الطريقة الفلسفية البغدادية، وينهي النقاش معه بالصرعة القاضية!.

***

د. طه جزّاع – أستاذ فلسفة

كان يقود سيارته في رحلة الى مدينة أكابولكو،العائلة الصغيرة المكونة من الأب والام وطفلين قد قرروا الاحتفال بالنجاح الذي حققه الأب بعد أن وقع عقدا بترجمة اربعة من كتبه الى الانكليزية لقاء مبلغ الف دولار، قال لزوجته ان هناك امنية لم يستطع تحقيقاها، زيارة جنوب امريكا، حيث كان يسكن وليام فوكنر الذي وصفه ذات يوم بأنه معلمه الافضل، فهو لم يتعلم منه فن الرواية فقط، بل والكتابة عن الناس البسطاء الذين تسحقهم الحياة.كان فوكنر قد توفى قبل اكثر من سنتين – توفي عام 1962 -، لم تتسنى له الفرصة أن يراه، لكنه يتخيله مثل مزارع يرتدي قميصا ذا أكمامٍ طويلةٍ وبجانبه كلبين أبيضين، كما في الصورة الفوتغرافية الشهيرة التي التقطها له المصور الفوتغرافي الفرنسي هنري كارتييه بريسون.

فجاة يظهر امامه خيال لحيوان، اوقف السيارة وهو يقول لزوجته لقد وجدتها، استدار بسيارته الأوبل ليعود إلى منزله في مكسيكو سيتي.في تلك اللحظة طافت بذهنه جملة سيقدر لها ان تغير تاريخ الرواية في العالم:" بعد سنوات طويلة، وامام فصيلة الاعدام، سيتذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي اخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد ". طوال اكثر من عشرين عاما كان يفكر بكتابة رواية عن عائلة كبيرة تعيش في قرية صغيرة. الآن وجد الرواية، يمكنه أن يتصور ذلك بوضوح رجل يقف أمام فرقة إعدام ويرى حياته كلها في لحظة واحدة.

بعد مضي سنوات على هذا الحادث الغريب يقول غابريل عارسيا ماركيز لكاتب سيرته " جيرالد مارتن " – سيرة حياة ترجمة محمد درويش – إنه بعد أن عاد الى البيت جلس الى آلته الكاتبة، تماما كما يجلس كل يوم لكنه في هذه المرة:" لم انهض ثمانية عشر شهرا ". التفكير في الرواية قد استغرق منه اكثر من ثمانية عشر عاما ولم يكن يتوقع ان ينتهي منه ذات يوم:" لم احسب ان الكتاب سيصل الى نهايته ". كان يريد لروايته ان تكون بحجم دون كيخوته " 800 " صفحة، لكنه اختزلها الى اربعمائة صفحة سيحكي لنا فيها قصة اربعة اجيال من اسرة بوينيديا.

عندما انتهى من كتابة " مئة عام من العزلة "، قال لصديقه بيلينيو مندورا الذي استفسر عن الرواية:" اما انني كتبت رواية أو ان لدي كيلو غراما من الورق "، في واحدة من تأملاته التي يسترجع فيها علاقته بالكتابة يكتب:" تأليف الكتب مهنة انتحارية، إذ ما من مهنة غيرها تتطلب قدراً كبيراً من الوقت. وقدرا كبيرا من العمل ".

مثل بطل الرواية، العقيد اوريليانو بوينديا، الذي يختبئ في ورشته في ماكوندو، ويصنع اسماكا ذهبية صغيرة ذات عيون مرصعة بالجواهر، وجد ماركيز نفسه في حجرة الكتابة مع اكوام من الورق و 60 سيجارة كل يوم، ومشغل اسطوانات تتناوب عليه موسيقى بيلا بارتوك و كلود ديبوسي، الحائط مزدحم برسوم بيانية عن تاريخ مدينة كاريبية أطلق عليها اسم ماكوندو، وسلسلة نسب العائلة التي أطلق عليها اسم بويندياس. يوم بعد يوم تنمو الاوراق، فيما الاصدقاء االمقربين يقرأون الصفحات التي يرسلها اليهم، في البيت تواصل زوجته ميرثيديس معركتها في توفير المال اللازم للاسرة. في مطلع عام 1966 كانت النقود قد تبخرت، فيما صفحات الرواية تكبر وتكبر، يقود سيارته الاوبل البيضاء الى احدى الكراجات ويرجع بمبلغ كبير سيتبخر فيما بعد ، بدأت الزوجة ترهن كل شيء، الثلاجة والتلفاز والمذياع ومجفف الشعر والمدفأة الكهربائي، ولم ينجو سوى مشغل الاسطوانات، فلا كتابة من دون انغام موسيقى بارتوك واستهلالات دويبوسي، وبعض اغنيات البيتلز.

ينتهي من الرواية في الساعة الحادية عشر من صباح الثامن من تشرين الاول عام 1966، لم يكن احد في البيت ليخبره:" اتذكر جيدا مدى ارتباكي. لم اعرف كيف اتصرف، وحاولت ان اشغل نفسي بشيء ما كي ابقى على قيد الحياة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر " – جيرالد مارتن سيرة حياة – بعد ساعة يشاهد قطة تقترب منه قال:" آه، لعل هذا الكتاب يلقى رواجا ".

وصلت رواية " مئة عام من العزلة "في ترجمتها العربية الاولى التي قام بها سامي الجندي وانعام الجندي الى المكتبة التي اعمل فيها نهاية عام 1979، إلا ان شهرتها كانت قد سبقتها، كنت قد قرأت حوار مترجما يتحدث فيه ماركيز عن روايته، نشر في مجلة الاقلام بترجمة الراحل سامي محمد ، وقبل وصول الرواية الى مكتبات بغداد، كانت رواية ماركيز القصيرة والمدهشة " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" قد حجزت له مكانة في قلوب زبائن المكتبة، الذين اختطفوا نسخ " مائة عام من العزلة "، وكانت حصتي نسخة لازلت احنفظ بها الى اليوم.

في ذلك الوقت كنت اطبق نصيحة قالها لي الراحل جبرا ابراهيم جبرا ان الكتاب الجيد هو الذي يبقيك في حالة من الانتباه المتواصل.

قلت له: وإذا لم يفعل ذلك ؟

قال لي: عليك ان تبحث عن السبب ؟، في تلك السنوات من عمري كنت اوهم نفسي بانني قارئ جيد.قرأت الكثير من الروايات وكتب الفلسفة وعلم النفس، واجلس امام اصدقائي متفاخرا بحصيلتي هذه، ولهذا وجدت نفسي اتعامل مع رواية " مائة عام من العزلة " من منطق الخبير لا القارئ الذكي انتهيت بعد ايام من قراءة الرواية بصفحاتها ال" 344 "، ما ان انتهيت من الجملة الاخيرة التي يقول فيها " السلالات التي قدر لها القدر مائة عام من العزلة لا يمنحها القدر على الارض فرصة اخرى " – ترجمة سامي الجندي، اصبت بحالة من التشوش لضخامة الاحداث التي اراد ماركيز ان يسردها، وضعت في متاهة الاسماء المتشابهة التي يطلقها آل بوينديا على انفسهم جيل بعد جيل، وبعد سنوات ساعرف لماذا وضع ماركيز خريطة على حائط غرفته بها اسماء ابطال الرواية وابنائهم واحفادهم. كانت الرواية بالنسبة لي اشبه بالرعب، لم يكن لي الصبر لاتتبع بدقة مصائر الابطال، سيخبرنا ماركيز في سيرته الذاتية " عشت لأروي " – ترجمة صالح علماني انه اصيب بالرعب عندما قرأ رواية جيمس جويس " يوليسيس " لأول مرة:" قرأته بتعثر، إلى ان لم يعد بعد الصبر يسمح لي بالمزيد. لقد كان رعبا مبكرا "..هل كنت قارئا جيدا لمائة عام من العزلة، احتفظت برأيي ولم ابح به، فقد كان الكثير من زبائن المكتبة قد قرأ الرواية وعلامات الاعجاب تبرز على وجوههم كلما جاء اسم ماركيز.

كان الراحل جبرا ابراهيم جبرا قد القى عليَّ من قبل درسا ثقافيا، عندما وصفت له حالة الملل التي اصابتني وانا اقرأ رواية وليام فوكنر " الصخب والعنف " –ترجمها جبرا الى العربية – قال لي آنذاك ان بعض الكتب هي نتاج عزلة الكاتب ومعاناته في سبيل اكتشاف لمحة من العبقرية في الصفحات التي كتبها والتي سيتحول من خلالها الى ايقونة ادبية.

يقال ان ماركيز عندما انتهى من كتابة " مئة عام من العزلة احس بالفراغ وكأن اصدقاءه وافتهم المنيه، الاحساس بالفراغ كان انطباعي الاول وانا انتهي من قراءة رواية ماركيز، وهو نفس الاحساس الذي شعرت به عندما انتهيت من الصخب والعنف وايضا مع رواية فرجينيا وولف " السيدة دالاوي " كان ماركيز شغوفا بالقراءة ، وعندما نراجع سيرته الذاتية " عشت لأروي " سنجده يتحدث عن الكتب التي رافقته خلال حياته ولعل ابرزها روايات فوكنر، الجبل السحري لتوماس مان، الف ليلة وليلة، نوستراموس لجوزيف كونراد، يوليسيس لجيمي جويس، اوديب ملكا لسوفوكليس، موبي ديك لهرمن ميلفل، ابناء وعشاق للورنس، المسخ لكافكا، الشيخ والبحر لهمنغواي، قصص بورخيس، عناقيد الغضب لشتاينبك، طريق التبغ لارسكن كالدويل، روايات فرجينيا وولف، وفي حوار مع مجلة باريس ريفيو يتحدث عن الاثر الذي تركته بعض الكتب في عمله الادبي قائلا:" يمكن أن أعزو تلك التأثيرات إلى بعض الكتاب الذين ساعدوني على التخلص من بعض مواقفي الفكرية التي درجت عليها قصصي " من هم هؤلاء الكتاب. انهم اصحاب الكتب المملة؟ ، فوكنر، جويس، فرجينيا وولف، هرمان ميلفل وملحمته موبي ديك، حيث يشير الى بعض الكتب ومنها كتب فوكنر التي كانت لها:" علاقة كبيرة بروحي "

ما الذي يجعل اي كتاب عظيما ؟ يعتمد الحكم على الكتاب احيانا، على ما يكتب عنه من نقد او مراجعات في الصحف، واحيانا اخرى على رأي القراء.. ولكن علينا الإنتباه إلى ان الاعجاب بكتاب ما يعتمد على وجهة نظرنا فيه، فبعض الكتب نقول عنها عظيمة لانها حازت على هذه السمعة عبر العصور مثل روايات دوستويفسكي وستندال وفلوبير، والبعض الآخر يعتمد على المتعة التي تمنحها للقارئ مثل روايات موراكامي او كتب كارلوس زافون اورباعية نابولي للايطالية فيرانتي، واحيانا نطلق على رواية انها عظيمة دون ان نقرأها، لانها حصلت على هذه السمعة الطيبة بإجماع الذين قاموا بقراءتها اوالذين شاهدوها فقط على أرفف المكتبات مثل يوليسيس او البحث عن الزمن المفقود. وقد تبدو صعوبة هذه الروايات لبعض القراء دليل على عبقرية الروائي.. إلا ان بعض الروايات تصبح عظيمة لان الجميع يُقبل عليها..كان برنادشو يقول اننا نقرأ احيانا بعض الأعمال الأدبية التي حازت على شهرة كبيرة بالطريقة التي نأكل بها الاطعمة الغريبة، فأنت لا تحبها تمامًا ولكن الجميع يقول عنها إنها أطعمة خارقة..ولعل روايات ماركيز وبالأخص " مئة عام من العزلة " مثل الاطعمة الغريبة التي تحوي اشياء لم تخطر على بالنا.. ولهذا سواء كنت قرأت، او لم تقرأ كلمة من روايات غابريل غارسيا ماركيز، فانت بالتاكيد تجد نفسك مدمناً على الحديث عنها.. فالواقعية السحرية التي برع بها ماركيز هي الوحيدة التي تجعل أغرب أحلامنا متاحة ويمكن تصديقها بشدة. فماركيز برع في ان يدمج عناصر خيالية في بيئة "واقعية"، نساء تطير في سماء طبيعية، جد يعيش على مدى قرون، ولكن لا أحد يلاحظ أن شيء تغير فيه، خلطة روائية غريبة فيها الشخصيات التي نحبها والتي نكرهها، القضايا الفاشلة في الحياة، الحب، والجنس، العنف، والخلافات التي لا نهاية لها، المأساة، والمؤامرات، الميلودراما، والواقعية ، فقد قرر ماركيز أن تصل اعماله إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ليحقق المتعة والتسلية.. يكتب الناقد الادبي الشهير هارولد بلوم:" انطباعي المبدئي، أثناء إعادة قراءة "ماة عام من العزلة" هو نوع من إجهاد المعركة الجمالية، طالما أن كل صفحة مفعمة بحياة كاملة فيما وراء قدرة أي قارئ واحد على امتصاصها. أن هناك بعدا جديدا مضافا للقراء بهذا الكتاب. قارئها المثالي يجب أن يشبه الشخصية المثيرة للتذكر بشكل أكبر، كولونيل أوريليانو بوينديا الغاضب المتعالي الذي بكى في رحم أمه ووُلد وعينيه مفتوحتين. لا توجد جمل بلا قيمة، لا توجد مجرد انتقالات في هذه الرواية، وعليك أن تلاحظ كل شيء في اللحظة التي تقرأها. كل شيء سيتماسك، على الأقل الأسطورة والمجاز إن لم يكن دوما المعنى الأدبي" – ترجمة امير زكي

في معظم رواياته سيحاول ماركيز ان يخدع القارئ لكي يصدقه ، وهو يستخدم مهارته الصحفية التي تعلم منها كيف يستخدام تفاصيل محددة للغاية عند وصف الأحداث الرائعة. وجد أن القراء كانوا أكثر ميلًا إلى تصديقه عندما وصف الاشياء الغريبة والخارقة، أصر على أنه كان يقدم الحقيقة ببساطة كما يراها:" الحقيقة ليست مجرد الطريق التي تحت قدميك. إنها أيضًا خرافات عامة الناس".

عندما صدرت مئة عام من العزلة عام 1967 كانت وجهات النظر عنها مختلفة عن تلك التي قيلت عنها بعد سنوات، وهذا ما حصل معي عندما عدت اليها بعد صدور ترجمة جديدة لها قام بها صالح علماني.

في كتابه سنة القراءة الخطيرة – ترجمة محمد الضبع - يصف آندي ميلر معاناته مع " مئة عام من العزلة " حيث يقول انه وجد من الصعب عليه ان يجد ارضا مشتركة بينه وبين رواية ماركيز:" كانت تعتبر رواية ثورية، رومانسية، العاب نارية للخيال، لكني لا اجد شيئا من هذا فيها. تبدو بالنسبة لي كخدعة جيدة تم تكرارها كثيرا ". بالنسبة لي لا اريد ان يكون تصوري عن الرواية شبيها بتصور السيد أندي ميلر، فانا مثله اعلم جيدا ان رواية ماركيز تعني الكثير للعديد من القراء الذين وصل عددهم الى اكثر من مئة مليون قارئ حول العالم.

لماذا تذكرني مئة عام من العزلة برواية فوكنر الشهيرة الصخب والعنف ؟، كنت اقرأ فوكنر بجدية برغم حالة الملل التي تنتابني، ولهذا احسست ان تقنية فوكنر هيمنت على ماركيز، وهذا ما يخبرنا به في حوار أجراه معه بيلينيو أبوليو مندوزا – نشر في كتاب رائحة الجوافة – حيث يشير ً إلى التماثل الجغرافي، لا الأدبي بين عمله وعمل فوكنر،وعندما يحشره مندوزا في زاوية ضيقة بتوجيه انتباهه إلى تشابهات تتعدى النطاق الجغرافي " هناك خط معين من النسب بين العقيد سارتوريس عند فوكنر والعقيد أوريليانو بوينديا في مئة عام من العزلة، بين ماكوندو ويوكناباتاوفا كونتي في الصخب والعنف، يقول له مندوزا: عندما تحاول ألا تعترف بفوكنر كعنصر مؤثر ومهم، ألا ترتكب بذلك جريمة قتل ضد أقرب الناس إليك"، يجيب ماركيز: " ربما أكون كذلك. لذلك قلت أن مشكلتي لم تكن في كيفية تقليد فوكنر، ولكن في كيفية تدميره. لقد كان تأثيره يشل حركتي"

ييدو ماركيز سعيدا وهو يرى روايته " مئة عام من العزلة " استطاعت ان ترضي القراء، يقول لمندوزا:" عندما قال لي ناشرها بالإسبانية أنه ذاهب لطباعة ثمانية آلاف نسخة منها صدمت لأن كتبي الأخرى بيع منها فقط سبعمائة نسخة فسألته لماذا لايكون العدد أقل مما قلته، قال أنه مقتنع بجودتها ويتوقع منها أن تباع ثمانية آلاف نسخة خلال الفترة المحصورة بين أيار و كانون اول، لكنها في الواقع بيعت جميعها خلال اسبوع واحد في بوينس آيرس".

عام 1949 يقف وليام فوكنر ليتسلم جائزة نوبل للآداب وليقول للعالم:"أنا أؤمن أن الإنسان ليس فقط سيتحمل: ولكنه سينتصر. إنه خالد، ليس فقط لأنه الوحيد بين المخلوقات الذي لديه صوت لا يهدأ ولكن لأن لديه روحاً، نفساً قادرة على الرحمة والتضحية والتحمل. واجب الشاعر والكاتب هو أن يكتب عن هذه الأشياء. إنه امتيازه ليساعد الإنسان ليتحمل عن طريق تعلية قلبه، بتذكيره بالشجاعة والشرف والأمل والفخر والرحمة والشفقة والتضحية، تلك التي كانت مجد ماضيه"، في ذلك الوقت كان ماركيز يبلغ من العمر 22 عاما، يبدأ مهنته في الصحافة ويجرب كتابة القصص القصيرة ، كان قد قرأ كافكا وتعلق برواية فوكنر الصخب والعنف، بعد 33 عاما سيقف ماركيز في نفس القاعة التي وقف فيها فوكنر ليستلم جائزة نوبل وليقول للجنة الجائزة:" في مثل هذا اليوم، قال معلمي وليم فوكنر في هذا المكان: ارفض تقبل نهاية الانسان. ولست اجد نفسي جديرا ان اشغل هذا المكان لو لا وعيي الكامل بأن الكارثة التي رفض تقبلها منذ ثلاثة وثلاثين عاما هي الآن، للمرة الاولى، منذ اصول البشرية، ليست اكثر من احتمال علمي. وحيال هذا الواقع المباغت الذي كان يمكن له أن يبدو عبر زمن البشرية كله اشبه بيوتوبيا، نشعر نحن مختلقي الخرافات الذين نصدق كل شيء، بأن لنا الحق في تصديق أن الوقت لم يفت بعد للانطلاق في إبداع اليوتوبيا المعاكسة. يوتوبيا حياة جديدة وساحقة، حيث لا يمكن لأحد أن يقرر عن الآخرين حتى طريقة موتهم، وحيث تجد، اخيرا وإلى الابد السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة فرصة ثانية على الارض " – لم آت لالقي خطابا ترجمة صالح علماني -.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: إلينورا كيج

ترجمة: صالح الرزوق

***

حملت أمي بين ذراعيها معزاة صغيرة تكافح للإفلات، ونعلا بوطها الشامواه البنفسجي يغوص في الوحل، وحولها حلقات صغيرة من الأولاد، يتابعونها ويصيحون "سينيورة، سينيورة". كانت قد خرجت مع زورا، وصيفتها، إلى الشرف - وهي بقعة متواضعة في أرض زراعية أمام بوابة المدينة تماما.

كانت أمي قد قررت شراء عجل معزاة،  وتوقعت أنها ستكون حيوانا منزليا أليفا ومؤنسا، ولم تنتبه لخطئها إلا بعد أن أسكنتها في أعلى شرفة من فندقنا المتداعي، فقد التهمت هناك بقايا ثيابنا الداخلية.  وبعد أيام قليلة، أهدت المعزاة لمحمد موزع الحشيش ليتركها لأبنائه.

أصابنا جميعا طفح جلدي، باستثناء والدي، فقد تجنب البثور الغريبة التي تسبب بها الفيروس، أو سوء التغذية، أو كلاهما. كنا حينذاك نعيش في طنجة، المغربية، المدينة البيضاء، وسبق لوالديّ أن جاءا إليها حسب رواية أمي " ليكتب أبي رواية أمريكية عظيمة". المغرب ثاني بلد أجنبي عشت فيه، مع أنني لم أتجاوز العامين من عمري. وبحوزتي صورة تذكارية، ولكن دائما أتساءل كم أتذكر من المغرب فعلا، وكم هي القصص التي نسجتها مما أخبروني به.

وعن طريق الوالدة علمت أنه بعد ست أسابيع من ولادتي، أخذتني هي ووالدي، معنا أخي، وعلبة كارنيشن عملاقة من الحليب المجفف، وعلبة بامبيرز، وميراث أمي المحدود جدا، وذهبنا إلى كويرنافاكا في المكسيك. وهناك استأجرنا بيت مالكوم لوري القديم، وتخيل والدي أنه سيكتب فيه شيئا يرقى إلى رواية "تحت البركان". كسب والدي من لوري نوباته الكحولية، وملأ دفاتره بخطوط مبهمة وليس كلمات، باستثناء العنوان على الغلاف وهو - "أحمق متهور". وأضاف له كولاجات ترمز لسرب من الديكة وكرات.   ثم نوهت له الوالدة  برواية "السماء الواقية" لبول بولز. وقبل نفاد النقود، قررا أن المغرب هو المكان المناسب للثوار والمتمردين الشرفاء، وهناك سيتمكن والدي من اكتشاف فنانين يمكنهم إلهامه. أي مكان في عام 1969 أفضل من شمال إفريقيا لكتابة رواية أمريكية عظيمة؟.

في المغرب كنا نحتاج لرحلة مشاق لنجد الحشيش والأفيون ومادة LSD التي تفيض في مرفأ المدينة المزدحم. بحث والداي عن آثار كتاب مثل ألن غينسبيرغ ووليام بوروز وجين وبول بولز، وفي النهاية وجدا أنهم لجأوا إلى مجتمع الوافدين الفاسد الموجود في مخيم المدينة والحي الفرنسي.  استغل والدي سحر هيئته  الصبيانية الهادئة ووقاحته لفتح عدة أبواب مغلقة. واستثمر أيضا ما يعرف عن بول وبوروز من رغبة بالفتيان الذكور.

وزاد تعاطي أمي للحبوب. فقد أتت إلى المغرب سعيا وراء الموسيقا والتصوف، ووجدت نفسها حبيسة غرفة في فندق مع ابن بكاء وبلد يعزل النساء في البيوت كأنهن سجينات. لا تستمتع المغربيات إلا بالشمس والسماء التي تلمع على وجوههن في باحات المنزل، أو على أعلى شرفة من بيت تحيط به جدران مرتفعة ومحرومة من النوافذ.  أخبر محمد أمي في إحدى المرات وهو يتناول شراب الشاي بالنعناع: "نحن نحب حجب نسائنا عن الأنظار". ويئست أمي من الهرب. فقد كنا لدينا جواز سفر عائلي واحد، وكانت مربوطة بزوجها الأنيق والطائش، مع أنه بخيل ومخمور ويغيب عنا أحيانا عدة أيام متواصلة.  وفي الأيام التي يختفي فيها، تجد القليل من الهناء، ولكن سرعان ما يخيم عليها الخوف حينما تسمع صوت خطواته على السلالم، وتبدأ بالتكهن عن المزاج الذي عاد به.

ثم جاءت فرقة رولنغ ستون إلى المدينة.

كتب والدي، على قفا شهادة ميلاده، يقول إنه ينتعش بوجودهم، وألقاها على طاولة الاستقبال في فندقهم. كانت أمي عاشقة لبرايان جونز ومهووسة بمايك جاغر. وكانت تستمع لألبوم "ما بعد الحدث الهام" مرارا وتكرارا، وهي تهز قوامها النحيل على سجادة قطن مندوف ممدودة على الأرض، وتغطي نفسها بملاءات بربرية زاهية الألوان، مصدر التدفئة الوحيد في الفندق. (وللأسف فاجأ والديّ الشتاء المغربي البارد والرمادي بالمقارنة مع الحرارة الساطعة في المكسيك).

كان الكيف والحشيش وفرقة ستون أشياء متلازمة بالضرورة. وهكذا أمكن لأمي أن تنسى أوجاعها. وغالبا ما كانت تلتف من رأسها إلى أخمص قدميها بوشاح تخفي به الطفح الجلدي المتورم الذي يغطيها بالكامل، حتى أنه ظهر في أذنيها وأنفها.  أما المرأة التي يشاطرها أبي الفراش فقد تعرفت على الستونز في يبيزا  وأحبت مرافقة والدي ومحمد لحضور حفلهم. لذلك أودعوا ابنيها برعاية أمي. وقال لها الوالد: "تحلي بالصبر معهما". وهبط السلالم وهو يلتفت ويصيح:" لا يمكنك أن ترافقينا وأنت تعانين من هذا الطفح الجلدي". وقبل أن يغادروا، استفسرت الوالدة من محمد بحياء عن المعزاة.

قال وهو يغطي شفتيه:"بحال جيدة".

وذهبوا لمشاهدة حفلة الستونز في فيلا متهاوية في القصبة التي تمتلكها تاتيانا، وهي كونتيسة روسية مدعية، وتدير قاعة.

وصلت أمي إلى خط النهاية. مرت أمسية أخرى بفلولها وهي تحدق من الشرفة نحو الأسفل. كانت الأبنية البيضاء ملتفة بظل بارد رمادي، وقامات الرجال، الذين تأنقوا بالجلابيات البيض، تدخل وتخرج بحرية في أبواب الضباب العائمة تحت في الشارع. أما حبتا المخدر الاثنتان اللتان تناولتهما فقد خففتا شعورها، وهي تنظر من فوق قمم الأسطحة إلى المدينة البعيدة المغسولة بلون أبيض. وكان أخي ذو الخمس سنوات يتعلم اللغة العربية والحساب ويرتل القرآن في مدرسة حكومية. تجولت على الشرفة، وهبطت حفاضتي المبلولة وأنا أراقب أمي كيف مدت يدها داخل ثوبها المنقوش بصور الورود الحمر، وانتزعت حمالة ثدييها وحشوتها، وألقت الصدر الصناعي على الإسمنت. جذبني هذا الشيء فاقتربت منه حين كانت أمي تعتلي جدار الشرفة المتحجر. أخبرتني لاحقا أنها كانت تسمع صوت مايك جاغر يناديها، وهو يسبح بين موجات الأثير ويمر بالمآذن البيضاء. وكان يغني قائلا:" أنا أنتظر… أنا أنتظر…". كأنه أذان يستهدف سمعها فقط، وينفذ من السماء الملوثة الوضيعة. وفي أحد الأيام أخبرتني أنها لم تتعمد أن تقتل نفسها، ولكن أرادت أن تلاقي ربها، وهي ترتل وتنشد بصمت ودون صوت: "إن كان هناك رب عادل، أنا إذا بريئة. وإن لم يكن للرب وجود، فأنا لا أعلم الحقيقة". وحينها وازنت بين الاحتمالات، إذا لم تقتلها السقطة، وانتهت بعاهة أو ضرر جسيم، على الأقل سيتركها والدي وشأنها، ويمتنع عن شتمها بقوله: "أيتها البنت المسكينة الصغيرة الغنية". ولكن في تلك اللحظة، من تلك الفترة البعيدة، بدأت أولول وأمي تطوي نفسها بشكل كرة صغيرة،  وتتدحرج من الشرفة إلى الأسفل أمامي.

ثم سقطت من ارتفاع ثلاث طبقات، واعترضتها الأسلاك الكهربائية، وصعقتها، ولكن خففت من قساوة سقطتها، وهي ترتطم بها، ثم تحط في حاوية نفايات محشوة بزجاجات كلوروكس، كانت قد تخلصت منها مصبغة في الأسفل. ما يدعو للدهشة أن السقطة لم تخلف آثارا ظاهرة على جسمها. ولكن تضررت رقبتها وكتفاها، وانكسرت من الداخل، ولم يمكن رؤية شيء. أسرعت السيدات المغربيات من البيوت المجاورة بالخروج، وحسروا الأغطية عن وجوه موشومة وهن يدمدمن بامتعاض خافت، ثم حملن بحرص كتلتها من النفايات، وعدن بها إلى داخل الفندق. كان الانتحار بنظر القانون المغربي جناية، وعقوبته تصل إلى الإعدام إذا كانت الجانية امرأة. ولكن غطى هذه المفارقة ابنتها بحفاضتها المبتلة، وهي تصيح بأعلى صوتها، وفي يديها زوج من الأثداء المطاطية لا زال دفء أمها فيهما، وكانت تتساءل: هل ستشاهد أمها بعد الآن.  

***

.....................

* إلينورا كيج Ellenora Cage: كاتبة وسينمائية أمريكية معاصرة.

ربما لم يسمع بهذه الكنية أحد من أبناء الأجيال الصحفية الجديدة، بل من المؤكد أنهم لم يطلعوا على سخريته يوم كان يكتب في سنوات العشرينيات الصاخبة مقالات نارية صريحة وجريئة تحت الاسم المستعار «علوان أبو شرارة»، غير أن الاسم الصريح لأبي شرارة لا يخفى على أحد في عالم السياسة والدبلوماسية العراقية، فهو من أشهر وزراء الخارجية في أصعب الحقب التاريخية التي مر بها العراق في مسيرة استقلاله عن بريطانيا وصراعه الطويل معها، ومنها استلامه لحقيبة الخارجية في وزارة رشيد عالي الكيلاني. ويوم رحل موسى الشابندر «علوان أبو شرارة « في العام 1967 عن عمر ناهز السبعين عاماً، فإن أثمن ما تركه من إرث ذكرياته البغدادية التي اتسمت بالصدق والعفوية لكونه الشاهد الحي على الكثير من الأحداث الجسيمة التي مرت على بغداد وهي تنتقل من سيطرة العثمانيين إلى البريطانيين يوم 11 آذار 1917، بل وفاعلاً في مسارات الدبلوماسية العراقية بين الاحتلال والاستقلال .

وقد تهيأت الفرصة لتلك الذكريات أن تخرج إلى النور بداية التسعينيات من القرن الماضي بتقديم السياسي والبرلماني العراقي فيصل الدملوجي، بعد أن أعدها ولده محمود الشابندر لتصدر في لندن وقبرص عن دار رياض الريس بعد مضي ما يقرب من خمسين عاماً على تدوينها من قبل والده، ومضي ما يقرب من ربع قرن على رحيله، ومثلما كان «الصحفي» والكاتب المشاكس علوان أبو شرارة ساخراً في مقالاته الصحفية، كان الدبلوماسي موسى الشابندر طريفاً في ذكرياته البغدادية التي لم تخلُ من سخرية ودعابة تدل على روح بقيت متوهجة حتى الرمق الأخير على الرغم من الاجحاف وأنواع الدسائس التي يتعرض لها عادة السياسي العراقي، ومنها سنواته نزيلاً في سجن أبي غريب، تلك السنوات التي اختمرت فيها فكرة كتابة ذكرياته البغدادية. ولعل من أهم الأحداث التي شهدها الشابندر في مطلع شبابه وهو في العشرين من عمره سقوط بغداد، ووصفه للمخاوف التي عاشها أهل بغداد في الأيام التي سبقت دخول الجيش البريطاني، حين أخذت الطائرات تحوم فوق بغداد وتقذف عليها ذات يوم القنابل التي اصابت محلات مختلفة أطراف السراي والقشلة : «وكانت الأخبار متباينة والشائعات متعددة. ولكن مما لاشك فيه أن الجيش التركي كان بانسحاب مستمر أمام التقدم البريطاني.. وكان الخوف في قلوب الناس على أشده. خوف من الأتراك المنسحبين وخوف من الجيوش البريطانية الفاتحة وأشد من كل ذلك خوف من العشائر المحيطة ببغداد خلال الفترة بين الانسحاب والاحتلال .. لأن الشائعات أخذت تدور بأن بعض العشائر أخذت تهاجم بغداد وتسلب وتحرق. وليلة 10/11 آذار/ مارس 1917  حوالي منتصف الليل سمعنا انفجاراً قوياً هز الدار هزاً فأفاق النائمون في هلع كبير وأخذ الأولاد في البكاء والامهات تصيح واستولى الخوف على الجميع وكان ذلك انفجار مخزن العتاد التركي في باب الطلسم وهذه علامة بأن الأتراك تركوا بغداد» وقد أعقب ذلك أعمال الفرهود، وما تعرض له والده وهو شخصياً من أذى على يد الانكليز جعله يقول: كنا حانقين وناقمين على تصرفات الأتراك ومظالمهم فأرانا الله على يد الاحتلال الإنكليزي ما يجعل « ظلم» الأتراك برداً وسلاماً. وفي مثل هذا المستوى من الوصف التفصيلي المثير للأحداث يسرد الشابندر ذكرياته البغدادية منذ طفولته حتى نهايات الأربعينيات من القرن العشرين، ومنها صفحات الحرب العظمى ونشوء الدولة العراقية وتنصيب الملك فيصل الأول، وبداية عمله السياسي وانطباعاته وعلاقاته مع رجال عصره أمثال نوري السعيد وتوفيق السويدي ومزاحم الباجه جي وطه الهاشمي ومحمد علي جواد ورستم حيدر والوصي عبد الإله وغيرهم. ومن ذلك أيضاً وصفه للفيضان الذي اجتاح بغداد في خريف عام 1914 وهدم السدود فدخلت المياه إلى أطرافها ووصلت إلى محلة السنك: «وكان أهل بغداد باضطراب شديد والتجأ كثير من الناس إلى صوب الكرخ خوفاً من الغرق».

لكن من أكثر الصفحات إيلاماً في ذكريات الشابندر، تلك المتعلقة بسجنه في أبي غريب منذ العام 1944، فهو وبعد أن يستعرض عمله الدؤوب وتضحياته لخدمة بلده، وتمثيله العراق في عصبة الأمم وفي العديد من العواصم الأوروبية، وما لقاه من جزاء ومعاملة سيئة في سجن عراقي، يقول نصاً: نعم أنا الآن في بغداد، في العراق، في « أبي غريب» في هذه الغرفة الموحشة من هذا البناء الموحش، سجيناً، والسجن انفرادي، وهذا الباب مغلق... وهذا الحارس يتمشى في الممر المظلم ذاهباً وعائداً أمام الغرف، هل هذا حلم مزعج أم حقيقة مرّة .

يكتب الشابندر: وإن كان معتقل « داخو» لطخة عار على جبين الشعب الألماني فإن سجن « أبي غريب» بالنسبة إلى العراق سيكون له نفس العار على موجديه .

وتلك كانت من نبوءات علوان أبو شرارة ! .

***

د. طه جزاع – أستاذ فلسفة

غادر فريدريش نيتشه عالمنا في مثل هذا اليوم " 25 " آب عام 1900 ، في منزل العائلة في فايمار عن عمر يناهز السادسة والخمسين، امضى سنواته الأخيرة يعاني من الامراض.. يصفه احد مريده، وكان شاهدا على الايام الأخيرة من حياته بأن: " هذا الرجل لا يمكن ان يموت، بل أن عينيه ستبقيان معلقتين إلى الأبد فوق البشرية ". كان نيتشه قد تعرض إلى اول جلطة دماغية في عام 1898، وضربته الجلطة الثانية في آب من عام 1900، تروي شقيقته اليزابيث لحظاته الاخيرة مع الحياة: " بدا الأمر  وكأن هذا العقل الجبار في طريقه الى أن يفنى وسط الرعد والبرق، ولكنه تعافى في المساء وحاول التكلم..عندما ناولته كوبا من الشراب المنعش كانت الساعة تشير الى الثانية صباحا، فدفع عاكس الضوء حتى يتمكن من رؤيتي.. فتح عينيه الرائعتين، حدق في عيني بإرادته ومات " – سو بريدو انا عبوة ديناميت ترجمة احمد عزيز وسارة ازهر -.

الفيلسوف العبقري الذي عاش وحيدا ومات وحيدا، لم يكن احد قبله بمقدوره ان يقلب التفكير الغربي رأساً على عقب، ولم يأت أحد بتاريخ متناقض وخطير النتائج كما فعل، وهو الذي يقول عن نفسه " انا ديناميت "، إلا انه يفزع في لحظة من اللحظات من الذين سيستخدمون كلماته:" كم من الناس سيستند يوما من الايام الى سلطتي من غير وجه حق "، وكانت مخاوفه معقولة، ألم يقل يوما وهو منبهر: اضع يدي على الألف القادمة، واليوم في عصر الانترنيت والالكترونيات لايزال الحديث عن نيتشه يشغلنا، ففي كل يوم يولد قارئ جديد سيقرأ فيما بعد سطراً من " العلم المرح " فيدهشه، أو كلمات من "هكذا تكلم زرادشت "  فتسحره، او تغريه عبارة من إرادة القوة، ويظل هذا الفيلسوف الذي مات مجنونا لغز عالمي، فنيتشه كما كتب يوما الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز:" لا يمكن استنفاذه، وقد غرف كل جيل من نبع رؤاه، وسعى الى استنفاذه ، وقد بليت كل الانية وتكسرت، غير انه في العمق، ما يزال النبع نضاحاً لا ينضب "  .

كان نيتشه رجلا ذا مظهر صادم، متوسط القامة، ملابسه بسيطة، له شعر مسحوب الى الخلف، شاربه الكث مرتب ترتيبا دقيقا تخبرنا لو سالومي في كتابها " سيرة فكرية " – ترجمة هناء خليف غني – انه كان هادئا في سلوكه، وله اسلوب واضح ودقيق في التحدث.وتختتم سالومي انطباعها بالقول:" كان الرجل الاكثر تاثيرا وجاذبية الذي قابلته على الاطلاق ".

عند النظر الى صورة نيتشه الشهيرة بشاربه الكثيف ونظراته الحادة التي تبدو متشائمة في كثير من الاحيان، والعينين التي تمنح صاحبها انطباعا بالعزلة والانطواء، وهيأته الانيقة المدروسة، نكتشف حالة الغموض التي حاول ان يحيط بها نفسه، ورفضه وجود مَثَلٍ أعلى،:" انتصتوا ! فأنني على هذا النحو أو ذاك. فبحق الله لا تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر "  - هذا هو الإنسان ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد -.

في الرابعة والاربعين من عمره  كتب فريدريك نيتشه:" إذا قُدر لك يوما ما ان تكتب عني.. فاستعن بالحصافة التي لم يتمتع بها احد للأسف، حتى الآن، واذكر خصائصي، اي اكتب وصفا لي لا تقييما لي.. فليس من الضروري على الاطلاق، ان ينحاز احد الى صفي، بل على العكس، إذ يبدو لي ان جرعة من حب الاستطلاع، كالتي يتسم بها من يشاعد نباتا غريبا، الى جانب مقاومة ساخرة، تمثل موقفا ازائي لا يدانيه في الذكاء شيء ".

منذ صدور كتابه الاول " مولد التراجيديا " عام  1872 ادرك نيتشة قوة واهمية كلماته، حيث شبه نفسه " بالقوة القاهرة " التي تكتب لتنتشر الكلمات في العالم، تبرق كاصاعقة، ظل يؤمن ان بامكانه بجرة قلم أن يقسم تاريخ البشرية الى قسمين " قسم عاش قبله، وقسم يعيش بعده " هذه الكلمات التي كتبها في كتابه " غسق الاوثان  " قبل شهرين فقط من فقده عقله، لم يتوقع العالم ان ما كتبه هذا الرجل المجنون كان صحيحا. لكنه سيثبت فيما بعد بانه كان على حق بعد ان اعلن ان هدفه الاساسي كفيلسوف هو كشف الاوهام:" ان الانسان يصل الى العظمة عندما يصبح قادرا على الرقص من دون خوف وهو على حافة هاوية الموت. على حافة هوة وفراغ الوجود اللامعقول ودون ان يتراجع.

منذ سنوات وانا اتابع كل ما يكتب ويترجم عن نيتشه، ولست وحدي من القراء العرب من أغرم بهذا الفيلسوف الغريب الأطوار، والذي كتب عنه الكثير منذ ان كتب فرح انطوان عام 1908 سلسلة مقالات عن فلسفة نيتشة التي وصفها بالنقدية، ثم اصدر عام 1914 مرقس فرج بشارة كتاب بعنوان " هذا هو نيتشه "، مبرراً كتابته  بالسعي لبث الحيوية في التاريخ العربي وإلهام الأمم التي تريد أن تتقدم وتنمو وترتقي بالنوع الإنساني، وما خصصه سلامة موسى لنيتشه  من مقالات نشرها في مجلته الجديدة  ولقي نيتشه اهتماماً من دعاة النهوض العربي، فترجم فيلكس فارس " هكذا تكلم زرادشت " اراد من خلال الترجمة كما يخبرنا  سحق مشاعر الذل والمسكنة في الحياة العربية،  وبث روح القوة فيه، ثم توالت الكتب عن نيتشه واصدر عبد الرحمن بدوي  عام 1939 اول كتبه عن نيتشه وقد كتب في المقدمة:" ما نحن اولا نضع بين يديك اول صورة من صور الفكر الاوربي: صورة حية قوية فيها عنف وفيها قسوة، وفيها تناقض وفيها اضطراب،وفيها خصب وفيها حياة. ونحن نعلم مقدما انك لن تطمئن اليها، وان الكثير من القلق سيساور نفسك بازائها، ونخالنا نرى عينيك الآن وهما تتسعا دهشة واستغرابا، ونحس بقلبك وهو يهتز جزها منها وقشعريرة. ولكننا نعلم ايضا ان هذه  الهزة هي القادرة وجدها على انتشالك من الظلمة التي انت فيها الى نور الفكر الحر والنظر الصحيح الى الاشياء."، ثم كتاب فؤاد زكريا اضافة الى ترجمة معظم كتبه باكثر من ترجمة الى اخر كتاب اصدرته المطابع العربي عن نيتشه بعنوان " الحكمة التراجيدية " من تاليف الفرنسي ميشيل أونفراي والذي يقول انه يقدم في كتابه:" نيتشه الذي ادفع به هش، يحب النساء لكنه لا يعرف كيف يعبر لهن عن ذلك، لذا فانه يحتمي منهن فيظهر كالكاره لهن،إنه صاحب رقة وكياسة ووقار في حياته اليومية، لكنه على الورق يطلق العنان لأحصنته، ويُسمع دوي مدافعه، وازيز رصاصه، ويقتحم جبهات الفلسفة متسلحا بالحكمة الصادقة فقط، انه انسان معطاء، يكتب مثل شاعر كبير " – الحكمة التراجيدية ترجمة جلال بدلة -

لقد ادرك نيتشه منذ سنواته الاولى ان الظاهرة الأساسية القادمة في ثقافة الغد ستكون حتماً هي حاجة الفرد الى تمييز نفسه من الجماعة، ومن أكثر أوصاف نيتشه تاثيرا في النفس وصفه للانسان، والذي يرى نفسه شبيها بالأله، ففي هذا الوصف لايعود للانسان قمة اخرى يسعى اليها. وثمة طابور طويل من الادباء والفنانيين والفلاسفة  وجدوا في عالم نيتشه دغدغة لمشاعرهم وتحفيزا لافكارهم، ويتراوح هؤلاء من شبلنجر الى هرمان هسه،  ومن ريلكه الى عزرا باوند  ومن توماس مان الى أليوت  وحتى سارتر وهيدغر وكامو، هؤلاء جميعا  يجدون انفسهم في كتابات نيتشه، وفي اشعاره الفاتنه، ولا يمكن لاحد اليوم ان يتجاوز نيتشه فنراه أختار لنفسه قناع صاحب الفكر الحر، او الداعية الى الاخلاق، او عالم النفس، او النبي، او المجنون، غير ان فكره يبقلى في ذلك جميعه وجوديا  وتجريبيا  ونموذجيا، وجودي لانه عني بتشكيل حياة نيتشه نفسه، وتجريبي لانه يضع المعرفة والتراث الاخلاقي  جميعه موضع الفحص والاختبار، ثم ان تفكيره نموذجي في الاجابة على مشكلة العدمية التي نادى بها استاذه شوبنهور..لقد شكك نيتشه تشكيكا اساسيا في معظم المفاهيم الفلسفية، وقد جعل ما اسماه كانط " رحلة الجحيم لمعرفة لتعرف الذات " علما فلسفياً.

غالبا ما يعتبر نيتشه احد الأباء الروحيين للفلسفة الوجودية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، ويكتب عبد الرحمن بدوي ان تاثير نيتشه على سارتر وهيدغر وكامو ربما يفوق تاثير كيركجارد. لا يوجد هدف أبدي ولا يوجد معنى أو مغزى مطلق للوجود البشري، هكذا يكتب كامو في مقدمة اسطورة سيزيف، وهو يقتبس هذه العبارات من هكذا تكلم زرادشت،  يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة   مجرد تفاهة ، اطلق عليها تعبير  تفاهة اللامعنى. أن أرادتنا  وقدرتنا  على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي  المخلوقات  وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة، لكن ألأنسان المتفوق هو ذلك الذي لايخشى ان يمارس رغبته في بلوغ المجد حتى أعلى المستويات.

ورغم ان الفلسفة الوجودية تدين بالكثير الى نيتشه، وينظر اليه مع كيركغارد، على انهما من رواد الوجودية، الا ان نيتشه يقف في كثير من الاحيان بالضد من كيركغارد الذي يصور الانسان الفرد على انه ضعيف، وعاجز، وجبان، ويجرد الفرد من جميع القدرات الانسانية، ويرى ان فقدان الانسان للايمان بنفسه، يدفعه للايمان المطلق بالله لحل مشكلاته الحياتية. لكن نيتشه يرفض هذا الحل الديني ن وهو يرى ان كيركغارد يحاول حل مشكلات الانسان عن طريق ادارة عقارب الساعة الى الوراء، والعودة الى الحكم المسيحي الذي يفرض تسليم النفس لله، وهذا مستحيل في نظر نيتشه، لان الله قد مات، وربما تكون فكرة موت الاله هي ابرز اسهامات نيتشه في الفلسفة الوجودية.

والان ربما يسأل البعض: لماذا نقرأ نيتشه، ولماذا كتبه لاتزال بعد اكثر من 120 عاما الاكثر مبيعا، فيما لو قمنا بكتابة كلمة نيتشه في موقع " غوغل " ستظهر لنا الالاف الكتابات والصور عن هذا الفيلسوف الذي كان مؤمنا بان مهمة الفلسفة تعليمنا كيف نصير نحن..وتعلمنا كيف نكتشف اعلى مقدراتنا، وكيف نكون اوفياء لها.

قبل اكثر من عامين صدر كتاب يطرح فيه مؤلفه الكاتب الانكليزي باتريك ويست  فكرة تخيل عودة نيتشه الى حياتنا هذه الايام،  ويناقش تاثير نيتشه على عصرنا الحاضر، فهذا لفيلسوف الذي اخترع كلمة السوبرمان، لاتزال افكاره حول طبيعة الخير والشر، وارادة القوى ، تردد صداها في جميع أنحاء العالم، وفي وسائل الاعلام، ونجده يظهر في سلسلة هاري بوتر كانسان خارق ، يطرح الكاتب سؤالا:  هل نحن مدينون لنيتشه، الذي اكد ان " ما هو عظيم في الإنسان،  أنه جسر وليس هدفًا "..

يقول الكاتب أن نيتشه يحب أن يطرح أسئلة. وقد كان يعتقد أنه كلما زادت عدد الأسئلة التي نطرحها كلما زادت الحكمة التي نكتسبها ونطورها في حيانتا بشكل أفضل، وان الانسان عندما يعاني للوصول الى هدفه فان ذلك افضل له ، فالشجاعة هي  في مواجهة الصعوبة، والسماح لنفسك بالعيش بشكل تجريبي، واستكشاف خبرات الحياة بجرأة:" كن ممتنا لأنك لم تأخذ الطريق السهل وتستمر في ذلك مثل "متعرج ممل".

لقد احببت نيتشه منذ ان انتهيت من كتابه " هكذا تكلم زرادشت " قبل ما يفارب الاربعين عاما ، ورحت منذ ذلك الوقت  ابحث عن هذا الفيلسوف الغامض والغريب، جذبني شيئًا ما باتجاهه وبدأت أشعر بإغراء لكل ما كتبه وما كُتب عنه ، وتعلمت منه أن اقرأ بتمعن لاتمكن ان اجيب عن سؤاله الذي يطرحه في كتابه " هذا هو الانسان ": هل فهمت ؟.

يكتب كارل ياسبرز:"  سعى نيتشه إلى قيم الصدق والإلتزام  والحقيقية الاصيلة، متجاوز حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال.  كان بالفعل استثنائي، نعجب به لكن لا نقلده.. فمثل سقراط عاش وعانى بسبب صدق تعاليمه، وكانت حياته اشبه بحطام سفينة، وهو يمثل انذاراً ضد الشطط الذي يجب أن لانتبعه، وفي نفس الوقت يمثل نموذجا للفضائل التي يجب ان نحاكيها ".ويختتم ياسبرز بمقولة نيتشه: " اجل اني لا اعلم من أنا، ومن أين نشات، أنا كاللهب، احترق وبكل نفسي. نور كل ما أمسكه، ورماد كل ما أتركه. اجل اني لهيب حقا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في حديث شخصي لنا مع الراحل غائب  طعمه  فرمان عن تجربته الشعرية الأولى، أكد على أنه نظم الشعر في العراق قبل سفرته الأولى إلى مصرعام 1947، وكان ثمرتُها نشرَ قصيدتين في صحيفة "الشعب" العراقية آنذاك، إضافة إلى أول خاطرة نشرها فيها عندما كان طالباً في المدرسة المتوسطة1.

وقال غائب فرمان أيضاً، إنه أرسل قصيدةً بعنوان "ليلتان من ليالي شهريار" إلى إذاعة "الشرق الأدنى"، التي قرأها بصوته الشاعر المصري المعروف عبد الرحمن الخميسي، ويتذكر مطلعها أو أحد أبياتها:

مَلَّ طولَ السرى بليل عذابه

وانطوى بين كأسه وشرابه

لم نطّلعْ لحد الآن على القصيدتين، المنشورة إحداهما في صحيفة "الشعب" العراقية، والمذاعة ثانيتهما في محطة "الشرق الأدنى". ومع ذلك نعتقد أن قصيدتين أخريين منشورتين في مجلة "الثقافة" المصرية تكفي لإعطاء صورة واضحة عن تجربة غائب طعمه فرمان الشعرية القصيرة والبسيطة التي تركت آثاراً واضحةً في أعماله القصصية والروائية، وهذا ما سنتطرق إليه لاحقاً.3621 غائب طعمة فرمان

غائب طعمه فرمان وزهير ياسين شليبه 1981-82

نَشرَ غائب قصيدة "صمت" و"طفلة" في مجلة "الثقافة" كما ذكرنا، وأنهى بهما على الأرجح تجربتَه الشعرية، وسنوجه إهتمامنا هنا إلى الجانب الإنساني والروحي والفكري لهذه البداية المتواضعة وإستنباط علاقتها بعالمه النثري فحسب.

