نصوص أدبية

عشر درجات على سلّم الذّهول / آسيا رحاحليه

... تزرع وجهي ثم وجه زينب بقبلاتها المشبعة بالصدق . تشير بإبهامها إلى عينيها فنبتسم .

 

نفهم ما تعنيه قبل أن تنطق العبارة ... " أنتما عيناي ...أنتِ اليسرى، وأنتِ اليمنى ".

 

يومها كان للدنيا طعم السكر وحياتي ضحكة كبيرة، ساحرة، لها مزاج الشمس حين تستفرد بكبد السماء، وأمي ملاك فوق الأرض، قدّيسة، أميرة، حبّ العمر الأوّل والوحيد .

 

كنتُ مرحة رغم خجلي وانطوائي، ولي جناحان صغيران من حرير، يحلّقان بي عاليا حين يتزوّد يومي من عينيها أو يتلقّف قلبي شعاع ابتسامتها .

 

ترى كم سيحتاج عمري من العمر لكي أتقبّل سقوطي الرهيب بعدما رفعتها وارتفعت بها إلى تخوم النجوم ؟

 

أعرف أنّه كلما كان الإرتفاع أعلى كان السقوط أشدّ وقعة، ولكن، أليس من المفروض أنّ الحقيقة تصحّح خطواتنا ؟ تثبّتنا أكثر؟ أليست الحقيقة شكلا من أشكال القوّة والحرية، الجوهر الذي قد نقضي العمر مهووسين بالوصول اليه والفوز به ؟

 

لا أدري . هراء كل النظريات التي قرأت . لم تعلّمني الكتب شيئا في النهاية، أبدا، لا شيء ولا حتى القدرة على أن أستبين أيهما أرحم، حرير الوهم أم شوك الحقيقة ؟ ثبات الشك أم اهتزاز اليقين ؟

 

مؤلمٌ ...قاتلٌ هذا الإحساس باليتم. رئتي يغلّفها الجليد، صدري يعتصره الألم . عقلي تتمزّقه الحيرة والذّهول.

 

ضائعة أنا وخائفة وهشّة، مثل نبتة في العراء فاجأها الإعصار .

 

لا أثر لجناحيّ الجميلين، والضباب، رماديٌّ كثيفٌ يحجب عني عينيها و... العالم بعد أن حوصرتُ داخل مربّع الشتات، وانقلبت حياتي مائة وثمانين درجة .

 

ليتني بقيت عمياء ولم أكتشف الأمر ... أومن بكل ما تقوله وتفعله . صعب أن تفقد فجأة إيمانك بما عشت عمرك كله واثقا منه، مسنودا به . ترى، ماذا هناك أيضا ؟ أيّة أمور أخرى سوف تنكشف لي ؟ إذا كان الشك يؤدي إلى الحقيقة فإنّ الحقيقة تؤدي إلى حقائق، ربما أقل فضاعة، ولكن مرّة وبشعة .

 

الحقيقة لا تأتي مكتملة دائما، لا تكون سوى الجزء الناتئ من جبل الجليد،الهزّة التي تصاحبها ارتدادات .

 

ما يؤلمني حقا الآن هو عجزي عن فهم شعوري نحوها بعد أن رأيتها أمامي عارية تماما، بلا مساحيق .

 

أمازلت أحبها ؟ هل أنا أكرهها ؟ هل يوجد شعور وسط بين الحب والبغض ؟

 

ليتني أستطيع كرهها . لا أقدر، حتى لو أردت ذلك . لا أقدر .

 

حالما انقشع الوهم، بدت لي كل الصور جليّة، واضحة . ها هي تنفرط من حبل الزيف كحبات العقد، واحدة تلو الأخرى ...إنفاقها ببذخ غير معقول على الملابس الأنيقة الغالية الثمن، المجوهرات الثمينة التي تقتنيها متعلّلة في كل مرّة بكذبة ما ... منحة قبضتها من المستشفى، سلفة حصلت عليها باتفاق مع مجموعة من الزميلات الممرضات، تعويض جديد من الدولة على خلفية مقتل أبي، ثم حرصها الغريب على ألاّ نزورها أبدا في المستشفى، أبدا، مهما حدث ... وتلك المكالمات الهاتفيةالمريبة . لازلت أذكر الليلة التي استيقظت فيها على صوتها وهي تصرخ في الهاتف وتهدّد . " إلا بناتي ! إياك أن تقترب من بناتي ! " ...

