نصوص أدبية

ودارت الأيام ..../ آسيا رحاحليه

وشاخت في مروج العمر شجيرات الأماني؟ كيف ... بعد أن غرّبتنا الدروب وامتد ما بيننا زمنٌ تافه، بليدٌ، معبأٌ بالدمع والوجع وتراتيل النسيان؟

المساء لم يكن عاديا في الشارع النائي من مدينتي الصاخبة . شيء يشبه الحنين يراقص ذرّات الهواء والمكان يلفه هدوء غريب،كالذي ينذر بحدوث أمر رهيب . هادئة،مثل المساء . خطواتي ثابتة فوق الرصيف . صحيح، في داخلي جرح عتيق،لكن يبدو أنّه اندمل . تماما. استكان بعد أن أمدّني كفايتي من الألم. ما عدت أحسّه، أدرك فقط بأنّه هنا، مثل وشم قديم باهت. مجرد خطوط ضبابية فوق صفحة العمر . خربشة لم تعد تعني الكثير .

رفيقتي تمسك بذراعي في طريق عودتنا من العمل .. نثرثر ونتبادل التعليقات كلما قاطعتنا عيون تغازل . تكاد تخرج من محاجرها . أحدهم كان يطوي الطريق بسيارته جيئة وذهابا محاولا جلب انتباهنا . ما أن يتجاوزنا حتى يضاعف السرعة، وعند نهاية الشارع يستدير ويعود أدراجه باتّجاهنا أمام استغراب بعض المارة .

قالت رفيقتي ضاحكة :

-أرأيت كم هو وسيم؟ إنّه يغازلكِ ..

قلت :

- لم أنتبه . لعلّكِ بُغيته .

- لا . أنه يلاحقك أنتِ منذ خروجنا من الشركة .

قلت في غير اكتراث :

- لا أدري متى سيكفّ الرجال عن ملاحقة النساء !

- نعم . كأنّما آدم يود لو تعود حواء ضلعا في قفصه الصدري !

- تعدّدت الأقفاص والسجّان واحد يا عزيزتي !

و ضحكنا، لكن ضحكتي تجمّدت فوق شفتي حين مرّت السيارة بقربي تماما وابصرت من نافذتها وجها ألفته روحي ونقش في جدارات شراييني وحفظ قلبي، ذات زمن، أدق تعابيره .

كان يبتسم لي في حنان .

 توقّفت فجأة عن السير وقد ذهلت عنأمر نفسي وأخذت مني الدهشة كل مأخذ، ودون وعي تركت رفيقتي ومشيت نحو السيارة . مشيت ؟ لا لم أمش بل جريت، وقد بدت الأمتار القليلة التي تفصلني عنه أميالا لا نهاية لها .

نزل من السيارة . تبادلنا التحيّة، تصافحنا بحرارة وكل جوارحنا تبتسم، والدنيا من حولنا مهرجان فرح .

 تحدّثنا كأنّ شيئا لم يكن، كأنّنا افترقنا منذ يومين فقط على ضوء ابتسامة وميعاد حب . كأنّنا لم نختلف , نتخاصم , نجرّح بعض ونقسو على بعض ونتّهم بعض . كأنّنا لم نخنق بأيدينا حبا جميلا ونختصر فصول مشروع العمر في فصل واحد نحن ابتدعناه ... هو الخيبة .

يا للحظة المثيرة ! قصيرة كانت، لكن كافية لكي أغرق في يمّ من الأحاسيس . ثانية من الزمن اختصرت سبعة عشرة سنة من البعد والجفاء والصمت ... ثانية فقط مررتُ فيها بكل تدرّجات اللقاء المباغت... دهشة ثم ارتباك ثم رجّة قلب ثم فرحة ثم عتاب بطعم الدمع رأيته يطل من جفوني، ثم ... شوق فاض من حنايا روحي، وعصافيرٌ ملوّنة، بديعة الشكل، أفلتت من ثقوب ذاكرتي وملأت من حولي المكان بشدو الحب ... الذي كان .

قال ووجهه طافح بالحنين :

- كنت مارا ورأيتك فأصرّيت أن ترينني، لذلك قمت بتلك المناورة بالسيارة كأنّي مراهق مجنون .

- لا أصدّق أن نلتقي هكذا ببساطة بعد كل تلك السنين . أخبرني كيف أنتَ ؟

- بخير وأنتِ ؟ سمعت بخبر طلاقك .

- نعم . لم نتّفق وانفصلنا منذ مدّة ... وأنتَ ؟

- كان يجب أن تفهمي أنك لن تكوني سعيدة إلا معي .

- في كلامك رائحة شماتة . ألم تشف بعد من غرورك ؟

تهمي لحظة صمت ونحن عند سدرة الماضي البعيد ولا أحد منا يصدّق بأنّه يحدّث الآخر .

- أنتَ لم تحبّني حقا .

قلتها كمن يصدر حكما نهائيا .

- بل أحببتكِ . بجنون . خاصمتُ الدنيا من أجلك.

عيناه مهرتان مطهّمتان بالوجد تجوسان وجهي .

- لا تزالين جميلة .

شفتاه ترتعشان، تنفرجان ثم تنغلقان، تختزلان كلاما لا يسعه الزمن، كلاما ظلّ طويلا مرابطا عند حدود الغياب.

 يداه طائران محمومان،يشتبكان ثم يبتعدان في محاولة لتلمّس سبيلا إلى يدي .

 نظرته شعاعُ صبابة يتغلغل في تفاصيل جسدي .

 - لا يزال نهدك حمامة نافرة ... لم تكن لتهدأ سوى في كفّي . هل تذكرين ؟

 - وأنت لا تزال جريئا ومجنونا و... وسيما ...أخبرني...هل زواجك ناجح ؟

 - نعم ...و عندي ثلاثة أطفال ... بنت وولدان .

 - حفظهم الله لك .

 - البنت أسميتها على اسمك . لولا عنادكِ لكانت ابنتنا معا .

 -كان غروركَ .

 - أبدا . إنما كبرياءكِ المتضخّم .

 - بل أنانيتكَ السافرة .

و غيّرنا دفّة الحوار، حتى لا يصبح لقاؤنا معركة . حدّتني في عجالة عن عمله وأسفاره وعائلته، عن شوقه وفشله في أن يحب مرّة أخرى .

- هذا رقمي . اتّصلي بي قبل 48 ساعة لأقرّر إذا كنت سأسافر أم لا . الأمر يتوقّف عليك . بإمكاننا أن نعوّض الذي فات .انتظرك حبيبتي .

و انطلق بالسيارة . وواراه الشارع الطويل .

و رجعت إلى البيت يسبقني الذهول . أحسست ببرد في عظامي ورعشة في دمي . انكمشت في فراشي . تدثّرت . أدركت أنها نزلة حب شديدة الوطأة . جافاني النوم ليلتها . أرّقني دبيب الذكريات . كأنّما الزمن توقّف . تكسّر . أفلت من عقال الأرض . وكما السمكة، مرقتُ من فجوة في الحاضر ووقفت هناك عند ربوة أول حب في حياتي . أول رجل استفاق على همس عيونه نبض قلبي، ورقصت على عزف أنامله زهور أنوثتي . رجلٌ تهجّيت معه أبجدية الحب في روعته وسحره وجنونه وقسوته، أو ربما ... قسوتنا عليه !

و عبثا كنت أستجدي أجوبة لتساؤلاتي ... كيف ابتعدنا ؟ مالذي أجهض حبّنا ؟

كان مقدّرا أن نفترق لأنّ ...لأنّ ماذا ؟ ...

لا عبارة مقنعة تكمل السطر .

مؤسف في كل الأحوال أن ينتهي الحب، ومؤسف أكثر أنّ يموت بغباء وحمق، دون سبب واضح، سوى طعنات متبادلة من عنْدٍ وشكٍ وغيرة .

قبعت في البيت ليومين . لم أجد رغبة في الخروج . لم أذهب إلى العمل . سكرت من نشوة اللقاء، مرضت من التفكير فيه، كلامه ولهفته، " حبيبتي " التي اشتاق قلبي سماعها، وتلك النظرة الفتاكة، كانت دعوة صريحة لبدء القصة من جديد لكن، أي بناء سوف يرتفع فوق الأنقاض ؟ وهل يعود الذي كان كما كان ؟ هل سيكون حبا أم نسخة لا تطابق الأصل ؟ حبا أم مسخا، ومحض صورة مموّهة، متصدّعة للوحة كانت ألوانها زاهية ذات زمن ؟

" بامكاننا تعويض الذي فات " ! أيمكن ذلك ؟ ..كيف أيها الحبيب الذي لم يعد حبيبي ؟ كيف سنشفي ثُكل قلبينا ونمحو ما تراشقا به من جراح، كيف سنلملم أحلامنا التي جرفتها السنين ؟ كيف سنعيد بناء أعشاش المنى وقد اقتلعنا بأيدينا شجرة الحب من جذورها ؟

 تذكرت " نحن لا ننسى أبدا حبّنا الأول لأننا اضطررنا أن نتخلّى عنه " . فعلا . لكن ما تغمّده الماضي لا يمكن بعثه من جديد ...مهما حاولنا.

 سوف نكون كمن ينفخ في الرماد .

هادئة. في طريقي إلى الشركة . خطواتي ثابة فوق رصيف الشارع النائي من مدينتي الصاخبة . توقّفت هنيهة عند مكان اللقاء . شردت للحظة ثم خلعت عن قلبي صورة الصدفة الجميلة .

 واصلت السير وفي داخلي صوت يهمس : لا جدوى،عد يا قلب لبياتك العاطفي ولتكملي دورتك أيتها الأيام !

  

آسيا رحاحليه

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2051الثلاثاء 06 / 03 / 2012)

في نصوص اليوم