إن أهم ما يلاحظه القارىء هو أن غائب ط. فرمان الشاعر الشاب يعبرعن حالته الذاتيه وطبيعته النفسية، فقد كان ينوء بهموم وإرهاصات روحية ونفسية كثيرة. ولهذا نرى تكرار مفردات مثل: الليل، أحضان، الحلم، الحنين، الطير، السكون، الكآبة، الحنون، الصمت الرهيب، الروح الكئيبة، الهواجس، "فإن أسكرك الصمت فلا يرعبك السكر"، الشفق الباكي، العشب الظامي، الحب. فالشاعر ينشد منذ شبابه الحرية والسكون والهدوء وراحة البال كما لو أنه تعب من هموم الحياة وصعوبتها فيقارن نفسه التواقة للهدوء والحرية بالطير. في هذه المقارنة نرى روح الشاعر الشاب ونلمس فيها في أيضاً النزعة النثرية والصورة السردية، حيث يقول:

والطير في عش السكينة هادىء..متنعم

غافٍ على سرر الأمان  وبالسعادة يحلمُ

قد أطبق الشفتين في صمت فلا يترنمُ

أتراه تاه مع الخيال كما يتيه الملهم؟

*

وتطغى الكآبة على الشاعر كما يبدو من قوله:

كم مرة عصفت أعاصيرُ الكآبة في دمي

وترنحت نفسي بديجور الحياة المظلم

وشعرتُ أن دمي تضجر في وجودي المعتم

وضللتُ أنشدُ للوجود كآبتي وتألمي2.

إلا أن فرمان يحقق الإنتقالة الذاتية ليخرج إلى رحاب عالم "الآخرين" الكبير ويتذكر همومهم رغم متاعبه الروحية والنفسية. وحتى لو كان هذا التحوّل بسيطاً وغير رئيس، إلا أنه يبقى ذا أهمية كبيرة حيث نجد فيه روح القاص المتيقظة نحو هموم الآخرين، والإنتقال من الخاص إلى العام، من الذات والأنا والتجربة الشخصية الخاصة إلى الذوات الأخرى والعالم الأرحب. وهذا جانب من جوانب الوعي القصصي والبدء بالكتابة السردية.

ومن الطبيعي أن يتحقق هذا الوعي بضرورة الممارسة النثرية بنسب متفاوتة كما يمكن ملاحظته في إختيار المفردات ذات الطابع القصصي السردي في القصيدة، حيث يقول الشاعر:

وهناك عند نهاية الوادي المعرش بالشجر

في هجعة الروح الكئيبة بين أشتات الفِكَر

أرسلتُ نفسي خلف أركام الهواجس والصور

وقفت ابعث للطبيعة كلَّ آلام البشر3.

وكما ألمحنا، إن غائب فرمان كثيراً ما لجأ إلى الطبيعة في تصوير حالة أبطاله لتحقيق المغزى الفني، فهي إما أن تكون مرتبطةً بأحوالهم الروحية أو بفكرة ترد في حديث الكاتب أوالشخصيات الأدبية، لكنها قليلة الحضور لتركيزه على رصد الأحداث داخل المدن وحاراتها الشعبية.

أما التجربة الشعرية فهي غنية بالمشاهد الرومانسية ذات الصلة الوثيقة بالطبيعة، حيث تحضر بشكل ملفت للنظر، وتعكس حالة الشاعر النفسية الذي يهرب من عالم الزحام والمدن والشوارع إلى الخلق الجميل المتجسد في جمالها الأخاذ. وهذا بالتالي يعبر عن موقف الشاعر- الكاتب من الحياة ومن تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، ولو بطريقة بسيطة أو "ساذجة" أحياناً، كما لو أنه يقول لنفسه وللناس: أنظروا إلى هذا الجمال، تمتعوا به، وأنظروا إلى الطبيعة المعرشة وستبهركم بالتأكيد، فَلِمَ لاتجعلون حياتكم جميلةً مثلها؟ نقية، صافية،  كهذه الوديان فتعيشون مرتاحي البال بدون هموم؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال يحقق الشاعر غرضه القصصي، كونه يفصح عن روحه القصصية ولهذا بالذات نراه يترك فيما بعد نظم الشعر ليبث هموم البشر بين سطور النثر الكثيرة وتصبح الأنواع النثرية أكثر إستجابة لرغباته ومتطلباته النفسية. فكانت الغلبة للقصة، التي صارت بالنسبة له بمثابة "صرخة إحتجاج" حسب قول الكاتب نفسه في جلساتنا الخاصة.

ويبدو أن العلاقة بالليل والسكون والطبيعة الهادئة والطفولة من أهم الموضوعات التي تناولها غائب في قصصه ورواياته وأقربها. هذا ما سيتضح للقارىء من خلال تطرقنا اللاحق في هذا المقال إلى قصصه المبكرة الأولى. ولهذا فلا غرابة أن يسمي الشاعر قصيدته بعنوان "صمت"، وهي الصفة التي يتميز بها الكاتب نفسه.

وأهم ما في الأمر أننا نلمس في هذا "الصمت" موقف الكاتب الإحتجاجي على كل التصرفات الخرقاء والظواهر السلبية. ويكفينا أن نتذكر الصمت الرافض الذي يمارسه السيد معروف بطل قصة غائب  فرمان "آلام السيد معروف". كان السيد معروف يعاني من آلام الآخرين ويتحرق من الممارسات السيئة التي يسلكها زملاؤه الموظفون الوصوليون ليزعجوه، وكانت تتجسد في آلام معدته فيهرب إلى الطبيعة والغروب حيث يبث له آلامه بهدوء، بل بصمت.

وليس عجباً أن ينظّم فرمان قصيدةً شعرية عن الطفولة، فلو تصفحنا قصصه ورواياته لرأيناها مليئة بالمقاطع المكرسة لذكريات الطفولة والصغار، وأن روح الدعابة تكاد تطغى على أغلب أعماله القصصية الأولى مثل "عصيد الرحى"، و"دجاجة وآدميون أربعة"، و"مولود آخر"، وغيرها من القصص التي تعبر عن الحب الكبير الذي يكنه الكاتب لأبطاله الأطفال الذين التقطهم من أحياء بغداد الفقيرة.

يقول الشاعر الشاب غائب طعمه فرمان ذو العشرين سنة في قصيدة "طفله":

سرتْ دجله بين الشجر الهادل أغصانه

تشارك بلبل الروضة في الوحدة ألحانه

وكنتُ هناك فوق العشب المخضل وسنانه

أضنّتك عروس الفجر  أم ضنّتك ريحانه؟

رعاك الله يازهرة كم هشّت للقياكِ؟

وحامت حول مغناك تذيع الأرج الذاكي.

ويقول أيضاً:

هنا لا شيء غير الحب يا طفلة أحلامي..

فكم قبّل هذا النهر ثغر العشب الضامي!!

وكم لف جلال الصمت أشعاري وأنغامي؟

رعاك الله ياطفلة ما أجمل دنياكِ!!

تنامين وعين الله ياحلوة ترعاكِ4.

وهكذا فإن الشاعر يربط بين مفاهيمه الإنسانية و"الطفولة والطبيعة، وبساط العشب وسحر الأغاني ونور الشمس والشاطىء الغافي وترانيم العصافير والموج المسحور..".

ولنرَ كيف يتجسد هذا الموقف بموضوعة براءة الطفولة وأحلامها في كتابته الروائية بعد عقدين من العمل الدؤوب في ميدان النثر.

يقول الروائي غائب ط. فرمان عن الشابة الصغيرة تماضر بطلة "النخلة والجيران" "...وكم كانت مشتاقة إليه. كم كانت تترقب مغيب الشمس وحضوره ... وإستلذت بالظلمة حين أطبق الباب، ظلمة مثل قط أسود تغوص فيه. وطاف في خيالها ذلك السرب الخائف من العصافير الذي رأته يفر من قلب الشجرة الأسود. ثم تذكرت نبكَة الخالة نشمية، وتخيلت نفسها مختفية بين الأغصان كما كانت تفعل وهي صغيرة. تذكرت كم كانت خفيفة وطليقة في صغرها".

ونقرأ أيضاً في مكان آخر من الرواية نفسها:

".... وفي الأصيل كانت النسمة تهب من النهر عبر شجرة توت معمرة تماوج الذهب على ذوائبها الغريبة. وكان قلبها أسود إنطلق منه سرب من العصافير، وقع على أرض الحوش في زفرة حادة ... وتذكرت تماضر شجرة التوت التي كانت تتسلقها في بيت الخالة نشمية عندما كانت صغيرة وتختفي بين أغصانها الكثيرة ..."5.

هذا هو صوت فرمان الروائي، وهو في الحقيقة لا يختلف كثيراً في جوهره عن أحاسيس غائب الشاب. وفي كلتا الحالتين طغت روح غائب الإنسانية في شعره ونثره، في قصائده الأولى وقصصه ورواياته، غائب المحب للطبيعة والطفولة، الولهان بجمال الدنيا ونقائها لدرجة الرومانسية. بل إنه كثيراً ما يربط ذكريات الطفولة والشباب بالطبيعة. يقول الروائي غائب: "... ولكن الخضرة كانت رائعةً، نفس الخضرة السندسية التي لها علاقة بالطفولة". ويكتب أيضاً "...كانت ذكرى أمها عزيزةً عليها. ماضٍ يبدو لها كالحلم: كانت ترقص فيه أو تسبح في الهواء، وفمها مملوء بالحلاوة، والدنيا صافية في عينيها. عذبة، طليقة رقراقة كماء غدير رأته في طفولتها تلك. كلما تذكرته داعبت قلبها نسمة ناعمة كذلك الثوب الحرير الملون الذي اشترته لها أمها في أحد الأعياد".

يلاحظ القارىء أننا نؤكد هنا على مفردات مثل: كانت، تذكرت، العصافير، صغرها، طفولتها، ماء غدير والخ، لأنها تؤدي وظيفتها الفنية في العمل الروائي، وبالذات في حالة الذروة التي تطفح فيها المشاعرالإنسانية الرومانسية حيث تسود عليها روح الكاتب الإنسانية ويصوّر الناستولجيا من خلال ذكرياته عن الطفولة، ويتقاطع هنا النثر بالشعر، وتتجه لغة الرواية لاحقاً نحو الفنية، التي إفتقرَ إليها أغلب الأعمال النثرية الطويلة الصادرة قبل "النخلة والجيران"، ولهذا عدّها بعض النقاد أولَ روايةً عراقيةً فنيةً، كما بينا ذلك في أطروحتنا المكرسة لأعماله6.

ويمكن للقارىء بسهولة أن يجد المقاطع االشاعرية في أعمال غائب الروائية، فيصور بطلةَ "القربان":

" .... كانت طفلة مدللة من أمها ذات ضفائر كضفائر النساء... إلا أن الطبيب أشار إلى أمها بأن تحلق شعرها. وقبلت الأم وبكت مظلومة بحرارة ... راودها مثل هذا الشعور الآن. فقدت شيئاً فمن يرده إليها؟ .... وطاف في ذهنها صباح. إنه شعرها الجديد الذي سيسترها"7.

هكذا يوظف فرمان الشعر لصالح النثرويخلق لغة روائية هجينة أحياناً، تتميز بالصور الشعرية لكي يصل إلى أعماق أبطاله ويجعلها قريبةً من القارىء بأقل عدد من المفردات فيحقق ما يسمى ب "الإقتصاد اللغوي" ويقدم لغة مضغوطة تتفجرعند تفاعل القارىء معها وتتخلص من الإنشاء.

ومن الممكن بسهولة ملاحظة أوجه الشبه بين وصف ذكريات تماضر "النخلة والجيران"، ومظلومه "القربان"، كما لو أن الكاتب أو "صورته" يقف وراء العبارات وخلف السطور محامياً مدافعاً عن الطفولة في وطنه، ولهذا يشعر القارىء بروحه وإنسانيته تسري في كل حرف ويعيد الحياة لكل شخصياته ويكسبها الحيوية والمستوى العالي من النمذجة فجائت قريبة لمختلف أنواع القراء ومستوياتهم.

ورغم إنّ غائب فرمان كتب عن أحداث دارت في بغداد، بل في أزقتها القديمة حيث تختفي الطبيعة الخلابة وتحل الأوساخ والرطوبة محلَّ "الخضرة السندسية" على حد تعبيره، رغم هذا كله نلاحظ أن خيال الكاتب لا يبخل عليه بوصف المناظر الطبيعية مما يذكرنا بتجربته الشعرية.

يُصوّر فرمان سليمة الخبازة بطلة "النخلة والجيران": "...وتذكرت الزورق الذي عبرت فيه سامراء ذات مرة. هدهدها في رفق على ماء رقراق رأت خلاله الحصى الملون الذي بدا لها قريباً لا يكلفها إلا أن تغمس ذراعَها وتلتقطه. كان الفصل صيفاً. نزلت من القطار وصعدت الزورق معتمدة على ذراع زوجها... ثم ما لبث الزورق أن تهادى فأغمضت عينيها في لذة خائفة، ...وفتحت عينيها على صوت يقول "شوفوا السمك يلبط"، لكنها لم ترَ السمك، بل رأت مواشير الضوء تحت الماء والحصى"8.

المنظر الطبيعي الخلاب يساعد هنا على إستيعاب مزاج سليمة الخبازة المرأة الفقيرة التي تعاني من الوحدة، لكنها تحلم باستمرار بالانعتاق والخروج من واقعها المتعب، وأنّ تذكّر السمك في أحلام اليقظة والمنامات إشارة خير في الموروث العراقي.

"وماذا بعد؟ أليس هذا... شيئاً من الشعر؟ أو بهذه السريالية النقية يحرك غائب أبطاله..." على حد تعبير الدكتور أحمد قاسم النعمان9.

وفعلاً، إن أعمال فرمان مليئة بالصور الشعرية كما أسلفنا، وقد اشار الناقد اللبناني محمد دكروب إلى شاعريته في معرض حديثه عن قصة "حلاّل العقد"، التي كتبها بعد فترة طويلة من تجربته الشعرية.

أجل، إن روح فرمان لم تكن قادرة على التقوقع في الذات بل خرجت إلى رحابة العالم وفضائه اللامتناهي والمدن والشوارع والأحداث التاريخية الكبيرة، مليء بالعوالم الروحية المختلفة، حيث الخير والشر والطفولة المقتولة في رحمها. ولهذا بالذات لم تعد القصيدة تلبي رغباته وتنسجم مع متطلباته الروحية فتوّجه نحو الأنواع النثرية: الخاطرة القصصية أو (المقاصّة) البدائية، الأقصوصة البسيطة ثم القصة القصيرة "الفنية" التي سعى من خلالها تحقيق مفاهيمِه الجديدة آنذاك عن النوع بفنيّة أعلى من السائد، فنلاحظ أن قصصه الخمسينية أدنى فنياً عن نظيراتها الستينية، بينما تميزت رواياته كثيرا عن بواكيره الأولى من حيث الكمال الفني.

أخيرا لابد لنا ونحن نختتم الحديث عن تجربة فرمان الشعرية الأولى، من الإشارة إلى أنها كانت تعبر عن إحساسات أديب شاب وتعكس همومه، وليس هناك أفضل من الشعر في تصويرها لاسيما وأنه كان لايزال يتبوء مركز الصدارة، أما القصة بمفاهيمها الجديدة المعاصرة والحديثة المتطورة فكانت من الأنواع الأدبية الجديدة على الأدب العربي في العراق رغم نشر العديد من القصص القصيرة والطويلة.

لهذا ليس عجيباً أن يلجأ فرمان إلى الشعر في بداية نشاطه الأدبي، وليس غريباً أن يتأثر بشعر علي محمود طه بالذات من حيث الشكل، كما أكد لنا الكاتب نفسه في أحاديثنا الشخصية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

1985، موسكو

.........................

الهوامش:

1- الإغتراب الأدبي. العدد 17 السنة 1991، لندن. هذا المقال جزء من دراسة بعنوان "غائب طعمه فرمان – البدايات"، عن قصائده وقصصه الأولى المنشورة في الصحف المصرية في الأربعينات، نُشر قسم منه في مجلة الإغتراب الأدبي، على أمل أن يُنشر القسم الثاني :"غائب طعمه فرمان قاصاً"، لكن ومع الأسف فُقدَ ولم أعثر عليه حتى هذا اليوم.

2- غائب طعمه فرمان. قصيدة "صمت". الثقافة. العدد 461 السنة 1947 القاهره، ص 34

3- نفس المصدر السابق

4- الثقافة. قصيدة "طفله"، العدد 518 السنة 1948 القاهره

5- غائب طعمه فرمان. النخلة والجيران. بغداد، صيدا 1965، وأنظر أيضاً : المخاض. بيروت 1974 ص 10

6- د. زهير ياسين شليبه. غائب طعمه فرمان، دراسة أكاديمية مقارنة. 1996، بيروت

7- غائب طعمه فرمان. القربان. بغداد 1975 ص 63

8- - النخلة والجيران، ص 8

9- د. أحمد النعمان. الحنين إلى الوطن في أدب الروائي الكبير غئب طعمه فرمان. الوطن. الكويت 15-2-1983 ص4

اعتبر الكاتب الروائي السوري المبدع حنا مينة (1924- 21/8/2018)، منذ سنوات بعيدة واحدًا من أبرز الروائيين العرب، ولفتت رواياته ابتداء من روايته الاولى المصابيح الزرق، صدرت في أوائل الخمسينيات، الانظار إليه روائيًا مبشّرًا إلا أنه غاب عن الساحة الادبية مغتربًا في الصين وهنغاريا ودول اخرى، مدة عشرة أعوام، وكان أن عاد إلى وطنه الام سوريا بعد هذه السنوات للمساهمة في إنهاضه من عثرته الفظيعة ونكسته عام 1967. وقد أجمع مَن تعرضوا لإنتاجه الروائي أنه ارتاد آفاقًا جديدة للرواية العربية، هي آفاق البحر والمغامرة مما جعل ناقدًا ذكيًا يقول إنه رغم أن العالم العربي يقع على شطوط البحار إلا أن كتابنا العرب لم يقتربوا من عالم البحر حتى ظهور حنا مينا وتكريسه جلّ انتاجه الروائي للبحر والمغامرة. فيما قال ناقد آخر إن التفاتات متعمّقة للبحر والمغامرة في أدبنا العربي كانت في الف ليلة وليلة، موضحًا أن حنا مينة صاحب نهاية رجل شجاع أعاد إلى هذه الالتفاتة بهجتها ونضارتها.

تحل اليوم الاثنين، الذكرى السنوية الخامسة لمغادرة كاتبنا حنا مينة عالمنا، عن عمر ناهز الرابعة والتسعين عامًا، وقد ترك مينة وراءه أكثر من أربعين رواية تم تحويل عدد وفير منها إلى مسلسلات وأفلام سينمائية، كما تُرجمت أعمال له إلى نحو الاربعين لغة حيّة من لغات العالم، وقد اعتبر نقاد مشهود لهم حنا مينة كاتب البحر الاول في أدبنا العربي الحديث، فيما قارنه آخرون وقرنوه بالكاتب الأمريكي الشهير ارنست همنجواي، فوصفوه بـ" همنجواي العرب"، أما حنا مينة فقد رفع منذ بداياته الاولى في الكتابة شعار الصدق ومعايشة التجربة بعمق، شعارًا له.

لن استرسل فيما يلي في الكتابة عن حياة حنا مينة.. إذ بإمكان أي من الاخوة القرّاء أن يطلع بنقرة على شبكة البحث الالكترونية العالمية "غوغل"، على كلّ ما يريد ويرغب وأكثر عنه وعن نتاجه الروائي الغزير،.. وإنما سأتحدث عن علاقتي الادبية به.

منذ اطلاعي على روايته الاولى "المصابيح الزرق"، بات حنا مينة واحدًا من كتّابي الاثيرين القريبين من نفسي، وقد توطّدت هذه العلاقة سنة تلو سنة وعملًا ادبيًا إثر عمل، ومن اوائل المحطات التي توقّفت فيها معه، إعادة "منشورات صلاح الدين"، المقدسية، طباعة روايته "الشمس في يوم غائم"، بعد صدورها وكان هذا في أواسط السبعينيات، أما المحطّة الكبرى في علاقتي به، فقد تمّت بعد سنوات مديدة.. كان ذلك يوم عاد صديق طبيب متأدب من العاصمة البريطانية لندن، وفي جعبته عدد من الكتب الجديدة آنذاك، منها رواية "الياطر"، استعرت منه هذه الرواية، لاكتشف بعد قراءتي لها أنني أمام كاتب حقيقي يوجد لديه ما يقوله بإبداع ومسؤولية. بعد قراءتي هذه الرواية، ابتدأت في البحث عن بقية روايات مينة، ودأبت على الطلب ممن سافر من الاصدقاء والمعارف إلى إحدى الدول العربية المجاورة، تزويدي برواياته المتبقّية، إلى أن تمكّن أحد الاصدقاء من تلبية طلبي، فقرأتها مجتمعة لاكتشف أنني أمام كاتب إنساني وغير عادي ويستحق القراءة.. وحدث بعد قراءتي روايات مينة أن سألني ناشر صديق عن كتب جديرة بإعادة والطباعة والاصدار في بلادنا، فلم أتردّد باقتراح روايات حنا مينة، وقدّمت له هذه الروايات لترى النور في بلادنا، وليقوم بعض الناشرين، المجهولين لي حتى اليوم، بنشرها لتباع بالتالي مجتمعة وضمن رزمة واحدة.

علاقتي الادبية بحنا مينة مرّت بالعديد من المراحل أبرزها مرحلتان. إحداهما النشر عنه وعن انتاجه الروائي بغرض تعريف القاري العربي في بلادنا به. والاخرى تقديم المحاضرات وإقامة اللقاءات الادبية بغرض التعريف به أيضًا. فيما يتعلّق بالنشر عنه كتبت في العديد من الصحف التي عملت فيها وتلك التي كتبت فيها وأذكر من هذه الصحف كلًا من: "الاتحاد"، "الجماهير"، " الراية"، " الميدان " ،"الصنارة"، "كل العرب "، " " و"حديث الناس"، أما فيما يتعلّق بتقديم المحاضرات، فاذكر أنني قدّمت محاضرة عنه إبان الثمانينيات لطلاب مدرسة المطران الثانوية في مدينتي الناصرة، ومحاضرة أخرى في بلدة عبلين لنادي العائلة، إضافة إلى محاضرة قدمتها في بلدة مجدل شمس في الهضبة السورية المحتلة، وقد حظيت هذه المحاضرة باهتمام شديد من منظميها الجامعيين، حتى أنهم اخبروا مينة بأمرها، واعتقد أن اطلاق اسم حنا مينة على مكتبة في بلدة بقعاتا في الهضبة السورية المحتلة، كان واحدًا من أصدائها، ومما أذكره في هذا السياق أن إذاعة "صوت فلسطين"، أجرت معي مقابلة مطوّلة استغرقت ساعة من الزمن تحدثت فيها عن حنا مينة وابداعه الادبي.. الروائي خاصة.

ملاحظات سريعة عن انتاج مينة الأدبي:

* قال عن نفسه إنه كاتب الكفاح والفرح الانسانيين. وتنبأ مبكّرًا جدًا أن الرواية ستكون ديوان العرب، وهذا ما تم فيما بعد.

* ولد مينة لعائلة سورية فقيرة جدًا وربّما معدمة عام 1924. ولم يتلقَ تعليمًا منظمًا ويعتبر مثقفًا عصاميًا أسس نفسه بنفسه. عمل في بداياته حمّالًا في الميناء. مصلّح درّاجات هوائية وحلاقًا. وبعدها صحفيًا وكاتب مسلسلات تلفزيونية.

* قضى عقدًا من الزمان متنقلًا بين دول أجنبية منها الصين وهنغاريا. عن الصين كتب روايته "حدث في ببتاخو"، وعن هنغاريا كتب روايته "الربيع والخريف". عام 67 عاد إلى بلاده.. ليساهم في رد الهزيمة واستعادة الثقة.

* انتمى منذ بداياته الادبية الاولى إلى المدرسة الواقعية الاشتراكية، وكتب مستنيرًا بهديها.. لكن بشكل ديناميكي وخلّاق، فساهم بإعادة الرونق إلى هذه المدرسة التي ظلمت كثيرًا في أدبنا العربي. ولم تُفهم حق الفهم!!

* كرّس معظم نتاجه الروائي للتحدث عن البحر وأجوائية المغامراتية، حتى أن نقادًا وصفوه بأنه كاتب البحر الاول في أدبنا العربي. من رواياته في هذا المجال "الشراع والعاصفة"، "حكاية بحار"، "الدُقل"، و"نهاية رجل شجاع".

* تم تحويل العديد من رواياته إلى أفلام سينمائية. نذكر منها "الشمس في يوم غائم " ، "بقايا صور"، وقد جرى تحويل روايته "نهاية رجل شجاع"، إلى مسلسل تلفزيوني، مثّل فيه دور بطلها مُفيد الوحش، في شبابه نجل حنا مينة.. سعد مينة، ومثل دور بطلها فيما تلا من فترات أيمن زيدان، وكان لهذا المسلسل الذي بثته محطات عديدة في آن واحد، الاثر الاكبر في شعبية مينة وانتشاره.

* كتب أكثر من أربعين رواية، وعددًا من المؤلفات الادبية. من أهم مؤلفاته غير الروائية كتابه "ناظم حكمت. السجن المرأة الحياة"، "هواجس في التجربة الروائية"، "كيف حملت القلم " و"أدب الحرب"، وقد وضعه بالاشتراك مع الكاتبة، وزيرة الثقافة السورية في فترة سابقة، الدكتورة نجاح العطار، ويعتبر مينة واحدًا من الكتاب العرب القليلين الذين كتبوا رواية تتحدث عن الحرب وأقصد بها روايته "المرصد"، التي دارت أحداثُها حول حرب اكتوبر 73.

* معظم روايات حنا مينة تذكّر بروايات أجنبية سبق واطلع عليها القارئ العربي. مثلًا: "الشمس في يوم غائم"، تذكّر برواية "زوربا" للكاتب اليوناني المهم جدًا نيكوس كازنتزاكي. روايته "الياطر"، تذكر برواية "روبنسون كروزو" للكاتب الانجليزي دانيال ديفو، وروايته "مأساة ديمتريو" تذكر برواية "مستر جيكل ومستر هايد"، للكاتب الانجليزي روبرت لويس ستفنسون، ومع هذا بإمكاننا القول إن مينة كتب روايته الخاصة به.. فأبدع، علمًا أن رواياته تُرجمت إلى العديد العديد من اللغات الاجنبية.

* نشر مينة مجموعة قصصية واحدة هي "الأبنوس البيضاء"، وقد حَول عددًا من قصص هذه المجموعة فيما بعد، لتكون الفصل الاول لأكثر من واحدة من رواياته. أذكر منها "حمامة زرقاء في السحب"، التي تعتبر مرثاة مبكية لكريمته التي ماتت في الثمانينيات متأثرة بالمرض العُضال.

* تولّت" دار الآداب" اللبنانية، إصدار مؤلفات حنا مينة، وخصّصت له راتبًا شهريًا مدى الحياة.

* كان مينة واحدًا من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب، ويروي في كتابه عن "ناظم حكمت"، طُرفة ذات بُعد ثوري نقدي، مفادها أنهم عندما أسسوا اتحاد الكتاب العرب، طُلب من الكتاب المنتسبين إليه أن يقدّموا شهادةَ حُسن سلوك. فقدّموا جميعهم هذه الشهادة بمن فيهم هو نفسه. ويعلّق مينة على هذا قائلًا: ترى ماذا ستقول عنا الاجيال القادمة.. هل ستقول إنهم كان خرافًا ينامون مع أنفسهم؟

* أوصى حنا مينة في كتابة علنية، نشرتها صحيفة "تشرين" السورية وتناقلتها الصحف قبل نحو العقد من الزمان، بدفنه بعد وفاته بصمت، ودون خطابات طنّانة رنانة، لأنه سمع كلّ ما يتمناه المرء في حياته من ثناء واطراء.

صورٌ ماتعة من حياةِ الأمِ الرائعة

(أقدم فيما يلي قراءة خاصة في كتاب أشياء من ذكريات طفولتي لحنا مينه):

أحب حنا مينه، أمه كما يُحب ابن مرهف الحس، رقيق القلب والروح، مصدر وجوده وموئل ذكرياته، وقد أعلن عن هذه المحبة في أكثر من فرصة ومناسبة، أذكر منها هنا ما كتبه عنها في روايته " الرحيل عند الغروب"، من كلام مؤثر، أروعه أنها تدعوه، بعد أن اكتهل وشاخ، للعودة إلى اللعب بأشيائه الطفلية الصغيرة، فيردّ عليها، ضمن حوار فريد في نعومته، ما مفاده إن ابنك قد كبُر يا أمي، فما يكون منها إلا أن تقول له من عالمها الآخر: عُد يا بُني.. إن العابك الصغيرة ما زالت هناك على الحصيرة.

في كتابه "أشياء من ذكرياتي- ذكريات في رواية"، الذي عدت إلى قراءته مرة أخرى هذه الايام بعد مضي سنوات على قراءتي الأولى له، يعلن مينه عن محبته لأمه مجدّدًا، وقد بلغ من العمر عتيًا كما يردد في تقديمه لكتابه هذا. مُجليًا حبَه لامه، على طريقته الخاصة الممثلة بإشارات مكثفة لفضائلها، مفاداتها وعطاءاتها، في ظروف هي أقسى ما تكون، وقد صوّرها فأبدع في روايته المعروفة لدى القارئ العربي" بقايا صور".

يفتتح مينة، أحاديثه وجُلها عن أمه، بقول معبّر ومؤثّر هو: "وجه الأم، هو الوجه الاول الذي يتفتح عليه وعي الطفل، وقد كان وجه أمي هو أول الوجوه، وأحب الوجوه"، ويتحّدث ضمن حديثه هذا تحت عنوان" الوعي الاول بالوجود"، عن حاسة الشمّ الاولى التي تفتّحت لديه، يقول:" كنت أشم رائحة أمي فأعرفها، وأفرح بها، وأستريح اليها، وأندغم فيها وأتنشقها وأهدأ لها"، بعدها يتطرّق إلى صلته برحم أمه، متسائلًا: إلى متى تدوم الصلة الرحمية..، ويجيب:" ظني أن المرحلة الرحمية امتدت طويلًا، وأن وشائجها الخفيّة ما زالت قائمة"، مضيفًا: ان " الحب الامومي هو الحب القلبي وهو الحب الزوجي وهو الحب الاسروي، وكذلك هو حب الفكرة والقضية والكفاح والنشوة وكلّ ملذات العيش والبذل والعطاء". بعدها يتحدّث مينه عن المرأة عامّة منصفًا إياها، أسوة بحبّه لأمه، ويورد حكاية مؤثرة عن امرأة أنجبت البنات واحدة تلو الاخرى، فاغتاظت حماتُها وعبّرت عن اغتياظها هذا، بصورة جلية واضحة.. لتنتهي هذه القصة الحزينة بموت تلك المرأة، لذنب لم تقترفه قصدًا وكان خارجًا عن يدها وإرادتها.

في حديث آخر عن " الأم الخالدة ومفاداتها"، يورد حنا مينه قصة مؤثرة عن مفاداة الام لابنها، تقول القصة إن أسدًا تمكّن من انتزاع طفل من حضن أمه، فقادتها مشاعر الامومة المتفوقة، لأن تلحق به، وتركع قُبالته، ليتوقّف ويتعاطف معها، ويرخي فكيه معيدًا الابن إلى أمه، بعد أن قادتها غريزتها لإيصال رسالتها كأم مُحبة رؤوم، لا تتنازل عن ابنها فلذة كبدها حتى لو تطلّب الامر أن تتنازل عن حياتها.

في فصل آخر من كتابه، تحت عنوان " يوم رأينا الموت.. من خلال الجوع"، يعود مينه إلى روايته المؤثرة " بقايا صور"، (هذه الرواية تحوّلت، بالمناسبة، الى فيلم سينمائي أدت الدور الرئيسي فيه الفنانة المبدعة منى واصف)، يعود مينه ليشير إلى قصة ضمّنها إياها عن امه وتضحياتها من أجل ابنائها، تتحدث هذه القصة عن سنوات القحط التي عاشتها عائلته أيام كان طفلًا صغيرًا لمّا يتجاوز الخامسة من عمره، مفادها أن الام خرجت من بيتها الفقير المتواضع للبحث عمّا يُقيت أبناءها، الجوعى، وكان أنها اتكأت على شجرة وسقطت مغمى عليها، وهنا تظهر امرأة/ جارة، جارت عليها الايام، فوصمتها بالخطيئة والعار، لتأخذ بيدها، ولتنقذها من موتٍ ربّما كان محتّمًا، ولتشق العتم والظلام وتعود إليها بأبنائها، من بيتها المجاور، ولتقدم للجميع بالتالي ما يتوقون إليه من طعام ودفء، فما يكون من الام/ أمه، إلا أن تقدّم إليها غطاء رأسها عرفانًا بالجميل وردًا له، وذلك رغبةً منها في السترة كما سترت عليها وعلى صغارها في ليلة معتمة شديدة الظلام.

في حديث آخر تحت عنوان" شيء من الذكرى" يشير حنا مينه إلى اللحظات الأخيرة في حياة أمه بكلمات مؤثرة جدًا، يقول ربما ملخصًا ما بينه وبينها:" لقد أعطتني (يقصد أمه- ن.ظ) الحياة وكانت حياةً شقية، جاهدتْ، على طريقتها، لأن تجعلها رخيّة، لكن المجتمع أراد غير ما أرادت، فكان هو الاقوى، وكنّا الاضعف، وكان صراع، ولكن النصر لنا، وطريق الكفاح طويل والبشرية تسير.. طفولتُها كانت أشقى من شقية وطفولتي أشقى من طفولتها، ومن الايام السود إلى الأيام البيض، يحمل بعضنا بعضًا، ونناضل معًا في سبيل قومنا ونتعلّم محبة كلّ يوم أقوى وكلّ يوم أفضل، كما يقول ناظم حكمت".

في هذا الكتاب، الذي اقترح على الإخوة القراء قراءته، فهو متوفّر في المكتبات جنبًا إلى جنب مع مؤلفات صاحبه الروائية اللافتة، خاصة" الياطر" و"نهاية رجل شجاع"، يتحدّث مينه عن "وحدة الثقافة – العربية- واستعادة الدور التنويري النهضوي"، وعن " الكتابة والحرية" والبحر، وعن حياته بما تضمنته من اخفاقات ونجاحات ويلخّص رأيه قائلًا:" إن الطريق طويل جدًا، وإن الجزر الذي نحن فيه، لن يتحوّل إلى مدّ، إلا بعد عقود، فمن تعب فرغب في أن يستريح فله الحق، ومَن أصيب بالإحباط، والاحباط صار بالنسية الينا قدرًا، نعذره على إحباطه، ومَن ادركه اليأس نعذره على يأسه، ولا نطلب، مقابل ذلك كلّه، إلا أن يعذرنا، أو يعذروني، لأنني لم أيأس، ولن ايأس، لأنني " الحجر الذي رفضه البنّاؤون فصار حجر الزاوية، ولأنني والبحر( المغامرة- ن.ظ) عروة وثقى!".

يؤكد مينه في كتابه هذا الذي كتبه وهو في أرذل العمر، كما يقول، أمرين هما حُبه الرائع لأمه، وللمرأة بصورة عامة، كما يؤكد أنه كاتب الكفاح والفرح الانساني.. كما وصف نفسه وكما وصفه أكثر من باحث وناقد..

***

بقلم: ناجي ظاهر– كاتب وأديب فلسطيني

.....................

* "أشياء من ذكريات طفولتي"، كتاب أرى أنه احتاج إلى تحرير منعًا للتكرار الذي اتصف به، وليس رواية كما كتب ناشره في صفحته الاولى. صدر عن دار الآداب اللبنانية، ناشرة كلّ روايات صاحبه حنا مينه، صدر عام 2010، وجاء في 128 صفحة من القطع المتوسط

أعادتني الذكرى السنوية التاسعة لرحيل الشاعر الصديق العزيز سميح القاسم، إلى السنوات الاولى من حياتي مع الكلمة ومعايشتي لها. كان ذلك في أواخر الستينيات من القرن الماضي، يوم أرسلت قصة لي إلى مجلة "الجديد" الحيفاوية، واضعًا يدي على قلبي فهل سيقبل الشاعر المشهور محرّر تلك المجلة في حينها أن ينشر تلك القصة، لا سيّما وأنها تعارضت نوعًا ما مع كان يُنشر آنذاك في المجلة من مواد سياسية، وتحدثت عن حب الام وحب المدينة. وماذا سيكون موقفه؟ وتشاء الصدف أن التقي الصديق العزيز الكاتب الراحل نوّاف عبد حسن، في أحد شوارع مدينتي الناصرة، فيسألني عمّا إذا كنت قد أرسلت قصة إلى مجلة الجديد، فلا أجيبه خشية وتوقيًا، فيرسل إلي ابتسامة حافلة بالمودة مرفقًا إياها بابتسامة من طرف فمه، ويطمئنني على أن قصتي ستُنشر في العدد القريب من مجلة الجديد. عندها أسأله كيف عرفت هذا؟ فيبتسم مرة أخرى مرفقًا ابتسامته هذه المرّة بكلمات لا اتذكرها حرفيًا الآن وقد مضت عليها كلّ تلك السنوات، مُفادها أن سميح القاسم سأله عني ومَن أكون فأخبره أنني شاب متأدب وفدت عائلتي عام النكبة من قريتها سيرين إلى مدينة الناصرة للإقامة فيها، وقال لي إن سميحًا قرّر نشر تلك القصة لأنه رأى في صاحبها كاتبًا مبشّرًا وموهوبًا.

خلال علاقتي بسميح منذ ذلك العام حتى أيامه الاخيرة، تأكّد لدي حادثًا إثر حادث ولقاءً تلو آخر، أن سميحًا تعامل مع الحياة الادبية بشفافية، وأراد دائمًا أن تتفتّح في بستاننا ألف ومليون زهرة. كما أدرك ما لأهمية اعطاء مَن رأى فيهم أناسًا موهوبين الامكانية لأن يعطوا ويعطوا بلا حدود.

في الفترات التالي وخلال سنوات وسنوات كان سميح طابت ذكراه، يسعى للتعاون مع كلّ مَن يرى فيه مقدرة على العطاء ودفع عربة ثقافتنا العربية الفلسطينية في البلاد، كلّ ما يحتاج إليه ويتطلّبه للمزيد من التفتّح والعطاء، وأذكر بكثير من المودّة أنه طلب مني ومن آخرين في فترات تالية، أن نكتب عن كلّ مَن غادر عالمنا من فنانين وكتّاب. فعل هذا معي يوم رحل الفنان اللبناني الذي اشتركنا في محبته حسن علاء الدين الملقب بـ" شوشو"، ويوم طالت يد المنون شاعرنا الفلسطيني راشد حسين الراحل احتراقًا في لندن، في هذا الصدد لا أتذكر أن سميحًا ردّ إنسانًا جادًا عن بابه، وكان مقره في حي واد النسناس في حيفا، ملتقى للأدباء والفنانين، هناك في مكتبه التقيت عددًا وفيرًا من فنانينا وكتابنا ممن لم أكن أعرفهم، بينهم الفنانة الممثلة بشرى قرمان رحمها الله، والشاعرة البارزة المرحومة فدوى طوقان ابنة مدينة نابلس التي توطّدت معها العلاقة فيما بعد. وعندما توقّف سميح عن تحرير مجلة الجديد انتقل ليدير المؤسسة العربية للثقافة والفنون من مكتبه في شارع الموارنة، وأذكر بكثير من الدفء انه بادر في تلك الفترة لإيجاد تمويل لإقامة مهرجان الفلولكلور الأول في الناصرة بالتعاون مع الصديقين فوزي السعدي مدير جمعية المهباج والشاعر سيمون عيلوطي، وقد انتدبني في حينها لتغطية وقائع هذا المهرجان أولا بأول، لينشر ما أكتبه تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية التي عمل فيها سميح أيضًا، محررًا فترة مديدة من الزمن.

عندما انتقل سميح إلى الناصرة ليعمل محررًا لصحيفة "كل العرب" تواصلت العلاقة بيننا، وأذكر أنني قمت بزيارته أكثر من مرّة في هذه الصحيفة، وأشهد أنه كان يفتح بابه لكلّ مَن طرقه، لا أتذكر أنه اغلق ذلك الباب بوجه أحد، وقد رافقته في هذه الصحيفة بنشري لعدد من المتابعات الأدبية الثقافية والفنية، بل إنه اقترح عليّ أكثر من مرّة أن أعمل معه وإلى جانبه، وأذكر أنني سألته في اللقاء الأول لي معه في مكاتب صحيفة كل العرب، عمّا إذا كان سيأتي من بلدته الرامة كل يوم الى الناصرة، فنظر إلي مستغربًا السؤال، فما كان منّي إلا أن حذّرته من الطرق وحوادثها، عندها ابتسم وقال لي لا تخف عمر الشقي بقي.. إلا أن ما حدث هو أن حادث طرق كاد أن يودي به وحدّ من حركته وقع له خلال تنقّله بين بلدته ومدينتي.

مما أتذكره عن سميح، أنني قمت قبل سنوات بالتعاون مع صاحب مجلة "الشرق" الفصلية الثقافية التي صدرت في شفاعمرو منذ السبعينيات الاولى، وتوقفت قبل سنوات عن الصدور، أقول إنني قمت بالتعاون مع الدكتور محمود عباسي، أمد الله في عمره، بتحرير عدد خاص عن سميح قدّمنا فيه مادة ضافية عن سيرته ومسيرته، كما قدّمنا فيه مجموعة اختارها هو ذاته من بين كتاباته، وأذكر أن سميحًا تعاون معنا إلى اقصى حدّ ليصدر العدد بحلة أنيقة تليق به وبالمجلة.

الشخصية الانسانية الحانية ميّزت سميحًا طوال عمر علاقتي به، وأذكر مما اتصف به من سعة صدر وتفهم عميق لمجريات الامور، أنني ضقت ذات يوم كما ضاق كثيرون سواي بالادعاء أن شعرنا في هذه البلاد اقتصر على ثلاثة أو أربعة أسماء، فكتبت سلسلة من المقالات أنعي فيها على هكذا حركة أدبية تتوقف على مثل هكذا كم من الاسماء، فما كان من سميح ألا أن قام بالثناء على تلك السلسلة من المقالات قائلًا إنه يوافقني الرأي وإن البلاد التي تتوقّف عن تقديم الشعراء تشبه المرأة العقيم التي لا تلد الابناء.. وبلادنا والحد لله بلاد حباها الله بالكثير من القدسية والعطاء.

هذا عن سميح الإنسان المثقف المُحرّر المشجع لكلّ موهبة ثقافية يقتنع بها، أما عن سميح الشاعر، فان الحديث يبدأ ولا ينتهي، ولعلّي أجد في هذه المناسبة المؤسية، مناسبة الحديث عن ذكراه، فسحة للتحدث عن علاقته بصديقه وأخيه الذي لم تلده أمه، شطر البرتقالة الآخر، الشاعر المرحوم محمود درويش، فقد ظهر كلّ منهما في نفس الفترة، وقد أعطيا الكثير وأحبهما الناس، كونهما شاعرين مبدعين يثيرهما ما يثير الجميع من أحداث سياسية جسام تمرّ بها بلدان العالم وبلادنا خاصة، وبعد أن غادر محمود البلاد في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، جرت مكاتبات بين الشاعرين تلقتها صحيفة "الاتحاد" أولًا بأول، ليقوم محرّرها الادبي في حينها الكاتب الصديق محمد علي طه بنشرها وليختار لها عنوانًا لافتًا هو " رسائل بين شطري البرتقالة"، وأذكر أنني عندما قام محمد علي طه بنشر تلك الرسائل كنت أعمل مساعدًا له في تحرير الصفحة الأدبية في الاتحاد، بل إننا تشارونا معًا في إطلاق عنوانها المذكور عليها، مع التشديد على أن طه هو مَن أطلق هذا العنوان اللافت عليها.

لقد رأيت دائمًا في سميح شاعرًا مبدعًا، وأذكر أن ندوة أقيمت في الناصرة في أحد أيام ذكرى الارض السنوية، شارك فيها أكثر من عشرة شعراء قدموا من أماكن ومواقع مختلفة من بلادنا، وكيف تألق سميح بينهم وكأنما هو من كوكب وهم من آخر، مع الاحترام لكلّ مَن كتب وقرأ في تلك الندوة.

إيماني هذا بقدرة سميح وتمكنه من ملكته الشعرية والابداعية بصورة عامة، دفعني لترداد رفضي لأية مقارنة بينه وبين شطره الآخر، الشاعر محمود درويش طابت ذكراه، وكنت أتذرّع برفضي لمثل هذه المقارنة، قائلًا إننا لسنا بحاجة للمقارنة بين أي شاعر وآخر، لأن لكلّ من الشعراء في عالمنا الرحب هذا، عالمه الخاص به، بل اختلافه عن سواه وهو ما يميّزه في عطائه، مشيرًا إلى أن لكل من شاعرينا قدرته المميّزة في القول الشعري، وان المطلوب منّا ألا نطلب من شاعر أن يكون نسخة من الآخر وإنما المطلوب منا أن نميّز الشعراء باختلافهم لا باتفاقهم.

رحم الله سميح القاسم، فقد أعطى الكثير وترك وراءه الكثير، وقد احسن رحمه الله بكتابته لسيرته الذاتية قبل رحيله بفترة وجيزة.. لتصدر في كتاب يمكِّن قارئه من معرفته أكثر. لقد عاش سميح القاسم حالته الشعرية حتى النخاع وأعطى الكثير، لهذا سيسجل اسمه بحروف من المحبة في أعلى قائمة شعرائنا الاماجد في بلادنا السخيّة المعطاء.

***

ناجي ظاهر

.................

*رحل سميح القاسم بتاريخ 19-8-2014

في مثل يومنا هذا من شهر تموز 2007 غادر عالمنا مدني صالح عن 75 عاماً، لكنه مازال يشغل المشهد الفلسفي والثقافي، وبقيت مقالاته ومقولاته ومقاماته وبحوثه وكتبه في الفلسفة والأدب والنقد والدرس الأكاديمي محط اهتمام تلامذته في الندوات والمؤتمرات الفلسفية وعلى صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وكثيراً ما كانت حياته وفلسفته ومواقفه مدار الحديث والاستذكار في مجالسهم الخاصة والعامة، فالرجل الذي كان في حياته بعيداً متعففاً عن الاحتفاء والاحتفال بشخصه، مكتفياً بنفسه عن الغير، آنفاً من دون تكبر، متواضعاً من دون ضعف، قوياً من دون طغيان، لم يكن يرغب أن يكون في موضع الاحتفاء والتكريم، ومدح المادحين، انسجاماً مع قناعته التي مفادها: الاكتفاء بالذات وحدها.. وذات مرة اعتذر عن حضور مناسبة احتفالية، فكتب لي رسالة قال فيها: وأرجو منكم أن تقبلوا مني استغلال هذه المناسبة لإعادة الاعلان عن نفسي بأني غير احتفالي غير منبري غير خطابي، إلاّ الاحتفال الدائم بالاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير.. لم يخرج عن ذلك إلا مرة واحدة حين دعوته للكتابة في جريدة الزوراء، وكنا في العام 1998 حين زارني يوماً ومعه مقاله الأول، وطلب مني بوضوح أن أقدمه للقراء بما يشبه « الزفة « احتفاءً وفرحاً بإطلالته عليهم بعد طول اعتكاف.

ومنذ رحيله، كُتبت العديد من المقالات والانطباعات، سواء من تلامذته المباشرين أو غير المباشرين، أو من عموم الكتاب والمتفلسفين ممن قرأوه أو سمعوا به أو صادفوه يوماً هنا أو هناك، وكلها تأتي في باب المديح والعجب والتعجب من هذا الرجل الظاهرة الذي تم الاحتفاء به بعد رحيله حين لم يرغب بالاحتفاء به في حياته، ومما أذكره أنه أُخبر يوماً أن هناك فكرة لإطلاق اسمه على مدرسة في الرمادي لكونه قد أكمل الدراسة الثانوية فيها، فما استساغها ولا تقبلها ولا شجعها، إنما سخر من هذه الفكرة ورفضها بشدة، وتهكم من واقع يحتفي بإسمه، وهو معتكف في غرفة متواضعة بقسم الفلسفة، شأنه شأن قرندل الذي هو من صنف «الذين يدقون الكبة ولا يأكلون، والذين يلطمون ولا يأكلون، والذين يزرعون ولا يحصدون».. ويعرف تلامذة مدني صالح المقربون أنه لم يكن في الصف الدراسي خطيباً، ولا متجبراً، ولا عنيفاً، ولا متسلطاً، ولا هازئاً، إلا من أولئك الذين يأكلون من دون أن يدقون، أو يلطمون، أو يزرعون، لذلك قَرَب إليه من تلامذته أولئك الذين كانوا ينتمون إلى الصنف القرندلي يومذاك، وهم أقرب الأصناف إلى نفسه، لأنهم يدقون ويلطمون ويزرعون، بلا ضجيج، ولا مباهاة، ولا ادعاء، ولا تزاحم على المكاسب والمراتب.. شأنهم شأن الذين يحضرون في موسم الزرع، ويغيبون في موسم الحصاد، أو هم من أخوة الحاج عَذاب/ فرايدي بمواجهة الصاحب المستر روبنصن كروزو المتفوق على الحاج فرايدي وعلى قرندل! .. « ومثلما يأكل روبنصن كروزو من مال فرايدي ويطعمه منه متفضلاً يأكل الصاحب المستر من مال الحاج عذاب ويطعمه منه متفضلاً «.. وبعد أن غاب مدني عن مسرح الحياة، طفحت بيادرهم في مواسم الحصاد، وفاءً وتبجيلاً لمعلمهم الروحي الذي ما كان ليسمح للقرندليين وهو حي، بحمل مناجلهم في مواسم الحصاد، تعففاً، وتواضعاً، وزهداً، واكتفاءً بالذات عن الغير، فقد حصد بعد رحيله ما لم يحصده غيره، وحصاده كان بمناجل تلامذته الذين أحبوه بتطرف، والتطرف هو: « سيد المواقف كلها في الصدق وأن تصدق الصدق كله، وفي الوفاء وأن تفي الوفاء كله، وفي الإخلاص وأن تخلص الإخلاص كله، وفي الحب وأن تحب الحب كله.. وإلا صرنا صيارفة في الصدق وفي الوفاء وفي الإخلاص وفي الحب، وصرنا صيارفة ضد كل طبائع الفضيلة والعدل والجمال ومنطق الاخلاق»  على رأي مدني صالح.

***

طه جزّاع – أستاذ فلسفة / بغداد

قبيل وفاته في عام 1993 عن 71 عاماً، كان قد القى محاضرة قال فيها ان " الفيلسوف الحق هو الذي يتفاعل مع ظروف حياته "، وقد مرت حياة محمد عزيز الحبابي بظروف عصيبة، كان عليه خلالها أن يَعبر حاجز خانق من المصاعب.على لسان بطل روايته " جيل الظمأ "، يخبرنا بان ليس امامه ان يختار: " بل هناك واجب محتم مقدس يرغمني أن أرى الضياء، وأريد أن أهرول إلى الهدف دونما نكوص. من المخزي أن أبقى نكرة في دنيا الفكر اجتر أنظمة وتقاليد لا أحياها. والويل لي إذا بقيت قابعا في زاويتي، غريبا في مدينتي ووطني".

 انتقل من دراسة الكائن الانساني الى البحث عن الشخصانية، للوصول الى الشخصانية الاسلامية، لينتهي الى اشاعة " الفلسفة الغدية.كتب كعادته بحماس مؤكدا ان فلسفته تتفاعل مع احوال حياة مجتمعه في مراحله ومحطاته الحاسمة، معلناً ان الفلسفة يجب أن تُكتب في نص جاد متكامل. لُقّب بالاديب الفيلسوف. كان همّه ان يقدم تصوره الفلسفي من خلال الادب متاثرا بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، الذي عُرف بدعوته إلى أن تكون الفلسفة أكثر انفتاحاً على أساليب تعبيرية جديدة. بدت الرواية بالنسبة لمحمد الحبابي المثال الأعلى لِمَن يريد الاشتغال في التعبير عن الواقع:" فالفن نظرة تتجلى في الصفاء البدئي.فالفنان، حينما يعيننا على الخروج من الفوضى الوجدانية والفكرية، يساهم، من بعض الجوانب، في تحررنا." – من الحريات الى التحرر -.

تدور " جيل الظمأ " التي كتبها بعد عودته الى المغرب عام 1958، ونشرها عام 1967 في ستينيات القرن الماضي، وتسجّل أحداثاً خاصة حيث نجد الحبابي يتقمص فيها شخصية البطل، واحداثا عامة عن الجيل الذي يناضل من اجل التغيير في مواجهة قئات اخرى غارقة في قضاياها الخاصة، منشغلة بالثراء والتواطأ مع الفساد. يقف بطل الرواية ادريس المهموم بقضايا بلاده، يعاني من التناقضات التي تحيط به ومن عزلة المثقفين:" أن كل مدينة يتهرب مثقفوها من تحمل المسؤوليات، لابد أن يسود فيها الظلم، ويسيطر الإفك: المجرمون يجدون من يبرر أفعالهم والأبرياء لا يأبه لهم أحد ".كان ابن خلدون معلم الحبابي الأول يقول عن الثقافة بانها:" مجموع الجهود التي تبذلها جماعة من الناس كي تصل إلى توحيد خبراتها و تكييفها مع الوسط الذي تعيش فيه، بحثا عن الانسجام في الأعمال "، وعندما يتعرض المجتمع لمحنة فان على المثقف ان يواجه الاحداث ويبحث عن الحلول، لأنّ رسالته هي التغيير، وهذا ما كان يشغل ابطال رواية " جيل الظمأ "، وهذا التغيير لن يحدث من دون الاعتماد على الانسان الذي هو الرأسمال الحقيقي للمجتمع، ومن دون الانطلاق من واقع المجتمع العربي. يكتب محمد عزيز الحبابي:"ان الافكار التي تقدم بها كتاب عرب معاصرون لم تنطلق كلها من واقع المجتمع العربي، بعد تحليله بلا مجاملة وبلا قبليات. ومن هنا فشلها. فالمحك لكل فكر هو مقدار علاقته بالواقع كما هو ايضا مقدار ما يتركه من صدى في وعي وسلوك الجمهور – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر –

يدخل الحبابي الى الفلسفة من باب السياسة. في باريس التي وصلها عام 1948 للدراسة بعد مرور عامين على تجربة السجن من قبل الفرنسيين انفسهم، يجد ان الثقافة الغربية تنظر باستعلاء الى كل ما هو عربي، في المقابل كان هذا الشاب نفسه يسعى الى فهم الثقافة الغربية، يقول انه عاش في تلك السنوات بشخصية مزدوجة، فهو يعيش في عالمين مختلفين حضاريا واجتماعيا. إنه يعيش " تمزقا عميقا بين مجتمعين يختلفان في اكثر من جانب "، فعانى بذلك من شعورا بالفراغ، وهو شعور دفع به الى التواصل، بدلا من العزلة، وبهذا التواصل، او الانفتاح على الآخرين، اكتشف ذاته. كانت الفلسفات الشائعة في فرنسا آنذاك الوجودية والماركسية، وكانت الاوساط الثقافية مشغولة بما يقدمه سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار، وبروز الحزب الشيوعي الفرنسي. الشاب الذي كان يبلغ 26 عاما ظل يواجه سؤالا وجوديا:" ان يكون او لا يكون "، كان بحثه الاول ان يعرف من هو وسط هذا المجتمع الذي يريد استلاب هويته مثلما استلب بلاده المغرب، فكان عليه ان يرسم مسارا جديدا لحياته من خلال الفلسفة التي ظل يؤمن بانها:" لن تكون ابدا مجرد تصنيف للعلوم والآثار. إن   ما هيتها الحق هي المجهود الذي نبذله حين نتأمل (والتأمل نشاط نقد وبناء في آن). على أن كل مجهود للنقد السليم، وإن لم يساهم في البناء، فإنه على الأقل، يفسح المجال للترميم " – من الكائن الى الشخص -. انها فلسفة تبحث في صلة الفرد بالاخرين وعلاقة الذات بالمجتمع. فالانسان يصر دوما ان يعرف " من هو ؟ "، ومن شأن هذه المعرفة ان ترسخ لديه القناعة بانه " شخص "، فان يوجد الإنسان معناه أن يكتسب القدرة على التشخصن لأن:" الكائن الانساني معطى خام يظهر ويصير، كلما ازداد اتجاهه نحو التشخصن. ونحو الاندماج في مجتمع من الاشخاص. فهو باقٍ كائنا وخاما ما لم يظهر للآخرين " – من الكائن الى الشخص –.  ان الانسان يلج الى هذا العالم مجهولا، لا اسم له، ولا ورقة هوية. ولكنه ما ان يندمج بالوجود، وفي اللحظة التي يتم فيها " تشخصنه "، ينقلب هذا الكائن المحهول إلى كائن تاريخي. فالتشخصن هو الكائن البشري الذي يحدد لنفسه حقل نشاطه، والمجتمع لا يعمل بنا بعصا سحرية او عن طريق نداء نخبة (كالاولياء والابطال)، بل يدفعنا دفعا الى النشاط والى تاكيد ذاته:" إن وجودي باعتباري كائنا بشريا، إنما معناه انني (كرامة)، وانني أعي ذلك، وأن الآخرين يقرون لي بذلك ويقرون لي بوصفي كذلك " - - كم الكائن الى الشخص.

***

يكشف لنا محمد عزيز الحبابي أن المعاناة هي التي ارشدته الى الفلسفة. يتذكر أنّه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره كان ذا مزاج كئيب، أرشده زوج خالته الذي ساهم في تربيته إلى وصفة يمكن أن تساعده في تخطي ما يعانيه، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة. تعلم من سقراط ان الفلسفة تساعدنا على تبنّي منهج البحث الدائم.وانها وصفة سحرية لمعرفة النفس، اكتشف من خلال جده الذي قام برعايته ان يفكر في تنمية قدراته، وان يجد لنفسه مكانا وسط هذا المجتمع القاسي.، ومن زوج خالته الشيخ محمد العلوي مبادئ واهداف وقيم دينية متنورة.وكانت اول الاسئلة التي يوجهها محمد الحبابي لنفسه: ما معنى الانسان؟ كيف عليه ان يتحول من مجرد كائن الى شخص مؤثر، وما هي الطريقة، وكيف نجدها ؟ ليجد الحلّ في الفلسفة التي هي حسب رأيه نوعا من انواع التمرد السياسي، لأنها تدعونا إلى أن نجد لانفسنا مكانا في مجتمع تتصارع فيه قوى كبرى تريد ان تستلب منا معنى العيش بكرامة.

ولد محمد عزيز الحبابي في الخامس والعشرين من كانون الاول عام 1922 في مدينة فاس، لم يمر عام على ولادته حتى توفيت امه، وقرر والده التاجر ان يتزوج لينتقل الطفل الصغير الى العيش في بيت جده عثمان الحبابي الذي كان استاذا في جامعة القرويين، وكان فقيها ويصفه الذين عرفوه بانه كان " فأر كتب "،، ويتذكر الصبي محمد أن الكتب كانت ترافق جده حتى حتى عندما يذهب الى مكان عمله، كان الجد يؤمن باهمية التعليم، فادخل حفيده الى الكُتاب ليحفظ القرآن ويتعلم اصول القراءة والكتابة، بعدها يدخل المدرسة الابتدائية، ثم ثانوية مولاي ادريس في فاس، في هذه السنوات، ينتمي الى حركة سياسية تاسست عام " 1939 " باسم " الحركة القومية " والتي تحولت فيما بعد الى " حزب الشورى والاىستقلال "، وكانت هذه الحركة التي ضمت نخبة من الشباب المثقف، تطالب بالغاء معاهدة الحماية الفرنسية، وتنادي باستقلال المغرب، وعلى اثر مشاركته في تظاهرة كبيرة شهدتها فاس عام 1944 تم اعتقاله وطرده من المعهد الذي كان يدرس فيه، وحكم عليه بالسجن لمدة عامين، اطلق سراحة بعد ثمانية اشهر بسبب سوء حالته الصحية حيث تعرض الى ضربات شديدة في الرأس، يقرر عام 1946  السفر الى باريس ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، كانت فرنسا قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية، وبدأت الجامعات الفرنسية تحاول اعادة الروح الى الفكر الفلسفي. كانت فلسفات الوجودية والماركسية والعدمية تشهد رواجا كبيرا، وامتلأت مقاهي باريس بحوارات عن الوجود، الحياة، الانسان، الوعي، الحرية، الالتزام، القلق، العبث.كما شهدت المقاهي والتجمعات الثقافية حوارات حول دور الفلسفة في المجتمع والالتزام الانساني للمثقف. وقد وجدت هذه الموضوعات اهتمام لدى الشاب الحبابي الذي كان يبلغ من العمر آنذال " 24 " عاما "، يقرر بمساعدة عائلته دراسة الفلسفة في السوربون على نفقته الخاصة بعد ان رفضت سلطة الاحتلال منحة بعثة دراسية، في الوقت نفسه يدخل معهد الاداب ليدرس اللغة والادب، على مدى سنوات اقامته في باريس حرص على قراءة المشهد الفلسفي فاستهوته فلسفة برغسون، الفيلسوف الذي توفي قبل خمسة اعوام من وصول الحبابي الى باريس، لكن فلسفتة ظلت حاضرة كونها خاضت صراعاً مع الأفكار السائدة في الفلسفة لتقدم أسلوبا جديدا في فهم العالم المحيط بنا، والذي يقوم على الحدس والغريزة، اطلق عليه برغسون تسمية " الوثوب الحيوي "، حيث اراد برغسون ان يحتفي بتجربة الفرد التاريخية الذكية والنشطة، كتغير مستمر حيث:" الكائن يتحدد عن طريق الديمومة: الكائن هو ما يدوم ". الفيسوف الثاني الذي تأثر به كان ايمانويل مونييه الذي نشر عام 1935 كتابه " الثورة الشخصانية " وهو الكتاب الذي قلب مفاهيم الحبابي الفكرية، كان مونييه المتوفي عام 1950 قد اصدر عام 1932 مجلة متخصصة بالفلسفة الشخصانية التي ظهرت ما بين الحرب العالمية الاولى والثانية، وكان هدفها الدفاع عن قيمة الانسان " الشخص ".يكتب مونييه:" إنه يكفي لكي نحدد وضعا شخصانيا، أن نفكر بأن كل شخص له معناه، حتى إنه لا يمكن أن يحل محله آخر في المكان الذي يحتله في عالم الأشخاص. تلك هي العظمة الرائعة للشخص الذي تمنحه كرامة عالم من العوالم، وتمنحه تواضعه في الوقت نفسه، وذلك لأن كل شخص معادل له في هذه الكرامة، ولأن أعداد الأشخاص أكثر عددا من النجوم." الشخص جسب مفهوم مونيته وفلسفته الشخصانية "ذاتٌ "متميزة، يرفض ما هو سائد ويسعى إلى إقامة مجتمع جديد، من خلال عملية اسماها " التشخصن " والتي هي عبارة عن حركة مستمرة للتحرر من كل عبودية داخلية أو خارجية، في إطار الجمع بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي، وقد أكد مونييه على هذه العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع، أي بين الفرد والمجتمع، فالفيلسوف الشخصاني هو الذي يسعى لتحقيق الكمال لذاته، لينخرط فيما بعد في علاقة متكافئة مع اللآخرين وهي علاقة يسميها مونييه " فاعلة وليست منفعلة "، وكان مونييه يرى ان تجربة " التشخصن " ليست عامة، فلا يحياها، بشكل متميز، إلا تخبة الناس. لم يتسنى للحبابي التلمذة على يد مونييه فقد توفي الفيلسوف الفرنسي عام 1950، لكن ستتاح لمحمد عزيز الحبابي خوض حوارات حوال الفلسفة الشخصانية من خلال الكتب التي اصدرها مونييه اثناء دراسة الحبابي وكان ابرزها كتاب " ماهية الشخصانية " الصادر عام 1947، حيث يجد الحبابي أن فلسفة مونييه بذلت مجهودا كبيرا:" لفرض الانسان على العالم وإدماجه في العالم، مع الحرص ان يتميز الانسان عن العالم " – من الكائن الى الشخص –. كان مونييه قد اعلن انه لم يكن يسعى " لدراسة الانسان فقط، بل أردنا ان نحارب من اجله ". ستتاح للحبابي فرصة المشاركة في المؤتمر الذي اقامته مجلة " فكر " عام 1948 والذي تم فيه تحديد المهام الاساسية للشخصانية.

لم ينشغل محمد الحبابي بالفلسفة الفلسفة عن العمل، فقد كانت النقود التي تصله من المغرب قليلة وسرعان ما تتبخر، وكان عليه ان يقسم وقته بين العمل والدراسة، إلّا أن هذه الصعوبات لم تمنعه من التفوق بالدراسة، فحصل عام 1945 على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون عن اطروحته " من الكائن الى الشخص: دراسات في الشخصانية الواقعية " وقد صدرت الاطروحة في كتاب بالفرنسية عام 1949، بعدها سيقدم عام 1956 اطروحته الثانية بعنوان " من الحريات الى التحرر "،التي ستصدر ايضا بالفرنسية بمقدّمة للفيلسوف ومؤرخ الفلسفة موريس غونديلاك. بعد استقلال المغرب يعود الحبابي الى بلاده، يعمل بالتدريس ويساهم بتأسيس اتحاد كتاب المغرب حيث يتولى رئاسته للفترة من " 1959 " الى 1968، يعين عميدا لكلية الاداب والعلوم الانسانية، ويرأس الجمعية الفلسفية في المغرب، يتم ترشيحه لحلئزة نوبل للاداب بدعم من الاكاديمية الفرنسية، في سنواته الاخيرة تتفاقم عليه الامراض التي رافقته طوال حياته بسبب ما تعرض لم من اصابات اثناء فترة سجنه، ليتوفى في الثالث والعشرين من ايلول عام 1993.

****

من بين المفكرين العرب في القرن العشرين، أمتلك محمد عزيز الحبابي مشروعه الفلسفي المتفرد، من خلال موضوعه الموسع الذي رافقه طوال حياته: " الشخصانية "، حيث واصل العمل على وضع نظرية فلسفية تُمكن الانسان العربي من التأمل في انسانيته. يتساءل الحبابي: ما هي الفلسفة ؟ ويكون جوابه:" كل افعال الانسان موضوعات للتأمل الفلسفي، وكل فعل يطالب الفلسفة بأن تنير له الاهداف والطرق، وتبتعد عن الفكر الاسطوري وتزيل الحجب عن رؤية الواقع كما هو " – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر -. ولهذا يرى الحبابي ان من وظائف الفيلسوف أن يعلمنا الوسائل لاثارة الانتباه والتمسك به.، كما ان من خصائصه اأن يمتلك " القدرة على الربط بين الفكر والفلسفة ". ووظيقة الفلسفة ان تنقلنا الى افق التحرر اولا، ثم السعي الى اثبات الذات. دخل محمد عزيز الى الفلسفة عن طريق تراكم خيبات الامل التي رافقت حياته السياسية وما تعرض له من حرمان وأسى خلال حياته، فكانت الفلسفة كما يقول اشبه بطوق نجاة لبعث الأمل في نفسه، فقد مارس الفلسفة لانه لم يجد يديلا اصلح منها. كانت الفلسفة محاولة لبعث الامل وتجديده وطريق يسلكه " الكائن " المُستعمر ليتحول الى الشخص ثم يرتقي الى الانسان المتحرر، بعدها سيتطلع هذا الانسان المتحرر الى " الغد "، حيث يكشف التفكير الفلسفي للحبابي عن تطوره، فمن المهم ان يتطلع الانسان الى فلسفة حديدة تذكره بحقيقة الشرط الانساني المطلق، وهو شرط يتمثل في اجتماعية الإنسان، فالانسان " كائن اجتماعي " كما وصفه ارسطو وأكد عليه ابن خلدون في مقدمته:" الانسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الإجتماع ". يكتب محمد عزيز الحبابي أن:" اصالة ابن خلدون تكمن في الجهود التي بذلها لاجلاء البعد المجتمعي في تكوين إنسانية الكائن البشري " – ابن خلدون معاصرا ترجمة فاطمة الحبابي -.كان الحبابي يرى نفسه مثل ابن خلدون، فصاحب المقدمة تعرض ايضا لمصير مليء بالاحداث والمتغيرات " ولم يكن لطموحاته المتنوعة نظير ". هذه الطموحات كانت هاجس الحبابي الذي جعل من فلسفته الشخصانية رحلة متواصلة للتطوير والتجديد، فكان لا بد ان يبحث عن فلسفة جديدة اسماها " الغدية " لينشر عام 1980 كتابه عالم الغد: العالم الثالث يتهم " وفيه يرى ان النظر إلى عالم الغد يتطلب منا ان نسير في ثلاثة مسارات متوازية، اولها: استقصاء ودراسة اهم ازمات عصرنا في صلتها بالقيم، والثاني: البحث عن الوسائل الكفيلة بتجاوز هذه الازمات والسعي الى ما اسماه " تطهير الوضع " والمسار الثالث: النظر في امكانية مساهمة الاسلام في حل ممكن لهذه الازمات، وقد كان الحبابي يرى ان الاسلام الحقيقي علاج لبعض انحرافات الحداثة،مثل النزعة النفعية الضيقة، كما ان الاسلام: " يوفر امكانات عملية لضمان انسجام في وجود بني البشر وتعايشهم في اطار مجتمع انسي " - الشخصانية الاسلامية. في كتاباته يشير الحبابي الى نوعين من القيم: القيم الروحية والقيم الاخلاقية.. وقد كان يرى ان القيم الانسانية في ازمة بسبب ما يعانيه الانسان من " الفراغ والتيه "، الامر الذي يؤدي الى تفكك الروابط الاجتماعية. ولذا كان الحبابي يدعو الى " اخلاقية جديدة " تعيد الى الضمير الخلقي مكانته، وتعطي للشخص توازنا جديدا. فهو يرى ان ازمة الانسان المعاصر ناجمة عن التخلي عن القيم، فقد تحول الانسان في زمن الحداثة الى " فاوست " يبيع روحه لأقرب شيطان من اجل الظفر بمكاسب باطلة وواهية:" ان البشرية فقدت الحس بكنة الاشياء ومقياسها، وصارت الاحاسيس البشرية متيبسة ومتشققة، واستحال الشغل من مؤنس الى مستعبِد، ومن محرر الى استعبادي " – محمد سعيد الحبابي.. من المنغلق الى المنفتح –

ما بين " الشحصانية " و " الغدية "، ثمة رابط هو محمد عزيز الحبابي المفكر الذي تميز بالتنوع والاختلاف. ان القارئ لمؤلفات الحبابي سينتبه الى ان فلسفته مكونة من حلقات متصلة جميعها تبحث في الوجود والقيم وعن الحرية والتحرر ومجابهة ازمات مجتمعه، فالفيلسوف لا يمكنه ان يتفلسف ويلتزم إلا من خلال مجابهته لتاريخ شعبه، لان الفيلسوف:" مثقف نوعي، لامثقف شمولي يتحمل اعباء الدفاع عن قيم الجميع، ولو راودته فكرة التحول الى المثقف الشمولي لكان مثله كمثل من يتحمل عبء تنظيف بيوت الآخرين بينما لا يجد من ينظف بيته " – من الحريات الى التحرر –".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

انتُقِلَت، منتصف الأسبوع الماضي، الدكتورة حليمة بوكروشة، الأكاديمية الجزائرية التي عرفناها من خلال دراساتها القيّمة، في حقل "أصول الفقه"، وبعض حقول العلوم الإسلامية والقانونية الأخرى، وكانت وفاتها في ماليزيا، حيث تعمل، مند سنوات عدة، أستاذةً في كلية الحقوق بالجامعة الإسلامية العالمية بالعاصمة (كوالالمبور).

وقد كانت أول دراسة وقفتُ عليها للدكتورة الفقيدة حليمة بوكروشة، بنت الجزائر العزيز، في بداية معرفتي بها، قبل حوالي عقدين، وهي تلك التي تناولت فيها تجديد المنهج الفقهي عند الإمام الشوكاني (ت1250ه)، وصدرت في كتاب ضمن سلسلة كتاب الأمة، تحت عنوان: "معالم تجديد المنهج الفقهي: أنموذج الشوكاني"، وأظهر قدراتها العلمية العالية وإمكاناتها البحثية الرصينة، مع أنها كتبته وهي في بداية رحلتها البحثية، فهو -في أصله- رسالتها التي نالت بها درجة الماجستسر، من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ثم حصلت على الدكتوراه من نفس الكلية والجامعة، قبل أن يتم اختيارها للعمل ضمن الهيئة التدريسية في الجامعة.

وبعد اطِّلاعي على دراستها المشار إليها آنفًا، حول الشوكاني، وأنا في آخر مشوار المرحلة الجامعية الأولى (البكالوريوس/ الليسانس)، فقد كنتُ أحرِص بين الحين والآخر، على البحث عن اسمها، في شبكة الإنترنت، للاطِّلاع على ما يمكن أن يكون قد نُشِرَ لها من نتاجات بحثية، قناعةً بأنّها ستأتي على مستوىً عالٍ من الدقَّة والجودة، وما وقفتُ على دراسة لها، إلا وتأكّد لي ذلك.

ومع أني كنتُ مهتمًّا بتتبُّع نتاجاتها المنشورَة، بين الحين والآخر، فإني لم أعلم بجوانب من حياتها إلَّا اليوم؛ فهي مشتغِلة نشطة في العمل الدعوي والإصلاحي ببلادها، منذ ما قبل تمام العقدين من عُمُرها، وكانت لها نشاطاتها الطيبة في الدوائر النسوية، ثم استمر نشاطها هذا في ماليزيا، وكانت لها محاضراتها ودروسها في أكثر من لغة، بعضها متاحة على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت).

وتعزيزًا لما تمَّت الإشارة إليه سابقًا، بخصوص نتاجاتها البحثية؛ فإن لها ما هو متاح على الشبكة، في مجلات علمية ماليزية وجزائرية وغيرها، منها ما هي منفردة بها، ومنها ما هي بالاشتراك، ومن بحوثها المشتركة ما اشتركت به مع زوجها الدكتور سعيد بوهراوة، الذي له هو الآخر من النتاج البحثي الذي يعرفه به باحثون في الفقه وأصوله.

وبحكم أنّ الدكتورة الفقيدة متخصصة في الأصول، وهو الحقل الذي كان فيه الإمام الشافعي (ت204ه) رائده الأول، فقد أبدت اهتمامها به، وممَّا نعرفه لها عنه: "رسالة الإمام الشافعي: بحث في دواعي التأليف"، و"محدِّدات الشخصية الإبداعية عند الإمام الشافعي"، و"الإمام الشافعي والتأسيس للمنهجية الأصولية"، وهذه دراسات دقيقة عميقة، من أجود ما دُرِس به الإمام الشافعي ورسالته الرائدة، ولا سيّما أن رسالتها للدكتوراه دارت حول هذا التأسيس الأصولي عند الإمام الشافعي.

وتوجد للدكتورة حليمة دراسات تكشف حرصها على الجمع في منهجها العلمي بين التأصيل والتجديد، على نحو ما تشير إليها دراستها حول "إشكالية المنهج الأصولي في الفكر الاجتهادي المعاصر"، إضافةً إلى مناقشة قضية من القضايا التي دارت البحوث حولها، في عصرنا الحاضر، بخصوص تفعيل العلاقة بين منهج أصول الفقه ومناهج العلوم الاجتماعية، فكتبت حول "إشكالية التكامل بين مناهج العلوم الاجتماعية والمنهج الأصولي: عرض وتقويم".

وكانت الدكتورة الفقيدة مهتمّةً بالإسهام في دراسة القضايا ذات الصلة بالأسرة، ومما لها يندرج تحت هذا: "قضايا معاصرة في شؤون الأسرة وحمايتها وفق مقاصد الشريعة"، و" تقويم منهجي لمعالجة قضايا الأسرة"، و" العنف الأسري: مدخل للفهم وآليات للتجاوز"، و"الوساطة القضائية في القضايا الأسرية في ماليزيا: تحديات التطبيق وآفاق التطوير".

وتفاعلت الدكتورة مع الدراسات المقارنة بين الشريعة أو الفقه من جهة والقانون من جهة أخرى؛ فنُشِر لها: "الأمن البيئي بين الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية"، و" التحكيم الإلكتروني والقانون الواجب التطبيق في مجال المعاملات الإلكترونية"، و"الوساطة القضائية في تسوية المنازعات في القانون الأردني: دراسة تحليلية نقدية"، و"الجرائم الإلكترونية: ماهيتها وأنواعها والتشريعات القانونية لمواجهتها في القانون العماني"، و"التكييف القانوني لتقنيات التناسل المساعدة: دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون"، و"حرية الرأي والتعبير بين القانون المصري والشريعة الإسلامية"، مع العلم بأن بعض دراساتها في هذا المجال بالاشتراك، مع باحثين كان لها إشرافها عليهم في الدراسات العليا.

وللدكتورة حليمة -رحمها الله- تناولات بحثية لقضايا في باب ما يُعرَف بحقل "الاقتصاد الإسلامي"، منها: "المالية السلوكية في المنظور الإسلامي"، و"حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية: تجربة البنك المركزي الماليزي"، و"مستقبل المالية الإسلامية في ظل تصورات نظام الحوكمة والحوكمة الشرعية"، وكلتا هاتين الدراستين الأخيرتين بالاشتراك مع زوجها د.سعيد بوهراوة.

وأسهمت الدكتورة في تقديم قراءات ومراجعات لبعض المؤلّفات؛ فقد وقفتُ، قبل سنوات عدة، على مراجعتها كتاب "الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد" للأستاذ زكي الميلاد، ونُشِرَت المراجعة في"مجلة إسلامية المعرفة"، ومما وقفتُ لها عليه مؤخّرًا مما يندرج تحت هذا، مراجعتها كتاب "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المعاملات المالية المعاصرة" الذي تضافر على تأليفه مجموعة أساتذة، أحدهم زوجها د.بوهراوة.

رحم الله الفقيدة الدكتورة حليمة وغفر لها وعفا عنها وأسكنها فسيح جناته، وعظّم لأهلها وذويها الأجر، وعصم قلوبهم بالصبر..

"إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"..

***

د. صادق وجيه الدين - أستاذ الفكر الإسلامي المساعد

كلية الآداب- جامعة إب

(الوطن هو ما لا يستطيع الإنسان تحمله عندما يعيش فيه، ولا يستطيع نسيانه عندما يبتعد عنه).. هيرتا موللر

صنفت باعتبارها من "أعداء الشعب"، لأنها تنتمي الى الأقلية الألمانية، في بلاد مثل رومانيا كانت السلطات تعتقد أن هذه الأقلية مسؤولة عن فظائع النازية.. هيرتا موللر المولودة في إحدى قرى رومانيا في السابع عشر من آب عام 1953، تتذكر حكاية أمها التي سيقت عام 1945 إلى روسيا للعمل خمس سنوات في المزارع الشعبية لتعود عام 1950 حليقة الرأس، هزيلة يلتصق جلدها بعضامها، بعد ستين عاماً تقرر موللر أن تعيد نسج حكاية أمها من خلال روايتها"أرجوحة النفس "، وسيكون البطل رجلاً "ليوبولد أوبيرغ"، الذي يعتقل ضمن مجموعة من شباب القرية من أصول ألمانية ليُرحل إلى إحدى المناطق في روسيا، هناك يتعرض إلى أقسى أنواع الإذلال والتنكيل، إلا ان وصية جدته التي قالت له حين تمّ تسفيره : "إنه سيعود حتماً الى بلاده "، تجعله يصر على الاستمرار في الحياة ومواجهة المصاعب بإرادة قوية ورغبة في العيش بحرية.

يروي أوبيرغ تفاصيل حياته في المعسكر، وتتداخل معها حكايات رفاقه لتتحول الرواية إلى حكايات عن أيام العذاب والقتل ونجده في لحظات اليأس ينسى وصية جدته ويتمنى لو يموت ليرتاح من عذاب الأسر اليومي

تقدّم هيرتا موللر في روايتها "أرجوحة النفس" عبر أربعة وستّين فصلاً، صورة متكاملة عن التهميش الذي يتعرض له الإنسان، وكيف يتم تحطيم الناس لمجرد الاختلاف معهم في الهوية والعرق.. تتذكر أنها ملأت أربعة دفاتر مدرسية وهي تستمع لحكايات العائدين من المعسكرات الروسية التي فيها كانت تلغى الاسماء لتتحول إلى "هو، وهي"، فالبشر : "نصف الجائعين ليسوا ذكوراً ولا إناثاً، إنهم بلا جنــس كالأشياء". وبطل الرواية يصر على أن يتجاوز محنته وأن ينجو من قبضة الظلم :"إنني نجوت من قبضته... إنني أتناول الحياة حرفياً". قالت موللر إنها كتبت هذه الرواية : "تخليداً لأصدقائي الذين قتلوا بسبب الظلم والتمييز " .

لم يكن من وجود للكتب في منزل أهلها. توفي والدها وهي صغير’ بعد ان جُند في الحرب العالمية الثانية . تقول في حوار معها : "الوحيد، الذي امتلك مكتبة، كان أحد أعمامي، صاحب القناعة النازية. مكتبة، احتوت بالتأكيد على مختلف مؤلفات الفكر النازي، فقد اتصف بكونه أيديولوجيا قرويا مجنونا. حينما مات في "ساحة القتال" سنة 1945، ووصل الروس الذين اقترفوا كل أنواع الفظاعة داخل قريتنا، تحولت جدتي إلى كائن مرعوب. أساؤوا التقدير، كي يميزوا بين الكتب المورِّطة من غيرها، فألقوا بها كلها في موقد، ما منحهم إمكانية التدفؤ لمدة يومين. لقد عشنا، رعبا شديدا " .

كانت موللر في الثانية عشرة من عمره عندما تولى تشاوشيسكو السلطة عام 1965،  بينما كانت تدرس الأدب الألماني والروماني في إحدى الجامعات في أوائل السبعينيات. تعرضت للضغوط من الأجهزة الأمنية للتعاون في تقديم معلومات عن زملائها : "كان أحد هذه الضغوط هو أن والدي كان يبلغ من العمر 17 عاماً عندما انضم إلى قوات الأمن الخاصة. لقد فكرت، أنا في عمره لكنني واحدة مختلفة. لا يمكنني الاعتراض على ما فعله. لكنني لن اتحول إلى مرآة له " .

في سن المراهقة كتبت مجموعة قصائد، لكن ذات يوم قلت لنفسي :"هذا يكفي، كل العالم بإمكانه أن يفعل ما أقوم به ثم توقفت. ولم أعاود الأمر، إلا بعد مرور فترة طويلة " اصبحت بعد سنوات واحدة من حلقة المثقفين المستقلين، تعرضت إلى مضايقات من الأجهزة الأمنية، وعندما أصدرت أول كتاب لها العام 1982 وكان مجموعة قصصية بعنوان "المنخفضات"، وضعت الرقابة يدها عليه ومنعته. ولم يمض عامان حتى صدرت هذه المجموعة في ألمانيا. وفي هذه القصص، تصف هيرتا الحياة البسيطة في قريتها التي عاشت فيها طفولتها، هاجمتها الصحافة الرومانية واعتبرتها خائنة، منعت من العمل في الصحافة، فاضطرت الى العمل مترجمة في مصنع حتى العام 1979. ولم تلبث أن صُرفت من عملها جراء رفضها التعاون مع الأجهزة الأمنية..تم تسفيرها بطريقة غير شرعية لتصل الى المانيا برفقة زوجها عام 1987، عندما سقط نظام تشاوشيسكو عام 1989 حاولت الرجوع الى رومانيا لكن السلطات الالمانية حذرتها :"ظنوا أنني قد  لا اعود حية ثانية". شاهدت محاكمة الرئيس الروماني تشاوشيسكو من على شاشة التلفزيون، تألمت لمشهد إعدامه :"بكيت طوال هذا اليوم، لا يمكنك مشاهدة شخص يُطلق عليه النار. على الرغم من أنني كنت أتمنى ذلك لمدة 20 عاماً، لم أكن أريد حقاً رؤيته " .

عندما حصلت على جائزة نوبل للاداب عام  2009  صرحت موللر للصحفيين بأنها لم تكت ترغب أبدًا في أن تصبح كاتبة. عندما كانت طفلة، كانت تحلم بالعمل كخياطة، لكنها بدأت بالكتابة بدافع الخوف. ارادت ان تمزج بين المهنتين الخياطة والكتابة لتصبح "  خياطة للكلمات، كتاباتها تبدو للقارئ احيانا غامضة لكنها حادة وجارحة .فيما اكد بيان لجنة جائزة نوبل للاداب بان :" كتابات موللر قد عكست حياةَ المحرومين بتركيزِ لغة الشعر، وصدقِ ووضوحِ لغة النثر"

احتفلت ميللر في بيتها الواقع في احدى ضواحي برلين بعيد ميلادها الـ " 70 " قالت لمراسل دير شبيغل ان كل ما كتبته ومازلت اكتبه هو الدافاع عن المظلومين واضافت ساظل أكتب حتى لو لم يكن هناك سوى شخص واحد في هذا العالم يتعرض للظلم .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كل شيء عند سامي ينضح بالشعر، وكل ما يلمسه ينمو قصيدة. عرفته ونحن نركض هاربين من مخيم "كرج" بطهران، وسامي مثل عصفور يتلفت مذعوراً من كل وجه بشري. يتكسر تحت أقدامنا جليد الخوف، ونعانق مناخاً أبيض، حيث الوفر والأشجار والجبال ورؤوس البشر. تركنا الأهل في بغداد ينوحون متناثرين، يبحثون عنا في صور وأسماء الشهداء والمفقودين والأسرى، ولكن ضباط وحداتنا العسكرية يعرفون أننا هاربون، حين قرأوا ما كتبناه على أخمص بنادقنا: يا بني لو دارت المعركة، ورأيت أن جبانها يكر وشجاعها يفر فاعلم أن في الأمر ريباً.

هكذا كان يهيم في شوارع برلين، يصرح بفم الكون بعد سقوط صنم بغداد: "أنقى من الهواء دخان طاغية يحترق"!

ما أسعدك وأنت بلا أرملة، ولا يتامى. بقيت هارباً من زواج يفسد بيضاتك في كهوف درب التبانة. نهشتك الغربة بأنياب ومخالب السعالى حتى توزعت أشلاؤك في مدن المنافي، وها أنت تجمعها قطعة قطعة، لتموت بكامل وطنك، وترتاح.

بيني وبينك، حسناً فعلت وأنقذت نفسك من هذا النزيف الصاخب، وأنت ترى بغداد سبية الميليشيات، والأحزاب، وكلاب دول الجوار المسعورة تتناهش بلدك، ولا تجرأ أن تقول: (أخ)، لئلا يزعل القادة السياسيون فيوبخونك: أخجلتنا مع الجيران.

أحسدك يا سامي على نعمة الموت، فالحياة غدت فخ صبيان: أن أبقى طوال عمري ألوك حذاء عدوي، فلا أستطيع رميه ولا ابتلاعه. هكذا هي الحياة، فخ، فردة حذاء قديم لعدوك لا يفارق فمك. بل حتى فرحة سقوط صدام فخ أمريكي.

كنا نجلس في مقهى القدر، عند حافة العالم، ونلعب شطرنج الخلاص، ونغيب عن الزمان والمكان فأقول: الشعر هو أن تعجز عن قول ما تريد قوله، أن تطير اللغة وتتلاشى كلماتها وتتبخر فلا يبقى سوى روح الكلمات، وأشباح وأطياف بهذه الأرواح والكلمات المخفية، يمكن صياغتها إلى لغة أخرى مشعة، فتتكشف هنا القصيدة.

يقفز سامي ويضحك ممداً فوق الغيوم، ويقول: الشاعر العبقري هو الذي لا يعرفه أحد، ولا ينطق ويكتب حرفاً واحداً، يعيش بأحاسيسه وروحه وعقله، وبلا مبالاة يمسك حصاة ويصنع منها مركبة فضائية.

عن يقين شفاف مثل جنح فراشة كنت أعرف يا سامي أن لن يرثيك أحد سوى اثنين أو ثلاثة من الخلان،  ممن تلمسوا روحك فأزهرت أيديهم. كنت تخاف من أن تنفيك عصابة (سالاري) في مخيم كرج بطهران الى (سمنان)، فتموت وأنت حي، ويعشوشب الصبر على قدميك. كنا نحصي الجميلات الفاتنات في شوارع طهران، نتزاحم على عيونهن كي نحظى بنظرة، وتحط عصافير الغرام في أعشاش وجهينا، ودائماً نفوز بخسارة الوقت، الوقت الضائع سلفاً من جيوب حياتنا الممزقة. نتراهن على أي فتاة أجمل هذا اليوم، نحن الجياع الى نظرة شفقة من عيون لا تعبأ بكل ما حولها، ودائما نخسر الرهان في ابتسامة شامتة تفقأ عيوننا فلا نرى سوى الحب الجالس هناك بثياب رثة، تحت عمود الكهرباء في شارع "ناصر خسرو"، حب يستجدي أغنية تسقط من تقب القلب. نرى نساء بوجه صباحي، ونساء ربات بيوت، ونساء بوجه مسائي، ونساء عفيفات بوجه مريم العذراء، مع وجوه نساء مغريات تشع أجسادهن بالرغبة والإغواء، هل نحظى بامرأة تكتنز بكل هذه الوجوه؟

وبقينا نزوغ ونتملص من عصابة "سالاري"، تساعدنا كل أنواع الطيور في طهران، التي تعرف ما تحت الجُبة، وما يحدث تحت القبة، وجميع من سقط في فخ العمامة لن يخرج الا مشنوقاً، يتدلى بين السماء والأرض.

واليوم فزت بالرهان، أن لا يرثيك سوى اثنين من الخلان، وكذلك سوف أفوز غداً بالرهان على موتي حيث يتزاحم جمهور غفير من  اللامبالاة، وهذا جل أمنياتي، هناك في سرير القبر. توسَّد يا أخي نعمة التراب الوثير، واحلم بقصيدة تتزين كل ليلة على مرأة القمر، وتنام في النهار بأحضان الشوارع، قصيدة شهرزاد الأبد، لا تشيخ ولا تموت، يومياً تحكي لنا عن حبيبة سيزيف وهي تسقط من قمة اللذة إلى سفح الهيام، ويحملها بالقبلات المتلاحمة المتلاهبة حتى الوصول إلى قمة اللذة. هكذا تحلم بالقصيدة وأنت تتملص من أطفال التراب الصاخبين حولك، والمتشبثين بأذيال روحك.

آنذاك أدركت وأنا أرى سامي بأن الشعر: هو ذلك الطفل المدفون بحصى عالم الكبار، وما يزال يكافح للخروج، وإنقاذ نفسه، لاحتضان روحه حتى يكتمل لم شتات الذات.

أحسدك يا سامي وأنا مطعون أترنح، وقد شربت كأس الفقد حتى الثمالة، أقول: حسناً فعلت، فالقبر أرحم من جنة العلَّاسة والعيارين، الذين يتجارون بالأعضاء الداخلية للثقافة. لا أحد منهم يصحو في الصباح ليرى خلايا الفقراء ينبشون المزابل، ويتبعثرون في مساطر العمالة التي شبعت مفخخات وأحزمة ناسفة، فأمريكا جعلت العراق مكباً لمزابل الإرهاب. لا يصحو العلَّاسة والعيارون إلا بعد الظهر، وفي الليل يطوفون سكارى حول جيفة اللغة.

آخ يا سامي! لم تشبع من وجه أمك بغداد يوم كنت ملاحقاً من ضباع البعث، ويوم شوه وجهها الأنذال بتيزاب الدين، والقومية، وحرية أمريكا العنقودية والمنضبة. مسكين! جئت تركض من برلين، يغطي جسدك وعينيك عشب الحنين، وتحمل بيدك بلسم الحب، لكنهم صادروه، واقتلعوه بأول سيطرة جهادية.

ركضنا العمر كله يا سامي، وحين وقفت تسترد أنفاسك انفجر تحت قدميك لغم الفراق، فبقيت وحدي أركض على إيقاع الفناء، أسمع وقع خطاي في دمع القمر، ودائماً ينبع شبحك حين أتعب، فيلكزني حتى لا أتوقف. يضحك، ويحثني على الركض، ويهمس: كل وقوف موت، الجميع يركض من الذرَّة الى المجرَّة. يذوب سامي على جلدي ويدخل مساماتي، وأسمع آخر صيحة مع ضحكة: الحب ركض أبدي.

***

نصيف فلك

روائي وشاعر من العراق

اليوم أكتب عن عاشق من عشاق اللغة العربية والفلسفة الإسلامية، أحب أن استمع إليه وأقرأ له، إنه الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور الذي اتخذ من "مجمع اللغة العربية" منبرًا لأفكاره وتقاليده واتجاهاته وفلسفته في النظر إلى الأشياء، حيث تبوأ على صفحاتها مقعد المعلم والأستاذ الذي جلت مكانته بين تلاميذه، فكان أستاذ جيل، وأصل ما انقطع من رسالة الدكتور طه حسين، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور صلاح فضل في الحفاظ على جماليات اللغة العربية، فقد كان الدكتور عبد الحميد مدكور عاشقًا لها، غيورًا عليها، حظيًا بها .

وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته ومقالاته وأحاديثه ؛ حيث كان أسلوبه وكلامه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة ؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات .

وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً وأنساً مع شيء من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همسًا . ومع هذا أسلوب علمي يتضمن صياغات في ثوب أدبي رفيع قشيب.

لا أنسى كلمته بالملتقى العلمي الرابع عشر الذي عقدته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء اليوم الأحد، بالجامع الأزهر تحت عنوان: "اللغة العربية.. لغة كتاب وهوية أمة"، حيث قال : إن اللغة العربية تحتاج منا إلى جهد كبير في الدفاع عنها، وصبر وتحمل لكل ما يقال عنها على غير الحقيقة، وتُتهم به بغير عدل.. موضحًا أننا إذا حملناها وأحسنا حملها، فإننا سنرفع مقامنا برفعة مقامها، ونعلوا إلى الآفاق بعلوها، ونرتقي آفاقًا عليا في كل مجال بلسانها وفصاحتها وبلاغتها، ونغترف من بحرها العميق الذي ليس له نظير في اللغات، زيادة في مفرداته وجودة تراكيبه، وانتظام قواعده، وتفكر في البيان والجمال الذي يعرفه من أحس حلاوة هذه اللغة وذاق طعمها، وارتقى بمقامها بما يجيده منها وبما يحسن به التعلم منها.

وقد أشار الدكتور عبد الحميد مدكور، إلى أن كل التراث الإنساني تُرجم إلى اللغة العربية، ووسعته تلك اللغة وعبَّرت عن كل علومه، فهي المفتاح الذي تُدرس به سائر العلوم التي عرفتها البشرية.. موضحًا أن اللغة العربية التي تربَّت على القرآن الكريم وسُنة نبيه العظيم تفتقت على علوم ما كان للناس عهد بها قبل أن يُنزَّل القرآن الكريم، فهي تعبر عن سياق ثقافي وعلمي وإبداعي يجب أن يكون الناس عليه.. مؤكدًا أن اللغة العربية لغة فخر ومجد وعراقة وإبداع، يجب علينا أن نعود إلى أصلنا العربي، وإلى هذه الدرة الغالية التي حملناها من أجدادنا، لتكون هي المجد للإسلام وللعروبة كلها.

وخلص الدكتور مدكور إلى أن اللغة العربية لا يصح أن نقتصر في الاحتفال بها على يوم كل عام، بل يجب أن نحملها في قلوبنا، وأن نجعلها على ألسنتنا، وأن نُسكنها عقولنا وذاكرتنا، ونستحضرها في كل مقام، تعبيرًا عن مشاعرنا وتسجيلًا لخواطرنا، وبيانًا لعلومنا ومعارفنا التي نكتبها.. موضحا أن اللغة العربية تشرَّفت بنزول القرآن الكريم بها وبكونها لغة النبي الكريم.

ونظرة في سيرته العطرة فنجده أنه قد وُلد في الأول من أغسطس من عام 1942م في قرية باسوس القريبة من القاهرة، وكانت الظروف السائدة بها – آنذاك يغلب عليها الالتحاق بالتعليم الديني في الأزهر الشريف؛ ولذلك اتجه منذ وقت مبكر إلى حفظ القرآن الكريم لدى واحد من أكبر محفظي القرآن الكريم في مصر كلها، وهو الحاج فرج عبد العاطي وأتم حفظ القرآن في العاشرة من عمره، ونال لذلك جائزة التفوق على مستوى محافظة القليوبية.

ثم التحق الدكتور مدكور بمعهد القاهرة الديني في الدراسة، وهو في الحادية عشرة من عمره، وكان من أصغر الذين التحقوا به، وقد كانت الدراسة به تجري على أيدي صفوة من العلماء، الذين كان بعضهم حاصلًا على الدكتوراة، ومن هؤلاء: الدكتور عبد المنعم النمر، والدكتور موسى شاهين لاشين اللذان أصبحا وكيلين للأزهر فيما بعد، والدكتور أحمد الشرباصي الذي كان رائدًا لجمعية الشبان المسلمين والأستاذ محمد فتحي عبد المنعم. وكان وجوده بها يشجع الطلاب على الذهاب إليها، والاستماع إلى العلماء الكبار الذين يلقون المحاضرات بها، من أمثال الشيخ محمد أبي زهرة، والدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ محمد الغزالي، واللواء محمد صالح حرب، رئيس الجمعية وآخرين ويسر الله له طريق التفوق، فكان من أوائل دفعته، لاسيما في المرحلة الثانوية.

وقد اتجه إلى إتمام دراسته العليا في كلية دار العلوم، التي اتصل بعلومها وكتبها قبل أن يلتحق بها، وكانت أسماء أعلامها الكبار تتجلى أمام ناظريه، داعيةً وجاذبةً له إلى أن يكون من بين أبناء هذه الكلية العريقة، التي كانت تتميز من بين المؤسسات المعنية بدراسة علوم اللغة والشريعة – بجمعها بين القديم والجديد – أو ما عُرِف بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكان اتصال كثير من أساتذتها بالدراسات الحديثة في الشرق والغرب يزود أبناءها بحصيلة ثمينة من المعرفة الإنسانية الرفيعة، التي ليست متاحة – بهذا القدر – من العمق والتنوع، والجدة في غير دار العلوم، وأُضيفَ إلى هذا الرغبة في الدراسة على منهج لا يتوقف عند الطرائق القديمة، التي يغلب عليها الطابع الشكلي الذي يكتفي في أحيان كثيرة بالجوانب اللفظية للنصوص، مع التعمق في افتراض المشكلات، واقتراح الحلول، ولكنه رغب – في أن يجمع إلى ذلك الاتصال بالفكر الحديث ومناهجه المتطورة، التي كان يرجع بها هؤلاء الأساتذة الدارسون في الجامعات الأوربية، وهكذا التحق بهذه الكلية، وأسعده الله بالتفوق فيها فكان أول زملائه أو الثاني بينهم، وكان من فضل الله عليه أنه لم يتأخر عن أحد هذين الموقعين. وقد أنهى الدراسة بمرحلة الليسانس بالحصول على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1966م.

ثم اختير الدكتور مدكور للدراسة بقسم الفلسفة الإسلامية الذي كان يرأسه عميد الكلية المغفور له بإذن الله تعالى – الأستاذ الدكتور محمود قاسم، وهو أحد العمالقة الكبار الذين أنجبتهم كلية دار العلوم وقد كان ذا منزلة رفيعة بسبب شموخه العلمي، وقوة شخصيته، وتمكن النزعة النقدية لديه ونتاجه العلمي الغزير: تأليفًا وترجمةً وتحقيقًا، إلى فضائل خلقية وعلمية كثيرة، يضيق المقام عن ذكرها، وكان لهذا كله أكبر الأثر في التكوين العلمي لمن يدرسون على يديه، وقد درس كذلك على يد نخبة من أكبر أساتذة الفلسفة، ومنهم الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، والدكتور علي النشار، والدكتور محمد علي أبو ريان، والدكتور أحمد غراب، والدكتور محمد كمال جعفر. كما كان – عندما اتجه إلى دراسة التصوف- على صلة وثيقة بالدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر فيما بعد.

وفي أثناء العمل في الدكتوراه أتيحت للدكتور مدكور فرصة السفر إلى فرنسا مدة من الوقت التقى فيها بعديد من الأساتذة، وعلى رأسهم الأستاذ روجيه أرنالديز، وانتهت هذه الفترة بالحصول على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم 1980م، بدأت بعدها أعباء التدريس والقيام بالبحوث العلمية. وقام خلال عمله بمصر بتدريس الفلسفة الإسلامية فى كلية دار العلوم وفي كليات: الألسن بجامعة عين شمس، وكلية التربية بجامعة قناة السويس، وكلية الآداب بجامعة طنطا، والدراسات العربية والإسلامية بالفيوم، والآداب والتربية بجامعة المنوفية، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكلية الشريعة بجامعة اليرموك بالأردن 2005م، وأصول الدين بجامعة العلوم الإسلامية العالمية بالأردن 2010/2011، ومعهد الدراسات العربية بالقاهرة – العام الجامعي 2014/2015، 2015/ 2016م، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة - العام الجامعي 2014/2015، 2015/ 2016م. انتُخب أمينًا عامًّا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ نوفمبر عام 2016م، وأمينًا عامًّا لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية منذ عام 2017م، بعد رحيل الشاعر الأستاذ فاروق شوشة.

وللدكتور مدكور مؤلفات كثيرة نذكر منها : أبو طالب المكي ومنهجه الصوفي، الولاية عند محيي الدين بن عربي، دراسات في علم الأخلاق، نظرات في حركة الاستشراق، في الفكر الفلسفي الإسلامي: مقدمات وقضايا، بواكير حركة الترجمة في الإسلام، دراسات في العقيدة الإسلامية.، نظرات في التصوف الإسلامي، في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، دروس في الفلسفة الإسلامية.. إلخ .. بالإضافة إلى مقالاته وبحوثه العديدة وتحقيقاته في الفلسفة الإسلامية وفي الدعوة إلى الإسلام وفي الدفاع عنه والتي لا حصر لها .

وقد قال عنه الدكتور محمد حسن عبد العزيز عضو المجمع:"ما ذكرناه من إنتاج الدكتور عبد الحميد مدكور يكشف عن عالم محيط بالفلسفة الإسلامية بمختلف فروعها واتجاهاتها في القديم والحديث. وإنك لتجده من المناطقة حين يكتب في المنطق، ومن المتكلمين حين يكتب في علم الكلام، ومن المتصوفة حين يكتب في التصوف، ومن الأصوليين حين يكتب في الأصول، وهو في كل ما يكتب واسع الأفق عميق النظرة واضح الهدف. بيد أن ما يبهرك حقًّا معرفته الواسعة العميقة بالتصوف الإسلامي في صورتيه الفلسفية والسنية وهذا واضح في رسالتيه عن أبي طالب المكي ومحيي الدين بن عربي وواضح أيضًا في دعوته الصريحة إلى الاستفادة من تجارب الصوفية في الأخلاق وفي تحليهم بآداب الطريق. والدكتور عبد الحميد مدكور رفيق طريق في دار العلوم وفي المجمع، يحظى بحب كل من يعرفه ولهذا ندعوه فيما بيننا - نحن أصدقاءه - مولانا الصغير تمييزًا له عن مولانا الكبير الدكتور حسن الشافعي، ونحن كلنا نكنُّ لهما كل الحب والتقدير".

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقومات شخصية الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة واللغة والثقافة العربية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب- جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1- إيهاب زغلول: عبد الحميد مدكور: اللغة العربية يجب أن نحملها في قلوبنا، الأحد، 18 ديسمبر، 2022 - 8:14 م.

2- انظر ما كتب عن عن الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة واستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، مجمع اللغة العربية بالقاهرة - الصفحة الرسمية.

كانت دار المعلمين العالية التي تأسست في بغداد عام 1923 مفخرة للتربية الراقية والتعليم الرصين، وما من مدرس وعالم وأكاديمي مرموق في العراق أو البلاد العربية، إلّا وكان يتشرف للتدريس فيها، فضلاً عن الأساتذة الأجانب، ومن بين الذين اتيحت لهم مثل هذه الفرصة في العام 1937 الباحث والكاتب المصري زكي مبارك صاحب الكتاب الشهير» ليلى المريضة في العراق»، وهو من أولى محاولات تحليل الشخصية العراقية وأزماتها، لكنه كُتب بأسلوب أديب وخيال عاشق. وعندما جاء مبارك إلى دار المعلمين العالية، وعرف أنها تعرضت للإغلاق وإعادة الافتتاح أكثر من مرة، سعى لترسيخ تقاليد علمية رصينة فيها، وإقامة النشاطات العلمية والثقافية من أجل لفت عناية الحكومة العراقية لهذا المعهد ليصبح منافساً قوياً لكلية الآداب بالجامعة المصرية، وفق ما ذكره في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «عبقرية الشريف الرضي» الذي أصدره عام  1938.

كان كتاب الشريف الرضي واحداً من أهم ثمار وجود محمد زكي عبد السلام مبارك في بغداد، وهو مجموعة المحاضرات التي ألقاها في قاعة كلية الحقوق، والتي يعدها من أشهر المواسم في حياته: « فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر، ولكنها من أشهر بغداد، لا أشهر القاهرة ولا باريس، وما كان لي في بغداد لهوٌ ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدْر خيراً من ألف شهر»، وهو يشير بذلك إلى كتابيه النثر الفني في القرن الرابع الهجري الذي أخرجه في سبع سنين، والتصوف الإسلامي الذي أخرجه في تسع سنين. أما لماذا اختار الشريف الرضي موضوعاً لكتابه هذا الذي كان باكورة خطة اخراج الدار لكتاب سنوي عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل،، فلأنه كان يعتقد أن أدباء بغداد لم يهتموا كثيراً بشعره، مثل اهتمامهم بشعر المتنبي، بل أن العراقيين لا يعرفون مكان قبره على وجه التحقيق، وفي معرض دفاعه عن تعصبه للشريف الرضي يذكر أنه قال لعباس محمود العقاد يوم أخرج كتابه عن ابن الرومي: « كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار الشريف الرضي»، مثلما يقول أنه نبه طه حسين « إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث: لأن له خصائص ذاتية لا نجدها عند أولئك الشعراء»، وعندما طلب منه نادي الموظفين في القاهرة سنة 1932 أن يلقي محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية، كانت محاضرته عن الشريف الرضي. كما أزعجه أن يهتم أنيس المقدسي في كتابه عن أمراء الشعر في العصر العباسي: « بأبي العتاهية وينسى الرضي، مع أن ديوان أبي العتاهية لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف « !. بل يصل في اعجابه وتعصبه لشعر الرضي إلى جعله أفحل شاعر عربي، وفي ذلك يقول: « سيرى قراء هذا الكتاب أني قد جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟ وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلّا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!. وهو كما ترون جواب توفيقي حاول فيه مبارك أن يتخلص من احراج التصريح برأيه في الشريف والمتنبي ومكانتهما الشعرية، سيما وأنه لم يؤلف كتاباً عن المتنبي حتى يوم وفاته في القاهرة أوائل العام 1952، ومع جوابه هذا يحاول أيضاً أن يقدم ما أسماه بالقول الفصل في هذه القضية، وخلاصة قوله: « أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي».!! .

 يتناول زكي مبارك في كتابه «عبقرية الشريف الرضي» مقامه بين شعراء القرن الرابع الهجري، وأعوام البؤس في حياته، وصلاته بخلفاء بني العباس وبالوزراء والأمراء والملوك، والأصدقاء والأعداء في حياته، واسرار العلاقة الإنسانية والأدبية التي ربطته بأبي إسحق الصابي، وغرائب الوفاء عند الشريف الرضي وثقافته وغرامياته وعفافه وحجازياته. كما يتناوله كاتباً ومؤلفاً، وأهم ما تركه لنا في هذا الباب، جمعه وترتيبه لكتاب « نهج البلاغة «. كما يشرح الأحوال الثقافية في بغداد وصورتها في ذلك القرن، وهي صورة تتمثل في قول الصاحب بن عباد في خطابه إلى ابن العميد : بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد، و» وقد شاءت الظروف أن يعيش الشريف الرضي في القرن الرابع، وبعقل القرن الرابع، وشاءت الظروف أيضاً أن يكون من أسرة لها في العلم والأدب ماض جميل، ثم قضت بأن يكون الشريف الرضي نقيب الأشراف في زمن لم يكن فيه للأشراف عرش ولا تاج، وإنما كان لهم مجد العلم والأدب والبيان». وكان زكي مبارك يظن أن بغداد، لا تعرف جيداً المكانة الشعرية لشاعرها الفقيه الشريف الذي ولد في بغداد وفيها عاش حتى وفاته عن 46 عاماً، كما كان يظن أن هناك من يأخذ عليه مثل هذا الاهتمام والتعصب للشريف الرضي .

« سيذكر أدباء بغداد أنني أحييت شاعراً هو من ثروة العروبة وثروة العراق، سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية، حين اهتممت بشاعر كان أصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد «. هكذا يكتب زكي مبارك .

***

د. طه جزّاع

رحم الله الصديق الباحث الادبي الراحل محمود رجب غنايم (22 أيار عام 1949 وتوفي يوم الجمعة 13 آب عام 2021)، فقد كان دارسًا جادًا وباحثًا مميزًا، وزّع اهتماماته العلمية على جبهتين هامتين جدًا، هما: التعليمية والبحثية. في الجبهة الاولى تخرّج على يديه البيضاوين السخيتين المئات وربما الآلاف من الطلاب المتأثرين بمنهاجيته العلمية الصارمة، التي استقت نسغها من منهجية أخرى مميزة تمثّلت في منهجية استاذه الصديق المرحوم ساسون سوميخ، وتنمّت عبر مجهود خاص تواصل طوال أيام حياته ولياليها لتطوير الذات ومدّ أبناء الاجيال الطالعة الجديدة بكلّ ما هو منهجي وعلمي.. لا يرضى بالقشور الخارجية للأشياء وإنما يتغلغل في أعماقها ليكشف عن مكنوناتها وخفاياها، أما على الجبهة الاخرى فقد قدّم الراحل الكريم اجتهادات مميزة تمثّلت في دراساته العلمية الرزينة التي حرص على إصدارها في كتب محبةً لها وخشية عليها من إلا تصل إلى عناوينها الصحيحة وربّما رغبة في بقائها شاهدة على أنه كان هنا وأراد أن يُقدّم ما يفيد الناس مبتعدًا عن كلّ غثاء.

لن أتحدّث هنا عن جبهته الاولى، فقد كفّى طلابُه من عارفي فضله ووفوا، ونشروا، منذ انتشار رحيله المؤسي، العشرات من الشهادات وكلمات الرثاء، وإنما سأتحدث عنه دارسًا وباحثًا رافقته خلال مسيرته المديدة مع الدراسة والبحث، منذ بداياته الاولى في أوائل السبعينيات حتى لحظاته الاخيرة.

كما اسلفت، عادت علاقتي بالراحل الكريم إلى بداياته الاولى وأذكر في هذا المجال أنني كلّما كنت أزور صديقي الشاعر الراحل ابن عمه محمد حمزة غنايم، كان هذا الاخير يقترح علي أن نتوجّه لزيارته في بيته القائم قريبًا من مدخل بلدته باقة الغربية، فكنّا نتوجّه إلى هناك لنلتقي بعدد من الأصدقاء، منهم من رحل ومنهم من بقي ومنهم من أقعده المرض، ونأخذ في التحدث في امور الادب والادباء حتى ساعات متأخرة من الليل، واذكر من اصدقاء تلك السهرات كلًا من الصديقين المرحومين فاروق مواسي وجمال قعدان – الاصمعي. منذ اللحظات الاولى لعلاقتي به أيقنت أنني إنما التقي انسانًا جادًا مجتهدًا ، ويبدو أنه هو أيضًا رأى فيّ شيئًا مما رأيته فيه، ما وطّد العلاقة بيننا أكثر فأكثر.

كتب فقيدنا وأصدر خلال عمره العديد من الابحاث والدراسات، أشير إليها للشهادة والتوثيق نقلًا عن الموسوعة الالكترونية ويكبيديا .. هي: 1980 "بين الالتزام والرفض - دراسة في شعر عبد الرحيم محمود". * 1987 في مبنى النص": دراسة في رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، *1992تيّار الوعي في الرواية العربية الحديثة"- دراسة أسلوبية*. 1995المدار الصعب- رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل". *2000 "مرايا في النقد- دراسات في الأدب الفلسطيني". * "2004 الجديد في نصف قرن- مسرد ببليوغرافي". * 2008 The Quest for a Lost Identity: Palestinian Fiction in Israel. * "2015غواية العنوان: النص والسياق في القصة الفلسطينية". * 2015- The Lure of the Title: Text and Context in Palestinian Fiction, 1948-2012.* بالإضافة إلى عشرات المقالات في المجلات المتخصّصة بالعربية والعبرية والإنجليزية. نشر غنايم مقالاته حول الأدب العربي الحديث في العديد من الصحف والمجلات المحلّية والعربية والعالمية: في صحيفة "الأنباء" و"الاتحاد" ومجلة "الشرق" و"الجديد" و"لقاء" و"مشاوير" و"الكرمل" (جامعة حيفا) و"المواكب" و"مواقف" و"مشارف" و"המזרח החדש" و"الناقد" و"أدب ونقد" وPoetics Today, Arabic and Middle" " Eastern Literatures وغيرها. كما شارك في تحرير عدة مجلات أدبية في فترات مختلفة، مثل: "الجديد"، "لقاء"، "الشرق"، وبقي حتى يوم رحيله عضوًا في هيئة تحرير سلسلة "دراسات عربية وإسلامية"، التي تصدر عن قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل أبيب، ومحررًا لمجلة" المجلة" التي تصدر عن مجمع اللغة العربية في حيفا.

*بعد رحيل صديقي الشاعر محمد حمزة غنايم توقّفت اللقاءات مع فقيدنا الغالي محمود غنايم، لتتواصل عبر هذا اللقاء الادبي أو ذاك، وقد توزّعت على جانبين أعترف أنهما اثلجا صدري وأثارا سروري، أحدهما خلال تولّيه منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب عام 1985 خلفًا لأستاذه ساسون سوميخ طيّب الله ذكراه، والآخر عبر دراساته ومؤلفاته القليلة لكن كبيرة الفائدة، فقد وجّه في الجانب الاول العديد من طلّاب قسم اللغة العربية لدراسة بعض مما انتجته في المجال السردي، وبرز من هؤلاء الطالبة الفنانة التشكيلية المجتهدة مها أبو حسين، أما في الجانب الآخر، فقد كان كثيرًا ما يفاجئني بالإشارة العارفة المطّلعة والمدركة إلى وجودي كاتبًا قصصيًا مجتهدًا، وهو ما سبق واشار إليه في العديد من الدراسات والابحاث الصديق ساسوسون سوميخ، وقد كان من أوائل من التفتوا إلي وإلى إنتاجي السردي، فكتب عن مجموعتي القصصية " جبل سيخ"، وخصّ قصتي "الكنز" بإشارة خاصة، لافتًا إليها الانظار، وأذكر أنه يوم اهداني كتابه " المدار الصعب"، وبعده بسنوات مديدة كتابه " غواية النص"، قال لي بالحرف الواحد، اقرأ هذا الكتاب ففيه لك نصيب الاسد.

للتأكيد أكرّر ان المرحوم كان في كلّ ما مكتبه دارسًا جادًا وباحثًا مميزًا، ولفت اهتمامي منذ اللحظات الاولى لقراءتي دراساته أنه يواصل السير على خطى استاذه المرحوم الدارس المبدع ساسون سوميخ، لا سيما في رأيه ان العديدين من الساردين العرب في بلادنا انما يكتبون وعينهم على النقاد في العالم العربي، غير أنه ما لبث أن تعمّق في دراساته هذه فاستقل بآرائه المتوغّلة في أعماق النصوص المدروسة ليستخرج منها ما يراه ملائمًا ومناسبًا من ملاحظات لا أخفي أنني كثيرًا ما اختلفت معه فيها، إلا أنني لم امتلك إلا أن احترم اجتهاده المخلص الخاص، ومما اعترف بتقديري له من هذه الآراء واقرّ باختلافي فيه معه أيضًا، أنه رأى في مجموعتي "جبل سيخ"( صدرت عام 1989)، نوعًا من التقوقع في جرح التهجير الفلسطيني وهذا تعبيره حرفيًا، فيما ضمّته المجموعة من قصص، وهو ما اختلفت معه فيه وأذكر أنني أوضحت موقفي منه في أكثر من مناسبة وكتابة وتمثّل هذا الموقف/ الرد، في أن الكاتب لا يمكن أن يبتعد مهما حاول عن واقعه المحيط به وجراحه الخاصة بشخصه، أضف إلى هذا أن الكاتب لا يملك أكثر من حياة واحدة وتجربة واحدة ليكتب بعيدًا عن ذاته وهمومه الشخصية الخاصة به، وهو ما ردّ به الكاتب الامريكي المبدع ارنست همنجواي عندما واجه موقفًا نقديًا مماثلًا. اختلفت أيضًا مع الفقيد في رأيه حول الشعارية – نسبة إلى الشعارات- في "جبل سيخ"، ففي حين رأى هو أن المجموعة ضمّت شيئًا من الشعارات، رأيت في المقابل أنه ليس المهم أن ما ينطق به شخوص القصص يقارب الشعارات، وانما الاهم هو أن تكون تلك الشعارات، إذا صدقت الصفة، موظفةً في خدمة النصّ وفي سياقه، وقد اعتمدت في رأيي هذا على أن النص السردي يُعتبر في المجمل وحدةً واحدة واننا يُفترض عند دراستنا له وبحثنا فيه ألا نبتعد عن هذا.

مهما يكن الامر، أجمل فأقول، إن المرحوم كان فعلًا لا قولًا فحسب، دارسًا جادًا وباحثًا ادبيًا مميزًا، لهذا أقول في ذكراه الثانية.. ان خسارتنا فيه جاءت مضاعفةً وضربةً موجعةً. الراحل الغالي محمود غنايم. سيفتقدك طلابك، وسوف يفتقدك اصدقاؤك اكثر.. وانا واحد منهم.. فنم قرير العين.

***

ناجي ظاهر

في يوم صدور الطبعة الثالثة لديوان الكرخي 20 آب 1988 زارني السيد حسين حاتم حفيد الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي ليهديني نسخة منه، وهو الذي عنى بجمعه وطبعه في أربعة أجزاء، ولم يُكتب له أن يكمل بقية الأجزاء فقد وافاه الأجل في شباط 2007 .لم يكن الراحل حسين الكرخي وفياً لتراث جده فحسب، إنما أولى عناية فائقة بتقديم شروحات وافية لكل قصيدة ومناسبتها مع هوامش لشرح بعض الكلمات والالفاظ التي يصعب على القارئ غير البغدادي فهمها، وهو الخبير باللهجة البغدادية واصدر فيها كتابه «مجالس الأدب في بغداد» مع كتاب آخر عنوانه « أصول الألفاظ البغدادية الخارجة عن التداول» الذي سلمه ورثته إلى دار نشر عراقية مرموقة بعد تعاقدهم معها منذ سنوات وضاع أثره ولم يصدر إلى يومنا هذا. والحق فإن ديوان الملا عبود الكرخي يُعد مرجعاً لا غنى عنه لمعرفة الأحوال السياسية والاجتماعية المحتدمة لاسيما في حقبة تأسيس الدولة العراقية والعقود اللاحقة التي بزغ فيها نجمه حتى وفاته في العام 1946، وكذلك لمعرفة طبيعة العلاقات بين الساسة والبرلمانيين والأدباء والشعراء والصحفيين والأحزاب في العهد الملكي، فقد كان الكرخي وطنياً صلباً ومعارضاً شرساً لكل أشكال الاستعمار والهيمنة والتبعية والفساد وثائراً ضد المعاهدات التي تخل بالسيادة، سواء في شعره التهكمي الساخر اللاذع، أو في الصحف التي أصدرها « الكرخ « و» الكرخي» و» الملا « و» المزمار»، وكانت له رسائل ومساجلات ومجاملات عديدة مع رجال عصره المتنورين أمثال جميل صدقي الزهاوي والأب انستاس ماري الكرملي وفهمي المدرس ومعروف الرصافي وعلي الشرقي ومحمد بهجة الأثري ورفائيل بطي وغيرهم، هي بمثابة شهادات بحق الملا وشخصيته المبهرة.يكتب فهمي المدرس عام 1933 عن الكرخي بأن أسلوبه جمع بين لغة العوام وما يقارب اللغة الفصحى تدريباً للعوام على الفصيح من القول، وهو أسلوب حديث في الأدب العالمي، فيما وجه الزهاوي في العام 1932 قصيدة « إلى شاعر الشعب» يقول فيها: (عبود) ان عُدت الافذاذ في بلد / فأنت في أول الأفذاذ معدود. ويطلق عليه رفائيل بطي لقب أمير الشعر العامي، ويخاطبه الأب الكرملي في رسالة شخصية قائلاً: سيدي الأستاذ المحبوب الملا عبود الكرخي عمره الله، مع أن هذا الذي يخاطبه الكرملي بكل هذا الاجلال والتقدير متعلم تعليماً بسيطاً بحيث يحسن القراءة والكتابة ولذا ترى على شعره مسحة من اللهجة الفصحى كما يقول الرصافي، ويضيف: وشعره المسموع اذا هو أنشده أشد تأثيراً في النفوس من شعره المقروء في الصحف وهو على الهزل أقدر منه على الجد، ويوجه له أبياتاً عنوانها « إلى شاعر الأمة « يبدأها بالقول: لله درك يا (عبود) من رجلٍ/ يا رافعاً في القوافي راية الزجلِ. بل أن المطرب محمد القبانجي قال بأن أحمد شوقي طلب منه أن يغني شيئاً من الشعر الشعبي العراقي، فقرأ له أبياتاً من «المجرشة» فما أن استوعبها شوقي حتى جن لسحرها وروعة بلاغتها وأبياتها فطلب المزيد « فغنيتُ : ساعة واكسر المجرشة / والعن أبو راعي الجرش». ويقال أن القبانجي عندما وصل في غنائه إلى «هم هاي دنيا وتنگضي / واحساب أكو تاليها»، همس له شوقي» ده عتاب شريف مع الرب يا محمد». لو كان الملا عبود يعلم بأن فكرة عمل تمثال له قد طُرحت مطلع السبعينيات، وان امانة العاصمة قررت في العام 1985 وضع التمثال قرب بيته بمنطقة الشواكة، لكن ذلك كله لم يتحقق فعلاً حتى اليوم، لكتب قصيدة ساخرة لاذعة على سياق: ساعة واكسر المجرشة / وانحر على طرّة (عفچ)!، وبالمناسبة فإن القصيدة المتداولة كثيراً هذه الأيام عن البرلمانيين ولازمتها « قيم الركاع من ديرة عفچ « منسوبة خطأً إلى الملا عبود، وهي في الحقيقة للشاعر سامي عبد المنعم الذي نسج على منوال قصائد الكرخي. والحديث عن الملا يطول، أما مناسبته فهو تواصلي مؤخراً مع صديق عزيز نسيب لأسرته، من أجل اهداء مكتبة المرحوم حسين حاتم عبود الكرخي إلى المركز الثقافي البغدادي لتكون في متناول الباحثين والقّراء .

***

د. طه جزّاع

روبرت أوبنهايمر (1904/1967)أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين يعود إلى واجهة الأحداث العالمية عبر الفيلم السينمائي الذي سيخرج إلى صالات العرض يوم 21 يوليو 2023 تحت عنوان"أوبنهايمر" من كتابة وإخراج كريستوفر نولان والفيلم يحكي قصة العالم الشهير المقتبسة عن كتاب السيرة الذاتية "بروميثيوس الأمريكي انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر" الذي ألفه الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج . شيروين واقتضى أكثر من عشرين عاما من الإعداد حتى استحق جائزة بوليتزر الأمريكية وقالت اللجنة بشأنه (في هذه السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر نتعمق في شخصية إحدى الشخصيات البارزة في القرن العشرين وهو فيزيائي لامع قاد جهود بناء القنبلة الذرية لبلاده في زمن الحرب والذي وجد نفسه في وقت لاحق في مواجهة العواقب الأخلاقية للتقدم العلمي).3565 اوبنهايمر

إنه يغوص في قصة صعود العالم وسقوطه وهو المعروف بالطموح والنجاح العلمي في مواجهته للسياسة الأمريكية ببراغماتيتها ومكيافليتها، إذ لما تغلب فيه صوت الضمير وانحاز للجانب الإنساني على مطامح الشهرة والنجاح انتهى نهاية فريدة بين العلماء وكأنه بروميثيوس قابس النار الذرية التي أشعلها ثم احترق بنارها وكان أحد ضحاياها في خاتمة المطاف. وكأننا بهذا الفيلم المقتبس عن هذه السيرة نغوص في أعماق التاريخ الحديث من تطور العلم إلى الحرب العظمى إلى الحرب الباردة وأسندت البطولة إلى الممثل الأيرلندي كيليان مورفي في دور أوبنهايمر في حين أسند دور الزوجة كيلي إلى الممثلة إيميلي بلنت ويفاجئ الفيلم متابعيه بانفجار نووي بلا مؤثرات بصرية وقد كلف أكثر من مئة مليون دولار ويوزع بواسطة شركة يونفرسال بيكشرز وسيحتاج إلى 400 مليون دولار لتحقيق أرباح في جميع أنحاء العالم.

فمن هو هذا العالم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وجعلت هوليود من سيرة حياته فيلما تتطرق من خلاله إلى أهم أحداث القرن العشرين فضلا عن تعمق الجوانب النفسية والإنسانية والسياق التاريخي الذي عاش فيه هذا العالم؟

أوبنهايمر اليهودي والألماني الأصل ولد في نيويورك عام 1904 لأب تاجر ثري وأم فنانة تشكيلية أظهر تفوقا منذ صغره وولعا بدراسة الفيزياء ونال البكالوريوس من هارفارد عام 1925 كما درس بكامبريدج وكان من مدرسيه العالم الشهير طومسون وأخيرا حط الرحال بمدينة العلم غوتينغن في ألمانيا وبجامعتها التي مر عليها 45 عالما من حملة جائزة نوبل، درس على يد العالم الشهير ماكس بورن وأشرف بورن شخصيا على أطروحته للدكتوراه عام 1927 وربطته في غوتينغن صلات فكرية وعلمية بماكس بلانك وهايزنبرغ وأينشتاين ليتقلد حين عودته إلى أمريكا منصبا أكاديميا مرموقا في جامعة كاليفورنيا بيركلي ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيات وتعرف له مساهمات وأبحاث في ميكانيكا الكم منها تقريب بورن- أوبنهايمر ودراسات عن النجوم النيوترونية والثقوب السوداء التي تنبأ بوجودها عام 1935، فهو باختصار الأب المؤسس للمدرسة الأمريكية للفيزياء النظرية ويطلق عليه كذلك لقب أب القنبلة الذرية.

وكان أينشتاين قد وجه رسالة إلى الرئيس روزفلت يؤكد له فيها حقيقة الانشطار النووي وسعي النازيين إلى امتلاك السلاح الذري وأنهم جادون في ذلك، وإذا لم تبادر أمريكا إلى امتلاكه فسيكون الأوان قد فات، وتعد هذه الرسالة من العالم الشهير جرس إنذار جعل روزفلت يحث الخطى ويسابق الزمن للمضي قدما في تنفيذ رغبة أينشتاين التي تحولت لاحقا إلى ما يعرف باسم مشروع مانهاتن عام 1943 وهو الاسم الرمزي لإنتاج القنبلة الذرية بتعاون من كندا وإنجلترا في صحراء لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو، وجند للمهمة السرية والخطيرة أكثر من 1500 عالما في الفيزياء والكيمياء ومن ضباط من الجيش في سرية شديدة قصد إنتاج البلوتونيوم وعهد إلى أوبنهايمر بتوصية من أينشتاين إدارة مختبر لوس ألاموس .وفي 16 يوليو 1945 نجح أوبنهايمر مع فريقه في إنتاج أول سلاح غير معروف في ذلك الوقت ، إنه السلاح الذي قدر له أن يحسم أمر الحرب العالمية الثانية ويضع مستقبل البشرية على شفير الهاوية وحضرمع أينشتاين وفيرمي أول تفجير ذري في تلك الصحراء في اختبار ترينيتي الذي أطلق عليه أوبنهايمر نفسه هذا الاسم مستوحيا إياه من قصيدة للشاعر الإنجليزي جون دون وقد كان الانفجار مهولا ومرعبا فقد تحرر المارد النووي من قمقمه ووضع مصير البشر على المحك، هذا المصير الذي سيكون محفوفا بالمخاطر والمخاوف ويروى أنه قال لحظة الانفجار( الآن أصبحت الموت مدمر العوالم).

ولم ينتظر ترومان طويلا فقد كانت قنبلتان جاهزتين "الرجل البدين" و"الولد الصغير" وحسما للحرب وإرغاما لليابان على الاستسلام تقرر إلقاء القنبلة الأولى على هيروشيما والثانية على ناغازاكي مما اضطر اليابان إلى الاستسلام وأسدل الستار على إحدى أكثر الحروب البشرية دموية وهولا وتدميرا على مدار التاريخ.3566 اوبنهايمر

عين أوبنهايمر بعد الحرب مديرا لمعهد الدراسات المتقدمة في برنستون ورئيسا للجنة الاستشارية لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية لكنه بعد نجاح تجربة إلقاء القنبلتين على المدينتين اليابانيتين ورؤية حجم الرعب والدمار الذي حاق بهما والمستقبل القاتم الذي ينتظر البشرية جراء السباق النووي-الذي سيكون مسارا حتميا بسبب انقسام العالم إلى كتلتين متنافرتين - غلب الجانب الأخلاقي والإنساني على حساب مكيافيلية السياسة وذرائعيتها كما انتصر لذاته الإنسانية ولضميره الأخلاقي فانخرط بعد ذلك للضغط من أجل السيطرة الدولية على السلاح الذري ومنع السباق النووي بمعية أينشتاين وراسل وكان رأيهم وضع السلاح الذري في يد هيئة دولية ومنع انتشاره لكن ترومان كان غاضبا منه ويروى أنه قال بشأنه( لا أريد أن أرى ابن العاهرة في مكتبي) وتعرض لمضايقات بعد معارضته إنتاج القنبلة الهيدروجينية ومنع من الوصول إلى الأسرار العسكرية خلال لقاء حكومي (1949/1950) وجاءت المكارثية نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي لتزيد من متاعبه وقد اتهمه مع لفيف من العلماء بالميول الحمراء والتآمر والخيانة وضمت القائمة 205 عالما وشخصا نافذا منهم أينشتاين نفسه وكثير من هذه الاتهامات لم تكن مؤسسة وسميت المكارثية بالإرهاب الثقافي أو الرعب الأحمر الثاني بعد الرعب الأحمر البلشفي الأول واتهم أوبنهايمر بالولاء للشيوعية لمجرد أن زوجته كانت شيوعية وانتهى الأمر بتجريده من التصريح الأمني وفرض عزلة أكاديمية عليه ليعيش كئيبا ووحيدا مستسلما إلى التدخين الشره والتفكير في مأساته وفي مصير العالم والغريب أن أوبنهايمر مرغته السياسة في أوحالها وهو المعروف بالعزوف عنها حتى إنه لم يدر بالأزمة الاقتصادية العالمية 1929 لانخراطه في البحث وعزوفه عن مطالعة الجرائد ويأتي تجريده من نفوذه السياسي وحصاره ثم رفض عمل ابنته كمترجمة بالأمم المتحدة وتكرار التهمة بالتعاطف مع الشيوعيين لعزله عن التأثير بعد معارضته الشديدة إنتاج القنبلة الهيدروجينية ولإسكات صوته الرافض لخطر انتشار السلاح النووي وعلى الرغم من أن كينيدي وجونسون حاولا رد الاعتبار له بمنحه جائزة فيرمي وتبرئة اللجنة له من تهمة الخيانة والتآمر ودفاع العلماء عنه، إلا أنه عاش تتجاذبه مختلف المشاعر كالإحساس بالهوان والكآبة والخذلان والندم حتى مات بسرطان الحلق عام 1967 ليسدل الستارعلى حياة واحد من ألمع العقول العلمية وشخصية جدلية تضاربت حولها الآراء جمع في إهابه بين طموح العلم ونوازع النجاح والتفرد فهو فاوست القرن العشرين الذي باع نفسه للشيطان وإغراءات السياسة ليواجه ضميره الأخلاقي وواجبه الإنساني في نهاية المطاف ويعيش مأساة حقيقية على حساب أعصابه وكيانه الروحي.

كتب آرثر ميلر في مذكراته "انحناءات الزمن" على إثر لقاء جمعه بأوبنهايمر في الستينيات قبل رحيله فوصفه بأنه شديد المرارة والحزن ويائس من كل شيء وليس بسبب المرض بل من الاكتئاب بعد إلقاء السلاح الفتاك على هيروشيما وناغازاكي فقد كان يعتقد أنه صاحب مسؤولية عما حدث، أي مسؤوليته كعالم في وضع السلاح في يد الساسة الذين يفكرون بمنطق مخالف لا يضعون في حسابهم الجوانب الإنسانية والأخلاقية.

بينما هو تغلب فيه صوت الضمير بعد بريق النجاح الأول كعالم وصل إلى تنفيذ فكره وتحقيق مبتغاه مدفوعا مثل أينشتاين بهاجس قطع الطريق على النازيين حتى لا يمتلكوا هذا السلاح لكن اكتشف فيما بعد أن ترومان من أجل إنهاء الحرب وتهديد السوفييت لم ير بأسا من تدمير مدينتين فالغاية تبرر الوسيلة، لقد كان ترومان مرعوبا من فكرة امتلاك السوفييت للسلاح النووي بعد ضبط كثير من الجواسيس وقد أعدمت أمريكا مواطنين أمريكيين هما يوليوس روزنبرغ وزوجته إيثل عام 1953 واتهمتهما بالتجسس لصالح الشيوعية ولعب العالم الألماني كلاوس فوكس دورا في نقل الأسرار النووية إلى السوفييت عن طريق أشهر جاسوسة في التاريخ أورسولد ماريا كوتشينسكي "سونيا" التي نقلت 570 وثيقة من أسرار القنبلة إلى السوفييت تسلمتها من فوكس العالم النووي الذي شارك في تجارب لوس ألاموس وكان هدفهما غير تجاري هو وضع السلاح الذري في يد جهة أخرى لتحقيق التوازن ولمنع أمريكا من التفرد بامتلاكه .

قصة أوبنهايمر قصة عالم جمع في إهابه بين نبوغ العبقري وتوهج العالم وطموح الإنسان في تحقيق أهدافه لكنه اصطدم برغبة الساسة التي لا تعرف أخلاقا ولا حدودا ولا قيما إلا المكاسب السياسية فراح ضحية تلك الأطماع وانتهى كنثرة رماد حزينة .

***

إبراهيم مشارة

لا أتذكر أين قرأت هذه العبارة التي يقول صاحبها إن: "القراءة فعل من أفعال الحياة الخاصة"، هذه الحياة التي نتعرف من خلالها على كُتاب لن نراهم، لكننا نتعلق بهم ونحبهم ويصبحون جزءاً من حياتنا، وفي كثير من الأحيان لاتهمنا العبارة التي يضعها المؤلف في بداية كتابه، مثلما فعل غوستاف فلوبير في مدام بوفاري: "كل شخصيات هذا الكتاب متخيلة، والبلدة التي عاشوا فيها لاوجود لها في الواقع"، لأن قراء مدام بوفاري على مدى أكثر من مئة وخمسين عاماً منذ أن نُشرت الرواية عام 1856، يؤمنون أن هناك سيدة في هذه البلدة قد أنتحرت بسبب الآم الحب، واليوم فأن زوار المدينة التي عاش فيها فلوبير يجدون لافتات تدعوهم لزيارة قبر مدام بوفاري. يقول التركي الحاصل على نوبل أورهان باموق: " أن تحمل كتاباً معناه أنك تمتلك عالماً آخر، عالماً يمكن أن يجلب لك السعادة".

ربما تكون مثلي قد قرأت ذات يوم نصيحة غوستاف فلوبير التي يقول فيها: " لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، أقرأ كي تعيش". ولعل معظمنا يبدأ أولى خطواته في القراءة منطلقين من الفضول لمعرفة ماذا تخبيء هذه الصفحات، وكثير من القراء يؤمنون بمقولة: اقرأ من أجل المعرفة. ينصحنا الفيلسوف " ديكارت" بإعداد قوائم لتحديد الكتب التي يجب أن نقرأها، كتمرين من تمارين العقل وإستكشاف العالم ويكتب هذه النصيحة: " إن قراءة الكتب هي بمثابة محادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية ". كان ديكارت مصاباً بأمراض في الصدر، وقد نصحهُ الأطباء بإراحة جسمه، فاجازوا له البقاء في الفراش طويلا، ما ساعده على الاهتمام بقراءة الأدب الكلاسيكي او كما يخبرنا هو: "لأقوم بجولات فكرية في الماضي السحيق، فآخذ بطرف الحوار مع النبلاء الطاعنين في السن".

تمثل القراءة إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر، وكل شيء بدأ عندي أشبه برحلة. ذات يوم وأنا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي. عندما أسترجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية.

كنت وأنا أدخل المكتبة، ألتفت باتجاه الرفوف التي تحوي مئات العناوين، وأشعر ان هذه الكتب تنظر ألي وإنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها، وأحيانا أتخيل أن كل كِتاب يَخفي داخله عالماً سحرياً لا نهاية له

يكتب أرنستو ساباتو في الكاتب وأشباحه إن: "القراءة رحلة معرفية ووجدانية في نفس الوقت، ومن واجب الكاتب أن يُعد المسافرين في هذه الرحلة بما يحتاجونه من أدوات، ويعلمهم كيفية قراءة الخرائط وما ينبغي عليهم فعله عندما يضلون الطريق ".

في ظهيرة يوم ممطر من شهر تشرين الثاني عام 1895، وقف أوسكار وايلد بانتظار القطار الذي ينقله الى السجن، كان قد حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عامين بتهمة الأفعال الفاضحة، شاهد المارة الكاتب الشهير مكبل اليدين، في السجن تمت مراعاة مكانته فكلف بمهمة مساعد أمين المكتبة، مما أتاح له فرصة نادرة للحديث مع السجناء عن موضوع محبب الى نفسه، وهو القراءة. في الوقت نفسه أخذ يقدم نصائح ممتازة عن الكتب لمن يريد أن يقرأ من السجناء.

التقارير التي كانت تقدم عن وايلد في السجن تقول انه كان منهمكاً في إعادة قراءة الكلاسيكيات المحببة الى نفسه، فقد طلب أن يحصل على سبع كتب أبرزها الكوميديا الإلهية لدانتي، ويكتب في رسالة الى شقيق زوجته إن: "الحرمان من الكتب فظيع مثله مثل الحرمان الجسدي في حياة السجن الحديثة، هذا الحرمان الجسدي لا يُقارَن بالحرمان التام من الأدب بالنسبة لشخص كان الأدب له أهم شيء في الحياة، الشيء الذي يمكن من خلاله إدراك الكمال، ومن خلاله وحده يمكن للعقل أن يشعر بأنه حي".

وفي عريضة قدمها الى وزير الداخلية شرح وايلد معاناته من نقص الكتب التي هي اساسية لكي يحافظ الانسان على توازنه العقلي. وقد سمحت له ادارة السجن بقراءة كتابين في الأسبوع، ولكن مكتبة السجن صغيرة جدا، فتم السماح له بادخال كتب جديدة، فطلب روايات غوستاف فلوبير وكتب ارنست رينان، وبعض مؤلفات شكسبير ورواية ثيربانتس " دون كيشوت "، وكتب سبينسر واشعار كيتس ومؤلفات افلاطون ونسخة من الانجيل، ومجلد يضم أعمال من المسرح الاغريقي، ونسخة من ألياذة هوميروس، ويكتب في احدى رسائله إن: " "الكوميديا الإلهية" لدانتي فوق كل الكتب ساعدته على فهم العالم البشع للسجن، لقد قرأت دانتي من قبل كل صفحة فيه، لا المطهر ولا الفردوس كانا يعنياني... ولكن الجحيم! ما الذي يمكنني فعله سوى أن أعجب به؟ الجحيم، ألم نكن ساكنين فيه؟ الجحيم: كان هو السجن".

بعدما قضى العام الأول من مدته، وضع وايلد مقترحات بشأن أفضل الكتب التي على السجناء الاطلاع عليها، وقد قسم قائمته الى ثلاثة اصناف من الكتب.

يضم القسم الاول الكتب الواجب قراءتها ويضع وايلد الكوميديا الالهية والياذة هوميروس ودون كيشوت في المقدمة بعدها رسائل شيشرون وكتاب رحلات مارك بولو ومذكرات سان سيمون ورواية مدام بوفاري وصومعة بارما لستندال.

أما القسم الثاني فيضم الكتب التي تستحق أن تُقرأ مثل مؤلفات افلاطون ودواوين كيتس وكتاب دليل المرأة الذكية لبرنادشو.

الى جانب هذين القسمين يضيف وايلد قسماً ثالثاً وهو يخص الكتب التي يجب ان لاتُقرأ، وهو يقول: " مثل هذه القائمة بالكتب السيئة ضرورة مهمة، خصوصا اننا نعيش عصر يقرأ كثيرا الى حد إنه لم يعد له الوقت ليتعجب ويفكر، ويطالب كل قارئ كتب أن يضع قائمة بأسوأ مئة كتاب ليجنب الشباب فوضى القراءة غير النافعة ".

من بين كل الزائرين للمكتبة التي كنت أعمل فيها، أعتقد أن لا أحد منهم يشبه شغف الروائي فؤاد التكرلي بالكتاب. قال لي يوماً أنا أحب الكتب التي تعيش طويلاً مع القارئ، وحين شاهد حيرتي أضاف مبتسماً: عليك أن تعرف إن للكتب أيضاً حياة مثل الإنسان، فهناك كتب تعيش حياة طويلة وأخرى لها حياة قصيرة، وأشار الى رواية آنا كارنينا الموضوعة على أحد الرفوف: هذا الكتاب استطاع أن يصمد طويلاً أمام متغيرات الزمن لأن تولستوي فيه استطاع أن يغوص في داخل النفس البشرية

تكتب فرجينيا وولف في مقالة بعنوان " كيف نقرأ كتاباً كما يجب ": " من البساطة أن نقول بما أن للكتب تصانيف، فيجب علينا أن ننتقي من كل صنف ما هو مفيد وخليق بأن يمنحنا الجديد. يبقى هناك الذين يسألون عما تعطينا إياه الكتب. غالباً ما نأتي الى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة ضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبرياءنا. إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب. لاتُملِ. إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقا في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه".

يمكنني أن أتذكر الأنفعالات التي ولّدتها اول الكتب في نفسي، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918، وجهتها الى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الانسان..اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته، بيت بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة: " هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد ".

منذ أكثر من اربعين عاماً، أجد نفسي كل جمعة أذهب الى شارع المتنبي، مثل محب يذهب للقاء محبوبته، دون أن يدري ما المفاجأة التي بانتظاره، وفي كل مرة كنت اشعر بنشوة غريبة لحظة النظر الى الكتب، وغالباً ما كانت الأغلفة تقذف بي الى عالم مجهول، بينما كنت أرغب بكل كياني أن أغور في أعماق هذه الكتب، وحين أتمكن من الحصول على كتب جديدة، يبدأ قلق آخر، البحث عن عناوين جديدة آخرى ، كنت أًبحث في رفوف المكتبات مرهوباً بالأسماء، هذا تولستوي وذاك ايمانويل كانط، هنا يقف جان جاك روسو الى جانب هنري برغسون، من بعيد ينظر اليهم سارتر ساخراً، فيما فكتور هيجو لاتحلو له الصحبة الى مع بلزاك. في زاوية ما يقبع الجاحظ فيما يندب ابو حيان التوحيدي حظه، كنت مثل طفل ضائع وسط غابة كبيرة، يتطفل النظر في وجوه الآخرين، شعور بالسعادة يغمرني، وأنا أمارس لعبة بعث الكُتاب الموتى من قبورهم.

الآن بعد كل هذه السنوات أسال نفسي ما الذي استفدته من القراءة عندما كنت صبياً، لقد أطلقت هذه الكتب العنان لمخيلتي، ومنحتني عالما جميلاً، منسجما، وأيا كانت مكاسبي من القراءة، فانها ستظل الشيء الوحيد الذي لايزال يسحرني، يكتب هنري ميللر إن الخيال هو طريقة غير مباشرة للإقتراب من الحياة، ولإكتساب رؤية شاملة للكون".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

...................

* (نظرا للأهمية الكبرى للكتب في حياة الإنسان، تم تحديد أكثر من يوم في العام للاحتفال بالقراءة والكتب وما يتعلق بها، وفي 9 آب يُحتفل باليوم العالمي لمحبي الكتب، لتشجيع عشاق الكتب للاحتفال بالقراءة والأدب)

(1928 –2015) John Nash

جون فوربس ناش عالم الرياضيات الذي فاز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 1994 ولم يكن اقتصاديا! كما فاز بجائزة أيبل Abel الخاصة بحقل الرياضيات، وهي الموازية لجائزة نوبل والتي تمنحها اكاديمية العلوم النرويجية منذ 1899 ، تكريما لعالم الرياضيات النرويجي البارز نايلز أيبل  Niels Abel (1802-1829).  كانت جائزة نوبل في الاقتصاد تكريما وعرفانا لمساهمة ناش الرائدة في نظرية اللعبة  Game Theory   التي فتحت آفاقا جديدة وهامة في النظرية الاقتصادية واحدثت ثورة عظيمة في تطبيقاتها في اغلب جوانب حقل الاقتصاد. أما مساهماته في الرياضيات النظرية البحتة فشملت عدة زوايا كانت قد اُعتبرت فتحا مبينا في نظريات الجبر الواقعي والهندسة التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية. في وصف لأهمية منجزات ناش في الرياضيات وفائدتها الكبيرة في علم الاقتصاد، قال البروفسور روجر ميرسن من جامعة شيكاغو " لقد كانت مساهمة ناش في النظرية الاقتصادية مثل اكتشاف الـ DNA لعلوم الاحياء والوراثة والتحقيقات الجنائية".

كان ناش يحمل صفات العبقرية الواضحة. فخلافا  لأغلب المتفوقين في شتى حقول المعرفة الذين غالبا ما تثمر جهودهم بعد ان يقطعوا شوطا طويلا في دراستهم وخبرتهم العملية، وبعد ان يتراكم مخزونا كبيرا من معارفهم وتجاربهم، تفجرت عبقرية ناش وهو مايزال طالبا في الدراسات العليا في جامعة برنستن بعمر 20 عاما.  وما حصل عليه من اعتراف علمي عالي المستوى بحصوله على جائزتي نوبل وأيبل كان، في الحقيقة،  عن ابداعه العلمي في ذلك العمر المبكر. وذلك ما جعله واحدا من اهم علماء الرياضيات في القرن العشرين. لكن ذلك التفوق المبهر والانتصار العظيم لم يأت سهلا ولم يمر بسلام! فقد كانت حياته اللاحقة لتلك الفترة المبكرة من عمره حياة تراجيدية بكل معنى الكلمة. وكذلك كانت نهاية حياته.

ولد جون ناش عام 1928 في مدينة بلوفيلد في ولاية فرجينيا الغربية، وهو الطفل الاول لطفلين في العائلة كانت ثانيهما اخته مارثا. كان والده مهندسا كهربائيا يعمل لصالح شركة أبلاشيان الكهربائية الكبرى الشهيرة. وكانت والدته معلمة مدرسة بشهادة جامعية. منذ عمر مبكر ظهرت على سلوك جون مظاهر الذكاء الحاد والميل نحو التعلم واغتراف المعرفة. فحين كان اقرانه يلعبون في حدائق البيوت والملاعب العامة، كان جون يجلس في مكتبة والده ويقرأ كتب الكبار، ولم تلمس يداه كتب الصغار. كانت والدته مهتمة بتنمية هذه الامكانية الجميلة لديه، فكانت تعطيه دروسا اضافية تمكن من خلالها من القفز الى مراحل مدرسية اعلى. كما انه حصل على نفس الفخر والتشجيع من والده الذي كان يحثه على دراسة الكتب العلمية ويوفرها له. فعندما كان  صبيا أكمل جون قراءة موسوعة كومبتن Compton Encyclopedia وفي سن 14 قرأ كتاب المختصين الموسوم "رجال الرياضيات" الذي ألفه إي تي بيل. كما انه استطاع ان يبرهن احدى المسائل الرياضية التي اوردها الكتاب والعائدة للعالم الفرنسي پيير فرمات Pierre Fermat الذي عاش في القرن السابع عشر.

أكمل جون تعليمه في المدارس المحلية العامة فكان متقدما على اقرانه.  وفي المرحلة الثانوية حثه والداه على اخذ دروس اضافية في الرياضيات المتقدمة والتي اخذها فعلا واكملها بتفوق، فكانت سببا لحصوله على منحة دراسية كاملة من معهد كارنيگي التكنولوجي في پتسبرگ الذي حصل منه على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الرياضيات بتفوق وفي نفس الوقت. کان ذلك عام 1948.  وهكذا فحين اراد اكمال الدكتوراه، تنافست على قبوله افخم خمس جامعات في البلاد، وهي هارڤرد وبرنستن وستانفورد وشيكاغو وميشگن. أراد ان يذهب الى هارڤرد لكنه استقر أخيرا على برنستن لسببين: الاول ان عرضها له كان الاكثر كرماً من بقية العروض، وثانيا لقربها نسبيا الى مكان سكن العائلة. وهكذا فقد كتب استاذه المشرف في كارنيگي رسالة توصية فريدة، كان قوامها جملة قصيرة واحدة فقط :  " السيد ناش رجل عبقري"! فاصبحت تلك الرسالة حديث الجامعة في وقتها.

في عامين فقط، أي في عام 1950 حصل ناش على شهادة الدكتوراه بموضوع جديد أحدث تغييرا جذريا في طبيعة حل المشكلات الاقتصادية وقابلا للتطبيق في شتى ميادين الاقتصاد وفي العلوم الاخرى. كانت رسالته بعنوان " الالعاب غير التعاونية، Non-cooperative Games” بواقع 28 صفحة فقط، وذات المحتوى الذي  اصبح جوهر نظرية اللعبة وقلبها النابض.  ولابد للاشارة هنا بأن تعبير اللعبة او الالعاب يعني حالة المواقف التنافسية بين طرفين عندما يسعى كل منهما الى احراز افضل مايمكن من نتائج ضد المقابل،  واعتمادا على تخمينه بما سيفعل الطرف الآخر. وهي بهذا المعنى تشبه لعب الشطرنج والبوكر وبقية الالعاب التنافسية الاخرى التي تتطلب من اللاعب ان يحسب خطواته ويتخذ القرار الملائم طبقا لتخمين الخطوة التي سيتخذها اللاعب المقابل.   قام ناش هنا بالتمييز بين الالعاب والستراتيجيات المختلفة. فهناك الالعاب التعاونية Cooperative Games التي يتفق خلالها اللاعبين على بعض القواعد والمحددات والشروط الخاضعة للتطبيق من اجل خدمة اللاعبين، كل من مصلحته الخاصة، وسواء كان الاتفاق علنيا ام ضمنيا. وبالعكس من ذلك فالالعاب غير التعاونية Non-cooperative Games  هي التي لايمكن معها تطبيق مثل تلك الاتفاقات بين اللاعبين. كما قدم ناش مفاهيما جديدة وصاغ براهينها الرياضية وبهذا فقد وسع واكمل ما لم ينجزه من قبله رائدا نظرية اللعبة،  نيومن ومورگنسترن، اللذان نشرا الكتاب الاول بعنوان "نظرية الالعاب والسلوك الاقتصادي" عام 1944.

تُعرّف نظرية اللعبة بانها دراسة النماذج الرياضية التي تمثل الكيفية التي تتعامل بها الاطراف العقلانية المتنافسة من اجل تحقيق الحلول المثلى والمكاسب الاكبر لكل طرف من منظوره الخاص، مع الاخذ بنظرالاعتبار ما قد يتخذه الطرف الاخر من خطوات. وهي بهذا تكشف دينامية التعارض الانساني في السعي للوصول الى القرار الامثل الذي يضمن افضل النتائج من منظور المنفعة الخاصة بالطرف المتنافس. وقد اثبت الزمن ان لهذه النظرية تطبيقات عديدة في الحياة العملية، خاصة في العلوم الاجتماعية والعلوم العسكرية والمنطق وعلوم الكومبيوتر. وقد استخدمت بكثافة في حقل الاقتصاد، خاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد رأينا تطبيقاتها المثمرة في عالم التجارة كمفاوضات الشركات، والاضرابات العمالية، وسباق الانتاج والبيع والاعلان، وحرب الاسعار والاجور، وكذلك في سياسات الدولة النقدية والمالية وسياسات التصدير والاستيراد، وحتى في تنظيم الحملات الانتخابية.

بعد نيل الدكتوراه، عمل ناش في التدريس في برنستن لمدة سنة واحدة ثم التحق ببرنامج ما بعد الدكتوراه في قسم الرياضيات بجامعة MIT  للتدريس والبحث، كما عمل في نفس الوقت مستشارا لمؤسسة راند Rand Corporation..   كان عمله باهرا في MIT   مما نتج عن اكتشافات كبيرة في حقل الهندسة التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية. وفي هذا الوقت  ارتبط بعلاقة عاطفية بفتاة اضافت الى حياته لونا وطعما آخرا كان بحاجة اليه. لكن ذلك الهدوء والسلام والنجاح المتواصل  لم يدم فقد بدأت الغيوم السوداء تتلبد في سماء نجاحاته الكبيرة. كان ذلك الطموح المتأجج والمنافسة الشديدة والسعي المحموم للوصول الى القمة،  يضاف لها متاعب العمل المتواصل ومشاكل القسم والمخاوف والرعب الذي صنعته الپارانويا السياسية ايام الحرب الباردة، خاصة وانه كان قد تورط في قضايا التشفير ضمن عمله في مؤسسة راند المتخصصة بعقود وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، وفوق ذلك كله فان صديقته اصبحت حاملا بطفلهما مع رفضه الشديد للانجاب في ذلك الوقت. كل تلك المتاعب قد تراكمت وهيأت الظروف المؤاتية للانهيار العصبي الذي غالبا مايكون له استعدادا وراثيا لا يظهر للعيان الا خلال الازمات الكبرى. بدأ سلوك ناش الغريب يظهر جليا ليس فقط في البيت انما في العمل ايضا. فهاهو يبدو مضحكا في قاعة الدرس ويهمل واجباته وينسى موعد دروسه. في هذه الاثناء انفصل عن صديقته الحامل وتركها تدبر حالها، وبحلول عام 1957  ارتبط بفتاة اخرى كانت في قسم الفيزياء والتحقت مرة باحد دروسه.  لم تستطع هذه العلاقة الجديدة الجميلة ان تخفف من وطأة مشاكله. هنا بدأ واضحا انه يعاني من اختلال عقلي. فقد طرد من العمل في مؤسسة راند واضطر ان يستقيل من عمله في MIT، فعادت به صديقته الجديدة أليشا الى برنستن حيث حصلت على عمل لتعيل العائلة، واصبحت زوجته وأم لطفله.

في برنستن لم تتحسن أوضاع ناش الصحية.  فبحلول عام 1959، اخذ الشاب الالمعي بعمر الثلاثين ينحدر عميقا الى عالم الاوهام والتصورات والمخاوف حتى انه شُخص الآن سريريا كمريض بالشيزوفرينيا الارتيابية.  كان الخبر صاعقا لاسماع أليشا وشكل ضغطا لايحتمل بالنسبة لها حيث عليها ان تعمل في البيت وخارجه وترعى الطفل واباه.  كان جون ناش يذهب كل يوم الى رواق فاين حيث قسم الرياضيات في برنستن. يطوف في ارجاء القسم والكامبس يكلم نفسه ويهذي بلغة رياضية، منعزلا لايلتقي بأحد ولا يكلم أحد، ويبقى على هذا الحال الى ساعة متأخرة من النهار. حينها يذهب الى الصفوف ويملأ السبورات بمعادلات رياضية مزدحمة لايستطيع احد ان يتابع منطقها. مع هذا الحال المزري اضطرت أليشا وبنصيحة الاصدقاء والمعارف ان تطلب احالته الى مستشفى الامراض العقلية رغم عناده ومعارضته. كانوا يدفعونه الى سيارة الاسعاف موثوقا وبمساعدة ثلاثة او اربعة رجال،  بينما تغرق أليشا بالدموع.  بعد ذلك يبقى في المستشفى لعدد من الاسابيع ثم يخرج موقتا لأيام ليعود لها مرة اخرى.

في عام 1963 اضطرت أليشا ان تطلب الطلاق لكنها لم توقف رعايتها للرجل الذي احبته بصدق.  في احدى المرات كلف محاميا لاخراجه من المستشفى بأمر قضائي، واستغل الفرصة للهرب الى أوربا ومحاولة اسقاط جنسيته الامريكية. وبعد ان علمت أليشا انه سافر الى باريس ولكسمبورگ، لحقت به الى هناك وتمكنت من ان تطلب مساعدة السفارة الامريكية لتسفيره الى الولايات المتحدة والى المستشفى من جديد. تشير السجلات الرسمية انه امضى في المستشفى الجزء الاعظم من الفترة بين 1959 و1970، خاضعا لتكهنات الاطباء ومستسلما لعلاجاتهم التجريبية التي اثبت العلم والزمن فيما بعد بطلانها ووحشيتها.  من هذه الطرق العلاجية التي تعرض لها ناش بكثافة هي المعالجة بصدمة الانسولين الذي كان يُحقن به خمسة ايام في الاسبوع ولمدة شهرين متواليين. بموجب هذه الطريقة، يعطى المريض حقنات الانسولين ذات الجرعات العالية التي تسبب انخفاضا كبيرا في  منسوب السكر في الدم فتؤدي الى مايشبه الكوما التي تستمر ساعات او ايام،  يفيق بعدها المريض وهو مشوش العقل ومختل التوازن وفاقد الذاكرة. اعترف ناش فيما بعد بأنه فعلا فقد كل ذاكرته في سنوات الطفولة والصبا. وبسبب ذلك كان يشعر بالعدم. في تلك الفترة كتب احد الباحثين رسالة الى ناش يطلب فيها رخصته لاستعمال احدى نتائج ابحاثه، فرد عليه ناش قائلا. استخدم ما تشاء وكأنك تستعير من ميت!

كان عام 1970 نهاية تجربته مع مستشفيات الامراض العقلية فقد اقتصر علاجه بعد ذلك على مايصفه له الاطباء من أدوية. كان تحسنه بطيئا استغرق عقدا ونصف وكان عاطلا وكئيبا وليس له من يأويه. وهنا دعته أليشا ان يعود ليعيش معها كنزيل وستتكلف بمسكنه وطعامه ومتابعة علاجه. وهكذا بدأت هذه الرعاية المخلصة تعطي نتائجها بتحسن ملموس على صحة ناش . وابتداءً من عام 1985 بدأت عليه علامات الرجوع الى الحياة الطبيعية. وفي عام 1987 اعاده قسم الرياضيات في برنستن الى وضيفة باحث اقدم، استطاع ان يعود من خلالها الى نشاطه العلمي بهدوء وسلام وبعيدا عن كل ضغوط العمل الوظيفي. وقد بدأ ينال دعم زملائه وطلابه والتفافهم حوله. بعد عام 1990 عادت مشاعر الحب بين جون وأليشا الى مجراها الطبيعي فتمكنا من الزواج مرة اخرى عام 2001.  وابتداءً من عقد التسعينات بدأت لجنة من اصدقائه وزملائه المخلصين تروج لانجازاته التي بقيت حبيسة المنشورات القليلة الى الدوائر العلمية المختصة، وهكذا أدت هذه الحملة الى الاعتراف باستحقاقه جائزة نوبل على منجزه العلمي الهام في نظرية اللعبة لتكون جائزة في الاقتصاد. وهكذا نال الجائزة بعد مرور 45 عاما على انجاز العمل. أما عمله في الرياضيات البحتة فقد اهتمت به اكاديمية العلوم النرويجية ووجدته مستحقا جائزة أيبل،  والتي استلمها فعلا بعد 65 عاما على انجاز العمل.

بعد استلامه جائزة أيبل في أوسلو عام 2015 عاد الى الولايات المتحدة. ومن مطار نيووارك في نيوجرسي استقل، هو وزوجته أليشا، سيارة تاكسي يقودها سائق بإسم طارق جرجيس لتوصلهم الى بيتهم  في برنستن على مقربة ساعة واحدة. وعلى نيوجرسي ترنبايك السريع حاول السائق ان يجتاز السيارة التي امامه لكنه فقد السيطرة على السيارة مما ادى الى ارتطامها بسيارة اخرى ثم ضربت الحاجز الحديدي على جانب الطريق. وحين لم يكن ناش وزوجته قد وضعوا حزام الامان، فقد ادى الارتطام العنيف الى تحطم الابواب وخلعها وقذف الركاب الى الخارج فتوفيا في الحال. وهكذا جاءت النهاية المفجعة لحياة تكللت بالنجاحات الباهرة واكتوت بالآلآم وشهدت الاحتراق ثم النهوض من الرماد  كطائر العنقاء.

ابتدع ناش مفاهيما جديدة وصاغ حلولا ابتكارية سواء في نظرية اللعبة ام في الرياضيات البحتة. ومنها ما سمي بإسمه،  ومنها ما حملت تأثيره البليغ. فيما يلي اهم ما اصبح جزءً لا يتجزء من منظومة معرفتنا:

- توازن ناش  Nash Equilibrium

ويراد به الحل الذي يشير الى الحالة التي يصل فيها اللاعب الى ما لا يستطيع بعده تحقيق اي تقدم وتحسن في موقفه مع اعتبار كل الخطوات التي قد يتخذها اللاعب الآخر. وهذه الحالة تحدث على الاقل مرة واحدة، طالما يُسمح بخلط الستراتيجيات والخطوات ذات الاحتمالات الايجابية. أي ان هذا الحل هو القرار الاخير الذي سيؤدي الى افضل النتائج، اذ ليس هناك اي سبيل آخر احسن منه. والمثال العملي الكلاسيكي الذي يوضح هذا المفهوم هو:

- Prisoner’s Dilemma - مأزق السجين:

ألقت الشرطة القبض على شخصين اتهما باشتراكهما في ارتكاب جريمة معينة. أراد المدعي العام ان يقابلهما على انفراد في غرفتين متباعدتين. فاجأ السجين الاول بالقول ان رفيقك على وشك الاعتراف ولاندري ان كان سيعترف فعلا ولكن عليك ان تكون ذكيا وتنقذ موقفك ! فان اعترفت واحجم رفيقك عن الاعتراف فانك ستنال سنة واحدة في السجن وسينال رفيقك عشر سنوات. وان اعترف هو وامتنعت انت عن الاعتراف فسينال هو السنة الواحدة وسترمى انت في السجن عشر سنوات. أما اذا حدث وان اعترف كلاكما فان المحكومية ستقسم عليكما بالتساوي وسينال كل منكما خمس سنين في السجن. وغادرالمدعي العام ولم يفصح عما سيجري ان امتنع كلاهما عن الاعتراف. ذهب النائب الى السجين الثاني وقال له نفس الكلام بالضبط.

هنا سيكون من الحكمة ان يفكر كل من السجينين بما سيتصرف السجين الآخر قبل ان يتخذا قرار الاعتراف او عدمه، وسيكون من الواضح ان يميل كلاهما الى الاعتراف (بافتراض ان لهما حد معقول من الذكاء)، لان الاعتراف سيكون الحل الامثل الوحيد المتوفر لكل منهما، مهما كان موقف الطرف الآخر. فاما الفوز بالسنة الواحدة في حالة امتناع الطرف الآخر عن الاعتراف، وأما الفوز بخمس سنين ان اعترف الطرف الاخر ايضا، وليس هناك حل آخر . والاعتراف هنا يسمى الستراتيجية المهيمنة.

-Dominant Strategy

هي الستراتيجية التي تؤول الى القرار الذي يعتقد اي طرف انه القرار الامثل لمصلحته الخاصة مهما سيكون قرار الطرف الآخر.

والحالة بنتائجها تسمى Nash Equilibrium، كما مبينة في المصفوفة ادناه:3560 ناش

قد يتساءل البعض: لماذا لم يفكر السجينان بالاحجام عن الاعتراف كل على حدة وبغض النظر عن عدم ذكر هذه الحالة من قبل المدعي العام ؟ السبب الاول هو ان المدعي العام لايريد الاعتراف بانه لو احجم كلاهما عن الاعتراف ستكون يداه خالية من اي وثيقة اثبات وسيكون مضطرا بموجب القانون اما اخلاء سبيلهما او الاكتفاء بمدة التوقيف. والسبب الاكثر منطقية هو ان عدم الاعتراف بالنسبة لأي منهما ينطوي على مخاطرة كبيرة، رغم انه سيكون، على الاقل نظريا، افضل النتائج الاربعة لانه يعود بسجن سنتين فقط لكل منهما. قد يحدث هذا في حالات نادرة جدا تنطوي على نوع من التعاون او الاتفاق المسبق بين الطرفين او ايمانهما بالتضحية والايثار بينهما، كما في حالة السجينين المرتبطين بعلاقة دم او عاطفة قوية كأخوين او اب وابنه او حبيب وحبيبته. أو ان يكونا مرتبطين بعلاقة ايديولوجية قوية وروح عقائدية وثابة تحتم عليهما عدم الخيانة بالرفاق والاخلاص لهم لحد الموت. وهنا ستجري اللعبة بقواعد ما اسميناه بالـ Cooperative Games.

- نظرية الاحتواء القياسي Nash Embedding Theorem

تنص هذه النظرية بأنه يمكن لأي سطح رايميني Riemannian manifold  متعدد الاوجه (نسبة الى عالم الرياضيات الالماني برنارد رايمن ( ان يتم احتوائه او تطويقه المتقايس Isometric Embedding  في مجال اقليدسي  Euclidian  مألوف. والتقايس هنا يعني الاحتفاظ بنفس المقاسات قبل وبعد الاحتواء. المثال الكلاسيكي الذي يبسط تصور المفهوم هو اننا لو طوينا ورقة دون ان نمطها او نمزقها فان طول الخط او المنحنى المرسوم على الورقة سوف لا يتغير في حالة المقارنة بين سطح الورقة المنبسط  Plane  وسطحها المطوي Cylindrical.

حين رشحت اكاديمية العلوم النرويجية ناش لنيل جائزة أيبل على هذا المنجز وسواه من منجزات ناش في الرياضيات البحتة، كتبت لجنتها المختصة:

" ان هذه النظرية تمثل اكثر منجزات التحليل الهندسي أصالة في القرن العشرين".

- نظرية ناش- دي جورجي- موزر Nash-DeGorgi-Moser Theorem

هذا عمل رياضي تحليلي يقدم برهانا وحسابات بموجب تقديرات هولدر Holder Estimates  ومتباينة هرناك Harnack Inequality ويضمنهما في حالتين مختلفتين من حالات الدوال الرياضية، حالة الدالة البيضوية الاهليجية Elliptic function  وحالة الدالة ذات القطع المكافئ Parabolic function. كان ناش والعالم الايطالي إينيو دي جورجي  Ennio De Georgi  قد بحثا باستقلال ومعزل تام عن بعضهما ووصلا الى نفس النتيجة. ثم بعد ذلك جاء العالم الالماني-الامريكي جرگن موزر Jurgen Moser فوصل الى نفس النتيجة ولكن ببراهين مختلفة عن ناش ودي جورجي.

فاز ناش على هذه النظرية بجائزة لروي ستيل LeRoy Steele Prize التي تمنحها جمعية الرياضيات الامريكية.

- حلول التصافق (عمل الصفقات)  Nash Bargaining Solutions

صاغ ناش الحلول الفريدة التي تتطلبها ظروف المساومة على عقود الصفقات بين الطرفين المتساومين، والذي يفترض تحقيق الشروط الرياضية المتمثلة بالثابتية Invariance ، والتماثل  Symmetry، والكفاءة Efficiency ، وكذلك استقلالية البدائل التي ليس لها علاقة او اهمية.

فی نعیه بوفاة ناش كتب قسم الرياضيات في جامعة برنستن ما يلي:

"جون فوربس ناش هو ايقونة قسمنا البارزة وظاهرة رواق فاين المعروفة بـ  Spector of Fine Hall. الرجل الذي عرفناه بانجازاته العلمية التي فتحت ارضا بكر في التحليل الرياضي،  وعرفنا عبقريته كطالب دراسات عليا بقدرة علمية استثنائية. وعرفناه ايضا بصراعه المؤلم الطويل مع المرض وتحوله الى شبح يطوف في ممرات القسم وغرفه منعزلا ولا يكلم الا نفسه. ثم عرفنا انتصاره العظيم على المرض وعودته الينا كشيخ هادئ وخجول وخلوق حرص ان يأتي للعمل كل يوم كباحث اقدم منذ 1995 ولحين وفاته المفجعة عام 2015.

في ختام هذا النص عدت واحصيت سنوات المرض والآلام والتيه فوجدتها تساوي ربع قرن بالتمام والكمال وبرغم كل ذلك فقد تمكن ناش من نشر 23 بحثا خلال خمسين عاما من حياته المعذبة وهي بالطبع حصيلة صغيرة قياسا بامكاناته العلمية الهائلة.

لدى ناش ولدان، الاول من صديقته الاولى والثاني من زوجته أليشا، وكلاهما باسم جون.

في عام 1998 نشرت سلفيا نصّار البروفسور في الادب والصحفية الامريكية من اصل أزبكي كتابا بعنوان A Beautiful Mind  تناول سيرة ناش الذاتية. ثم في عام 2001 تحول الكتاب الى فلم سينمائي رائع من اخراج رون هاورد وبطولة رسل كرو وجنيفر كونلي. وقد استقبل الفلم بترحيب شعبي بليغ وفاز بأربع جوائز أوسكار و33 جائزة اخرى، محليا وعالميا.  كما تحدثت برامج تلفزيونية عديدة عن انجازات ومحنة ناش ولعل ابرزها الفلم الوثائقي الذي انتجته محطة التلفزيون العامة عام 2002 بعنوان

A Brilliant Madness.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

بعد مرور 65 عاماً على مذبحة العائلة الملكية في العراق صبيحة يوم الرابع عشر من تموز 1958، وبتوفر آلاف الصفحات من الكتب والمقالات والدراسات الأكاديمية والموسوعات التاريخية والمذكرات، والحكايات المكتوبة أو المُوثقة في برامج وأفلام تسجيلية، فإن ما جرى في الليلة التي سبقتها، يبقى مثيراً ومشوقاً مهما كُتب عنها، أو قيل حولها من قبل شهود عيان من داخل قصر الرحاب، أو من قبل ضباط وسياسيين ومواطنين بسطاء اطلعوا على ما جرى واستمر يوخز الضمير العراقي الذي يبدو كأنه يمارس طقس البراءة والإنكار والتطهير، بتكرار الكتابة أو الحديث عن ذلك الصباح الدموي الذي جرح روح بغداد وأهلها. وهو إحساس لم يشعر به المصريون على سبيل المثال، الذين ثاروا على الملكية، لكنهم ودَّعوا الملك فاروق بما يليق به من لياقة واحترام وتعاطف، وبكاء الحاشية والخدم وسط اطلاقات المدفعية الموَّدِعة، وعزف السلام الملكي.

إن كتابة التاريخ مُجرداً كوقائع وأرقام قد لا تشفي الغليل، كما أن ذكر الأحداث الكبرى لوحدها لا يترك للخيال حصةً في عملية التطهير، فضلاً عن عملية الإبداع الأدبي، وعلى رأي المفكر الماركسي جورج لوكاتش في كتابه الشهير عن الرواية التاريخية « فإن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث، بل الايقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي»، وهذا هو بالضبط ما فعلته الأديبة العراقية ميسلون هادي في روايتها الأخيرة «ساعة في جيب الملك» التي تزامن صدورها عن « دار وتر»  في البصرة، مع ذكرى تلك الليلة التموزية، كما أن الروائية طبقت في روايتها هذه منهج لوكاتش في التركيز على الاحداث غير المهمة ظاهرياً، والتفاصيل الصغيرة لأنها تكشف عن دوافع السلوك الاجتماعية والإنسانية أكثر مما تكشفه الأحداث المهمة الأخرى. تلك التفاصيل التي التقطتها بعناية وبقصد من المصادر التاريخية الكثيرة التي توفرت لها، ومن فهمها لطبيعة العائلة البغدادية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وما يربط بين الأجداد والأحفاد في الليالي البغدادية حين تقص الجدة مريم حكاياتها عن العائلة الملكية لحفيدتها سناريا، عن شخصيات الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله وخالته عابدية التي كرست حياتها للاعتناء به، وخالته بديعة التي كانت تجهز لعرسه من الأميرة فاضلة التي كان من المفروض أن يلتقيها في لندن يوم 14 تموز 1958. كان القدر يرتب كل شيء وصولاً إلى صبيحة اقتناص الملك الشاب وخاله وجدته نفيسة وخالته عابدية وربيبتها الطفلة غازية والخادمة رازقية والطّباخ التركي برصاصات عبد الستار العبوسي في ذلك الصباح الدامي الذي لم تنجو منه سوى الأميرة هيام الحبيب ابنة أمير ربيعة، والزوجة الثالثة للوصي بعد زوجته الأولى ملَك، والثانية فائزة الطرابلسي التي عَرَّفته عليها المطربة أم كلثوم صديقة شقيقته عابدية. لقد كان من المقرر أن يسافر الملك الشاب يوم 8 تموز لكن توفيق السويدي رجاه تأجيل سفره ليومين آخرين: « لأن وزير المالية يريد امضاء الملك على بعض القوانين، فأجل سفره يوماً واحداً، ثم وردته برقية من شاه ايران وطلب الاجتماع به وبرؤساء دول حلف بغداد في طريق عودته من أمريكا. فاضطر الملك تأجيل سفرته مرة أخرى إلى يوم غد.. يوم الرابع عشر من تموز»!. كما أن عبد الإله كان في إستنبول لكن الملك طلب منه العودة قبل هذه الليلة،» وعاد مسرعاً إلى هذا الحر الشديد، خشية من حدوث القلاقل في بغداد، إذا ما سافر الملك. نوري السعيد أيضاً كان في إجازة بلندن مع زوجته نعيمة العسكري، غير أنه أرسل برقية للملك فيصل الثاني يطلب فيها حضوره إلى بغداد بشكل فوري. وهكذا تجمعت رؤوس الثلاثة الكبار في بغداد بشكل يثير الخشية والريبة والإستغراب».

ومثلما جمعت الأقدار رؤوس الثلاثة الكبار في بغداد تمهيداً لمذبحة، تجمعت لدى ميسلون هادي ثلاثة عوامل مهمة تمهيداً لرواية تاريخية بارعة، أولها مصادر الذاكرة البغدادية، وهي مصادر كثيرة ومتنوعة وزاخرة بالمعلومات التفصيلية، وثانيها القدرة السردية المُجربة ذات النفس الطويل، والانتقال بسلاسة بين الأزمان، وضبط مسار الحاضر بالماضي من الذكريات الموجعة، وثالثهما الروح البغدادية التي تربت عليها الروائية ومعرفتها بعادات الأسرة البغدادية، ووفرة معلوماتها عن محلات بغداد وأزقتها في الأعظمية والكاظمية والوزيرية والعطيفية وجديد حسن باشا والكرادة، وعن قصري الزهور والرحاب، بما مجموعه أكثر من 35 محلة وزقاق جرت فيها أحداث الرواية، عوضاً عن أماكن خارج العراق كما في محطة قطارات بارنغتون بلندن للذهاب إلى مدينة بريستول حيث درست راوية الأحداث الطالبة العراقية نور ماضي في بعثة دراسية عام 1967.

في تلك الليلة كما تقول الرواية، جاء عبد الإله بساحر هندي للقيام بألعاب سحرية، قام الساحر بنزع ساعة أحد الموجودين، ثم عثروا عليها في جيب الملك فيصل، وفي مرة أخرى، أخذ الساعة من معصم الملك، ووضعها في جيب الملك نفسه. ثم أخرجها من جيب شخص آخر وسط ذهول ودهشة الجميع.. حدث شيء غريب، سقطت الساعة من يد الساحر على الأرض وانشرخت زجاجتها.

« تطّيرت الأميرة عابدية مما حدث».

***

طه جزّاع

تشكلت صورته من خلال الحكايات الغريبة والمتناقضة، فحياته أغرت كتاب سيرته بنسح قصص خيالية عنه، فمنهم من أنكر وجوده مثلما يخبرنا ابن النديم: " تقول عنه جماعة من اهل العلم واكابر الوراقين انه لا أصل له ولا حقيقة " – الفهرست ابن النديم -، وقال البعض انه موجود لكن الكتب التي نسبت اليه لم يكن هو صاحبها، إلا ان ابن خلدون يصفه بانه: " إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز".يظهر جابر بن حيان الفيلسوف وعالم الكيمياء في رسائل ابو بكر الرازي الذي يستشهد به قائلا: " قال استاذنا ابو موسى جابر بن حيان"، ويرد زكي نجيب محمود على المشككين بقوله ان جابر بن حيان: " اضاف إلى الفكر الانساني عنصرا جديدا افتقده الفكر اليوناني، ذلك هو اعتماده على التجربة والبرهان الحسي وعدم الاكتفاء بالفروض والتحليلات الفكرية الغامضة التي كانت محور المعلافة عند اليونان".

ولا تكاد تنتنهي مسألة اثبات وجوده، حتى يثار خلاف جديد حول أسمه، فهل هو " ابو عبد الله جابر بن حيان، أو " أبو موسى جابر بن حيان، ويحسم لنا الرازي هذه المعضلة حين يقول ان اسمه " جابر " لانه "جبر العلم "، أي أعاد تنظيمه. وسيبدأ تحدي آخر حول مسقط رأسه وتاريخ ميلاده.فمنهم من قال انه ولد في مدينة طوس في خراسان، وآخرون يؤكدون بأنه صابئي ولد في مدينة حران، فيما الرحالة الحسن بن محمد الوزّان والشهير بـ " ليون الأفريقي" يقول انه يوناني اعتنق الاسلام.ونعود الى ابن النديم الذي يقول انه لقب بالكوفي وكان يقيم في شارع يعرف بـ " درب الذهب ".

كان يشرف على الثمانين من عمره حين دقّ الخطر بابه، فقرر أن يهرب من بغداد الى الكوفة، معتكفا بالدار، خوفا من ان يلحق به غضب الخليفة هارون الرشيد الذي اطاح بالبرامكة وكان جابر من المقربين منهم.. قال لأحد تلامذته ان الفلاسفة لن تنجيهم سوى كتبهم وابحاثهم، وان العلم وحده القادر على وصول الانسان إلى الخلود. يكتب في احدى رسائله: " ان اسرار الطبيعة قد تمتنع عن الناس لأحد سببين، فاما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسرالكشف عنها، واما ان يكون للطافة تلك الاسرار بحيث يتعذر الامساك بها. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، كان في وسع الباحث العلمي ان يلتمس طريقا الى تحقيق بغيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء عن السير في شوط البحث الى غايته " – كراوس مختار من رسائل دجابر بن حيان –

كان جابر بن حيان اول من أتى بفكرة ان النفس لا تكون عالمة اولا بالضرورة " اي انها لا تولد مزودة بالعلم، بل انها تكتسب العلم من الخارج. ونجده يناقش موضوعة المعرفة وهل هي فطرة كامنة في الانسان تحصل تلقائيا حين تتاح لها الظروف. ام هي اكتساب من تجارب العقل وممارسته ؟. كان افلاطون يقول ان الافكار موجودة في النفس، وان كل المعرفة اصلها الروح. فيما يرى جابر بن حيان ان اكتساب المعرفة يعتمد على تجربة الانسان للاشياء واستخلاصه النتائج والقوانين الكونية من هذه التجارب.

هل كان جابر بن حيان يتخذ موقفا مناوئا من الدين ؟ في رسائله المختاره نراه يقسم العلوم الى قسمين. علم الدين، وعلم الدنيا حيث يعرف علم الدين بأنه " الافعال المأمور باتيانها للصلاح فيما بعد الموت " ويعرف علم الدنيا بأنه " جميع ما في عالم الكون من الحوادث ". كان ابن حيان عالما وفيلسوفا في نفس الوقت، فقد رفض أن يفقد ايمانه، ورفض ان يكون مؤمنا من دون عقل، فطورا فهما جديدا لمكانة العقل في حياة الانسان يكتب في الرسائل إن: " العلة الأولى هي العقل، والعقل هو العلم، والميزان هو العلم، فكلُّ فلسفة وعلم فهو ميزان، فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته هي وكل ما يتصل بها من فروع." وهذا يعني أن المبدأ الأول الذي يجوز لنا أن نتصور كلَّ شيء آخر متفرعا عنه، هو العقل، فلولا وجود العقل، لما كان كون، لأن كل شيء في العالم إنما يسير وفقَ مبادئ العقل، وليس الأمر متروكًا للمصادفة العمياء: " فالعلة الأولى هي العقل"، والعقل والعلم واحد، فما تسمِّيه عقلًا هو نفسه ما يصحّ أن تسمِّيَه علما.

بينما كان جابر بن حيان يعيش سنواته الاخيرة في خوف وقلق، قرر ان يصوغ نظرية في الكيمياء أراد من خلالها تحرير هذا العلم من الخرافات،كما انه كرس مجهوداته البحثية لأجل استكشاف مبحث جديد يدعى التكوين، تحت غطاء من السريه في معمله، حيث نراه يتخذ من نظريته القائلة بأن العالم الكيميائي يستطيع ان يحول أي كائن إلى كائن آخر في نطاق الكائنات المركبة،وان التحويل هذا ليس قاصرا على تحويل معدن الى معدن، بل يتجاوز ذلك الى عالمي النبات والحيوان دون ان يستثني الانسان نفسه، وليس من فرق عنده بين تحويل المعادن والجمادات وبين تحويل الكائنات الحية، سوى الفرق في طريق التجربة. ونراه يعرض عدة مذاهب في تكوين الكائن الحي. يكتب زكي نجيب محمود: " ولعل اغرب ما في الموضوع هو محاولة جابر صناعة الانسان على أي صورة شاء، وموضوع الغرابة عندي هو ان يصدر هذا عن رجل يعتقد في ديانة تجعل خلق الانسان من شأن الله وحده، فلا بد ان يكون ثمة وجه لتبرير ذلك عند جابر، وما اقرب الشبه بين الاحلام التي ساورت جابرا في زمانه من حيث محاولته خلق تكونات حية شاذة عن الكائنات المألوفة، اقول ما اقرب الشبه بين هذه الاحلام وبين ما تحقق هذه الايام من تطعيم الحيوانات بعضها ببعض، فيركبون اعضاء حيوان في جسم حيوان آخر وهكذا " – جابر بن حيان سلسلة اعلام العرب -.فاذا كان في وسع الكيمياء أن تستنبط مواد جديدة بتركيب الاجسام بعضها مع بعض، فلم لا تقوم ايضا بانتاج النبات والحيوان، بل وبخلق الانسان الصناعي ؟ ان هذا العلم ممكن بنظر جابر بن حيان لأن الكائن الحي هو نتيجة لتظافر قوى الطبيعية.

***

تبدو حياة جابر بن حياة غامضة، فالطفل الذي ولد في العاشر من تموز عام 721 ميلادية في مدينة طوس، ينتسب الى عائلة من اصول يمنية، سكنت الكوفة حيث عمل الأب بائعا للعطور والاعشاب، كان يناصر الدعوة العباسية، مما اضطره السفر الى الى طوس عام 715 م هربا من بطش الامويين، بعد سنوات من النشاط السياسي والعمل في تجارة الاعشاب، سيتم القبض عليه في دمشق حيث يحكم عليه بالشنق، كان الابن قد بلغ العاشرة من عمره، تعيش العائلة محنة العوز ومراقبة السلطات، عندا بلع جابر الثانية عشر من عمره ارسلته والدته الى بعض اقاربه في اليمن لغرض التعليم وايضا ليبتعد عن عيون السلطات، في اليمن درس النحو والمنطق وعلوم القرآن وتتلمذ على يد " حربي الحميري " وكان هذا الاستاذ شغوفا بالكيمياء والفلسفة حتى ان جابر بن حيان سيطلق عليه لقب " الشيخ الأكبر "، وسيصفه في رسائله بأنه كان " طويل القام، كثيف اللحية مشتهرا بالإيمان والورع وقد أطلق عليه العديد من الألقاب ومن هذه الألقاب الأستاذ الكبير"..سيعيش ابن حيان حياة صعبة في ظل اتهام السلطات لعائلته بانها متعاونة مع العباسيين، لكن هذا لم يمنعه من مواصلة الدرس ومتابعة تجارب استاذه في الكيمياء، والانكباب على قراءة كتب الفلسفة التي وقع في سحرها. كان في الحياة اشياء كثيرة تقلق جابر وتشغل باله، لكنه اختصرها في فكرة واحدة " العلم "، مؤمنا بالعلم الذي يمكن للمرء تحصيله من الدراسة والقراءة والتجربة. عند بلوغه التاسعة عشر من عمره يسافر الى الكوفة حيث عادت امه ومعها اشقاءه، في الكوفة التي عاد اليها شابا لم تسر اموره سيراً حسنا حتى التقى بجعفر الصادق الذي سيطلق عليه لقب " سيدي واستاذي " ويذكره في مقدمة بعض كتبه، وبشخص آخرهو خالد بن يزيد الذي ابتعدت عنه الخلافة وقد ذكره ابن النديم بانه: " اول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء " يكتب المستشرق الفرنسي كارا دي فو في دائرة المعلارف الاسلامية ان معلما جابر: " هما خالد بن يزيد وجعفر الصادق ". لم يستقر طويلا في الكوفة حيث بدأت السلطات تراقبه مما دفعه الى " التنقل في البلدان، لا يستقر به بلد خوفا من السلطان على نفسه " – الفهرست ابن النديم – بعد قيام الدولة العباسية يشعر بالامان فيقرر السفر الى بغداد، هناك يتعرف على البرامكة الذين منحوه منزلة خاصة وادخلوه الى قصر الخلافة ليصبح طبيبا لهارون الرشيد. يؤسس معملا للكيمياء ويتفرغ للتجارب العلمية والكتابة وقد عبر عن افكاره في الكثير من المؤلفات التي يضع لها ابن النديم قائمة لاكثر من مئة كتاب ورسالة.فيما يذكر كارل بروكلمان في كتابه " ناريخ الادب العربي " ان لجابر بن حيان " 85 " كتابا وقد طبع منها مجموعة ابرزها " الرسائل " و" كتاب الملك " و" الموازين " و " كتاب الرحمة " وكتاب التجميع ". ويشير بروكلمان الى ان كتب جابر بن حيان الفلسفية او التي تتناول قضايا دينية ذات صلة بالعقائد الفلسفية الاسماعيلية.

بعد سنوات من الطمأنينة والعمل المثابر سيضطر جابر بن حيان الى الهرب من جديد بعد ان قُتل البرامكة على يد هارون الرشيد، ليعيش متخفيا حتى عصر المامون، بعدها يسافر الى طوس ليتوفى في التاسع من تشرين الاول عام عام 815 م.

***

نحن الآن في سنة 805 م، المكان مدينة الكوفة، حيث يجلس الرجل العجوز، الطويل القامة، الذي اشتهر بتصوفه وانعزاله، يتحرك بصعوبه في معمله محاطا باكوام من المخطوطات، وتكتظ الطاولة التي امامه بالقوارير، والاصباغ، حاويات المحاليل. البودرة تنتشر على سطح الطاولة، كل شيء معنون بعبارات تحدد ماهيته. يداه ملطختان بالالوان،تملؤها الندوب من كثرة ما فيها من الحروق الناتجة من المواد الكيماوية، كان دائم السعال بسبب البخار الذي ينتشر في الغرفة. في الخارج كان عدد من الحراس ينظرون الى البيت بريبة، فهم يعرفون ان هذا الرجل مغضوب عليه من الخليفة هارون الرشيد، وأن حركاته يجب ان تُرصد جيدا، إلا أن الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره لم يعد يهتم بما يجري خارج بيته، فهو مشغول بانواع المواد التي تحيط به، وكيف يصنع منها شيئا جديدا. يدرك جيدا انه عاش طويلا وواجه محن كثيرة في حياته، فقد كان في شبابه يعتبر السياسة ضرورية للمفكرين، ولأنه كيمياوي فقد ظل يؤمن ان اسرار الكون مدفونة بعمق في العالم المادي المحيط به، وأن عمله في هذا المعمل القديم إنما محاولة لفك شفرات الكون حتى يعرف الحقيقة، ومثله مثل غيره من المفكرين فإنه يعتقد ان هذه الاسرار التي خلقها الله من الممكن فك غموضها فقط من خلال قلة ممن هم على استعداد للبحث العلمي والفلسفي الطويل.

كان جابر بن حيان فيلسوفا الى جانب صنعته في الكيمياء، حاول ان يوفق بين الدين والعلم، لقد كانت في قلب تطلعاته الفكرية فهم الكيقية التي تسمح للناس بمعرفة ان الدين فطرة كامنة في الانسان، بينما العلم هو اكتساب من تجارب العقل وممارساته، وكان ابن حيان يرى ان الإنسان قادر على بلوغ حقائق عظيمىة إن هو استفاد من أهم عطيه منحها له الله: العقل.

اعحب اعجابا شديدا بسقراط حيث يصفه بانه: " أبو الفلاسفة وسيدها كلها" وأنه مثال الإنسان المعتدل، مع تعريفه للشخص المعتدل بأنه هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة. إن جابرًا ليؤمن بقيمة الفلسفة إيمانًا يجعل الفلسفة عنده شرطًا لا غنا عنه لارتقاء الإنسان في مدارج العقل، حتى لتختلط عند جابر طائفةُ الفلاسفة بطائفة الأنبياء: "إن الشرع الأول إنما هو للفلاسفة فقط، إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء، كنوح وإدريس وفيثاغورس وطاليس القديم، وعلى مثل ذلك الإسكندر." – رسائل جابر بن حيان –، وكان يرى ان الفلسفة تساعدنا على اقامة نظام عقلاني متناغم، وايضا على تأمل النظام الكوني، وكفيلسوف حاول جابر بن حيان استخلاص اكبر قدر ممكن من المعرفة من خلال الملاحظة والعقل.ونجده يسير على نهج ارسطو، فيعتقد ان الاشياء الحية وغير الحية على حد سواء، لها اشكال جوهرية، واشكال الكائنات الحية، ارواح، وهذه الارواح تزيد من القدرة على الفعل والشعور، في حين تضيف الروح البشرية للانسان العقلانية، مما يجعله قادرا على التفكير والفهم، ومن خلال التفكير يمكن للإنسان أن يدرك طبيعة الكون، ويرى جابر بن حيان ان العقلانية هي السمة المميزة للبشرية، مؤمنا بمقولة ارسطو " جميع البشر يرغبون بالمعرفة ". ولعل هذه المصالحة بين الدين والعلم التي سعى اليها جابر بن حيان حققت هدف الدين باعتباره دليل الخلاص للفرد، فيما العلم والمنطق والفلسفة تساعدنا لاكتساب معرفة شاملة عن انفسنا وعن الكون. سوف يجد الجانب العلمي لدى جابر ضالته في " الكيمياء "، ووفقا لسيرة حياته العلمية لم يكن هدف جابر من الكيمياء تحويل الصفيح الى ذهب، لكن كان همه البحث عن التكوين، وهذا يعني بالمصطلح العلمي الحديث " خلق الحياة الاصطناعية في المعمل "، ورغم ان بعض الباحثين مثل الامريكية " كاثلين اوكتور " في بحثها عن التكوين عند جابر بن حيان قد حسمت الجدل حول ما اذا كان مفهوم التكوين لدى جابرليس سوى طقس رمزي مجازي يحاكي فيه فعل الخلق دون ان يتوقع خلق حياة فعلية، أم انه كان سعياً حقيقيا لتوليد حياة إذ توصلت إلى انه: " كان فعلاً رمزيا وحرفيا في آن واحد " – من مكة الى الميتاداتا مايكل هاميلتون -.

لقد تمثلت احدى الاشتغالات الرئيسية لجابر بن حيان كمنظم للعلم، وفي توجيه المعرفة في مسارات متعددة اتسمت بالموسوعية التي وصفها البعض بالسحرية.العالم والفيلسوف المتعدد المهام، اجهد نفسه في ميادين الفكر التي لا تعد ولا تحصى. ادرك بان للعلم امكانية في ان يكون عونا للانسان، يساعده في تقديم شرح افضل للحياة والكون وتجنب الاوهام. شكلت كتبه احد اهم مصادر الدراسات الكيميائية في الشرق والغرب، واتاحت ترجمتها انتقال المعاراف الى حضارات اخرى. ومعها انتقلت عدة مصطلحات عربية وكانت مرجعا معتمدا في اوربا خلال الفترة من القرن العاشر الميلادي وحتى القرن الثاني عشر. غطت كتبه فروعا معرفية مختلفة منها: علم الكونيات والموسيقى والطب وعلم الاحياء والرياضيات والمنطق والهندسة. وتظهر ريادته في عدد من البحوث الكيميائية ويعد اول من استخرج حامض الكبريتيك، واول من اكتشف الصويا الكاوية، واول من استحضر ماء الذهب، والزئبق، فضلا عن مركبات اخرى. كان جابر بن حيان فيلسوفا وتلميذا لسفراط. آمن بان الفلسفة تقودنا من خلال استخدام عقولنا، الى حقائق فعلية:  كيف بالامكان ان تكون عالما وفيلسوفا ومؤمنا ؟ كيف يمكن الجمع بين العقل وبين الايمان.. كيف تتحول مسالة الله الى مسألة فلسفية، تركز على التساؤل حول وجود كائن أزلي مستقر، وعلة كل ما هو موجود بالكون.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بعد أن نشرت الوثيقة الأولى عن ما حدث في شكوت ”هزارستون” تلقيت عدة رسائل من رفاق مروا بهذا الموقع ومن متابعين للشأن السياسي العراقي ومن مهتمين بشغف للاطلاع على حيثيات وتفاصيل التجربة التي خاضها الشيوعيين العراقيين في ظرف عصيب من تاريخ العراق السياسي الحديث وما أعترتها من تحديات جسيمة وطرق مواجهتها، مما أخذت قسم على نفسي وعهد تاريخي وأخلاقي في العودة لها ثانية والوقوف على تفاصيل آخرى. في مقرنا كانا معنا حمارين يتقاسما معنا التعب والخوف من صدى صوت الصواريخ العراقية عبر أجواء موقعنا لتدك رواقم الجيش الإيراني، وكانت شبه يومية ولا يحددها زمان ووقت. بطبيعة الظرف والوقت وعسر الحياة تآلفنا مع الحمارين وكانا جزء مهم من يومياتنا المملة، ولقد أطلقنا عليهن إسمين نكاية برجالات الدولة العراقية ” فيطو وصبحة ” !. شخصية فيطو هو المسؤول عن نادي الصيد العراقي آنذاك. وشخصية صبحة هي أم الدكتاتور صدام حسين. في نهايات أيام الانسحاب الآخير من موقع هزارستون على أثر الهجوم الكاسح على المنطقة كانا معنا ” فيطو وصبحة ”. وبقى معنا الى اللحظات الآخيرة من أنسحابنا من جبل سورين وعبورنا عبر المدن الإيرانية الى مناطق شرباجيير.

كنت حريص جداً مع الرفيق الذي سوف يرافقني في قطع أشجار البلوط في عمق الوادي صعوداً بإتجاه الاراضي الإيرانية ودقة تقطيعها وشدها وحملها على ظهور ” فيطو وصبحة ”. ربما بتأثير غير مباشر في التراجيديا السياسية، ذات يوم كنت حاضراً في أمسية بموقع كرجال ألقاه علينا الرفيق المرحوم أحمد باني خيلاني في خريف عام ١٩٨٣. وكان عائد تواً الى قيادة القاطع بدلاً عن الرفيق المرحوم بهاء الدين نوري الذي عزل وشهر به لأصراره بنشر وثيقة تقيمية لسياسة الحزب للفترة الممتدة من ١٩٦٨الى ١٩٧٩. وتحمل ما تحمل بسببها.

كنت معتقد ومتلهف سوف أسمع من المسؤول الجديد حول مستجدات المفاهيم الماركسية الجديدة قانون نقض النقيض أو وحدة وصراع الاضداد، أو ما كانت تمنيه النفس في الحديث عن ظروف أسره وفكه وبيانهم المشؤوم مع الرفيق المرحوم كريم أحمد من إذاعة صوت الإتحاد الوطني الكردستاني بعد أحداث بشتاشان الدامية. ختم حديثه حول مزايا الشيوعي الجيد وهو من يستطيع أن يقود حيوان ” البغل ” والرفقه في مداراة الحمل على ظهره.

في شتاء قارص عام ١٩٨٤. شهدت المنطقة عواصف ثلجية غزيرة سدت الطرق والمنافذ والتي كانت متاحة لنا للتحرك لعدة أيام، لم يعد أمامنا الا الحركة داخل الشكوت متأبطين الاغطية السميكة للوقاية من شدة البرد، ولقد أستمرت لأيام، ولقد أضنانه الجوع والملل، وفي هذا الأثناء ألتجأ إلينا ” كلب ” هارباً من الثلج والبرد ليحتمي في الاشكوت، فقام أحد الرفاق لا أتذكره من كان، بإطلاق النار عليه، وأنا قمت بسلخه وتقطيعه ووضعه في إناء كبير ولعدة ساعات تحت نار مشتعلة، وعندما ناديت على الرفاق بالقدوم والنهوض من النوم لإنه الطبخ أصبح جاهز، لكن لا أحد تجرأ على مضغه لقساوة لحمه الشديدة مع جملة من التعليقات المريحة. 

ذات مرة أكتشفنا في قطع جبلي حاد خلية نحل، والرواية تقول حسب بعض الرفاق من أبناء المنطقة عمرها عشرات السنيين، وعندما أستطلعنا عبر الفتحة الضيقة رأينا كثافة العسل المتراكم داخل المغارة، حيث بدأنا نضع الخطط تلو الخطط لاقتحامها ولصعوبة التمكن من السيطرة على المكان لابد من يحملك أو الاستعانة بسلم. قررنا أنا وعدنان اللبان ومناف الاعسم بتبني العملية، فقمت بأنتزاع شبك المنخل الوحيد الذي نمتلكه في المقر ومن خلاله كنا نصفي الطحين من الديدان والحشرات قبل تحضيره للعجن والخبز . ووضعت شبك المنخل على وجهي وغطت كل أعضاء جسمي بالوصل ” خرك ” وذهبنا الى المكان وحملني عدنان اللبان على كتفه وبدأت أوسع من كبر الفتحة بآله حديدية، وعندما تمكنت من أن أمد يدي داخل الفتحة لا أتخيل عدد الزنابير التي هاجمتني ولم يعد يحميني لا شبك المنخل ولا الغطاء الذي أحتميت به، وبقيت أيام أعاني من الألم والوجع والورم.

كنت وما زلت من محبي الطيور المدجنة، كان والدي المرحوم من مربيها، وأنا فطنت على ذلك في بيتنا الهويدراوي العتيق، حتى هنا في السويد جنيتها لأكثر من مرة، وكانت تمنحني طاقة من التأمل والسكينة لولا الملعونة السويدية جيراننا سعت من أجل حرماني من هذا التأمل حسب القوانين السويدية. وفي شوكت هزارستون ذات مرة كنت قي قرية ”شير مر” وفي أحد بيوت القرية وكان رب البيت من مالكي طيور، وتفاجأ عندما طلبت منه أن أشتري زوج وحملتهن معي الى المقر ”شكوت هزارستون”. ورتبت لهن واحدة من المغارات وأصبحن جزء من يومياتنا رغم الهمس من بعض الرفاق في الانتقاد وعدم الرضا، وذات عصرية كنا نتأمل سحر السماء وجمالية الغروب هجم الهر الكبير ”العتوي” عليهن ولولا أحد الرفاق الذي بادر بقوة السلاح من إبعاد الخطر عنهن، وبعد هذه الواقعة أختفن ولم نراهن، لكن أثارن جدل وسجال بين الرفاق وصلت بعضها الى الزعل.

في واحدة من السوابق الخطيرة في الحياة الحزبية الشيوعية بهذه الجملة واجهني الرفيق محمد جاسم اللبان ” أبو فلاح ” بعد أن ألتقاني، وأنا أروي له الحكاية. يبدو ومن خلال التجربة البسيطة وهذه ليس محصورة بالشيوعيين فقط إنها الشخصية العراقية بشكل عام، عندما يستلم ويتبوأ مسؤولية مهما يكون موقعها وتأثيرها، يبدأ شخصية آخرى غير الذي تعرفه وعشت معه سنوات وتجمعنا رفقة ومصير مشترك وموت مؤجل. كان في الموقع رفيقنا الشهيد أبو أحمد ” بختيار عرب ” من أهالي مدينة الشعب بالعاصمة بغداد رفيق مضحي وشجاع وكادر متمرس في العمل الحزبي ودمث الاخلاق ونكران ذات ومبادر في دعم ومساعدة الجميع وجليس ممتع، منذ سنوات لا يعرف أخبار عن زوجته وأولاده، أو ربما يتجنب الاتصال بهم خوفاً عليهم من بطش النظام. الشهيد أبو أحمد أستلم مسؤولية الموقع فتحول الى إنسان آخر تماماً غير الذي نعرفه وتعودنا عليه من التسلط وحشر أنفه في الصغيرة والكبيرة في يوميات الرفاق حتى وصلت الأمور الى لغة الأمر والخلافات اليومية مع الرفاق الى حد المقاطعة فتكون رأي عام ضده أو على أقل تقدير من أجل بقاء صورته الجميلة في قلوبنا، فوصلت الأمور الى حدود الكلوسة بيننا بالمطالبة بعقد إجتماع إستثنائي وأتفقنا جميعاً وبقرار حزبي سوف نعزله عن مهامه رغم خطورة الخطوة وتبعاتها علينا لانه خرق تنظيمي وحزبي كبير، وبعد سجال كبير نجحنا بمهمتنا وعزله عن مهامه من خلال التصويت وبالاجماع الحزبي وتعرضنا جميعا الى التوبيخ الحزبي الغير معلن من قيادة القاطع بأعتبارها سابقة خطيرة في الحياة الحزبية وطلبوا ببرقية عاجلة من الرفيق الشهيد أبو أحمد الالتحاق الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال”. وكان وضعه النفسي منهار وبادر الرفاق بأرساله الى العاصمة طهران للراحة والاستجمام وللابتعاد عن حياة الجبل. وأنا كنت في عمر وتجربة بسيطة جداً مما تألمت كثيراً وأنتقدت نفسي وأعتذرت منه في ما بعد.

في فترة وجودي في كهف”هزارستون”وفترة عام كامل، كانت مفعمة بالاحداث على المستوين الشخصي والسياسي، في يوم ما من عام ١٩٨٥ أستلمنا برقية عاجلة من قيادة قاطع سليمانية وكركوك مفادها تقول ! أن النصيرين السابقين خضر عبد الرزاق ”سليم”وعبد الزهرة تيتو ”أكرم” في الطريق إليكما ونود أخباركم وهذا بمثابة قرار بعدم الترحاب بهما وأستقبالهم في المقر، ومن المفيد جداً على الرفيق ”لطيف” هو أنا محمد السعدي أخذ الأمر بعين الاعتبار. النصيرين ”سليم”و”أكرم” كانا نصيرين ضمن قوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي وتركا موقعهما النضالي وتوجها الى إيران، وبعد أن عانوا من  ضنك العيش وصعوبة الحياة عادا الى الجبل، وعندما وصلا الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال” لم يرحب بهما من الرفاق، ومن خلال السؤال عني عرفوا موقع تواجدي وتوجهوا لي، وهم أبناء قريتي، ولقد ضربت بعرض الحائط برقية وقرار القاطع وأستقبلتهم في المقر بالاتفاق مع رفاقي في الموقع الا البعض من الرفاق كان متوجس. وقد أبلغنا قيادة القاطع مموهين على حقيقة الموقف إنهم مروا من هنا، لكن الحقيقة قضوا يوماً معنا. وفي اليوم الثاني صباحاً توجهوا الى الحدود الإيرانية وسلموا نفسهم بأسماء آخرى باعتبارهم جنود هاربين من ويلات الحرب. 

بادر الشهيد أبن السماوة أبو سالار المعلم السابق والمناضل المعروف أبو صلاح من عمل لنا مزرعة جميلة في سفح مدخل الموقع ونسقها بجمالية مدهشة، رغم معاناته اليومية بشحة السقي وقلة الماء، كان أعتمادنا الرئيسي من الماء عبر عين ماء موقعها تتوسط الحدود العراقية الإيرانية وسحبنا خرطوم طويل صوب موقعنا، ولكن مرات عديدة تتعرض الى القطع والتلف بسبب القصف الصاروخي العراقي على المنطقة مما نستعين بالحمارين فيطو وصبحة لاحضار المياه. وكانت معاناة حقيقية لنا. وبعد أن أجتاحت المنطقة بالكامل في سلسلة جبل سورين وكان لنا خمسة مواقع مهمة ولم يبقى مقراً واحداً لنا الا بعض المفارز المختفية والمتنقلة بظروف غاية في الصعوبة. في عام ١٩٨٥ أجتمعنا مرة أخرى في منطقة ” زيوه ” الفصيل المستقل في بهدينان خلف مدينة العمادية وفي غرفة منام واحدة مع الرفاق أبو سالار وأبو بشرى وأبو أحمد وأبو سرمد، والذين زجوا الى الداخل في بداية عام ١٩٨٦ لمهام تنظيمية في الفرات الاوسط وإعتقلوا بعد فترة قليلة من وصولهم وغيبوا الى يومنا هذا وكل الاتهامات كانت تشير الى وشاية الكادر المتقدم في الحزب عدنان الطالقاني ” أبو هيمن ” وعندما عاد أبو هيمن من الداخل الى مواقعنا ورغم اللغط الكبير حوله، لكن لم يتخذ أي إجراء ضده بقى يمرح ويسرح في الفصيل، وقام الرفيق حميد مجيد موسى البياتي ”أبو داود ” عضو المكتب السياسي بزجه مرة أخرى الى الداخل ولم يعد ثانية لنا، وحاليا مقييم في مملكة السويد ولم نسمع الى يومنا هذا أي تحقيق تم جراء هذا الكارثة الكبيرة بفقدان كوكبة لامعة من الشيوعيين الحقيقيين، إنها طمست كغيرها من القضايا المهمة في تاريخ الحزب.

***

محمد السعدي

آب2023

كهف هزارستون تعني بالكردية ألف عامود وفي واقع الحال عبارة عن مغارة تاريخية موغلة في القدم وحادة في سفح جبل سورين، إنه كهف محشور بسلسلة من العواميد تحت مرأى العين المجردة، في الصيف النوم تحت تلك العواميد تشعرك برشفة برد منعشة وفي الليل تخرج أسراب من خفافيش الليل في دورة كاملة حول المكان وفي النهار لاتشعر بها أطلاقاً تنام بصمت، يقع هذا الكهف في سفح حاد ومحاط بالصخور ذات الرؤوس المدببة والجارحة وبوادي عميق في جبل سورين، هذا الوادي ممراً للمهربين وملتقى القوافل في شراء وتبادل البضائع الإيرانية والعراقية بعيداً عن سيطرة الحكومتين، وممشاً أمناً للجنود الهاربين من الجندية العراقية ومن لهيب نار الحرب على جبهات القتال . يبدأ مدخل ممشى الوادي بإتجاه المدن العراقية قرية ”شيرمر ” على الشارع العام بين قصبتي خورمال وسيد صادق . نحن مقاتلي الحزب الشيوعي العراقي في عبورنا الليلي من مناطق شهرزور بإتجاه مقرات الحزب في باني شهر، وهزارستون، ووادي كرجال، وخورنوزان . نمر بقرية شيرمر ونقضي الليل في جامعها أو في أطرافها نقضي طول الليل سهرانيين تحت الاشجار أو داخل ” كرنفان ” كان متروكاً بأطراف القرية بأنتظار الصباح الباكر لنتسلق عبر الوادي صعوداً حاداً بإتجاه مقراتنا .

في ربيع عام ١٩٨٤ تم تنسيبي من مقر القاطع في منطقة كرجال الى موقع هزارستون حيث تنظيمات التنظيم المدني الجنوبية والفرات الاوسط والمنطقة الوسطى، وكنت أنا أصلاً محسوبا على التنظيم المدني لتنظيمات المنطقة الوسطى . موقع هزارستون معزول تماماً وبعيداً عن مقرات الحزب الأخرى أي يفصل بيننا مواقع للجيش الإيراني معززة بعناصر حزب الدعوة داخل الأراضي الوطنية العراقية . في تنقلاتنا اليومية بين جلب المواد الغذائية ونقل البريد الحزبي وقطع الاشجار لغرض الطبخ والتدفئة من البرد القارص، كانوا يعترضوا طريقنا ببعض الاسئلة المعتادة لنا وكنا لم نخفي هويتنا نحن شيوعيين عراقيين معارضين لنظام صدام حسين، لكننا نرفض إحتلال أرض بلدنا الوطنية، مما كان هذا الموقف يثير حفيظة عناصر حزب الدعوة وعناصر التنظيمات الإسلامية الذين يقاتلون مع الجيش الإيراني ضد العراق . في هذا المكان شعرت برفقة وقرب مع رفاق غادرونا الى أعالي المجد في أستشهادهم البطولي .. المرحوم أبو ذكرى مدينة السماوة، الشهيدة أم ذكرى مدينة النجف، المرحوم أبو ناصر جديدة الشط، الشهيد أبو أحمد مدينة بغداد، الشهيد أبو بشرى مدينة السماوة، الشهيد أبو سالار مدينة السماوة، الشهيد أبو أحمد ناحية الدغارة، الشهيد أبو سرمد ناحية الدغارة، الشهيد يوسف عرب مدينة الكوت، الشهيد أبو جلال مدينة الحي، الشهيد أبو علي السماك مدينة الصويرة، الشهيد أشتي مدينة كركوك، الشهيد أبو جيفارا مدينة جلولاء، الشهيد أبو غسان مدينة بعقوبة، الشهيد أبو سهيل قرية الجيزاني، الشهيد أبو قيس مدينة بعقوبة، أبو جهاد مدينة السماوة . كوكبة لامعة من المناضلين الشيوعيين مروا بهذا المكان، تقاسمنا العوز والحرمان ومشروع التطلعات الثورية . أنني مررت على الذين رحلوا لأحيي ذكراهم العطرة والسيرة الحسنة التي تركوها في نفسي برسم مسارات طريقي النضالي اللاحق .

في بدايات ربيع عام ١٩٨٥ كثافة الثلوج على قمم الجبال وسفوح التلال تقل بالذوبان عوضاً عنها زنابق الورود الصفراء والحمراء من بين شقوق الصخور إيذاناً بقدوم الربيع . ذات ليلة من هذا العام عقدنا أجتماعاً لدراسة الاوضاع في المنطقة ومناقشة الوضع السياسي خرجنا بتقييم وتقرير بإنه الوضع هاديء ولاشيء يدعو الى القلق والترقب . وقرر المجتمعون في الصباح الباكر بأنني سأحمل تقرير الاجتماع الى مقر قيادة القاطع في منطقة كرجال خلف قرى ” بيارا وطولا ” . كان آخر الحراس الليلين في الموقع الشهيد أبو علي السماك ” عمر ” ينادي على الجميع في النهوض، رفاق أنهضوا هناك تقدم على المنطقة وقصف صاروخي كثيف على الرواقم الإيرانية من قبل قوات الجيش العراقي . نهضنا جميعاً وأخذنا أستعداد كامل لمواجهة الموقف، وقد تبين من اللحظة الأولى أن القوات العراقية الخاصة بقيادة علي عربيد لقد أحكمت سيطرتها على المرتفعات الجبلية التي تقع في ظهر موقعنا وعبرت القوات العراقية مقرنا من الخلف بإتجاه التسلق نحو الرواقم الإيرانية تحت قصف مدفعي وصاروخي كثيف للتغطية على تقدم القوات العراقية، تركنا موقعنا وحملنا معنا أشياءنا المهمة والخفيفة وتوزعنا على قمم الجبال والوديان بإتجاه مقرات حزب ” الباسوك ” حليفنا في جبهة جود ولم نجد أحداً من مقاتليه لقد أنسحبوا في بطن الليل لتلقيهم معلومات مسبقة عن تقدم الجيش العراقي ولم يبلغوننا ونحن في جبهة قتال واحدة ضد النظام العراقي، أما التقرير الذي كنت أحمله في ”العليجه ” حقيبتي الشخصية بتقييم الاوضاع قبل عدة ساعات لقد مزقته بوصية من الرفاق . بعد عدة ساعات تمكنت قوات الجيش العراقي من إحتلال المنطقة بالكامل وسحق كامل للقوات الإيرانية الأ من أستطاع الهرب، وكنا نرى بأم أعيننا القوات العراقية ترمي الجنود الإيرانيين وهم أحياء الى عمق الوادي ولا يكسر سكون الوادي آنذاك الا صوت الاستغاثة والتوسل وفي خضم هذا المشهد صادفنا ضباط إيرانيين تمكنوا أن ينجوا بجلودهم وطلبوا مني ناظوراً كنت أحمله ليروا مصير جنودهم . في ختام المشهد إنسحبنا الى موقع مقر الفوج التاسع في منطقة ” باني شهر ” وبعد تقييم سريع للموقف بعثناه الى قيادة مقر القاطع بقيادة أحمد باني خيلاني”أبو سرباز” إبراهيم الصوفي”أبو تارا” محمد النهر”أبو لينا” تلقينا جواباً سريعاً لا ينم عن دراية وتقييم جدي للاوضاع العسكرية والسياسية في المنطقة تقول البرقية ! أن أنسحابكم بهذه الطريقة وترك خلفكم أشياء ثمينة طبعاً الاشياء الثمينة، كانت هي تسعة صواريخ بازوكا فاسدة يعد هزيمة كبيرة أمام أهالي القرى وجماهير الحزب وما عليكم الا العودة الى الموقع وسحب الصواريخ تحت جبهة حرب ساخنة ونية إجتياح كامل للمنطقة وهذا ما حدث بعد شهرين لم يعد لنا مقراً في المنطقة ونزوح كامل الى مناطق”شرباجيير” . عدنا أربعة رفاق الى موقعنا في هزارستون تحت عتمة الليل والقصف والتنوير والانتحار، ولقد وجدنا قتلى جنود داخل مقرنا وحملنا معنا بعض الاشياء التي لم يلتفت لها الجنود العراقيين عندما دخلوا موقعنا  لنعيد بها وجه الحزب كما ذيلت تلك البرقية الا صواريخ البازوكا التي صادرها الجيش في نفس الليلة، وكنا في مواجهة حقيقية مع الموت . تلك واحدة من التجارب المهمة في حياتنا كأنصار شيوعيين .

***

محمد السعدي

آب 2023

بعد حقبة الستينيات وعند هذا التاريخ دخل العراق في الفراغ، في منعطف توقف عن إنتاج النماذج الوطنية الكبيرة، ومشاعية التفكير والرؤيا، فسلام عادل هو آخر الذين يذكرون هنا بإجلال، لاعتبارات خاصة، فالعناد والتمسك بالمبادئ كان ديدنهُ، مما صنع منه العظمة من الأعلى وجعلت لأول مرة في العصر الحديث ممكنة. أما ما صنعته القيادة من الأسفل فهو عزيز الحاج، الذي تزعم تنظيم القيادة المركزية وتركه بموقف لا يحسد عليه عبر لقاء على شاشات التلفزيون العراقي.

لكن لا أحد من بين من انغمسوا في تجربة الكفاح المسلح كان كاملاً، فعزيز الحاج لم يكن ضعيفاً بذاته، بل بالخلفية والايقاع المحيط به هو الذي اضعفه، لذلك كان على عزيز الحاج أن يفعل ما فعله لأنه لا يستطيع الموت بمرافقة الكذب أو لأجله، مع العلم أنه كان غير مؤهلاً تماماً ليقود الثورة في أهوار جنوب العراق، لذلك نجده قد صعد في أرجوحة الحلم المغلق، وهبط مضرجاً هبوطاً مدوياً يدل على المأساة، فكان رمزاً لحظة الإعلان المدوي عن الفراغ بكل تراجيديتها، كما كان نقطة دالة على انقطاع في الجانب الأهم من جوانب الشكل الوطني.

كانت انتفاضة الأهوار قد وقعت ضمن اخطر المنعطفات التاريخية في عموم تاريخ العراق، وكان ثوار الانتفاضة أمثولة من نوعٍ آخر، فالانتفاضة المسلحة التي قامت في الأهوار وقتها استمرت برمزيتها التي نجمت عنها، وخاصة بفرديتها، فالفرد الذي ينمو مع الأيام والوقائع انتهى بنهاية الحدث وتحول إلى ذكرى مستحيلة التكرار، والأشخاص صاروا حاضرين ملحقين بالحدث، كما هو حال الثائر خالد أحمد زكي، الذي كان يمتلك صفاة القائد بشجاعته وملكاته الشخصية، أو منجزه الحقيقي وحدود ما فعله، إلا أنه لم يكن مؤهلاً جسدياً للعمل الصعب الشاق في الأهوار، والنزعة الأرادوية في هذا المجال، لم تكن مفيدة دائماً ولا فعالة، بسبب ضخامة الصعوبات وتعددها، بينما وضع في الظل اسم شخص لعب الدور الأهم في كل تجربة الكفاح المسلح، وتميز بروح تطابق اللحظة التي مارس نضاله خلالها، وكان متميزاً وقيادياً ومشاكساً قرمطياً غريب الأطوار هو أمين الخيون.

في ص66 يتذكره الكاتب عبد الأمير الركابي في كتابه (انتفاضة الأهوار المسلحة في جنوب العراق 1967/1968م) قائلاً: (أمين الخيون هو حقاً الممثل الفعلي للتيار العراقي، ضمن ظاهرة الاتجاه إلى العمل المسلح، وتصوراته ومحاولاته بهذا الخصوص، تعود إلى أوقات مبكرة، ترجع لما قبل تأثيرات أمريكا اللاتينية وجيفارا، فأمين كان من المشاركين في المقاومة المسلحة التي جوبه بها انقلاب 1963 البعثي عام 1963 في الكاظمية شمال بغداد، حين قام مع رفاقه باحتلال مركز الشرطة هناك، واستولوا على اسلحته وجابهوا الحرس القومي ودبابات الإنقلابيين. وكان هنالك في خلفية المشهد أيضاً أبو جعفر المناقبي، والشخصية المتفانية من دون حساب، أو نوري كمال العاطفي الذي صفيّ على يد ناظم كزار، أو الملازم فاضل عباس، ومن بين هؤلاء لم يشارك الأول والثاني، في العمل المسلح بأي درجة... في حين كان الملازم فاضل عباس قد شارك في القاعدة الأولى مع أمين الخيون، وكان المشرف على التدريب على الأسلحة. وهو بالمناسبة من الهاربين من سجن الحلة).

علينا أن لا نغمط ونغفل دور الخيون في الدواية كلياً في مجريات العمل المسلح في الأهوار وما اطلق عليه اسم (منظمة الكفاح المسلح)، وهي المنظمة التي ظلت قائمة حتى بعد مجيء حكم البعث للسلطة عام 1968 وهروب أمين الخيون من السجن في الموقف العام في باب المعظم بمساعدة حارس ينتمي إلى الحركة الكردية قبل تصفية القيادة المركزية عام 1969. وقد فقد أمين الخيون أخيه نائب الضابط في القوة الجوية جميل الخيون في ظروف غامضة، ولم يعرف عنه أي شيء لحد الآن. وحالة أمين الخيون لعبت فيها قلة الخبرة، وعدم توفر الأشخاص المناسبين للمهمة، إضافة إلى الأخطاء التي كانت في هذا المجال الدقيق، غير قابلة للاستدراك وسرعان ما تنتهي إلى انهيار التجربة وفشلها.

أما جماعة الفرات الأوسط من تنظيم الكفاح المسلح فكان موسى تاج الدين أكثر اعضاء المنظمة أهمية، وقد عقدت له عدة لقاءات بخالد أحمد زكي في الحديقة العامة قرب المحطة العالمية في الكرخ، ثم اللقاءات استمرت في بيت (شهاب) في الحرية الثانية. فضلاً عن جماعة (كوادر الحزب) أو (فريق الكادر اللينيني) المتمثل بعزيز الحاج وحسين الكمر. وكان لكثرة الانشقاق قد تعرض البعض للتجميد من قبل الحزب (اللجنة المركزية)، فبدأ بتشكيل تكتل (وحدة اليسار)، وهكذا كان الحزب عموماً، يضم قبل انشقاق القيادة المركزية في 17 ايلول 1967 ثلاث تكتلات هي: (القيادة المؤقتة) أو (مصباح) و(فريق من الكادر اللينيني) و(وحدة اليسار). الأول يتزعمه عزيز الحاج وحسين الكمر، والثاني يقوده نجم، والثالث الأصغر بقيادة أمين الخيون.

كما لا ننسى الشخصية الاسطورية موسى عطية، فضلاً عن دور ضابط الصف المقاتل حسين محمد حسن السويعدي الذي شارك عام 1963 في انتفاضة الرشيد مع حسن سريع. ولدور محيسن نايف الذي ارتبط بانتفاضة فلاحي الغموكة، وهناك أيضاً عبد الجبار علي جبر الشمري؛ الذي فقد كفه وهو يعيد قنبلة يدوية وقعت وسط مجموعته في معركة هور الغموكة، ولولاه لقتل جميع رفاقه، وكذلك يجب أن لا يُنسى علي حسين بويجي، ذلك الشاب اللاهي الضحوك من أبناء مدينة الثورة (الصدر حالياً)، وتوفى في ظروف غامضة، ولا ننسى عقيل حبش ودوره في الانتفاضة، إلا أن الظروف لم تكن بجانبه فتم إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة السيارة أولاً، فضلاً عن دور عبد الأمير الركابي الذي تخاذل فيما بعد وتعاون من اللجنة التحقيقية بعد إلقاء القبض على المجموعة. فضلاً عن دور ابن محلة الدوريين في بغداد عبد الله شهواز، وممن استشهدوا في المعركة خالد أحمد زكي ومحسن حواس، هما من قاتلا ببسالة ورضى مذهلين. قاد معركة هور الغموكة الشهيد خالد أحمد زكي، الذي ترك العمل مع البروفسور رسل وعاد للعراق لقيادة تجربته في الكفاح المسلح ضد نظام السلطة العارفية، وعند وصوله لبغداد اقتضت الضرورة لإقامة جهاز سري سمي (خط حسين)، وجرى لاحقاً تغيير اسمه إلى (خط هاشم)، حتى لقب خالد أحمد زكي بـ(أبو هاشم)، وكان دور هذا الجهاز أن يقوم بالمهام الخاصة من استخبارات ومراقبة وتأمين السلاح، والبدء بالتدريب على استعماله والقيام بمهمات الحماية. وكان السيد درعان (منعثر سوادي) الذي استشهد هو الآخر في المعركة, وهناك أشخاص آخرين لم يشاركوا في المعركة الفاصلة مع القوات الأمنية وقد اصيبوا بالذعر؛ هم كلٍ من: عبود خلاطي وحسين ياسين وموسى عطية، تركوا المجموعة في اليوم الثاني.

من خلال هذا البحث الموجز احاول أن ارسم قراءة عن انتفاضة الأهوار، التي وقعت ضمن أخطر المنعطفات التاريخية حقبة الستينيات، في وقت تنامي الصيغة الشيوعية المقاتلة وكسر القاعدة. هذا التحدي الذي اسهم بقوة في طمس أو منع العقل العراقي من التعرف على ذاتيته التي كانت تتطلب أن يضطلع الإنسان بمفرده فيتحمل مغبة وثقل الاختراق الدهري وسط المعاكسات الثقيلة والراسخة في العقل والسلوك. فانتفاضة الأهوار هي بداية نشأة وصيرورة في قلب المستقبل، لها قواعدها التي رسمتها وهي من تؤسسها لتحقيق أهدافها وفق مفاهيم ومقاييس الشيوعية.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

إذن. فقد رحل سامي العامري! هناك. في برلين، حيث عاش ثلثي عمره مغترباً. رحل الشاعر العراقي الكبير، والإنسان المرهف، بالطيبة، والمحبة التي كان يحملها للناس جميعاً، بأحلامه البسيطة، وجلها يتمثل بنشر أعماله الشعرية والأدبية التي انتهى من كتابتها. هو نفسه أخبرني بذلك، في زيارته الأخيرة للعراق. ومن الرائع أنه عاد إلى مدينته الأثيرة بغداد مرتين: الأولى في العام الماضي، بعد فراق طويل دام ثمانية وثلاثين عاماً، أما الثانية فكانت في الشهر الخامس من العام الحالي، قبل أقل من شهر على رحيله المفاجئ. وفي المرتين كان الشاعر يحتضن جميع تفاصيل الأمكنة البغدادية بشغف عجيب. ربما لكي تخفف عن روحه مرارة أربعة عقود من الغربة. وهكذا، طاف الشاعر في أرجاء المتحف العراقي متأملاً عظمة الآثار الرافدينية، وزار المتحف البغدادي، ومعرضاً للفن الحديث في قاعة كولبنكيان. سار بين الناس العاديين وسط زحام شارع المتنبي، والرشيد، والباب الشرقي، واستقل "التكتك" في شارع الكفاح، تناول وجبة إفطار بغدادية في مطعم كبة السراي، واستعاد طعم "الكاهي والقيمر" في محل "رسول" الشهير، في الصدرية، والكباب في مطعم شعبي في سوق الصفافير، وشعر بسعادة تفوق الوصف لحظة ركب الزورق "البلم"، ليعبر به نهر دجلة على مهل، من ضفة الكرخ إلى الرصافة، هو الذي قال مرة: (أنتِ حلمي/ أوليس الحلمُ من طبع السلافة/ أنا كرخيُّ الهوى/ ثَمِلً حدَّ الرصافة!).

 وحدهم الذين عرفوا سامي العامري عن قرب يمكنهم أن يقدروا حجم الخسارة برحيله. مبدع حقيقي كبير، تواضعه وطيبته لا ينفيان عزة نفسه، واعتداده بمنجزه الإبداعي. لقد كان أشبه براهب يتعبد في محراب الجمال، جمال الطبيعة، والفن، والشعر، والفلسفة. ما أن بدأ ينظم الشعر وهو فتى في مرحلة الدراسة الثانوية حتى نذر نفسه لعالم الكلمة الصادقة، عالم لا يقدر على تحمل تكلفته إلا نبلاء حقيقيون من طراز سامي العامري، ونخبة من أخلص أصدقائه: نصيف فلك، وحميد العقابي، وجمال جمعة، ووو، ممن سبقوه إلى المنافي، ولحق بهم هو بعد فترة قصيرة. أدباء شباب في مقتبل العمر، كادت نيران الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت مع بدء خطواتهم الأدبية الأولى أن تحرق أرواحهم الرومانسية الجميلة. صحيح أنهم أفلتوا منها، لكن إلى متاهة غربة امتدت لعقود، متاهة السؤال عن المعنى، عن مسؤولية المثقف تجاه ما يحدث من عبث. متاهة أتعبت أبانا آدم من قبل، وأرهقت سلفنا كلكامش. لقد راهن أولئك الفتية الحالمون على قيم نبيلة، دفعوا في سبيلها الكثير من شبابهم، وصحتهم، ولم ينعموا بالمال، والجاه، والمناصب كحال أدباء السلطة، من قبل ومن بعد. لكن يكفيهم أنهم عاشوا أنقياء، ورحلوا أنقياء. أطال الله في عمر الباقين منهم.

إن رفض عبثية الحرب موقف يتطلب الكثير من الشجاعة. ولم يكن من السهل على شاب في الرابعة والعشرين من العمر أن يغامر بتجاوز الحدود، ويخطط  للإفلات من قبضة النظام الاستبدادي، لكي يقول كلمته. وكان الشاعر الراحل شجاعاً حقاً. غادر العراق تاركاً خلفه ذكريات جميلة، وتوقيعاً تحت اسمه على أغلفة بضعة كتب، صارت من نصيبي لاحقاً. كان من بينها كتاب عن الفيلسوف "نيتشه" لعبد الرحمن بدوي، وآخر عن الموسيقى العالمية. ومن منفى إلى آخر، استمر الشاعر متشبثاً بحلم الخلاص، الخلاص الجماعي لوطن أحبه، وأخلص له، وكتب عن مأساته بشجاعة نادرة، أيام كان الخوف يلف ألسنة الكثيرين ممن غادروا العراق، تشهد له على ذلك نصوصه الشعرية، ومقالاته التي نشرها في الصحف، والمجلات التي كانت تصدر خارج العراق كالوفاق، والاغتراب الأدبي، والثقافة الجديدة.

يوم هاجر سامي العامري الذي يكبرني بعقد من السنين في العام 1984، لم أكن قد رأيته سوى مرة أو مرتين، حين كان والدي -رحمه الله- يصحبني معه لزيارة بيت العم. معرفتي الحقيقية به بدأت في العام 1992، وقتها كانت قد وصلت إلى بغداد نسخة من مجموعة شعرية له، مطبوعة بالآلة الكاتبة، حملت عنواناً مميزاً: "مسقط رأس دمي". سأسأله عنها حين أقابله بعد ثلاثة عقود على تاريخ وصولها لبغداد، وسيقول إنه أصدرها بذلك الشكل البسيط، وبعدد محدود، بسبب صعوبة النشر في أوربا، وفي البلدان العربية، حيث يتوقف الأمر على ما يملكه الأديب من مال، أو علاقات. ولأن تلك المجموعة تمثل مرحلة البدايات، لم يعمل على اخراجها مرة ثانية. لكن الحق إن نصوص المجموعة أكثر من رائعة، كانت مزيجاً من تأملات فلسفية فذَّة، ووجد صوفي شفيف. حتى مكابدات الغربة، وكوابيس الحرب التي بقيت تطارد الشاعر وهو في ألمانيا صيغت بذائقة جمالية مميزة، وصور فنية تتسم بالفرادة، والابتكار. يقول في إحدى نصوصها، وأنا هنا أكتب من الذاكرة: (لم أطلب الغابة كلها/ طلبت برعماً صغير/ يزحف كالطفل على ركبتيه/ الدرب فيه اللص/ والضحكة المحاربة/ يا سائس الفراشات/ عجائب الزمان في أفعالنا/ فلا تقل زماننا ما أعجبه). ويقول في نص آخر: (...وفانوس راعية في الظلام/ تسرح أظفارها الراجفات قشوراً على مائدة/ فوانيس ترعى/ وقافلة من جنود/ تسير بعيراً بألف سنام/ تماحك خطوتها الماردة).

مع سامي العامري، فقط، نسمع أن للفراشات سائساً. من هو؟ ومعه، أيضاً، نرقب براءة الذات العراقية المتطلعة للسلام، وللحياة البسيطة الآمنة. بينما اللص الذي يقطع عليها الطريق، ويعلن الحرب حتى على الضحكة، يسوق آلاف الجنود، كما القطعان إلى المحرقة.

سامي العامري شاعر مرهف، وكاتب مثقف غزير الانتاج. لم تتهيأ له فرصة طباعة نتاجه الأدبي في وقت مبكر. وبالكاد تمكن لاحقاً من طباعة بعض منه، على حسابه الشخصي. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "السكسفون المُجَنَّح"، عن دار سنابل – القاهرة، في العام 2004، وظهرت بطبعة ثانية عن الدار نفسها بعد سبع سنوات. وفي العام 2005 أصدر ثلاث مجموعات  شعرية: الأولى عن دار شمس ـ القاهرة، بعنوان "العالَم يحتفل بافتتاح جروحي"، والثانية بعنوان: "أعراض حفاوتي بالزنبق" عن دار سندباد ـ القاهرة، والثالثة بعنوان "أستميحك ورداً"، عن الدار الأخيرة نفسها. كما صدر له كتابان وظف فيهما الشعر والسرد هما: "حديث مع ربة الشفاء"  الصادر عن مركز الحضارة العربية ـ القاهرة – 2004،  و"النهر الأول قبل الميلاد" دار سنابل ـ القاهرة - 2011.

كنت قد طلبت من الشاعر الراحل أن يعمل على جمع نصوصه الشعرية غير المطبوعة، والتي نشر كثيراً منها من المواقع الإلكترونية، لكي يبدأ بإصدار أعماله الشعرية الكاملة، فمن شأن ذلك أن يحفظ منجزه الإبداعي، ويوفر للباحثين، ولطلبة الماجستير، والدكتوراه فرصة لدراسة نتاج شعري حقيقي. لكنه لم يتفاعل مع الفكرة لسببين: الأول أن إصدار الأعمال الكاملة ربما يعطي انطباعاً بأن صاحبها قال كل ما عنده، بينما هو لا يزال لديه القدرة على المزيد من العطاء. والسبب الثاني له صلة بمتلقي الشعر اليوم، الذين يفضلون قراءة مجموعة شعرية صغيرة الحجم على تجشم عناء قراءة مجلدين كبيرين. بصراحة، لم أقتنع بجوابه. مع ذلك، فقد اقترحت عليه أن ينشر إحدى مجاميعه هنا في بغداد، لا في دور نشر عربية لا تبذل جهداً لتسويق نتاجه، وإيصاله للقارئ العراقي في الأقل. وقبيل سفره الأخير بأسبوع ذهبنا معاً إلى دار الشؤون الثقافية العامة، ليقدم للنشر مجموعة شعرية جديدة بعنوان: "أوقات من يواقيت". آمل حقاً أن تنشر في الشهر العاشر، كما أخبرونا، تقديراً لذكرى شاعر كبير، استمر يحمل هموم وطنه في منافي الغربة، ويردد بمنتهى الصدق: (المنفى وهم. نحن الذين رسَّخنا أسسه. وإلِّا فما معنى أن يشاركني الوطن حتى ارتداء القميص. هذا نفي للنفي).

وللشاعر الراحل مجموعتان شعريتان جاهزتان للطباعة، في شقته في برلين، الأولى مكتوبة باللغة العربية عنوانها "آناء الليلك وأطراف الجُلَّنار"، أما الثانية فهي مكتوبة باللغة الألمانية بعنوان: Halskette ausInseln (قلادة من جُزُر)، آمل حقاً أن لا تضيعا، لا سيما تلك المكتوبة بالألمانية، فقد تطلبت كتابتها منه الكثير من الجهد والوقت، وأعاد تحريرها  أكثر من مرة. للأسف. ضاعت منه في أثناء تنقلاته مئة رسالة أرسلها إليه الراحل حميد العقابي.  ولديه مقالات  كثيرة لم تجمع، في الشأن العراقي السياسي، وفي قضايا الأدب واللغة. كما أنه أخبرني قبيل سفره بأنه سيجمع قصصه القصيرة المكتوبة على لسان الحيوان، لكي يصدرها بكتاب.

إن العالم الشعري لسامي العامري عالم ساحر، وجميل، وزاخر بالتقاطات عجيبة، من الطبيعة التي هام في جمالها، حيث النهر، والنجم، والغابة، والفراشات، والبراعم، والورود، والنباتات العطرية بأنواعها: "الليلك، والجلنار، والزنابق، والخزامى، والريحان.."، والآلات الموسيقية: "الكمان، والمزمار، والسكسفون..". وثمة تجاور حميمي في سائر مجموعاته الشعرية بين نصوص الغزل الرومانسي الجميل ونصوص الحكمة التأملية المزدانة بتناصات تتوزع على مشارب الأدبين العربي والعالمي، وميادين التاريخ القديم والحديث، وأروقة الفلسفة. وإن كانت صوره الفنية المبتكرة تفضل أن تنهل من الجمال الفطري للطبيعة، مقدمة إياها على أي مصدر آخر. وسنعرف من نص شعري له بعنوان "من ذاكرتي الثانية" نشر في العام 2017، أن "سائس الفراشات" الذي أشار إليه في إحدى نصوصه المبكرة هو سامي العامري نفسه. وسأكتفي هنا بنقل جزء من النص، بلا تعليق، فهو بجماله النادر، وبما اشتمل عليه من سكينة وسلام نحن بأمس الحاجة إليهما يقول الكثير: (حينما كنت رضيعاً/ وأصابعي بحجم عيدان الثقاب/ كان العالم أسراراً لا تعنيني/ ولم يكن عندي وقت/ لأهتم بمطلقٍ أو وجودٍ أو عدم/ كنت فقط أهتمُّ بإطعام فراشاتٍ/ تمد خراطيمها مُدَغدِغَةً إبطَ وردةٍ ذابلة!).

من الواجب أن أذكر هنا بتقدير واحترام ذلك الموقف الجميل لبعض الأساتذة الأدباء (حمودي الكناني، وسلام البناي، وصباح  محسن كاظم، وآخرون) من أصدقاء أوفياء كان قد تعرَّف عليهم الراحل قبل سنوات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحين عرفوا بمجيئه في العام الماضي أقاموا له جلسة احتفالية في أتحاد الأدباء والكتاب في كربلاء، قرأ فيها بعضاً من نصوصه الشعرية، وأشعرته بكثير من الفرح. وكانت تلك الجلسة البسيطة الجميلة هي الشيء الوحيد الذي حصل عليه الشاعر من أية مؤسسة عراقية طوال حياته الزاخرة بالعطاء! 

لقد كان الراحل الكبير سعيداً بالأيام التي قضاها هنا في بغداد، قبل ثلاثة أسابيع من رحيله المؤلم. أسرته، وأخواته، وأبناؤهم الذين لم يسبق لهم التعرف عليه لأنهم ولدوا بعد سفره من العراق بسنوات فرحوا برؤيته، واحتفوا به باهتمام، وعاطفة صادقة. وكان يلتقي بشكل شبه يومي مع صديق طفولته الأثير الأستاذ التربوي جمال العامري الذي بقي يحتفظ له بالمودة والاحترام طوال خمسين عاماً. كما حرص على الالتقاء بصديقه الوفي الروائي والشاعر الأستاذ نصيف فلك، جلسا في مقهى هادئ يتبادلان حديث ذكريات عمرها أربعة عقود. امتدت الجلسة لساعات كأنها دقائق تمت سرقتها من عمر الزمن. أهدى كل منهما مؤلفاته للآخر. كانا متشابهين في الروح والطباع، مثل أخوين من أم واحدة. لقد كان سامي العامري وفياً لأصدقائه. وخلافاً لسلوك أكثر الأدباء والمثقفين العرب والعراقيين لم يجد الراحل حرجاً في الإشارة إلى تأثره -في مطلع شبابه- بكتابات نصيف فلك، والشاعر والفنان التشكيلي باسم الرسام، وأن يقول إنه كان يحفظ عن ظهر قلب نصوص المجموعة الشعرية الأولى لحميد العقابي: "أقول احترس أيها الليلك"، والمجموعة الشعرية لصديقه جمال مصطفى: (أمطار بلا سبب). صحيح أنهم أكبر منه سناً لكنه ينتمي لجيلهم. وهذه الشجاعة الأدبية واحدة من صفاته النبيلة، وهي تهدينا درساً بليغاً عن المعنى الحقيقي للمبدع المثقف.      

 في الليلة التي سبقت موعد سفره ودع سامي العامري أفراد أسرته وأصدقائه على أمل اللقاء بهم من جديد في وقت قريب. عاد إلى ألمانيا مفعماً بآمال كبيرة، ومشاريع أدبية وحياتية جديدة. لكن الأجل لم يمهله طويلاً. رحل وهو في أوج مراحل عطائه الأدبي. لم يكن يخشى الموت، فقد كان له إيمانه الخاص بالمطلق الرحيم، بالقوة الخيرة التي خلقت الكون، إيمان يتقدم فيه الجوهر الذي ينفع، على المظاهر التي تخدع. وقد ذكر لي ذلك مرتين.

شخصياً، أجد نفسي ملزماً بإهداء كلمات شكر كثيرة لسامي العامري، وأن أقدم له اعتذاراً أيضاً. أما الشكر فلأنه مثل لي مصدر إلهام، تعلمت منه الكثير في مطلع شبابي، لا سيما من مجموعته الشعرية التي ذكرتها آنفاً "مسقط رأس دمي". من حسن الحظ أنني أخبرته بذلك، وقرأت له بعضاً من نصوصها التي أحفظها منذ ثلاثة عقود. كان هذا الأمر – على بساطته - مفاجأة سارة بالنسبة إليه. أما الاعتذار فعن تأخري في الكتابة عنه، والتعريف بنتاجه الأدبي المميز، الذي يستحق اكثر من دراسة جادة، وعن أي تقصير، أو خطأ غير مقصود بدر مني تجاهه.

 بصراحة، لا أعرف طبيعة ما أكتبه هنا. لكنه بالتأكيد ليس كلمة رثاء، فسيبقى سامي العامري حياً في ذاكرة أصدقائه ومحبيه، وأولئك الذين يقدِّرون باحترام الشعر الحقيقي في أجمل تجلياته. وإذ أفكر  في خاتمة مناسبة، فيما يمكنني قوله لسامي العامري، لا أجد أفضل مما كتبه هو حين رحل صديقه حميد العقابي، يومها قال: (يا حميد لن أرثيك، فمثلك من قاطفي ثمار الأبد). انطلق بسلام أيها الشاعر، أدخل إلى الجنة لكي تستريح قليلاً. الجنة التي تعرفها أنت، وحدثتنا عنها ذات مرة تحتضن الجميع بحنان وسلام. حتى "الجنة ستدخل الجنة"! جملة شعرية لا يبدع مثلها سواك أيها الجميل: (حقاً تعِبْنا أيها الوطنْ/ تعالَ نستريحْ/ نأخذُ في الصبحِ لنا/ قسطاً من الريحْ/ في رَكْبنا الراحةُ والراحُ وهكذا/ نرحلُ في عكسِ تلافيف الزمنْ/ وتنبضُ الحياةْ/

نعمْ كما تنبضُ أعشابُ المَدى بالرُّعاةْ/ ويشكرُ الحبيبُ/ لحظةَ إلهامٍ/ أتى بها إليه نجمُهُ الخصيبُ/ أنزَلَها لنا كما الأجراسِ في صبيحةٍ/ فاهتزَّ من وردٍ ومن أطيابِهِ/ البعيدُ عن برلينَ والقريبُ!/.... وحينَها أرواحُنا ستدخلُ الجنانْ/ مُهرْوِلاتٍ كلَّها/ جانٌ بإثْر جانْ!/ كأنها تفعلُ ما تفعلُ ممتنَّة/ ونحنُ والجنة/ سندخلُ الجنة!).

***

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

علمتنا الخبرة الإنسانية أن التاريخ البشري يحوي الكثير من الأحداث والوقائع والظواهر التي تستحق الوقوف عندها للتأمل والنظر والدراسة.. ومن هذه الظواهر التاريخية ما يمكن أن نسمّيه "بالشخصيات الجدلية" فعندما نقلب صفحات التاريخ نلتقي عبر ممراته، ومنعطفاته الكثيرة بهذه الشخصيات المثيرة للجدل! التي خالفت بما صنعت وأحدثت من سلوكيات، وممارسات الأنساق الثقافية والاجتماعية الطبيعية، الأمر الذي تفجّرت معه الكثير من الأسئلة، وانعكست من خلاله ردود فعل متباينة من الخلاف والاختلاف حولها.

ولعل إشكالية الشخصيات الجدلية التي لا تنتهي هو استحواذها على مساحة كبيرة من الذاكرة التاريخية، إذ تتأرجح (كما يقول الأستاذ سعد الساهري في احدي مقالاته عن الشخصيات الجدلية) أقوالها وأفعالها عبر التاريخ ما بين الإدانة والإنكار الشديدين لدى الشريحة الكبرى من المجتمع الإنساني إلى التبرئة والإقرار لدى أقلية أخرى من ذلك المجتمع الأمر الذي يضع أكثر من علامة استفهام على موقف تلك الشريحة لمعرفة أسباب ذلك السلوك التبريري.

ولعل المشكلة الحقيقية تبرز بشكل أوضح عندما تصبح تلك الشخصيات رموزاً تاريخية يُشار إليها بالبنان كما يُشار إليها أيضاً بأصابع الاتهام، الأمر الذي يربك قارئ التاريخ ويصيبه بالحيرة؛ وذلك بسبب صعوبة التقييم والحكم بشكل منهجي وموضوعي، وما ذاك إلاّ لأنها خلطت ما بين عمل صالح وآخر سيئ كما يقول الأستاذ سعد الساهري.

ولعل شخصية الدكتور "مبروك عطية" أنموذجاً من نماذج تلك الشخصيات الجدلية سواء على الساحة الدينية، أو على الساحة الإعلامية، فهو من أكثر الشخصيات الدينية حضوراً ما بين "أتباع له ولأقواله" و"أعداء له ولآرائه".

ورغم هذا الحضور الطاغي لاسم الدكتور "مبروك عطية" في مشهد السجال الديني ، فإنّني أرى أنّ أكبر الغائبين المغيَبين في هذا المشهد هو الدكتور "مبروك عطية" نفسه! وكبرى ضحايا هذا السجال هي قضايا الدكتور "مبروك عطية" نفسها؛ فـ" الدكتور "مبروك عطية" مظلوم عند "أتباعه ومُعظِّميه" قبل "مخالفيه وكارهيه"، والراصد لمواقف "الأتباع" و"المخالفين" يلحظ أنّ أغلب أفراد الفئتين ينطلقان من موقف حَديّ حاد لا يعترف إلا بالأسود والأبيض لونين؛ فإمّا أنّ " الدكتور مبروك عطية" خير كلّه أو شرّ كلّه. وهذه "الحَديّة" و"الحِديّة" سمتان ترافقان سيرة "الشخصيّات الجدليّة"، وكلما ازداد الجدل ازداد تطرّف المواقف في حَدّيتها وحِدّيّتها.

ولمن لا يعرف الدكتور "مبروك عطية" فهو داعية، وأكاديمي مصري، ولد في المنوفية عام 1958، التحق مبكرًا بالأزهر، وحصل على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1989، وكان عميدا لكلية الدراسات الإسلامية، وأستاذ الأدب والنقد المتفرغ بجامعة الأزهر.

قدّم "مبروك عطية" برنامجين تلفزيونين الأول برنامج الموعظة الحسنة على قناة دريم، والثاني برنامج كلمة السر على قناة إم بي سي مصر. وكلا البرنامجين متخصصان في الفتاوى الدينية، علاوة على قناته الخاصة على اليوتيوب والتي يغرد فيها كل يوم صباحا ومساءً بالفتاوي والمواعظ التي أحدثت زخما إعلاميا جعلت المثقف المصري والعربي يراقبه عن كثب.

وهذا الأمر أحدث له ضرر كبير إثر موجة عاتية من الانتقادات الموجهة له بسبب تعليقاته على مستجدات الحياة الجارية في مصرنا الحبيبة، ومن بين تلك الانتقادات: تعليقات أدلى بها حول حادثة مقتل طالبة مصرية أمام الجامعة على يد زميل لها فيما عُرف إعلاميا بـ "فتاة المنصورة".. ما قاله من أن طلاق الرجل لزوجته سليطة اللسان "مستحب".. قوله أن حديث "أبغض الحلال عند الله الطلاق" حديث ليس بصحيح ولا يصح الاحتجاج به.. قوله أن "الصيام يعني عدم الاقتراب من الطعام والشراب أو الجِماع، وأنه إذا نطق الصائم بالسب أو حتى شهادة الزور فلا يبطل صيامه ما دام لم يقترب من الأكل!.. قوله " لا يجوز للزوجة المبيت عند أهلها طالما لم تكن والدتها مريضة ولا تقوم على رعايتها، وأنه ينبغي مراعاة أنها أصبحت متزوجة ومسؤولة عن زوجها، ومبيتها عند أهلها بدون سبب لا يجوز.. قوله أن " أن كورونا "عقاب إلهي"، وأن المتوفين بكورونا ليسوا "شهداء" وإنما انتقام وأسوأ ميتة، وشبّه ضحايا الكوارث والأوبئة بـ"قوم لوط".. قوله أن ارتداء "الحجاب يقلل الحوادث" عندما قال لسائليه عبر برامجه: «عاوزة تحافظي على نفسك إلبسي قفة وإنتي خارجة».. تصريحه بأن التدخين ليس حرام شرعا، قائلاً إن الشخص الوحيد الذي حرم السجائر هو مفتى الديار الأسبق نصر فريد واصل وقال: «لما هى حرام زي ما قال مفتى الديار، ليه لم تمنع الدولة المتاجرة فيها؟».. هجومه العنيف على سيدة ترعى قطة وتهمل طلبات زوجها موجها لها رسالة: «محدش علمك الدين».. وقوله أن القهقهة في الصلاة تُبطلها.. قوله في وصف بعض الموتى بأنهم عريس وعروس الجنة: «بدع».. قوله أنه لا يحق للزوجة المسلمة أن تدخر من مال زوجها أو تكرم منه أهلها دون علمه، وإذا قامت بهذا الفعل دون علمه تكون وقتها زوجة خائنة.. قوله أن من قرأ بعض آيات البقرة كأنه قرأ البقرة.."قوله :البوس اللي في السينما حقيقي مش تمثيل" وهو يرد على الفنان هادي الباجوري زوج ياسمين رئيس، الذي كتب منشورا قال فيه: «معنديش مشكلة مراتي تعمل مشهد رومانسي لأن البوس في السينما عادي».. وهلم جرا.

ولم تتوقف فتاوى وتصريحات "مبروك عطية" في مجال الدين فقط، بل امتدت إلى مجالات أخرى مثل الرياضة والفن، حيث علّق على خبر طلاق رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة والفنانة ياسمين صبري، وهو أمر شغل اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر لفترة.. وفي ذروة اهتمام الإعلام ومواقع التواصل بتألق محمد أبو جبل حارس مرمى منتخب مصر خلال مباريات الدور الإقصائي ببطولة كأس أمم إفريقيا 2021، انتقد عطية الإعلامية منى الشاذلي بسبب سؤال وجهته لأبو جبل حول حالته الاجتماعية.. الخ.

كل هذا الأمر قد أوقعه في مشاكل لا حصر لها نذكر منها مثلا: وصف لقاءه مع الإعلامية وفاء الكيلاني بالتخاريف.. تقدّم المجلس القومي للمرأة ببلاغ للنائب العام ضد عطية بتهمة تحقير للمرأة وتحريض على العنف والقتل ضدها وهي جريمة يعاقب عليها القانون.. اتهام الأستاذة "نهاد أبو القمصان"، رئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، عطية بارتكاب عدد من الجرائم عبر تعليقه على الحادثة، ومن تلك الجرائم تعطيل الدستور والقانون، والتحريض على العنف.. اجباره في كثير من الأحيان في عدم الظهور بسبب الانتقادات المتكررة.. وأمور أخرى يطول حصرها.

وهنا استشهد في حالة الدكتور "مبروك عطية" ما قاله صديقي الأستاذ الدكتور بهاء درويش على موقع أساتذة الفلسفة في مصر من أن أكبر مشاكل قيمنا المجتمعية أن النخبة تنسى أو تتناسى أهمية المساهمة في تشكيل العقل الجمعي. الناس عادة في مسلكهم لا يتوقفون عند كل صغيرة وكبيرة يفكرون فيها ولكنهم بشكل من أشكال الاستسهال يسلكون وفقا لما تسلك العامة. والعامة تسلك وفقا لما يعرف بالعقل الجمعي الذي يحركها. على النخبة أن تعي هذا وتعلم أن صواب أو عيوب العقل الجمعي ترجع الى نسبة مشاركتها في تشكيله. من أكبر عيوب النخبة مثلا رؤيتهم للخطا وصمتهم بازائه، فيصبح هذا مسلكا معتادا ضمن العقل الجمعي للمجتمع ولا تشعر النخبة بفداحة صمتهم وحياديتهم ازاء الخطأ الا عندما يقعون في أزمة يحتاجون لمن يقول للمخطيء في حقهم: هذا خطأً

وها الخطأ الذي قاله الدكتور بهاء درويش راجع إلي أن هناك حالة فوضى في الفتوى، وأن العمل الفردي الافتائي فات آوانه ويجب وقفه فلم يعد ممكنا اليوم.. وأن الانشغال الإعلامي بالشأن الديني بغير إعداد علمي كاف، وأن السير خلف فتاوى وآراء فردية يؤدي إلى مزيد من إرباك الناس وتخبطهم.. وأن زمننا الحالي هو زمن الاجتهاد الجماعي والمؤسسي، والعمل الفردي فات أوانه ولم يعد ممكنا.. علاوة على أن التقدم التقني وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي شكلا صعوبة بالغة في إمكانية السيطرة على ضبط الفتوى.. وصعَّبا على طالبها القدرة على فرز الغث من السمين.. وهنا تظهر أهمية توجيه الناس للهيئات المختصة بالفتوى وذلك حسب قول الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.

وأقول للدكتور مبروك عطية  يكفيك قولك:.. ونفسي لا أبرؤها وربي.. عليمٌ بالمظاهر والخفاء.. سيحكم بيننا رب عظيم.. إذا جمع الخلائقَ للجزاء.. إذا ما كنتُ خيرا عند ربي.. تساوى المدح عندي بالهجاء.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط

(1924 –) Robert Solow

انه آخر الكينزيين النيوكلاسيكيين وهو يخطو الآن نحو المائة عاما. هو الاقتصادي الذي تتلمذ على يد ليونتيف في جامعة هارڤـرد، والذي اصبح استاذا للاقتصاد في معهد ماسچوستس التكنولوجي MIT لمدة 45 عاما.  وهو الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1987 لمساهمته الرائدة في نظرية النمو الاقتصادي التي غيرت الاعتقاد الاقتصادي الشائع آنذاك حول عوامل نمو الاقتصاد وتطور انتاجه. كما انه الاستاذ الذي فاز خمسة من تلاميذه بجوائز نوبل في الاقتصاد فيما بعد.

ولد روبرت سولو عام 1924 في بروكلن – نيويورك لعائلة يهودية هاجرت من لاتفيا، وهو الابن الاكبر لثلاثة اطفال. كان اسم العائلة الاصلي سولوڤجك Soloveychik   فاختصر الى سولو Solow!  يقول ضاحكا ان الاسم الاصلي يعني "البلبل الصغير" والاسم المختصر ليس له اي معنى.  وصل والداه الى الولايات المتحدة ولم يكن معهما الا شهادة التعليم المتوسط، مما حتم عليهما العمل المتواصل طيلة حياتهما من اجل رعاية العائلة، لكن ذلك كان يعني تفويت فرص مواصلة التعليم الذي كان في امانيهما الكبار.

يقول ايضا انه بسبب تضحيات والداه اصبح هو الشخص الاول الذي يواصل تعليمه الجامعي. لكن العامل الاقوى هو مثابرته واجتهاده وتفوقه في المدرسة. فبسبب هذا التفوق المتميز حصل على منحة كاملة للدراسة في جامعة هارڤـرد عام 1940 وهو بسن السادسة عشرة.

في هارڤـرد بدأ بدراسة علم الاجتماع والانثروبولوجيا والاقتصاد، لكنه، وفي السنة الدراسية الثانية، كان عليه ان يترك الدراسة ويلتحق بالخدمة العسكرية عندما قامت الحرب العالمية الثانية، حيث ارسل للخدمة في شمال افريقيا وايطاليا وجزيرة صقلية. وبسبب اجادته للغة الالمانية استخدمته وحدته العسكرية لكتابة وترجمة الاتصالات العسكرية بين الالمانية والانگليزية. انهى خدمته العسكرية بنهاية الحرب عام 1945 فعاد الى بوسطن ليواصل دراسته في جامعة هارڤـرد. في السنة الثالثة والرابعة للدراسة شغف بالاقتصاد على وجه الخصوص وكان لتتلمذته على يد وسلي ليونتيف الاثر الكبير في ذلك، فرافقه وحصل تحت اشرافه على البكالوريوس عام 1947 والماجستير عام 1949. كما عمل على مساعدته في التدريس والبحث وخصوصا في اكمال مشروعه المعروف بتحليل مصفوفة المدخلات – المخرجات الاقتصادية.

ومن خلال اهتمامه بالاقتصاد وعمله مع ليونتيف، رأى ان عليه دراسة الاحصاء وخاصة نظرية الاحتمال بشكل جيد، فاستغل فرصة توفر منحة دراسية في جامعة كولومبيا لمدة سنة للتسجيل في كورسات مكثفة في الاحصاء. بعد ذلك مباشرة، في عام 1949، حصل على وظيفة استاذ مساعد في   MIT لتدريس الاحصاء والاقتصاد القياسي، وفي نفس الوقت واصل العمل في اطروحة الدكتوراه فاكملها في هارڤـرد عام 1951. استمر في عمله كاستاذ للاقتصاد في MIT  لمدة 45 عاما متواصلا حيث نال درجة الاستاذية عام 1958، وتقاعد من الخدمة الجامعية عام 1995.

عندما بدأ العمل في   MIT كان من حسن حظه، كما يقول سولو نفسه، ان يكون مكتبه الاكاديمي في قسم الاقتصاد مجاورا لمكتب پول سامولسن، مما اتاح له ان يبدأ معه صداقة طيبة وعمل مثمر امتد الى وفاة سامولسن عام 2009، ويستطرد انه في الحقيقة ملئ بالعرفان للعلاقات الطيبة المثمرة مع زملائه في العمل اينما حل، سواء في خدمته العسكرية او الاكاديمية في الجامعة وضمن اللجان العديدة التي عمل معها في ميادين مختلفة. حيث عمل في المجلس الاقتصادي الاستشاري للرئيس كندي مع زملاء رائعين مثل جيمس توبن ووالتر هلر وآرثر أوكون، وعمل في مجلس امناء البنك الاحتياطي الفدرالي في بوسطن مع فرانك مورس.

بدأ عمل سولو في نظرية النمو الاقتصادي في النصف الثاني من عقد الخمسينات. ففي عام 1956 نشر بحثه الاول في هذا المجال بعنوان "مساهمة في نظرية النمو الاقتصادي" وتبعه في العام الثاني ببحث مكمل عنوانه "التغيير التكنولوجي ودالة الانتاج الاجمالية". ورغم ان هذه المساهمة النظرية اعتبرت من قبل البعض بكونها تحويرا واضافة ومعالجة رياضية لنموذج النمو الاقدم لـ هارود-دومار، الا ان المساهمة الاصيلة كانت في ما كتبه سولو نظريا ووجده تطبيقيا من توسيع لعوامل النمو. فقد أكد سولو ان النمو لايتحدد فقط، كما اقر النموذج القديم، بعاملي العمل ورأس المال انما هناك عامل ثالث وهو التقدم التكنولوجي. لقد لاحظ سولو عمليا عند تحليل البيانات الاقتصادية ان هناك ما يقارب من نصف معدلات النمو الاقتصادي لا يعود تفسيرها للعمل او رأس المال، ونصف النمو هذا الذي ليس له تفسير سمي بـ متبقي سولو Solow’s Residual . وبالتقصي الاضافي وجد سولو ان ما يفسر ذلك النصف الثاني من النمو هو العامل التكنولوجي المتمثل بالابتكار والابداع في العملية الانتاجية. وبهذا التأكيد النظري والتطبيقي احدثت دراسات سولو التحول في الاعتقاد الجاري عن العوامل الاساسية التي تسهم في النمو الاقتصادي. واعتبارا من عقد الستينات أخذت الجهات المسؤولة عن النمو والسياسة الاقتصادية في القطاعين العام والخاص تولي اهتماما اكبر برعاية التقدم التكنولوجي عن طريق دعم وتمويل البحوث ودراسات التنمية وتشجيع ومكافأة الاختراعات والابتكارات وتطوير المكننة ووسائل الانتاج الاوتوماتيكية التي تتطلب تسخير المعرفة والخبرة في هندسة وادارة الانتاج.3524 سولو

وفي هذا الصدد ايضا قام سولو بتصنيف عامل رأس المال التكنولوجي (المكائن والآلات) بموجب تاريخ الصنع، ذلك ان المعرفة والتجربة والخبرة تتحسن بمرور الزمن وتؤول الى تطوير الآلآت وتعديل تصاميم المكائن وبالتالي الى تحسين وسائل وطرق انتاجية متقدمة على طول الخط مما يحتم احتساب الاختلافات في فاعلية اجيال متعاقبة من تلك المكائن في ميدان الانتاج وتزايد الانتاجية. ولهذا فقد ميز بين رأس المال القديم والحديث، معتبرا رأس المال الحديث  أكثر كفاءة من القديم وأعلى قيمة منه.

كما انه كان اول من عرّف بمفهوم ما نسميه اليوم بالـ Sustainability  كونها النتائج الاجتماعية التي تسمح للاجيال القادمة ان تكون في حال على الاقل يساوي، ان لم يكن افضل، من حال الاجيال الحالية. على ان اول مايتطلبه ذلك هو رأس المال الطبيعي والبشري والتكنولوجي الذي يتيح للاجيال القادمة ان تبتكر وتبدع وتحقق مستوى المعيشة الذي يجعلها تحيى وتتمتع بدرجات اعلى مما شهدته اجيال آبائها. كما انه يتطلب توازنات موازية مثل التوازن الجوهري بين النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والاحوال البيئية. ولهذا فقد اعتبرته بعض الادبيات الاقتصادية المؤسس لنظرية النمو النيوكلاسيكية، وقد سمى النموذج الاقتصادي النيوكلاسيكي للنمو باسمه     Solow’s Model of Economic Growth. على ان بعض المصادر تسميه Solow - Swan Neoclassical Model of Economic Growth

و سوان هو تر ڤـر سوان  Trevor W. Swan   اقتصادي آخر كان قد عمل على انفراد وبمعزل عن سولو على مراقبة معدلات النمو الاقتصادي نسبة لتغير العوامل المؤثرة. وكان قد نشر نتائج بحثه في The Economic Record عام 1956 ، أي في نفس العام الذي ظهر فيه بحث سولو الاول المذكور آنفا. من الجدير بالذكر ان كلا الباحثين كانا قد نهجا منهجا متشابها في اعتبار معدل الادخار عاملا مستقلا ، مما آل الى تسمية كلا النموذجين بالـ Exogenous Models الا ان اتساع وتطور دراسات النمو بعدهما ادى الى ظهور نماذج معدلة ومحورة، كان من ضمنها ما اعتبر معدلات الادخار تتباين مع الوقت وبموجب معدلات تدفق الدخل وسلوك المستهلك، حيث لا يصح بعد ذلك اعتبارها exogenous  ولهذا سمي هذا النوع من نماذج النمو بالـ  Endogenous Models .

ولقد اُعتبر سولو الاقتصادي الذي كان اقتصاديا كليا   Macroeconomist قبل ان يظهر مفهوم الاقتصاد الكلي. فعلاقته الاكاديمية الطويلة وبحوثه المشتركة مع سامولسن في قضايا النمو الاقتصادي واهتمام بعض زملائهما وطلابهما في هذا الموضوع ساهم في صياغة اتجاه رئيسي لدراسة النمو ، ليس فقط كموضوع هام في البحث الاكاديمي، انما كعامل حاسم في التأثير على السياسة الاقتصادية. وبسبب ان منشأ وتطور هذا الاتجاه كان في قسم الاقتصاد في MIT ، اصبحت تلك ظاهرة معروفة آلت الى تسمية اولئك الاقتصاديين بـ "رجال النمو" Growth Men.

لم يكتف سولو بالعمل مع سامولسن في موضوع النمو الاقتصادي، انما عمل الاثنان معا في مواضيع هامة اخرى ونشرا معا، ;كدراساتهما حول نظرية رأس المال ومنحنى فيلبس، ولربما كان اشهر ما نشرا معا هو الكتاب الرائد في البرمجة الخطية والتحليل الاقتصادي.Linear Programing and Economic Analysis المنشور عام 1958 من قبل مؤسسة مگرو-هل للنشر.

في مقابلة أجراها معه دگلص كلمنت ونشرت ضمن موقع البنگ الاحتياطي الفدرالي – فرع منيابلس في سبتمبر 2002 ، تحدث سولو بصراحته المعهودة عن قضايا كثيرة منها، بالطبع،  نظريته الرائدة في النمو الاقتصادي ، وما سمي متناقضة سولو ، واصلاح نظام المساعدات الاجتماعية، والمنهج الكينزي في حل المشكلات الاقتصادية والازمات الكبرى، ومواضيع اخرى ثانوية. 

متناقضة سولو Solow Paradox

يتحدث سولو عما شهده في الواقع العملي كنقيض لما كتبه نظريا واثبته عمليا في السابق ضمن نظرية النمو الاقتصادي النيوكلاسيكية حول الارتباط بين نمو معدلات النمو الاقتصادي مع تطور رأس المال التكنولوجي. النقيض، كما يبينه سولو في هذه المقابلة،  يتضح في النظر الى فترة ربع قرن بين 1970 و 1995 التي لم تنمو فيها الانتاجية الا بمعدلات ضئيلة في حين انها ذات الفترة التي شهدت ظهور الكومبيوتر والازدياد المضطرد في تطبيقاتها العملية في شتى الميادين! ويقارن ذلك بما حدث في الماضي ويقول ان الاستنتاج المنطقي هو ان دخول الكومبيوتر بعظمتها لم تؤول الى النجاح الباهر والقفزات الكبيرة في الانتاجية الذي احدثته الكهرباء ومكائن الاحتراق الداخلي فيما مضى! ويتساءل: ماهو السر؟ ويجيب ضاحكا: ان كل ما اعرفه هو ان سكرتيرة مكتبي الاكاديمي كانت تزودني بكل ما احتاج، ولكن بعد شيوع الكومبيوترات الشخصية اصبحت انا الذي يزود سكرتيرتي بما تحتاج!  ويواصل بأن قسم من ذلك التناقض أُزيل بعد ان تصاعدت الانتاجية بعد عام 1995 لكننا ما نزال لا نعرف ما السبب وفيما اذا سيتقلص التناقض كليا.

الاصلاحات في قانون المساعدات الاجتماعية Welfare Reform

ينتقد سولو جملة الاصلاحات التي جرت على قانون المساعدات الاجتماعية في عهد الرئيس كلنتن التي تلزم المستفيدين من قانون المساعدات بايجاد عمل، والذين ستسقط استحقاقاتهم للمساعدات حال انخراطهم بالعمل.  ويقول لا جدال حول ضرورة شعور اولئك المواطنين بالمسؤولية وعدم الاتكال كليا على مساعدات الدولة، والحق يقال بأن الاستفتاءات تشير الى ان اغلبهم يفضل العيش معتمدا على عمله كبقية المواطنين لكن المشكلة تكمن في ان طبيعة سوق العمل لاتسمح باستيعاب اعداد هائلة من العاملين عديمي الخبرة وقليلي التعليم والتدريب والذين ليس لهم مهارة في اي شئ.  ثم اذا ما فرضناهم على هيكل سوق العمل الجاري فان ذلك سيؤدي الى انخفاض في معدلات اجور اولئك المتشبثين بالكاد في سوق العمل والذين يستلمون الحد الادنى في سلم الاجور، وربما يؤدي الى سقوط جزء منهم في حيز استحقاق المساعدات! وبهذا سنكون قد ازدنا الطين بلّة واصبحنا جزءً من المشكلة وليس جزءً من الحل. فما لعمل؟ يقترح سولو بأن البديل الافضل هو خلق سوق عمل جديدة بهيكل آخر لايتطلب اي درجة تعليم ولا تدريب ولا مهارة ومثال ذلك الخدمات العامة البسيطة التي يحتاجها القطاع العام اضافة الى توفير نوع من المحفزات والفوائد للقطاع الخاص الذي يختار ان يستوعب قسما منهم. ويؤكد ان علينا ان ندرك بأن الحل لا ينبغي ان يكون اما عمل او مساعدة، فبالامكان صياغة نظام هجين يقلل من الحاجة الى المساعدة تدريجيا ويعالجها على الامد البعيد كأن يكون شيئا شبيها بالـ Wage subsidyأو تطويرا لما معروف بالـ EITC: Earned Income Tax Credit.

ما يزال كينزيا Still a Keynesian 

على سؤال فيما اذا كان لحد الان يعتبر نفسه كينزيا، يجيب سولو كما يلي:

يقول اننا نعرف بدون شك بان ليس هناك نظاما اقتصاديا افضل لادارة السوق الاقتصادية من النظام الرأسمالي ذي الحسنات الكثار، لكننا نعرف ايضا دون شك بانه ليس نظاما مثاليا وان فيه من الاخفاقات ما يؤدي الى أزمات كبيرة. وهنا يأتي الايمان بالتدخل الحكومي حين يخفق ذلك النظام وهي الفكرة التي اقترنت بكينز، ولا شئ آخر بديل عنها أو افضل منها. على ان طبيعة وشكل ومدى التدخل الحكومي حين يخفق النظام الرأسمالي يمكن لها ان تأخذ اشكالا مختلفة. فمثلا انني أرى اننا في الولايات المتحدة تعودنا ان ننتهج حلا واحدا لأزمة واحدة ونستخدم وسيلة واحدة ونلقي المسؤولية على عاتق جهة واحدة. والافضل ان تكون لنا وسائل متعددة لاهداف مختلفة. اعتمدنا وما نزال نعتمد على سحرية الحل الذي يقدمه البنك الاحتياطي الفدرالي مركزا بما يرتأيه مجلس الامناء فيه وفي كل مرة تكون عيوننا شاخصة فقط على ما يتفوه به رئيس المجلس التنفيذي للبنك من قرارات تقضي بارتفاع او انخفاض في سعر الفائدة مهما تكن أزمتنا الرئيسية سواء كانت تضخم او بطالة ام كساد. ولا اشكك في قدرة المجلس او رئيسه او أهلية البنك الاحتياطي الفدرالي لكنني افضل ان تكون حلولنا متعددة الجوانب. وعموما أرى ان تغيير السياسة النقدية يصلح اكثر للازمات قصيرة المدى، في حين تغيير السياسة المالية يناسب اكثر في حل الازمات طويلة المدى.

في عام 1972 حاز على عضوية اكاديمية العلوم الوطنية

وفي عام 1999 فاز بالوسام الوطني للعلوم

وفي عام 2006 كرمه الامير البرتغالي هنري بشرف الصليب العظيم

وفي عام 2014 قلده الرئيس أوباما وسام الحرية الرئاسي من الدرجة الاولى

يشير زملاء واصدقاء سولو بأنه رجل دمث الاخلاق ولطيف المعشر ويتمتع بخفة دم وسرعة البديهة. فلا عجب انه شخصية محبوبة من قبل الزملاء والطلاب. وفي المقابل يحمل هو ايضا اعترافا بالفضل واحتراما وتقديرا لزملائه ولطلابه في MIT.  الطلاب الذين كرس لهم جزءً كبيرا من وقته. يقول انه لو لم يكرس الوقت الواجب تكريسه للاهتمام بطلبته لازداد معدل نشاطه في البحث والنشر بما يقارب 25% خلال حياته الاكاديمية لكنه سعيد بتلك الرعاية التي انجبت افضل الطلاب حيث فاز خمسة من طلابه بجوائز نوبل في الاقتصاد ومضى اغلبهم ليتبوأ مناصب عالية في عالم التجارة والاقتصاد والحقل الاكاديمي.

يعترف سولو بفضل كل المجالات التي درس وعمل فيها. من مدارسه الابتدائية والثانوية حيث يعزو تفوقه الى الاهتمام الاستثنائي به من قبل بعض المعلمين المخلصين، الى جامعة هارفرد واستاذه ليونتيف وبقية من درسوه، الى خدمته في الجيش والضباط الذين عمل تحت امرتهم، الى قسم الاقتصاد في MIT ورفقته لسامولسن والزملاء الآخرين وطلابه الاعزاء، والى زوجته واطفاله الثلاثة الذين وفروا له بيتا جميلا هادئا وجد فيه الراحة والاسترخاء والسلام. بقي ان اقول ان سولو الآن يحث الخطى للاحتفال بعيد ميلاده المائة.

***

ا. د. مصدق الحبيب

درجافين اسم كبير في تاريخ الادب الروسي، ولكنه يكاد ان يكون شبه مجهول للقارئ العربي عموما، وحتى للقارئ الذي يتابع  الادب الروسي، اذ لا يعرف هذا القارئ المتابع ماذا تعنى القصيدة التي يسمونها بالروسية - (اودا)، واين ظهرت وكيف وصلت الى روسيا، وماهي مكانتها واهميتها في تاريخ الشعر الروسي، وهي القصائد التي ابدع فيها درجافين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في روسيا، واصبح – ولحد الان ونحن في عام 2023 – واحدا من ابرز روّادها الاوائل، وهذه القصائد هي التي اوصلته الى الاوساط العليا، وجعلته يشغل تلك المناصب الكبيرة الاهمية في الامبراطورية الروسية (منها وزير العدل في تلك الامبراطورية الواسعة !)، وذلك بعد ان اطلعت على تلك القصائد الامبراطورة يكاترينا الثانية  بنفسها، وجعلته قريبا من الاوساط الحاكمة العليا آنذاك، وهذه ظاهرة نادرة جدا في تاريخ الادب الروسي (والادب العالمي ايضا)، وتستحق هذه الظاهرة الدراسة المعمقة من قبل المتخصصين العرب لتحديد ابعادها كافة واستخلاص دروسها .

تحتفل روسيا رسميّا هذه الايام بمرور 280 سنة على ميلاد درجافين، ونود ان نتحدّث في مقالتنا هذه عن ابرز نقاط هذه الاحتفالات، والتي تعني – فيما تعنيه – ان روسيا تتذكر مبدعيها كافة ولا تنساهم، وتحتفل في كل مناسبة من مناسبات مسيرة حياتهم بشكل حضاري واسع النطاق، وتربط حتما تلك الاحتفالات بواقعها المعاصر ومشاكل عصرها الحالي، و شئنا ام أبينا، تبرز امامنا رأسا (عندما نرى هذه الاحتفالات في روسيا او غيرها من البلدان المتقدمة) ما يحدث بالنسبة لمبدعينا كافة في العراق او عالمنا العربي الكبير بشكل عام، هؤلاء المبدعين المنسيين – مع الاسف الشديد - حتى اثناء حياتهم بيننا،  والذين لا يذكرهم أحد بعد رحيلهم، ونظن، انه لا توجد ضرورة لذكر الاسماء طبعا، اذ يعرف جميع القراء مأساة هؤلاء المبدعيين المنسيين في بلداننا.....

ولد غافريل  رومانوفيتش درجافين عام 1743، ومرور 280 عاما على ميلاده لا تعتبر مناسبة تقتضي الاحتفالات الواسعة بها، اذ ان ذلك يحدث عادة عند مرور قرن او قرنين...الخ على ميلاد المبدعيين، ولكن الاوساط الثقافية الروسية، مع ذلك، تحدثت عن هذه الذكرى بشكل لافت للانتباه، مؤكدة على الجانب الوطني في شعره، فهو، مثلا، اول شاعر روسي استخدم كلمة (الوطن) بالمفهوم المعاصر لهذه المفردة في ابداعه، وربما يوجد من يقول، ان الصحافة الروسية تريد ان (تستخدم!) درجافين لاهداف سياسية معينة ترتبط بالاحداث الروسية اليوم، ويقصد هذا القائل طبعا  الحرب الروسية – الاوكرانية ونتائجها الواضحة المعالم على المجتمع الروسي، ويمكن اجابة هذا القائل هكذا -  وهل في ذلك ضير ؟ أليس من حق روسيا ان (تستخدم !) مناسبات ترتبط باسماء مبدعيها لتتحدّث عن تاريخها وعن حاضرها، وتخطط لمستقبلها عبر تلك الاحتفالات،المرتبطة بمبدعيها ؟ والجواب واضح عن هذا السؤال - طبعا من حقها، ويقول البعض - لكن الحديث عن درجافين اصبح مباشرا جدا، اذ يؤكدون في هذه المناسبة على اسم الامبراطورة يكاترينا الثانية، وكيف انتصرت على اتباع الامبراطورية العثمانية في حرب القرم، وكيف اصبح القرم منذ ذلك الانتصار في ذلك الزمن البعيد  جزءا من الامبراطورية الروسية، وان القرم الان هو احدى القضايا المطروحة بحدّة عالميا في احداث اليوم بين روسيا واوكرانيا، والتركيز على ذلك واضح  في مثل هذه الاحتفالات، وكل ذلك صحيح، وكل ذلك مقبول ومفهوم  في هذه الظروف المتشابكة والصعبة، فدرجافين يرتبط بشكل مباشر بهذه الاحداث .

ختاما لهذه السطور،  نرى، انه من الضروري الاشارة الى عمل جميل وفريد ضمن هذه الاحتفالات، وهو ما قامت به المكتبة العامة في بطرسبورغ، اذ نظّمت تلك المكتبة العامة المعروفة معرضا خاصا بهذه المناسبة للكتب التي أصدرها درجافين اثناء حياته والمصادر التي تناولت  ابداعه وتحدّثت عن مسيرته ومناصبه الرفيعة العديدة، وقد نشرت جريدة (ليتيراتورنايا  غازيتا) الروسية الاسبوعية خبر هذا المعرض  تحت عنوان  -  (المحافظ والوزير والعبقري)، وهو عنوان يلخّص فعلا مكانة درجافين في تاريخ روسيا وفي تاريخ أدبها ايضا، وتوقفت الجريدة بتفصيل عند بعض تلك المعروضات ونشرت صورا عديدة لها.

***

أ.د. ضياء نافع

لم اعرف انه سرياني الا بعد وفاته حيث عرفت من النعي بعد اكثر من أربعة عقود من الزمن.

في النصف الأول من عام 1983 أي في ذروة الحرب القذرة الطاحنة بين العراق وايران التحق الى وحدتنا س4 ف 3 لمش506 في قاطع زرباطيه شاب هادئ نحيل جميل هو الجندي الاحتياط شاكر مجيد سيفو وبعد واجب الاستقبال المحكوم بالأمور العسكرية.. استدعاه وكيل امر السرية الملازم الأول (شاكر.. بغداد حي القاهرة) لتمتع امر السرية النقيب (سلمان اسماعيل فرحان جوهر المياحي) بالإجازة الدورية (كان محور ما نشرت تحت عنوان مذكرات جندي احتياط) ثلاثة أجزاء رابط الجزء الأول هو:

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=957281&catid=327&Itemid=1238

اخبره وكيل امر السرية بوجود ثلاثة اخوه من االموصل .. ان رغب ان يكون رابعهم في الموضع واخبره انهم من الاخوة الايزيديين فلم يعترض.. التحق معهم في الموضع فصاروا اربعه.

شخصياً كما اغلب افراد السرية حسبته من الأخوة الايزيديين لانسجامه السريع معهم.

بعد أيام تبين انه يكتب الشعر وكان يبحث عن صور جميلة يلتقطها بحسه المرهف في تلك البقاع القاسية والظروف الصعبة. كان حالماً وكان يردد بمناسبه وبدونها عبارة: (الجبلي فادي).. بتكرارها حسبتُ انه لها وهي له.. ان فيها منه ومنها فيه.. حتى ان امر السرية له الرحمة والذكر الطيب الدائم دوام مواقفه الطيبة كان يسميه او يناديه باسم (الشاعر الجبلي) او (المعلم فادي) حسب الموقف ويقول لا تسلموه سلاح فهذا شاعر يحتاج الى قلم ودفتر.. كان ذلك من باب التندر تارة والاعجاب تارة اخرى.. لأنه هادئ نظيف مطيع عسكرياً لا يتذمر من أي تكليف او واجب وما شكى من احد وما اشتكي منه احد طيلة مدة بقاءه في السرية وهي ليست بقصيرة حتى ان البعض حسب ان فيه هوس او مس.

توطدت علاقتي به وكنا نقضي معاً ساعات لكسر الملل والقلق والتعب وكان فيما بيننا ما يقربنا لبعضنا ولو انه عام ولم يقترب من المحظورات المقلقات الخاصات في تلك الظروف والساعات القاسيات المزعجات.

من احلامه التي تَنّدَرَ عليه فيها القوم هو مناجاته للكلمات السابحة في الفضاء كما كان يقول ويشير اليها كأنه يراها ويدعو الغير للتمتع برؤيتها فصار عند البعض فيه بعض جنون. ويمكنكم ان تتصوروا بعض تعليقات البعض.

حَلِمَ بما يعرف اليوم بثورة المعلومات او الانترنيت ربما قبل ان يحلم بها من سُجِلَتْ بأسمة.. الغريب انه وصاحب الانترنيت فكروا بها في نفس الفترة الزمنية ذاك مهندس وهذا شاعر.. وقد صاغ تلك الاحلام بكلمات اقرب الى الشعر اثارت الضحك والتندر والهمسات وبعض الاعجاب. احاول هنا ترتيبها او ترتيب معانيها و"مَوّْسقتها" وانا معذور لضعف المحاولة ولمرور ما يقرب من ثلاثة عقود وقت كتابتها الأولى

و نشرها واليوم تقترب من أربعة عقود وها انا اشهد له وهو قد غادرنا الى حياة أخرى من انه فَكَّرَ بها وصاغها وقالها في تلك الايام اي في ايام ما قبل حتى التفكير بالأنترنيت.. [قِصَتُها راسخة وتَذَّكَرْتَها عام 2010 وبحثت عنه وكتبت له عندما نشر مقالة عن ديوان الشاعر الراحل ابراهيم الخياط في الحوار المتمدن عام 2010 ولم استلم منه رد وحاولت مرة اخرى لكن دون جدوى وكتبت الى المشرفين على احد المواقع التي يكتب /ينشر فيها ولم استلم الجواب. (أعتقد عينكاوه)

ان صياغتها التالية محاولة اكيد فيها قصور فأعتذر (الموضوع منشور في 28.03.2012)

ستقتحم الكلمات السماء

وتزاحم القصائد النجوم

وتلتقي الافكار هناك بعيدا عن الرقيب

في فضاء لا يسيطر عليه

سعادتي ستكون في حيرة هذا الحاجب

اضحك.. لان كلماتي تتقافز من بين فَكّيهْ وفَكّيْ المقص

ستضج الاجواء بالهمسات وتفور المشاعر

لألتقي من لا أراه اليوم

ويلطم الرقيب.. ونضحك

سيصرعه طنين كلماتي

سيكون العالم اصغر من قبر من يقتل هنا

ليس فيه ارض حرام مشبعة بالألغام

قبل شهيقي الثاني سأتدفأ بزفير من يتوارى في كوكب اخر

خلف تلك الهضاب يا صاحبي

انعكاس ضياء ودماء

سيزدحم الفضاء

بالأغاني والضوضاء

لكن الشر مع الشر

سيدنسه

ويأخذنا ربما الى فناء]

كان الجندي الاحتياط شاكر مجيد سيفو هكذا كنا نناديه يرفض ان يُقال على من يسقط قتيلا في تلك الحرب الملعونة شهيدا.. لآن الشهيد في زحمة افكاره هو من يسقط في المعمل او في الحقل او وهو يلقي قصيده او بين اذرع حبيبته. نحن كلنا جبناء كان يقول ويفسر ذلك بأن الشجاع من يرفض الحرب ويتقدم لعقوبة الاعدام غير نادم. كلنا جبناء لأننا نرفض الحرب ونشارك فيها ونطرب لسماع الاغاني التي تمجدها ونهتف لمن اشعلها ويديم اوارها. كلنا جبناء لأننا نلم اجزاء اجساد رفاقنا ونصلي عليهم وربما نزغرد نفاقا ونحن مرعوبين من القصف.

قال انا أُعلن لك اني جبان لأني أولاً هنا وثانياً أخاف ان اقول ذلك بصوت عالي ولكن لي طلب وهو من جبان ذليل يريد ان يكون شجاع بعد ان يقتل هنا.. طلبي هو: [ان لا تنقلوني من المكان الذي أُقتل فيه ولا تطلقوا عليّ اسم شهيد ولا ترسلوا بقايا جسدي الى اهلي أريد ان اتعفن هنا او تأكلني الجوارح عسى ان تُزكم جيفتي انوف مشعلي الحرب فيهربون وتتوقف او يرعبهم منظر نهش الجوارح لما تتفضل به القذيفة وتتركه من جسدي النحيل فيعتكفوا وتتوقف الحرب وبذلك سأكون انا سيد السلام.. بطل السلام ويقام لي مزاراً هنا تقام فيه مهرجانات الفرح والحب والشعر.

يا صديقي قال لي: جيفتي وجيفتك وجيف الأحبه الاخرين ربما تكون/ستكون السلاح الذي سندمر به الحرب.. لماذا لا نجرب ذلك؟

احذرك يا صديقي من نقلي الى اهلي بعد ان أُقتلْ لأن لعنتي ستطاردك وستطارد كل من سيساهم في ذلك او يتأسف على موتي.. ستدفعكم لعنتي الى الجنون او الانتحار.

سألته في احدى المرات: ما قصة ما يردده (الجبل فادي)؟.. قال انا لا اردد انا أُنشِدْ ولكن هل تَرَكَتْ فيك شيء يختلف عن الاخرين؟ فأجبته انها حيَّرَتْني .. أفردتُ الكلمتين وسرَدتُ معانيهما وحاولتُ الربط بينهما وكان سهلاً فالجبلي من الجبل وهو من سَكَنَهُ او بالقرب منه وتعلم منه فصار متمرس صابر محب قاسي دقيق حريص على ما بين يديه شجاع هذا ما تفرضه علية قساوة الجبل وجماليته.

والفادي من الفداء والبذل والتضحية والايمان وهو من يعرف ما يريد ولمن يضحي وكيف يقدم التضحية فالجبل هو فادي يتحمل القصف والبرد ويحمي من يلجا اليه ويمده بما يتيسر من ماء وغذاء والفادي جبل صامد يقابل فداء الجبل بفداء ويحاول حماية الجبل ليتبادلا الحماية فالجبل يفدي الفادي والفادي يفدي الجبل.

اكملت كلامي برجاء ان يُسِمعُني شيءً منها وكنتُ أعتقد انها قصيده بهذا العنوان لما فيها من موسيقى ومعاني واكيد انها تحكي عن الجبل والفداء.. قاطعني طالبا رايي بالاثنين (عمو وخديدا) (وهما الاثنين المتميزين من الثلاثة الايزيديه في السرية) الذين يشاركهم الموضع.. قلت له:

عمو: منافق يبحث عن المشاكل ويتربص بالجنود وهو غير محبوب.(بالمناسبة فان عمو كان برتبة عريف احتياط وهو من سنجار ايضاً ذو لحية طويله نحيف ويظهر من تعامل الاخرين معه انه اما ابن شيخ قبيلة او رجل دين)

خديدا: طيب هادئ متعاون محبوب قليل الكلام ملتزم حسن المعاملة محترم من الاخرين يحترم الجميع كان من المتميزين في اصابة الهدف بالبندقية الاليه كلاشنكوف حيث كنا وفي بعض الأحيان نتسلى بإقامة مثل هذه المسابقات).

ثم قال لي: جوابا على استفسارك عن (الجبلي فادي)

خديدا جبلي فادي

عمو جبلي فاضي

انا جبلي ضادي

تبسم لاستغرابي وقال:

خديدا: ترك الجبل وهو فادي

عمو: ترك الجبل وهو فاضي وسيبقى

وانا: تركته حالما بالضاد اي الكتابة

خديدا: ثائر صلب محب نزل لزيارة اهله كما فعلها في مرات سابقه ولكن هذه المرة وشيّ به من القريبين عليه ومنهم من على شاكلة (عمو) وحشروه بين الابلاغ عنه او اعلانه الندم وكان شرطه عليهم ان يترك ولا يتم استجوابه فاقترحوا التحاقه بخدمة الاحتياط

عمو:.. هذه افعاله وهو فارغ الا من الخرافة ولم يصعد الجبل كثائر وانما كأحد الجحوش*

انا: لم احمل السلاح في الجبل ولم اطلق اطلاقه واحده.. نزلت حالماً في ان اساهم في اقتلاع الأميه التي تنخر الاطفال واعلمهم القراءة والكتابة ليكون في المستقبل آلاف الشباب مثلي واحسن وحلمت ان اكتب قصائد للأطفال ليرددوها في افراحهم ومدارسهم واعيادهم واقنعت نفسي ان هذا نضال وواجب مهم. فشلت لأني وجدت نفسي مُجبر على تعليمهم الكذب والتصفيق وتمجيد القائد الرئيس والحزب وان اردد ما حشروه في الكتب المدرسية وأكون اول المصفقين في رفعة العلم.

(فادي) عند (خديدا ) ومن هم على حميد خصاله: فائها من فداء.. الفها من أعلى.. دالها من درجات.. ويائها من يقين.

(فاضي) عند (عمو) ورهطه: فائها من فضيحه او فراغ.. الفها من أرعن وضادها من (ض.. ).. وياءها من يُتْم

و (ضادي )عندي ومن هم على شاكلتي: ضادها من ضياع.. والفها من ألم.. ودالها من دجن.. ويائها من يأس.

فانا ضادي عندما فكرت بالكتابة بلغة الضاد واعتبرت ذلك نضالا لأشعر الان ان راسي تحت (بسطال)*خديدا وتحت(بسطال) عمو.. انا من يضع راسه تحت بسطال خديدا وهو يرفض ذلك ويعتذر وعمو يضع بسطاله فوق راسي وهو شامت شاتم.

كانت تلك المواقف والكلمات راكده في الذاكرة ولم اتطرق لتفاصيلها في ما كتبت سابقا تحت عنوان مذكرات جندي احتياط لكني ذكرت شيء عن (عمو). ونشرت بعضها تحت عنوان ""فادي الجبلي""

راكده الى ان صُدمتُ وانا اقراء اسم الشاعر( شاكر مجيد سيفو) في احدى الحملات التي تبناها موقع الحوار المتمدن عام 2010 فهرعت الى موقعه الفرعي لأجد انه نشر موضوعين فأرسلت له رساله على خدمة راسل الكاتب على اخر موضوع نشره ولم استلم الجواب ولكني سُعدت حينها لسلامته من تلك الحرب القذرة.

قلت له مرة.. لماذا وانت الساخط المتذمر لا تهرب من الجيش وهناك ما يمكن ان تحتمي به او يحميك؟

ضحك وقال : تقصد الجبل.. واستمر يقول.. ربما انت مجبر على تواجدك هنا.. انما انا جئت باختياري.. تركت الجبل ونزلت حالما ان أسمع ترديد الاطفال لكلماتي التي اكتبها او ما أُعَلِمُهمْ.. لكني اصبحت مُهْمِلاً بعد ان صرتُ مُهْمَلاً.. لأصبح انا من يعلم الاطفال حب القائد واغاني تمجيد القائد.. وفي اللحظة التي قرر فيها القائد( رائد العدالة الاول والمعلم الاول)* ان يكرمنا.. فكانت مكرمته لنا هي قبولنا في الجيش كمكلفين او احتياط.. يعني سمح لنا ان ندافع عن الوطن وهذه خطوة مهمه عنده في طريق اعتبارنا مواطنين من اي درجه لم يقرر بعد.. فَرِحَ لذلك بعض كبارنا وباركوا ذلك وهللوا وصفقوا ولم يعرفوا أنَ نزعت القائد المريضة أوحت له بان يقتل الكفار بالكفار حسب اعتقاده.. اي يتقاتل الكفار نحن مع الكفار المجوس عبدة النار الايرانيين كما يؤمن هو وفي النتيجة مهما كانت فهو قد تخلص من الكفار.

قلت له مستفزا اياه وماذا كنت تفعل في الجبل غير قتلنا نحن الابرياء؟

قال: رجال الجبل لم ينزلوا يوما ليقتلوا الابرياء وكانوا يتحاشون ذلك وقدموا في ذلك دماء زكيه .. كانوا ينزلون ليقنصوا اتباع النظام وجلاوزته وعملاءه من رجال امن ومخابرات واستخبارات وحزبيين ومتعاونين معه من المجرمين الذين يذلون الشعب ويحاولون قتلنا .. ولكن عندما تَهِبّونْ انتم(الابرياء.. قالها بتهكم) للدفاع عنهم وانتم تعرفون انهم مجرمون وقتله وتفتحون النار على ثوار الجبل فما كان الا ان يرد ثوار الجبل دفاعا عن انفسهم وقتلاً لكم لأنكم تدافعون عن من يذلكم ويهينكم .

قلت له عود الى الجبل حتى لا تهب للدفاع عن القتلة وعن النظام في حربه علينا وعلى الاخرين..

قال انت لا تعرف الجبل ولو انك قلت قد قضيت بعض خدمتك العسكرية فيه او في محيطه

الجبل يا صديقي لا يعرفه الا من يعاشره او يعيش معه.. الجبل لا يحب من يتركه.. ولن يسمح لمن نزل من دون تكليف او واجب ان يعود اليه مهما قدم من اعذار او اسباب لنزوله حتى لو قَبِلَ بعض رفاقه او أصدقاءه بتلك الاعذار او الاسباب.. سيلفظه الجبل او يدفعه الى الانتحار لأنه يشك بالعائد كل من في الجبل سواء كان بشر او حجر او شجر.

قلت له مره كيف تعيشون في موضع واحد وانتم بهذه التناقضات ومع تعسف عمو.. هل هناك ما يجمعكم أو تجمعكم؟

قال : انا وخديدا نلتقي في الكثير من الامور لكن المشكلة مع عريف عمو.. ثم سألني :هل هناك ما بين خديدا وعمو ما يجمعهم غير يزيديتهم؟.. وقال: إنَ ما يجمعنا هو رفضكم لنا وابتعادكم عنا وهنا لا اقصدك انت..

قلت له حقا انه سبب رئيسي.. ولكنك تلاحظ احترام الكثيرين لك وللعزيز خديدا.. قال هذا صحيح لكنه لا يكفي لان هناك الكثير من الامور التي تباعد بيننا انها امور عميقه تحتاج الى وعي ووقت وشجاعة لتجاوزها حينها لن تجد مثلي من يرغم على العيش مع شخص مثل عمو لا تربطه به اي علاقه سوى انهم يؤمنون بخرافة واحده .. انا اقدر صعوبة ذلك الان واتمنى مستقبلاً ان نلتقي دون حساسية دينيه او قوميه او غيرها .. تجمعنا الانسانية واحترامها

قلت له مره يبدو ان (عمو) مستأنس لرتبة العريف وربما مستفيد منها هنا او هناك.. قال هذا ما تعلمه وما تربى عليه وما سيبقى عليه ولكنه من ضمن ما سيبقى عليه ايضاً وسيلازمه طويلاً هو كُره الناس واحتقارهم له

كان الشاعر الجندي الاحتياط شاكر مجيد سيفو يلتقط صور جميله ويتدخل مرات ليضيف عليها ونحن في تلك الايام الكالحة منها:

كان السائق البديل للنقيب امر السرية.. الجندي احتياط (ارشد) من اهالي بلد يصلي ثلاثة مرات حسب المواعيد وكانت صلاة الظهر والعصر متميزة وهو يؤديها في العراء ويكثر من التسبيح فيها والدعاء باللسان واليدين والشفاه .. في احد الايام وهو فاردا يديه في الدعاء حط على كفه عصفور واطال الوقوف لعدة دقائق اثار انتباه الجميع.. كان ارشد قد تسمر اكثر ولا يستطيع انزال يديه الى ان طار العصفور وكنا انا وصاحبي من ضمن من شاهد الموقف.. هب ارشد مستفسرا معتقداً ان هناك بلاغ رباني جاء به هذا العصفور ويريد منا نحن ""آيات الله"" انا وصديقي شاكر سيفو التفسير فقاطعه صديقي قائلاً له اهرب اليوم من الجيش هذه رسالة العصفور لك.. ارتبك ارشد وهو الناجي للتو بفضل امر السرية من الاعتقال وفقا للأوامر التي نصت على اعتقال كل عسكري من اهالي الدجيل او بلد كان يتمتع باجازته الدورية خلال محاولة اغتيال صدام الفاشلة في ناحية الدجيل.

ثم قال لي صاحبي ان ارشد طيب وصافي لذلك اختاره العصفور وفعلا كان ارشد من انقى البشر فلا يعرف الكذب ولا الحيلة ولا الغش ولا التلفظ بكلمه واحده بذيئة يثق بالجميع لحد البلادة حتى اننا كنا نضحك وهو خلف مقود سيارة امر السرية العسكرية حيث نقول له وهو خلف مقودها انها احترقت يقول( ب لله) بلهجة اهالي بلد الكرام..

اللقطة الثانية: كان معنا الأخ ( علي عناد عبد) من اهالي كربلاء وهو شاب نحيف قصير متزوج وله طفل حديث الولادة.. في احد الايام نهض (علي) وهو يردد اغنية شاعت في وقتها للمطرب سعدون جابر تقول:

(ابو حسين علي يكرار علي

يا سيف الاسلام سيفك امانه

بيدين صدام سيف بمكانه)

تصاعد صوته وهو يرددها وخرج عن الموضع ليزيد عليها وهو يتحرك بعنف:

(علي عناد عبد.. يكَواد عبد

نعله عله ابيك تقبل مهانه

ابنك يكَلك مو ابنك انه

يكَواد عبد)

خر صاحبي شاكر سيفو على الارض ضاحكا مقهقها وهو يقول(همزين مو بس انه مخبل) وقال له بعد أن هداء الاثنين علي من الهيجان وهو من الضحك

(فيك ثائر يصرخ اما ان تسكته او يقتلك)

وقال وهو ينشد:

( علي عناد علي

يمغوار علي

الجبل فادي

يذل الاعادي

على عناد علي)

كنت اتصور حتى لحظة فراقنا ان (الجبلي فادي) هو عنوان قصيده لم تكتمل وانها تحكي قصة شاب ثائر ترعرع في الجبل او محيطة وتبادل مع الجبل المشاعر والمواقف وتعانقا كثيرا.. وفي القصيدة شيء عمن عاش معهم من اصدقاء وزملاء ورفاق.. وما تركوا وبالذات من غادروا سواء الحياة او الجبل.. ويمكن ان اتخيله وهو النحيل المحب الطيب في ليلة عاصفه جبليه وهو يتدثر من البرد بما تركه المغادرين من ملابس او افرشه ومع عصف الريح يسمع اهاتهم واحلامهم واناتهم وقصصهم.. واتصور انها تتضمن ما كتبه المغادرين من ذكريات على الصخور سواء بالحراب او العلب المعدنية الفارغة او حتى بأظافرهم وقد يفرد فيها موقع لمآسي الحرب وعني وعن ارشد وخديدا وعلي عناد والراحل الطيب امر السرية.. لا ازال اتمنى سماعها بصوت صاحبي الذي غادرنا قبل اشهر.

لروحك السلام أيها الشاعر الجميل شاكر مجيد سيفو

***

عبد الرضا حمد جاسم

.....................

* س 4 ف 3 لمش506: السرية الرابعة الفوج الثالث لواء المشاة506

* الجحش: تطلق على المتعاونين مع السلطة.

* زرباطيه: منطقه حدودية في القاطع الاوسط من الحدود مع ايران حصلت فيها معركه كبيره سميت بمعركة شرق زرباطيه

يعد هشام كامل عباس محمود الجخ، أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء الشعر العربي المعاصر في مصرنا الحبيبة؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق، حيث يتميز بطريقة إلقائه لشعره التي يعتمد فيها أسلوبًا مسرحيًا، يمزج فيها العامية بالفصحى مع خلفية موسيقية، بزغ نجمه قبل ثورة 25 يناير 2011، وأكسبت الثورة أشعاره زخما وانتشارا واسعين.

بدأت رحلة الجخ الحقيقية مع الشعر عندما استقال من وظيفته الجامعية عام 2009 رافضا أن يعيش الحياة التقليدية للموظفين، واتخذ هذا القرار ليتفرغ للشعر وليهتم بمشروعه الذي حلم به لمدة 15 عاما، وهو زيادة شعبية الشعر في مصر وإعادة الشعر على ألسنة الشباب والأطفال.

وهشام الجخ، هو شاعر مُعاصر من أصل مصري صعيدي من محافظة سوهاج، وُلد في الأول من أكتوبر عام 1978، ودرس في جامعة عين شمس كُلية التجارة وتخرج منها، وعمل أثناء دراسته بالغرافيك والتصميم والطباعة، وبعد تخرجه في عام 2003 استلم إدارة المركز الثقافي الذي كان يعمل به في الجامعة وقرر تركه في 2009؛ لأنه لم يتقبل حياة الموظفين الروتينية، وإضافة إلى ذلك أراد التفرغ والاهتمام بالشعر والقصائد، كما أنه حصل على شهادة دراسات عليا في إدارة الأعمال عام 2007 من نفس الجامعة، واشتهرت قصائد الجخ بأنها باللغة العامية المصرية، ولديه أسلوب إلقاء مسرحي، كما أنه مشهور بتشجعيه لتوحيد اليد العربية ونبذ الكراهية والتفرقة.

بدأت هشام الجخ مسيرته عندما ترك وظيفته في عام 2009 وكان لديه هدف سامي وهو زيادة شعبية الشعر المصري، وزيادة حُب الشعر لدى الشباب والأطفال، وبدأ مسيرته بحفلة شعرية جماهيرية مع موسيقى في عام 2010، واستمر في عمل حفلات شعرية جماهيرية، حتى قدّم في عام 2016 هذه الحفلات الشعرية في جميع محافظات مصر.

تميزت قصائده بأنها ثورية وجميعها باللغة العامية المصرية، وقام بنظم أكثر من 55 قصيدة، منها قصيدته الشهيرة التي تحمل اسم التأشيرة، والتي تتحدث عن العروبة، وأُطلق على هشام اسم الهويس، ويُقال إن سبب التسمية مُرتبط بالتدفق الشعري أو بسبب جذوره الصعيدية عِلماً بأن الهويس هي القنطرة التي تروي الأرض الزراعية.

قدم هشام الجخ عدد كبير جدا من القصائد بالعامية المصرية من ابرازها واهمها ” طبعاً ماصليتش العشا، عوّاد، لقطة الفراق رقم 105، خمسة الصبح، حمزة، المكالمة، أنا إخوان، ملك النحل، 24 شارع الحجاز، اختلاف، ايوة بغير، آخر ما حرف في التوراة، إيزيس، التأشيرة، 3 خرفان، رثاء جويرية،الجدول، مزحوم يا قطر الغلبانين، مديتش إيدي لحد، على ذكر آل النبي، أربعة، يا واخداني من الشيبة،آخر قصيدة، شيماء يا مكة، حمارين حبيبة، هجاء، قصيدة سكرانة، ماتزعليش، عشان غني، منطقي مشهد رأسي من ميدان التحرير، الرسالة الأخيرة، حظك كده، نانا، نادية، قالولك، اختلاف 3، مش طبيعي، حلقاتك برجالاتك، مش كفاية، ماكنتش هناك، في حب مصر، أباتشي، الوجهان، البغبغان، عبروا الرجال،مع ركعتين الفجر، طير ملاك، عمارة، مافيش حد مات، مسكين، طب ايه بقى؟، أسوأ ما قيل في الشعر، يا محملين حلمكم، خائن، ايوة بغير، جحا، مكملين، سري جداً إلى البحر، انسبحوا، أديني نجحت،مابتحلش”

لاقت قصائد هذا الشاعر رواجا كبيرا بين الشباب المصريين خاصة، كما وجدت طريقها إلى الانتشار وخارج مصر أيضا، ويعود ذلك لكون لغته العامية تبدو سلسة يفهمها ويشعر بها شباب الشام والمغرب العربي والخليجي.

كما ساهم في هذا الانتشار حضوره المكثف في مختلف الفضائيات، وانتشار حفلاته على موقع يوتيوب وبقية مواقع التواصل الاجتماعي، وقدم عددا من الحفلات الجماهيرية في أمسيات شعرية ومؤتمرات ومهرجانات وجامعات، وذلك على مستوى العالم العربي.

وفي الشهور الأولى من عام 2016 احتفل الجخ بأنه قدم حفلات شعرية جماهيرية في كل محافظات مصر البالغ عددها 27 محافظة.

أطلق عليه شعراء جيله لقب "هويس الشعر العربي"، والهويس هو القنطرة التي تقوم بضخ الماء لري الأرض الزراعية، وربما أطلقوا عليه هذا الاسم لارتباطه بالتدفق الشعري أو لارتباطه بصعيد مصر وبالأرض وبالحياة الفلاحية.

ورغم ما حظي به من شهرة في البلدان العربية فإن هشام الجخ يرفض إصدار دواوين شعرية تضم أعماله، وقصائده صوتية.

ومن أجمل قصائده الصوتية  التي اعجبتني قصيدته أُسَبِّحُ باسمِكَ اللهُ وفيها يقول :" قصيدته أُسَبِّحُ باسمِكَ اللهُ..وليْسَ سِوَاكَ أخْشاهُ..وأعلَمُ أن لي قدَرًا سألقاهُ.. سألقاهُ..وقد عُلِّمْتُ في صِغَرِي بأنَّ عروبَتِي شرَفِيوناصِيَتِي وعُنْوانِي..وكنّا في مدارسِنَا نُردّدُ بعضَ ألحانِ.. نُغنّي بيننا مثلًا: “بلادُ العُرْبِ أوطاني.. وكلُّ العُرْبِ إخواني”وكنّا نرسمُ العربيَّ ممشوقًا بهامَتِهِ..لَهُ صدرٌ يصُدُّ الريحَ إذْ تعوِي.. مُهابًا في عباءَتِهِ..وكنّا مَحْضَ أطفالٍ تُحَرّكُنَا مشاعرُنا..ونسْرحُ في الحكاياتِ التي تروي بطولتَنَا.. وأنَّ بلادَنا تمتدُّ من أقصى إلى أقصى.. وأن حروبَنا كانت لأجْلِ المسجدِ الأقصى..وأنَّ عدوَّنا (صُهيونَ) شيطانٌ له ذيلُ.. وأنَّ جيوشَ أمّتِنَا لها فِعلٌ كمَا السّيْلُ..سأُبْحِرُ عندما أكبُرْ.. أمُرُّ بشاطئ (البحرْينِ) في (ليبيا).. وأجني التمرَ من (بغدادَ) في (سوريا).. وأعبُرُ من (موريتانيا) إلى (السودانْ).. أسافرُ عبْرَ (مقديشيو) إلى (لبنانْ).. وكنتُ أخبِّئُ الألحانَ في صدري ووجداني.. “بلادُ العُرْبِ أوطاني.. وكلُّ العُرْبِ إخواني”.. وحين كبرتُ.. لم أحصلْ على تأشيرةٍ للبحرْ.. لم أُبْحِرْ.. وأوقفَني جوازٌ غيرُ مختومٍ على الشبّاكْ..  لم أعبُرْ.. حين كبرتُ.. كبُرتُ أنا.. وهذا الطفلُ لم يكبُرْ.. تُقاتِلُنا طفولتُنا.. وأفكارٌ تعلَّمنا مبادءَهَا على يدِكم..  أَيَا حكامَ أمّتِنا..  ألستم من نشأنا في مدارسِكُم؟.. تعلَّمنا مناهجَكُمْ.. ألستم من تعلّمنا على يدِكُمْ..  بأنَّ الثعلبَ المكّارَ منتظِرٌ سيأكلُ نعجةَ الحمقى إذا للنومِ ما خَلَدُوا؟.. ألستم من تعلّمنا على يدِكُمْ.... بأنَّ العودَ محميٌّ بحزمتِهِ.. ضعيفٌ حين يَنْفَرِدُ؟.. لماذا الفُرْقَةُ الحمقاءُ تحكمُنا؟!.. ألستم من تعلّمنا على يدِكم أن “اعتصموا بحبلِ اللهِ” واتّحدُوا؟.. لماذا تحجبونَ الشمسَ بالأَعلامْ؟.. تقاسمتُم عروبتَنَا ودَخَلًا بينكم صِرنا كَمَا الأنعامْ.. سيبقى الطفلُ في صدري يعاديكُمْ.. تقسّمْنا على يدِكم فتبَّتْ كلُّ أيديكُمْ.. أنا العربيُّ لا أخجلْ.. وُلِدتُ بتونسَ الخضراءِ من أصلٍ عُمَانيٍّ.. وعُمري زادَ عن ألفٍ وأمي لم تزلْ تحبَلْ.. أنا العربيُّ، في (بغدادَ) لي نخلٌ، وفي (السودانِ) شرياني.. أنا مِصريُّ (موريتانيا) و(جيبوتي) و(عَمَّانِ).. مسيحيٌّ وسُنِّيٌّ وشيعِيٌّ وكُرْدِيٌّ وعَلَوِيٌّ ودُرْزِيٌّ.. أنا لا أحفظُ الأسماءَ والحكّامَ إذْ ترحلْ.. سَئِمْنا من تشتُّتِنَا وكلُّ الناسِ تتكتَّلْ.. مَلَأْتُمْ دينَنَا كَذِبًا وتزويرًا وتأليفَا.. أتجمعُنا يدُ اللهِ.. وتُبْعِدُنَا يدُ (الفيفا)؟!.. هَجَرْنا دينَنَا عَمْدًا فَعُدنا (الأَوْسَ) و(الخزرجْ).. نُوَلِّي جهْلَنَا فينا.. وننتظرُ الغَبَا مَخرجْ.. أَيَا حكّامَ أمّتِنا سيبقى الطفلُ في صدري يعاديكُمْ.. يقاضيكُمْ.. ويُعلنُ شعبَنا العربيَّ مُتَّحِدَا.. فلا (السودانُ) مُنقسمٌ ولا (الجولانُ) مُحْتَلٌّ.. ولا (لبنانُ) منكسِرٌ يُداوي الجُرْحَ منفردَا.. سيجمعُ لؤلؤاتِ خليجِنا العربيِّ في (السودانِ) يزرعُهَا.. فيَنبُتُ حَبُّهَا في المغربِ العربيِّ قمحًا.. يعصُرونَ الناسُ زيتًا في فلسطينَ الأبيّةِ.. يشربونَ الأهلُ في الصومال أبدًا.. سيُشعلُ من جزائرِنا مشاعلَ ما لها وَهَنُ.. إذا (صنعاءُ) تشكونا فكلُّ بلادِنا (يَمَنُ).. سيَخْرجُ من عباءتِكم – رعاها اللهُ – للجمهورِ مُتَّقِدَا.. هوَ الجمهورُ لا أنتمْ.. هوَ الحكّامُ لا أنتمْ.. أتسمعُني جَحَافِلُكُمْ؟.. أتسمعُني دواوينُ المعاقلِ في حكومتِكُمْ؟.. هوَ الجمهورُ لا أنتمْ.. ولا أخشى لكمْ أحدَا..| هو الإسلامُ لا أنتمْ فكُفّوا عن تجارتكُمْ.. وإلّا صارَ مُرْتَدَّا.. وخافوا!.. إنَّ هذا الشعبَ حمَّالٌ.. وإنَّ النُّوقَ إن صُرِمَتْ.. فلن تجدوا لها لَبنًا، ولن تجدوا لها ولَدَا.. أحذِّرُكم!.. سنبقى رغمَ فتنتِكُمْ فهذا الشعبُ موصولُ.. حبائلُكُمْ – وإن ضَعُفَتْ – فحبلُ اللهِ مفتولُ.. أنا باقٍ.. وشَرعي في الهوى باقِ.. سُقِينا الذلَّ أوعيةً.. سُقينا الجهلَ أدعيةً.. ملَلْنا السَّقْيَ والساقي.. سأكبرُ تاركًا للطفلِ فُرشاتي وألْواني.. ويبقَى يرسمُ العربيَّ ممشوقًا بهامتِهِ.. ويبقى صوتُ ألحاني.. “بلادُ العُرْبِ أوطاني.. وكلُّ العُرْبِ إخواني”..

إن  دولة الإمارات الشقيقة لتشعر بالكبرياء والفخر حين  ألقي فيها هذه القصيدة لتحتفي بمبدع استثنائي في حياتنا الثقافية مثل هشام الجح.. وستبقى دولة الإمارات وفيّة لكل الشعراء  الذين جعلوا حياتنا أكثر اخضراراً، وأحاسيسنا أكثر شفافية، وحضارتنا أكثر تحضّراً.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

لشد ما أسعدنى تكريم رئيس جامعة القاهرة لى أثناء المؤتمر الصحفى الذى أقامته الجامعة بقاعة الاحتفالات الكبري معلناً إطلاق مشروعين طموحين .. أولهما: يتضمن تحديث شامل لمستشفى الفرنساوى وفق أحدث المعايير الدولية، وثانيهما: مشروع تطوير العلوم الإنسانية والاجتماعية..

التطوير المزمع إحداثه يأتى فى إطار التركيز على مفاهيم جامعات الجيل الرابع، ولتأكيد أحقية الجامعة على أن تظل ضمن أفضل مائة جامعة على مستوى العالم..

أعرق جامعة وأحدث تطوير

منذ نحو 115 سنة مضت تأسست جامعة القاهرة كأحد أقدم ثلاثة جامعات فى الوطن العربي بالإضافة لجامعة الأزهر والقرويين..وقد تغير اسمها من الجامعة المصرية إلى جامعة فؤاد الأول ثم إلى جامعة القاهرة. وقد انضمت مؤخرا للوكالة الجامعية الفرانكفونية واتحاد الجامعات الإفريقية. وقد تخرج منها عدد كبير من قادة الفكر والرأى والزعماء وعدد ممن حازوا أرفع الجوائز العالمية ، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر نجيب محفوظ وياسر عرفات ومجدى يعقوب وطه حسين ومحمد حسين هيكل وعلى مصطفى مشرفة وغيرهم كثير..وحينما زار الرئيس الأمريكي باراك أوباما مصر عام 2009 اختار أن يلقى خطابه من داخل أعرق جامعات الوطن العربي..جامعة القاهرة.

الجميل فيما قيل إن التطوير الذى تم الإعلان عنه وتم توفير التمويل اللازم له ذاتياً ليس إلا مجرد بداية ، وأن هناك تخطيط مستقبلى لإنشاء ثلاث كليات جديدة وهي كلية الطاقة الجديدة والمتجددة، وكلية علوم تكنولوجيا الفضاء، وكلية تطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوتات. ما يعنى أن التطوير ليس الأول ولن يكون الأخير، بل هى حركة مستمرة فى هذا الصرح العلمى العريق.

ثلاثون عاماً على الفرنساوى

منذ عام كامل عكف مجلس إدارة المستشفيات الجامعية بمشاركة المتخصصين من أساتذة الجامعة على عمل دراسة علمية لتطوير مستشفى قصر العينى التعليمى الجديد (الفرنساوى) بالتعاون بين عدة أطراف منها مركز الاستشارات الهندسية بكلية الهندسة وإدارة المستشفى وأطراف أخرى معنية بعملية التطوير..

ومنذ ذلك الحين تم بذل الجهود لتأمين ميزانية مشروع تطوير المستشفى حتى تم التصديق عليها من لجنة الموازنة بالبرلمان ومن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، وهكذا بات من الممكن الحصول على تمويل مبدئى من عدة بنوك كان فى مقدمتها تمويل بقيمة 20 مليون جنيه من البنك الأهلى المصرى.

الفرنساوى لعب دوراً كبيراً فى إدارة أزمة جائحة كورونا، واستطاع استيعاب عدد كبير من الحالات المصابة مع تحقيق معدلات نجاح عالمية فى علاج الحالات المصابة؛ لهذا كان من الضرورى الالتفات إلى عملية تطوير شاملة لهذا الصرح الطبي الكبير بعد مرور ثلاثين عاماً على إنشائه.. وسوف تتضمن عمليات تطويره شراء معدات وأجهزة طبية حديثة لمواكبة التطورات العالمية فى مختلف المجالات الطبية، وكذلك تحديث البنية التحتية للمبانى والمنشآت. والأهم من هذا وذاك تحسين طريقة الإدارة وتحقيق إصلاح مالي وإداري وتحسين أحوال العاملين بها، لافتا إلي أن الشائعات التي تثار حول بيع مستشفى الفرنساوي غير صحيحة، حيث أكد الخشت خلال المؤتمر أن جامعة القاهرة بجميع قياداتها الإدارية والطبية قادرة على جعل الفرنساوى من أعظم المستشفيات وأنه لن يتم التفريط في العاملين بل سيتم توظيفهم بطريقة أفضل لخدمة المستشفى وخدمتهم. فلن يتم الاستغناء عن العاملين بالفرنساوى بل سيتم تطوير أداءهم على مهام تتلاءم مع طموحات التطوير وسنعمل على تحسين أحوال جميع العاملين ماديا واجتماعيا.

البشر أولاً.. قبل الشجر والحجر

المشروع الثانى فى جدول أعمال الخشت هو مشروع موجه للناس وللثقافة وللعلم .. حيث أكد الدكتور محمد الخشت فى مطلع حديثه عن مشروعات التطوير التى تتبناها الجامعة أنه لابد من النظر بجدية شديدة إلى دور العلوم الإنسانية والاجتماعية وأيضًا العلوم الطبيعية ويجب أن نهتم بالبحث العلمي في قضايا الوطن وتحديات وهموم الناس وتحقيق مقاصد التنمية من أجل الرقي والازدهار.

ولفت الدكتور محمد الخشت، إلى أن العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة القاهرة كانت خارج أي تصنيف لكنها الآن أصبحت في مراكز متقدمة، مؤكدًا أنه يطمح في أكثر من ذلك، وأن إطلاق الجامعة مشروعا لتطوير العلوم الإنسانية والاجتماعية يأتي في إطار التركيز على مفاهيم جامعات الجيل الرابع والربط بين مختلف العلوم لأن مشروع البحث الذى ستموله الجامعة فى إطار هذا التطوير ليس مشروعا فرديا وإنما يشترط للتقدم أن يكون من خلال فريق بحثي من تخصصات متعددة، مؤكدًا أن التكامل ليس بين العلوم الإنسانية والاجتماعية وبعضها البعض فقط ولكن بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية..‏وقال الدكتور الخشت إن المشروعات البحثية التى سيتم تقديمها فى إطار المشروع يجب أن تركز على احتياجات المجتمع بالتكامل بين تخصصات عديدة، مشيرًا إلى أن حجم التمويل للمشروعات يبدأ من 200,000 جنيه ويصل إلى 1,000,000 جنيه بشرط أن تكون البحوث المتقدمة تخدم القضايا القومية وليست بحوثًا نظرية، وأن الهدف منها هو تحقيق تقدم على المستوى العالمي، وسد الفجوة المعرفية مع الجامعات المتقدمة، وخدمة المجتمع والناس.

كما فعلت الصين!

لعل أحد أهم الأسس والمرتكزات التى أدت إلى التطور السريع فى معدلات التنمية بجمهورية الصين الشعبية إهتمامها الكبير بالعمل الأهلى التنموى والمشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ بحيث تحولت البيوت الصينية جميعها فى كل شوارعها الريفية والحضرية إلى ما يشبه المصانع الصغيرة. هكذا بات المليار ونصف مواطن صينى جميعهم من المنتجين حتى غطى المنتج الصينى جميع ربوع المعمورة.. فماذا سيحدث إذا حلمنا كما حلمت الصين ثم حققنا هذا الحلم على يد أكثر من مائة مليون مصرى؟!

الحق أن من أدق وأهم وأعمق ما يهتم به المشروع الاجتماعى لجامعة القاهرة، هو التركيز على العمل الأهلى التنموى من خلال تشجيع الأيدى العاملة المصرية الماهرة على أن تسهم بدور فعال فى تدوير عجلة الاقتصاد المصري. ولطالما احتوت مصر على مهارات وحرف يدوية شديدة المهارة والتفرد، والدليل على هذا شوارع بأكملها لمثل هذه الحرف الصعبة كشارع النحاسين والخيامية وخان الخليلى والمعز، وغيرها كثير من شوارع القاهرة التى تخصص أهلها فى صياغة تحف حقيقية تباع اليوم بالمتاجر الإليكترونية بآلاف الجنيهات على أنها تحف أثرية مقلدة!

جامعة القاهرة تريد من خلال هذا المشروع تشجيع عمليات البحث العلمى والاستقصاء عن كيفية الجمع بين ما تحويه مصر من قدرات وطاقات بشرية مكنونة وبين ما تقدمه الدولة من فرص لتنظيم هذه الطاقات فى عملية اقتصادية مدروسة ومنظمة، بحيث يمكن توجيه طاقة العمل الأهلى الجمعى نحو عمليات إنتاج ضخمة وعمليات بيع وتصدير داخل وخارج مصر. بحيث يتحول المجتمع المدنى وتتحول الجمعيات الأهلية إلى جزء لا يتجزأ من روافد الاقتصادى القومى.

هذا ما يمكن أن نفهمه من تأكيدات الدكتور محمد الخشت أنه لابد أن يحدث تطور في العمل الأهلي وألا يعمل بشكل منعزل عن بعضه، ولكن من خلال قاعدة معلومات واحدة حتى لا تحدث ازدواجية في الخدمة الاجتماعية وحتى تساعد بعضها البعض وبالتالي الانتقال بالمجتمع نقلة حقيقية جديدة.

أعود فأوجه التحية للدكتور محمد الخشت على استضافته الكريمة بالمؤتمر، والشكر على تقديم درع الجامعة وشهادة تقدير غالية أعتز بها أيما اعتزاز. وأتمنى أن نرى جامعة القاهرة كعهدنا بها دائماً فى المقدمة محلياً وعربياً وعالمياً.

***

د. عبد السلام فاروق

كانت برفقة ابنها الكبير "بيتر" تتسوق عندما توقفت سيارة الاجرة امام منزلها،المرأة التي تبلغ من العمر آنذاك " 88 " عاما وجدت صعوبة في الخروج من السيارة السوداء، انحت قليلا، يكاد الوشاح الاحمر الذي تضعه على رقبتها يفترش الارض، انتظرت قليلا، قبل ان تشاهد مجموعة من الصحفيين يتزاحمون امام بيتها، قال لها احدهم: هل سمعت بحصولك على جائزة نوبل؟، لم تكن قد عرفت الخبر، ولهذا لم تبد عليها علامات الدهشة، تركت الصحفيين والمصورين لتلتفت الى سائق السيارة يعيد لها المتبقي من الاجرة، ثم انشغلت بالسلة التي تضع فيها الخضروات، بينما خرج الابن وهو يحمل عنقودا كبيرا من البصل، تعود لتسأل: ما الذي يفعلونه امام بيتها، قال احدهم: يبدو انك لم تسمعي الاخبار جيدا، لقد فزت بنوبل قالت بصوت مسموع " اوه.. يامسيح "، تجلس على دكة البيت، تقلب في سلة التسوق وكأنها تريد ان تقشر البطاطس طلبت من ابنها ان يجلب لها قدحا من الماء من داخل المنزل.. قالت للصحفيين ما ذا يريدون منها ان تفعل وهي تسمع خبر فوزها بجائزة كانت تستحقها منذ سنوات.

في اليوم التالي، اجرت معها لجنة نوبل مقابلة قالت فيها أنها لم تتفاجأ على الإطلاق بفوزها، لانها تستحق الجائزة واضافت ان هذا الامر لن يحدث تغيرا في حياتها، ستذهب كالعادة كل صباح لتتسوق بنفسها، فهي ماهرة باختيار انواع الخضروات.. وعن اهتمام الصحافة والنقاد بها بعد الفوز قالت: سيفقد الجميع الاهتمام خلال شهر أو شهرين، مضيفة: لا يمكنهم قضاء كل وقتهم في إجراء مقابلات. وليس لدي وقت لكل ذلك. لذا فإن مشكلة نوبل ستحل نفسهابنفسها.

كنت اجلس في المكتبة في احدى نهارات عام 1978 اتصفح مجلة الاقلام،عندما وقع نظري على اسم دوريس ليسينج، كان عنوان المقال يتكون من كلمتين " دوريس ليسنج " واسم كاتب المقال محمد درويش، كانت المرة الاولى التي اعرف فيها ان هناك كاتبة انكليزية مشهورة اسمها دوريس ليسنج، آنذاك كانت حصيلتي من قراءة الروايات التي تكتبها النساء تنحصر بين شارلون برونتي وشقيقتها اميل برونتي صاحبة الرواية التحفة " مرتفعات ويذرنغ "، وجين اوستن، والامريكية بيرك باك الذي ادهشتني بروايتها " الارض الطيبة " وهيرت ستو و " كوخ العم توم "، ومارغريت ميتشل التي شاهدت الفيلم المقتبس عن روايتها " ذهب مع الريح " قبل ان اقرأ الرواية. اما كاتب المقال " محمد درويش "فقد قرأت له من قبل عدد من المقالات عن الادب ينشرها في الاقلام، وكنت اعتقد انه كاتب لبناني، عندما انتهيت من قراءة المقال قررت البحث عن روايات السيدة ليسنج، وسافشل في الحصول على رواية مترجمة لها، ومع مرور الايام والشهور نسيت السيدة ليسينج، إلا ان وقع بيدي ذات يوم كتاب بعنوان " دراسات تمهيدية في الرواية الانجليزية المعاصرة " للناقد والمترجم المصري رمسيس عوض، وكنت في ذلك الوقت اقتني اي كتاب عليه اسم رمسيس عوض، حيث قرأت له كتبه الممتعة عن برتراند رسل، في الكتاب الجديد فصل خاص عن دوريس ليسنج واهميتها. تمر الايام والسنين فإذا بي ذات يوم اجد نفسي قبالة صاحب مقال دوريس ليسينج، محمد درويش، في ذلك الوقت كان صاحب المكتبة التي اعمل فيها وهو قريب لي، مهتما بالكتب الاجنبية سواء الادبية او الفنية او العلمية، وقد خصص جناحا ضخما لعرض هذه الكتب ومنها سلسلة بنغوين التي كانت تقدم روائع الادب الكلاسيكي، كان الزبون الذي يمعن النظر في الكتب الانكليزية رجل في الثلاثينيات من عمره، بشرته مائلة الى الاحمرار، قامته طويلة، عيناه تتحركان بين عناوين الكتب، تبدو على ملامح وجه ابتسامة خفيفة غير معلنة، بعد دقائق من تصفحة الكتب، التفت الي ليسأل عن نسخة من رواية " ابناء وعشاق " للورنس، وقبل ان اجيب قال: انه وجد نسخة عند الاستاذ يوسف عبد المسيح ثروة وقد اخبره بانها اشتراها من هذه المكتبة، قلت له ان الرواية نفذت، وكالعادة استعرضت عضالاتي على الزبون فاخبرته بان هناك طبعة عربية لها عن سلسلة روايات الهلال، وانني قرأتها واخذت اتحدث عن اعجابي بلورنس ه، ابتسم الزبون وهو يقول لي بصوت خفيض: لكن الترجمة لم تكن جيدة حذفت منها الكثير من فصول الرواية، انتبهت الى ان الزبون الانيق لديه معلومات هائلة عن الادب، قررت ان اطلب له قدحا من الشاي لاواصل حديثي معه، قال لي انه مترجم وكاتب وان اسمه محمد درويش، ما ان نطق بالاسم حتى قلت له: كنت اتوقع انك لبناني ضجك ضحكمة قصيرة، انتهزت الفرصة لأساله عن دوريس ليسنج فاخبرني انه بصدد ترجمة احد رواياتها، وهي اشبه بالسيرة، سالته اسئلة كثيرة لا اتذكرها الآن، بعدها غادر، لكنه سيصبح زبونا فيما بعد زبونا استقبله بين الحين والاآخر، ذات يوم سيفاجئني وهو يحمل بيده كتاب قائلا: احضرت لك دوريس ليسينج التي صدعت رأسي بها، كان الكتاب رواية " مذكرات من نجا ".

بعد سنوات يزورني الصديق كامل عويد في صحيفة المدى ومعه محمد درويش الذي كان يتابع ما اكتبه في الصحيفة، وذكرني بعامل المكتبة الشاب الفضولي الذي لا يتوقف عن الاسئلة. كان محمد درويش الذي رحل عن عالمنا قبل اكثر من عشرة ايام، طرازا فريدا من المترجمين المبدعين الذين تتنوع ترجماتهم، ولا شك ان قدرته على تقديم النصوص المترجمة بلغة تقترب من النص الاصلي هو اول ما يلفت انتباه من يقرأ ترجماته، والتي تنوعت بين الرواية والنقد والسير الذاتية، كان فيها يدهشنا حين يصل بين الرواية، والنقد الادبي والشعر والاقتصاد، مقالات فيها خلاصة تجربته في قراءة الادب والثقافة العالمية، والواقع ان انتاج محمد درويش اشبه بوحدة متناغمة العلاقات، لو نظرنا اليه من منظور دلالة الكتب التي ترجمها والتي شغلت فكره، وظلت تشغله منذ ان تخرج عام 1971 من قسم اللغة الإنكليزية في كلية التربية جامعة بغداد، وحتى حصوله على الماجستير في علوم الترجمة من جامعة هيريوت وات، الى مناقشته لرسالته للدكتوراه والتي كانت عن فلسفة اللسانيات والترجمة، الى مفارقته عالمه المدهش الترجمة ليرتحل عن العالم. اعني دلالة التميز التي كان محمد درويش يصبو لها، وحاول ان يجسدها في كل ما قدمه من ترجمات وكنب كانت اسلحته في مواجهة اهمال المؤسسات الرسمية في السنوات الاخيرة والمرض الذي حاصره. لكنه رغم ذلك اصر ان يجعل من اسمه علامة بارزة في تاريخ الثقافة العراقية.

كتبت دوريس ليسينج أكثر من خمسين كتاباً، وفي كل مرّة تقول لنفسها هذا هو الكتاب الأخير، ظلت صورة أمها الممرضة ترافقها حتى الساعات الأخيرة من حياتها، تقول: " كان قلبها دافئاً ولكنها لم تكن حساسة. من المحتم أن تمريض المجروحين كان أشبه بالجحيم. يصلون بعربة لوري، وبعضهم مات فعلياً. المحتم أن هذا مزّقها، تقدير ذلك أخذ مني وقتاً طويلاً".

تقول لكاتب سيرتها إنها تربّت على الحروب عن طريق والدها الذي كان جندياً في الحرب العالمية الأولى، وقد بترت له الحرب إحدى ساقيه: " كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا في معركة باشانديل حتى اليوم الذي مات فيه. كان يتساءل دوماً إن كان من الأفضل أن يموت معهم، ولكن على الرغم من ذلك لم يجعل الإصابة تعيقه، كان يفعل كل شيء"، ظلت الحرب تجثم على صدرها، وفي الرابعة والثمانين من عمرها ستقف أمام الكاميرات لتعلن إنها تكره الحرب مثلما تكره توني بلير – كان آنذاك رئيساً لوزراء بريطانيا: " كثيرون منا يكرهون توني بلير. أعتقد أنه كان كارثة لبريطانيا وقد عانينا منه لسنوات عديدة. لقد قلت ذلك عندما تمّ انتخابه: هذا الرجل رجل استعراضي صغير سوف يسبب لنا مشاكل وقد فعلنا، وبالنسبة لبوش، فهو كارثة عالمية. الكل سئم من هذا الرجل. إما أنه غبي أو ذكي للغاية، رغم أنه يجب عليك أن تتذكر أنه عضو في طبقة اجتماعية استفادت من الحروب".

تقول إن الحرب سمّمت طفولتها، وجعلتها متشائمة. تحس بثقل الحرب يزداد مع تقدمها في العمر: "سأفرح عندما أموت لأن ذلك سينقذني من القلق تجاهها". دهشتها قدرة الكاتب الالماني إريك ماريا ريمارك، على تصوير مآسي الحروب قرأت له "كل شيء هادئ في الميدان الغربي "،، لكنها أغرمت برويته " الرفاق الثلاثة " والتي تتحدث عن ثلاثة جنود ألمان يعودون بعد الحرب الى بلادهم ليروا الناس

دوريس ليسينج التي رحلت عام 2013 ظلت خلال الـ 94 عاماً التي عاشتها شاهدة على العصر الحديث بكل تناقضاته وتقلباته.. حياة ابتدأت من الحرب العالمية الأولى وامتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين لترى أفول نجم الشيوعية التي آمنت بها في بداية حياتها لتشاهد على شاشات التلفاز كيف انهار جدار برلين.. سنوات طويلة من زمن الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس الى زمن ديفد كاميرون.- رئيس وزراء بريطانيا في العام الذي توفيت فيه ليسينج -.

امرأة كتبت ضد العنصرية والاستعمار وناضلت في سبيل فضح جرائم الفصل العنصري واضطهاد المرأة، عاشت لاتعرف سوى الأدب طريقاً للحياة، كتبت بقسوة ضد الاستعمار والرأسمالية والجرائم التي ترتكب باسم الديمقراطية وخاضت معارك لا تنتهي في سبيل الحركة النسوية، تأتيها نوبل بعد أن سأمت من كل شيء وقررت أن تعتزل الكتابة رافضة عرض الملكة البريطانية بمنحها لقب سيدة الامبراطورية البريطانية حين ردت على صاحبة العرض بأن الامبراطورية لم تعد موجودة.. عاشت حياة أشبه برواية من رواياتها، فما بين مولدها بأيران في الثاني والعشرين من تشرين الاول عام 1919 من أبوين بريطانيين، الأب كان يعمل نقيباً في الجيش، والأم تمارس مهنة التمريض، فتحت عينها لتجد والدها وقد أصيب في الحرب العالمية الأولى فخرج منها مبتور الساق.. لايحظى بحب أمها وإنما بعطفها.. يعشق المغامرة وينتظر أن يرحل بأسرته ليبحث عن الثروة والحياة الجديدة..في جنوب أفريقيا عاشت دوريس حياة شاقة جعلتها تقول عنها في مذكراتها بأنها كانت سنوات الخيبة لكنها تحملتها بشجاعة وكبرياء، كانت طفولتها كما تصفها جرحاً مفتوحاً يسير على قدمين مما دفعها أن تجعل معظم أبطال روايتها يعيشون حكايات صعبة وذكريات أليمة مع سنوات الطفولة.. تعترف أن وعيها تفتّح حين قررت أن لاتكون مثل والديها: الرجل المقعد والمرأة المريضة بالوساوس.. ألا تقع في شرك النمطية، غذّت في داخلها روح الثورة والتمرد على الأوضاع، تعترف: " لقد صنعت لنفسي يوتوبيا خاصة، كان الأدب جزءاً منها أردت أن أقول للعالم ماذا لو جعلنا الظلم والفقر والحرب أموراً مستحيلة بالتأكيد إن الحياة سوف تكون أجمل وتمتلىء بالناس الرائعين".. تقرر أن تعيش حياة التمرد على سلطة الأم المهووسة بالنظام واحترام التقاليد فتهجر مدرسة الراهبات في الثانية عشرة من عمرها، ثم بيت أهلها وهي في الخامسة عشرة من عمرها لتعمل مساعدة ممرضة. تقرأ الكتب التي تستعيرها من الأصدقاء.. إنها سنوات الضياع والحرية والحب. في بداية الثامنة عشرة من عمرها تتزوج من أحد زملائها في العمل. وفي الحياة الجديدة سوف تجد مجتمعاً متغيّراً تواصل من خلاله السعي لتجد ذاتها، تنضم الى الدوائر السياسية وتعتنق الأفكار اليسارية ويدفعها حبها للحياة الى مغادرة مجتمع جنوب افريقيا لتبحر صوب لندن فتصلها في العام 1949 وهي تحمل معها طفلاً رضيعاً ومسودة أولى روايتها " العشب يغني" التي تروي فيها حكايات عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.. تنشر الرواية عام 1950 لكن كان على دوريس أن تنتظر اكثر من عشر سنوات حتى يعنرف بها الوسط الثقافي في لندن بعد أن تقدم روايتها " المفكرة الذهبية – ترجمت الى العربية لعنوان " الدفتر الذهبي " - التي صنعت شهرتها الأدبية وقدمتها كواحدة من المناضلات في سبيل حرية المرأة من خلال تقديم شخصية امرأة عصرية بعمق وتفاصيل مثيرة، وقد رأى فيها البعض سيمون دي بوفوار بنسخة إنكليزية

تكتب في سؤال حول نظرتها لقضايا المرأة: " ما أتمناه هو حصول المرأة على الاستقلال، بحيث لا تكون عبدة للرجل ولا للمرأة المسترجلة. حاولت في روايتي أن أخلق امرأة تقترب من هذا النموذج: حرة، ومستقلة، وأما حنونة، إنسانية دون أن تكون عاطفية، وذكية دون أن تكون متعجرفة. "

مرحلة السبعينيات والثمانينيات مثلت تطوراً جديداً بالنسبة لدوريس ليسينج حيث تحوّلت كتاباتها الى مرحلة النضوج والتأمل عبرت عنها رواياتها " بيان مجز وخماسية العنف ومذكرات مَن نجا والحب مرة أخرى وتقرير عن الجحيم "، لتصبح حكوائية للتجربة النسائية من الطراز الرفيع تروي معاناة المرأة بدقة وشفافية بدءاً من الإرهابية عن امرأة برجوازية ضجرت من حياتها والتحقت بصفوف الجيش الآيرلندي، الى " الجدات" عن سيدتين كل منهما تعيش قصة حب مع ابن الأخرى وصولاً الى " أعذب الأحلام " التي تقدم لنا فيها نفسها بأنها المرأة القادرة على تصوير أوضاع العالم بلغة شفافة. إنها المرأة التي تركت كل شيء..الأهل والمدن والايديولوجيات لتكتشف الحياة بصورة أكثر نقاء ولتؤكد لنا وقد تجاوزت التسعين من عمرها إن الإبداع لايشيخ وإن الموهبة الحقيقية تظل ساطعة طوال السنين.

كتب سومرست موم مقالاً عن رواية دوريس ليسينج " العشب يغني " أكد فيه أن هذه الرواية وصفت طبقة جديدة من البشر، الطبقة التي تعاني من الاضطهاد، دون أن ينتبه لها أحد، وقد تنبأ موم بمستقبل ليسينج، واعتبر نفسه محظوظاً إنه عاش ليقرأ مثل هذا الأدب.

في آخر حوار معها قالت للمحرر الأدبي لصحيفة الغارديان إنها لاتجد إجابات شافية حول وظيفة الكاتب في هذا الزمن لكنها تعتقد إن: " من واجب الكتّاب، إذا تعاملوا مع مهنتهم بصورة جادة، أن يضعوا أصابعهم على مواطن جروح زماننا، ولكن هذا ليس كافياً. كل منهم يستطيع إيجاد العيوب في الظروف السائدة ومن السهل أن يغدو مثل هذا العمل صرعة. في رأيي، يتحتَّم على المؤلِّف أن يصبح، بعض الشيء، شبيها بالنبي، يقتفي الخلل قبل أن يغدو ماثلاً للعيان، ويفقه الموضوع قبل أن يصبح نزعة سائدة، شاحذاً حسّه وحواسه لاستشعار أدق ذبذباته ".

في العام 1962 تنشر دوريس ليسينج روايتها " المفكرة الذهبية " – ترجمها الى العربية الراحل الكبير محمد درويش، وله الفضل في ترجمة العديد من اعمالها -، والتي حظيت باهتمام كبير وأثارت كثيراً من الجدل دفع دوريس لأن تقول: " إن الجدل حول الرواية يبدأ منذ يوم مولدها وهكذا بدأ الأمر مع المفكرة الذهبية "، كانت ترغب أن تكتب عن حياتها، عن السنوات التي أعقبت الحرب، وضعت تولستوي نصب عينيها، إنها تريد أن تكتب ملحمة قريبة من الحرب والسلم، تعتبر ستندال وتولستوي بأنهما " أخوايّ في الدم "، لكنها هذه المرّة لن تكتب تاريخاً للحرب ولا للبلدان، وإنما صورة لحياة امرأة ذكية، لكنها محبطة.. تقول في مقدمة الرواية: " اعتقد أن الماركسية كانت المحاولة الأولى في عصرنا، خارج نطاق الأديان السماوية، لتشكيل قوة أخلاقية عالمية "..المفكرة الذهبية على حد تعبيرها ليست بوقاً لعملية تحرير المرأة، إنها تصف الكثير من العواطف الأنثوية وتضع العداء والكره والظلم والتحرر مطبوعاً على الورق.

بطلة الرواية " آنا " امرأة متمردة على واقعها، كتبت رواية أولى حققت نجاحاً كبيراً لكنها تحتقر هذا النجاح، وتنظر باستخفاف الى روايتها، إنها اليوم قد غادرت الشيوعية وأوهامها باقامة المدينة الفاضلة، وتريد أن تكتب رواية جديدة، لكنها بدلاً من ذلك تملأ أربع مفكرات بأربعة ألوان بالعديد من الملاحظات، فهناك المفكرة السوداء التي تسجل فيها حياتها في روديسيا، والمفكرة الحمراء التي تخصصها لحياتها المضحكة والمبكية عندما كانت تعمل في السياسة وتتعرض للاعتقال، والمفكرة الصفراء تكتب فيها رواية عن حياة متخيلة وعن الأحلام التي رافقتها في شبابها، والمفكرة الزرقاء وفيها نتعرف على مواقف من حياة " آنا" ونظرتها الى زيف الصحافة وكونها أشبه بجلاد يريد أن ينتقم من الآخرين، وأخيراً هناك قسم صغير يدعى المفكرة الذهبية وفيه تحاول بطلة الرواية " آنا " أن تولّف بين هذه المفكرات المنفصلة، لتقدم لنا سرداً أشبه بشريط سينمائي عن حياتها، حياة دوريس ليسينج.

تؤكد ليسينج إن مهمتها كروائية ومدافعة عن حقوق الإنسان كانت: " جزءاً من واجبنا بأن نؤكد لأي شخص وبأية وسيلة مهما كانت صغيرة بأن الحياة ما هي إلا مغامرة رائعة.. أشك إن كان أي شخص من الناس من الذين نتبنّاهم، سينسون حجم القناعة المطلقة عندنا بعظمة الحياة، لإننا إن لم نأخذها، بالإيمان، سنأخذها بالمبدأ "

رفضت أن توصف روايتها " المفكرة الذهبية " بأنها دفاعاً عن الحركة النسوية ودعوة لتحرير المرأة، فهي تريدها أن تكون سجلاً لتحولات البطلة وهي تعيش في أكثر من مجتمع، فيما عدّها النقاد تعبيراً عن التفكك في حياة المجتمع ومحاولة للاندماج والتكامل. فعندما يسأل تومي وهو أحد أبطال الرواية " آنا " عن السبب الذي يدعوها الإحتفاظ بخمس مفكرات متفرقة، وكان بإمكانها الجمع بينهما في مفكرة واحدة يمكن تقسيمها إلى أقسام أجابت آنا إن هذا سيؤدي إلى نوع من الفوضى..حياة بطلة الرواية إنها أشبه برحلة أوديسيوس في البحث عن الهوية التي تناسبها في مجتمع بات يرفض الهوية الواحدة، فالمرأة المتحررة التي تتحدث عنها الرواية لم تعد متحررة بعد كل هذا، فهي في نظر الذين يؤمنون بالزواج ومؤسسته أصبحت تعني العاملة والأم الوحيدة أو تلك التي تقيم علاقات حرة مع الرجال.

حوّلت " المفكرة الذهبية" دوريس ليسينج الى أيقونة معارِضة تدعو للمساواة بين الجنسين، تكتب إن: " تقريراً علمياً يدّعي أن النساء كنّ الأصل البشري الأساس وأن الرجال جاءوا معهن متأخرين بكثير"،

ربما كانت لندن عند صدور المفكرة الذهبية مكاناً قاسياً بالنسبة لإمرأة مطلقة مثل دوريس ليسينج، إلا أن الادب عرّفها الى مجموعة من كتـّـاب وفنانين غاضبين اطلق عليهم جماعة " جيل الغضب " كانوا يؤسسون لثورة ثقافية وفنية سواء في مجال الرواية او المسرح او الرسم، وتقول ليسينج عن تلك الفترة " لقد كان وضعاً جذاباً جداً وظريفاً جداً ورائعاً، وكنت أتواجد هناك عصر كل يوم وكنت مستغرقة، ولسوء الحظ كانت لدي مسؤولية ميؤوس منها فلم أكن أستطيع الخروج ليلاً ولم أكن أستطيع تحمل تكاليف جليسات الأطفال، الحمد لله".

تكتب الروائية مارغريت آتوود: " كانت أول معرفتي بدوريس ليسينج عن طريق روايتها " المفكرة الذهبية " التي حملتها مع كتبي الجامعية في باريس عام 1963 حينما كنت أدرس هناك حيث اعتدت الجلوس يومياً على أحد مقاعد حدائقها لأهضم معها قطعة من التوست الفرنسي التي احتوت على الجبن وكارتونة صغيرة فيها عصير البرتقال، كان هذا جزءاً من غذائي اليومي الذي وصفه لي الأطباء بسبب ما أعانيه من مرض في المعدة كما كانت تفعل الروائية الإنكليزية أليسون كننغهام التي تعلمت منها كيف أسيطر على ذلك المرض،إضافة لتلك الرواية التي كانت مهدئاً لنفسي العليلة بما بثته من تجربة غنية مرّت بها الكاتبة ليسينج في حياتها حتى أبدعتها بهذا الشكل من التألق والإبهار. كان انصهاري مع رواية ليسينج شيئاً عجيباً حيث أنستني رجل الشرطة وهو يقف فوق رأسي ليقول لي إن الاستلقاء على مقاعد الحديقة بهذا الشكل يعد مخالفاً للقانون في هذه الساعة، لذلك كان عليّ أن أجد مكانا آخر لقراءتها،فكنت أصحبها معي المقاهي التي أرتادها وبعض الحانات، استطاعت الرواية بالتالي أن تفتح عيني على مشاكل المرأة منذ ثلاثينيات القرن الماضي خاصة ما يتعلق منها بقضية تحديد النسل وحتى قبل أن يشهد عصرنا انتشار التنورات القصيرة، هي سبقت نقاشاتنا في الكثير من المسائل التي كنا نعتبرها جريئة عند اجتماعنا على مائدة العشاء في تورنتو أيام مراهقتي وكأنها كانت تتنبأ بما سيحصل للمرأة لاحقاً ".

نقول " آنا " بطلة المفكرة الذهبية: " ان كل شيء يتصدع " تكتب دوريس ليسينج: " لا شيء اكثر قوة من هذه العدمية، استعداد غاضب لرمي كل شيء جانبا، الارادة، والتوق ليصبح جزءاً. هذه العاطفة هي احدالاسباب القوية التي ساعدت على استمرار الحرب. الناس الذين قرأوا ( جبهات الحرب ) ستذكى فيهم هذه العاطفة وان لم يدركو. لهذا السبب انا خجلة، واشعر دائما وكانني ارتكب جريمة ".

في معظم روايات دوريس ليسينج نقرأ عن التمرد وتشرذم المجموعات السياسية، وتجاذب الحقيقة والكذب، والحماس الاخلاقي والسخرية، وتعترف ليسينج ان الرواية كشكل لم تعد مقنعة، فالمجتمعات الكبرى التي انتجت روايات كبيرة قد تهاوت، وهذا ما يدعو الكتاب بان ينبهوا القراء : " أن ارض المجتمع تهتز تحت اقدامهم ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

تعرّف (العقيدة) بأنها المعلومات التي تربط بالعقل ويتقبّلها ويعتقد بها بنحو قطعي يقيني، فتصبح محكمة ومشدودة ومربوطة، لأنها ماخوذة من الفعل (عقد) الذي يعني الاحكام والشد والربط كقولك (عقدت الحبل). ويضيف الفقهاء بان العقيدة الصحيحة هي الثوابت العلمية والعملية التي يجزم ويوقن بها المسلم. ويحددون جوهر العقيدة الاسلامية بـ(التوحيد) الذي اتخذوه عنوانا لعلم العقائد كلها. ويرى آخرون ان العقيدة هي ما يعقد عليه الانسان قلبه، ويؤمن به ايمانا جازما ، ويتخذه مذهبا ودينا يدين به. ويرى فريق آخر بان العقيدة تعني الايمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق اليه شك، وانها ما يؤمن به الانسان ويعقد عليه ضميره، وتطمئن اليها نفسه ، ويتخذها مذهبا ودينا بغض النظر عن صحتها من عدمها.. فيما يرى الدكتور صالح أن العقيدة في اللغة منحوتة من الفعل (ع ق د) في قولهم عَقَدَ البيع، وعَقد اليمين بمعنى: وثقّه وأكده. ويضيف بأن الاعتقاد هو التصديق، والتصديق هو الإيمان، والإيمان يعطي المعنى الاصطلاحي للعقيدة، ومعناه التصور اليقيني عن الخالق والمخلوق (الكون/الإنسان/ الحياة/ الموت/ النشور/البعث الجزاء. ويتفق معهم بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).

و(العقيدة) لها اكثر من معنى، فهي تعني فلسفيا وسياسيا وتعليميا (ايديولوجية).. وتتعدد افكارها من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، ومن الغيب المطلق الى العلم المطلق.لكن العقيدة ان ارتبطت بالدين فانها تخص (الله) والكون والوجود والحياة والموت.. وما له علاقة بها وما بينها.

ومع كثير من آراء أخرى بعضها يعتبر العقيدة ضرورة عيش وبعضهم يراها وهما، فأن خلاصة ما يقصده العلماء والفقهاء والدكتور صالح بـ(العقيدة) هي الفكرة التي يؤمن بها الأنسان وتتجسد في سلوكه، افعاله، تصرفاته.. وطريقة تعامله مع الناس.وقد تكون الفكرة (العقيدة) صحيحة وقد تكون خاطئة، وقد تكون حقا وقد تكون باطلا.. لكن صاحبها يعتبرها صحيحة وحقا.. ما يعني سيكولوجيا ان المؤمنين بالعقيدة يتوزعون على صنفين:

الأول، صنف يتطابق سلوكه، افعاله، تصرفاته مع محتوى عقيدته، سواء ذلك كان حقا (عمر بن الخطاب، وعلي بن ابي طالب) مثالا، او باطلا (بن لادن، وابو بكر البغدادي) مثالا.

والثاني، صنف يتناقض سلوكه ، تصرفاته، افعاله مع ما تدعو له عقيدته.. يجسده قادة احزاب الاسلام السياسي الذين استلموا الحكم في عدد من الدول العربية، وعملوا بالضد من تعاليم الشريعة الأسلامية بأن استفردوا بالسلطة والثروة.

العقائد.. والحروب الكبيرة

تفيد قراءتنا للتاريخ ان (العقائد الدينية) كانت هي السبب في نشوب حروب كبيرة راح ضحيتها مئات الملايين.. افدحها ما حصل بين المسيحيين الكاثوليك والبروستانت بين (1618- 1648) من حروب شرسة راح ضحيتها اكثر من ثمانية مليون قتيلا ، وآخرها ما حصل في العراق بين عامي (2006 - 2008) واصطلح سياسيا واعلاميا على تسميتها (حرب طائفية) فيما هي في جوهرها (حرب معتقدات) وصل عدد ضحاياه في يوم واحد من شهر تموز 2007 (مئة) قتيلا، ولسبب في منتهى السخافة ، ما اذا كان الآخر اسمه (حيدر او عمر!).

من هذا الأدراك ، كان توجه الدكتور صالح الطائي لأعادة قراءة العقيدة في الأسلام، ومن معرفته الغزيرة بتنوع المعتقدات بين المذاهب الأسلامية. فعلى سبيل المثال هناك اكثر من ثمان مدارس وفرق اسلامية بينها: المعتزلة، الأشعرية، الظاهرية، الأثرية، المرجئة، الكرامية، الأثنا عشرية.

اوائل من نقد المعتقدات

يعد ّ المعتزلة (ظهروا بداية القرن الثاني الهجري في البصرة) من اوائل الذين (تمردّوا) على ما يعدّه كبار علماء المسلمين خروجا على المعتقدات، وأول من قام بتفعيل للعقل الأسلامي في حرية التفكير وتغليب (العقل على النقل)، وأول من تجرأ على نقد العقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا، مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية. وامتازت بأن اعتمدت خمس عقائد: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويقصد به فكرة الموقف من الحاكم الجائر.. الفاسق هل يجب القيام عليه او السكوت عنه والخضوع له.

وثاني من نقد العقائد في الاسلام هم (القرامطة) الذين حظوا باهتمام كبير من الكتّاب العرب والأجانب ووضعوهم في موقفين متضادين:

الأول، يعتبرهم زنادقة وكفرة اعتمدوا عقيدة اخفاء ما يؤمنون به واظهار انفسهم انهم مسلمون. والثاني يعتبرهم اول حركة اشتراكية في الأسلام، وأن قرمط .. مؤسس مذهب القرامطة وصف بأن افكاره مشابهة لافكار ماركس. وان القرامطة هم (شيوعيو الأسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي، فيما نرى أن افكار قرمط كانت اكثر عملية في التطبيق من افكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين. وما ميز قرمط (الذي كان يشتغل بترقيع اكياس الطحين واسس مع ابو سعيد الجنابي دولة القرامطة في البحرين " 855- 924 م") انه كان من صنف الذين تتطابق افعاله مع اقواله في تحقيق العقائد الأسلامية الداعية الى العدالة الأجتماعية، لدرجة انه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة، وان يتبرع كل واحد منهم بدينار، فاستجابوا لأنهم كانوا واثقين من انه سينفقها على الفقراء. والأهم عقائديا وسيكولوجيا في هذا الأجراء هو ان العقيدة التي تنمّي شعور الجميع بالشراكة في المال، تنمّي لديهم الأدراك بأن القوة الأقتصادية هي السبيل الى النصر.

وثالث الذين احدثوا التغيير في محتوى العقائد وطرائق التفكير هم اخوان الصفا (ظهروا في البصرة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي) واعظم انجاز احدثوه انهم استوعبوا الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وعملوا العقل فيها لينتجوا منها فلسفة اسلامية هدفت الى التقريب بين الاديان والفلسفة. وبغض النظر عن مواقف علماء الاسلام التقليديين الذين وصفوهم بالهرطقة والالحاد والزندقة فان ما يعجبك فيهم انهم كتبوا في وصف الناس ما يعد سابقة في علم النفس كقولهم في الصداقة:

(واعلم بأن بين الناس من هو مطبوع على خلق واحد او عدة اخلاق محمودة ومذمومة .. وان بين الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره). ومن جميل ما قالوا وينطبق على واقعنا الان: (واعلم ان في الناموس اقواما يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين :لا الفلسفة يعرفونها ، ولا الشريعة يحققونها، ويدّعون مع هذا معرفة حقائق الاشياء.. وهم لا يعرفون انفسهم التي هي اقرب الاشياء اليهم).

طبعا ، ليس بمستطاع الدكتور صالح الطائي ان يكون مثل الحسن البصري فيؤسس فرقة ويقيم مجالسا في الكوت كمجالس البصري في البصرة. ولا مثل حمدان بن الأشعث (قرمط) فيؤسس فرقة ويقيم دولة (ويا ويله حتى لو فكّر!)، ولا مثل اخوان الصفا.. فيتسابقون على وصفه بالألحاد والزندقة والتبشير بأن من يقتله يدخل الجنة.. لكنه يستطيع ان يحدث نقلة او تغييرا، او دافعا نحو اعادة النظر بالعقائد في الاسلام ومذاهبه.. بمنظور علمي معاصر وطرح يناسب سيكولوجية الشخصية العراقية.. مع مفارقة مدهشة: ان المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا .. شيعة، وان الدكتور صالح الطائي.. شيعي ايضا!.. لكن موقفه ومواقفهم من (العقيدة) مختلف.

العقيدة.. من منظور الطائي

يتفق الدكتور صالح مع علماء الدين الأسلامي بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).لكنه يرى أن للتوحيد مبان أساسية يقوم عليها يوجز اهمها باحترام: الذات، والموجودات، و الآخر ومعتقده، طالما أنه يلتقي معك في الهدف الأسمى (التوحيد)، فيما يرى في الفرعيات انها نتاج مسائل معقدة من أهمها أثر الارتباط بالدنيا على الإنسان، اذ يرى ان الأنسان كلما كان قريبا من الدنيا مشغولا بها مهتما بتحصيلها.. كان بعيدا عن روح التوحيد، وكلما وظف هذه المخرجات لاستحصال الخير والمنفعة للجميع دون تمييز، كان أقرب للوحدانية بل ومنغمسا فيها إلى حد الشوق.

ويجري الطائي مطابقة بين ما قاله وبين نفسه فيجد انه (إنسانا عقائديا طالما أني وظفت المخرجات لخدمة هدف إنساني لا أبغي من وراءه نفعا شخصيا أو مكسبا دنيويا.)

وحين تسأله : وأين تضع عقيدتك في الكون؟ فأنه يجيبك: (الذي أعتقده أنها قربتني من جميع الثقافات التي أصبحت احترمها مثلما أحترم ثقافتي).

ذلك ان صالح يؤمن أن كل صاحب عقيدة مهما كان نوعها ومهما كانت تصوراتها عن الكون واللاهوت إنما هو كرة صغيرة وضعتها الدنيا على محيط دائرة عظيمة يقف عليه الجميع دون استثناء، وكل واحد منهم اختار له مسارا محددا يسعى من خلاله للوصول إلى المركز.

ويحدد صالح موضوع الأختلاف في (المركز).. فالآخر قد لا يؤمن بوجود شيء أو قوة عظمى في المركز فيما يقينه هو يدله على أن (الله) هو المركز، ويضع له احتمالين: فإن كان الله يجزي على المشقات التي تحملناها في سيرنا إليه فانه سيكون من الفائزين، والآخرمن الخاسرين.وان لم تكن هناك قوة فانه قد يتعادل مع الآخر او يكون هو خاسرا وخصمه فائزا.. ليصل الى مبتغاه الأنساني المتحضر بأن العقيدة التي لا تترجم إنسانيتك ليست عقيدة صحيحة، والعقيدة التي لا تجعلك تحترم الآخر (المؤمن والملحد) ليست عقيدة صحيحة.

ويقر الطائي بأن الكهنة ورجال الدين لهم رأي آخر يتقاطع مع هذه الرؤية، وانه غير معني بما يفكرون!.ويستشهد بما حصل في العراق بعد 2006 معتبرا ان العقائد الصحيحة بريئة من كل ما حصل ولا يد لها فيه ولا تقره ولا تشجعه ولا تشرعنه بالمرة.ويصف الذين حملوا السلاح تحت راية (الله أكبر) بانهم لا يعرفون الله، وأنهم (من أصنام الإسلام السياسي الراديكالي المنحرف الذي صادر الدين وروح العقيدة).

ويذكّر بان الذي حصل بالعراق بعد 2006 كان قد حصل في العام السادس للهجرة، وانه اذا كانت هناك في هذا التاريخ مدرسة واحدة فإن المدارس الأخرى ولدت من رحمها وتحمل نفس توجهاتها ولكن بالضد. ويقرر بأن الذين أيدوا معاوية والذين أيدوا أعداءه.. كلهم واهمون، ولا يرتبطون بروح العقيدة، وقد حاول علي بن أبي طالب أن يوضح لهم وهمهم ولكنهم حاربوه وقتلوه.

القضية الأهم ان الدكتور صالح الطائي الذي وصفناه بانه (داعية التنوير الإسلامي العلمي) التقط أخطر إشكالية فكرية هي (النص المقدس) ليحلل ويناقش أثره في صناعة:(عقيدة التكفير، عقيدة التهجير، عقيدة المثلة وقتل البشر، وعقيدة قتل المرتد).و انه اثبت أن كل هذه العقائد التي تؤمن بها المذاهب الإسلامية على اختلافها إيمانا منقطعا، وترفض مناقشتها تحت اي ظرف.. لا أصل ولا اساس لها في العقيدة! وانها ولدت بسبب المماحكة والتنافس بين المذاهب وبتأثير سياسي خالص، قاده الاسلام السياسي.. وتصريحه العلني بـأن (الدين الذي نتعبد به اليوم ليس الدين الذي جاء به محمد، لأنه تعرض الى كثير من التغيير الذي تسبب في تشويه صورته الإنسانية).

وما نرجوه ونأمله، ان تمنح المنابر الدينية والجامعات الأسلامية والأعلام.. الفرصة للدكتور صالح لأشاعة التنوير العلمي في اخطر سبب راح ضحيته مئات الملايين (العقائد الدينية والمذهبية) التي ما تزال تهدد العراق باقامة دولة الخلافة، وما يزال العراقيون يسكن قلوبهم الخوف والقلق من أن يعيد قدح زنادها من اشعل فتيلها لحظة يشعرون بخطر يهدد مصالحهم وامتيازاتهم وتفردهم بالسلطة والثروة، ليهب لنصرتهم قطعان آمنوا بعقيدة (دينية، مذهبية) دون تفكير، فيفزعون لنصرتهم مع انهم يعرفون انهم افقروهم واذلوهم.. وتلك هي دعوة الدكتور صالح عبد حسن الطائي، ان نفهم العقائد كما جاء بها صحيح الأسلام ليعيش العراقيون في وطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية وكرامة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

الصفحة 3 من 7

في المثقف اليوم