 

في الصباح سألتها عن أمر تلك المكالمة فاستغربت وأنكرت، " عزيزتي، كنت تهذين بسبب الحمى " . صحيح كنت مريضة ليلتها ولكني لم أكن أهذي، إنّما كذّبت نفسي وصدّقتها . أمي لا تكذب . أبدا . أمي دائما على حق . حتى الشكوك حين يحدث وتطوف برأسي، ويغشى طنينهاعقلي، مزلزلا وعاصفا، كانت تبعثرها صيحة واحدة من عمق باطني...ما هذا ؟ كيف أجرؤ ؟ مستحيل ... إلا أمي !

 

كتمت الأمر عن زينب . خفت عليها من الصدمة . "أختك هي صديقتك الوحيدة . كونا معا دائما، متلاحمتين وإذا كان لابد لإحداكما أن تموت من أجل الأخرى فلتمتْ . " لم أنس هذه العبارة أبدا.

 

لقّنتنيها أمي منذ صغري كما تُلقّن الشهادة .

 

أكيد ... كنت سأموت من أجل زينب ولكن أمي قتلتني !

 

زينب تصغرني بأربع سنوات وهي صديقتي الوحيدة . في الحقيقة، لم أفلح أبدا في نسج صداقة مع أية فتاة أو شاب . في طفولتي الأولى وحتى سن المراهقة، كنت أعزو ذلك إلى شخصيتي الإنطوائية وأيضا ظروف أبي المهنية . كان دركيّا، لا نكاد نستقر في مكان ونألفه حتى يأتي القرار بنقله الى مكان آخر . وأضطر في كل مرّة الى الرحيل . أترك مدرستي وذكرياتي وبعضا من روحي . كم كان ذلك محرجا وصعبا !

 

من حوالي سنتين استقر بنا المقام في هذه المدينة الصغيرة التي تبعد أميالا فقط عن مدينة ساحلية كبيرة ..منحتنا الدولة تعويضا، شقة ومبلغا ماليا بعد أن اغتالت يد الإرهاب أبي ونسف حزام ناسف فرحتنا وسعادتنا .

 

مسحت أمي عن جبيني خطوط الحزن . ملأت الفراغ الذي تركه أبي واستطاعت بفضل بعض الوسطاء وشهادة في التمريض أن تحصل على عمل ليلي في المستشفى الجامعي في المدينة الكبيرة .

 

تستقل تاكسي كل مساء وتغادر للعمل ولا تعود إلا مع الفجر منهكة ..

 

انغلقت الدائرة علينا نحن الثلاثة ...أمي وزينب وأنا . اعتزلنا الناس لأنهم " يغارون منكما ويحسدوننا لأننا الأفضل والأجمل والأرقى " .. صرت أعامل الناس باحتقار . كرهتهم . مسّني الكِبْر وبتُّ مغرورة، متعجرفة، أنظر إلي البشر من فوق، أراهم كالذباب . الناس أغبياء وأشرار وتافهون، لا يستحقّون صداقتي ..و أنا لست بحاجة إليهم مادامت معي أمي وأختي .

 

ظل الحال كذلك إلى أن تعرّفت على سارة، في الأشهر الأخيرة من نهاية دراستي الجامعية . كنت مجبرة على الحديث إليها والتقرّب منها . وكان لابد أن نلتقي بانتظام للعمل معا على مذكّرة التخرّج .

 

و في يوم دعوتها إلى زيارتي في البيت لكي نتّفق على الخطوط العريضة للبحث .

 

و لكني ما كدت أتلفّظ باسم الحي حتى انتفضت سارة كأنّ عقربا لدغتها :

 

- ماذا قلتِ ؟ تقطنين ذلك الحيّ ؟ حيث تسكن تلك المرأة ؟

 

- من تقصدين ؟ أية امرأة ؟

 

- غير معقول ...ألا تعلمين ؟! منذ متى تسكنين هناك ؟

 

- منذ...منذ سنتين تقريبا وبضعة أشهر . لماذا ؟

 

- غريبة ! ولم تسمعي عنها ؟

 

- أسمع ماذا ؟ أفصحي سارة أرجوك !

 

- في ذلك الحي تقطن / ........ / حدّثتني عنها أمي ..أرملة شابة وأم لبنتين . توهم الجميع بأنّها ممرضة وتشتغل في المستشفى الجامعي بينما في الحقيقة هي ...هي ..

 

تتلفّت سارة يمينا ثم يسارا كمن سيلقي بقنبلة ..

 

- حسنا اقتربي لأهمسَ في أذنك .

 

دمدم همسها في أذني، وفي رأسي سقط الليل والصقيع .

 

 

 

آسيا رحاحليه

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2041السبت 25 / 02 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم