نصوص أدبية

سَمَرْ.../ آسيا رحاحليه

تشدّنا من تلابيب الآن وتحملنا إلى عالم لم يبق لنا منه سوى خيالات باهتة المعالم، مشوشة الخطوط ولكنها في الغالب عميقة التأثير..

كنت أتابع على التلفاز أخبار سوريا الحبيبة عندما خطرت ذكراها على قلبي .لم أتمالك من الابتسام . ابتسامة مفعمة بالشوق، موشية بالحنين .

أكثر من ربع قرن انقضى ولازلت  أشعر بعاطفة جياشة، دافقة، تغرقُ كياني كله إذا استحضر خيالي صورتها المميّزة أو هبّت ذكرى صداقتنا الرائعة، ويعصر قلبي شوق جارفٌ إليها وإلى الأيام الخوالي.  
تُدعى سَمَرْ .

 وهو اسم جميل يحمل شاعريةً وسحرا وموسيقى، مجرّد سماعه أو النطق به يُحيل خيالك مباشرةً على أجواء الليل والقمر والسّهر والأحاديث الرقيقة والمشاعر المرهفة ... ثم .. دفءُ ملامحها والحنان المشعّ من عينيها ولهجتها السّورية الجميلة،كل ذلك أوقعني في حبّها من أول يوم رأيتها فيه، بل من أوّل نظرة .

 صباح الخير . أنا سمر، رفيقتك بالغرفة .

تنحّيت جانبا لأفسح لها وقد عقدت الدهشة لساني فلم أبادلها التّحية إلاّ بعد مرور بضع ثوانٍ، ذلك لأني تفاجأت بطول قامتها الفارع  . طويلة جدا مثل نخلة ...بل أعتقد أني لم أر في حياتي فتاةً في مثل طولها . جلست قبالتي على السرير المخصّص لها لتستريح من عناء السلالم وثقل الحقيبة . رحّبت بها ثم بدأنا الحديث، حديثا عاديا بين فتاتين غريبتين سوف تتقاسمان نفس الغرفة في إقامة جامعية . كانت تتكلّم بعفوية وتبتسم بلطف بالغ وكأنها تعرفني من سنين، وكنت أتفرس في ملامحها وهيئتها . وهالني أن كل شيء فيها كبير، مقارنة بي أنا طبعا .. وجهها وأنفها وأصابع يديها .. وأجمل ما فيها عيناها .. عينان سوداوان واسعتان زادهما اتّساعا الكحل المرسوم بطريقة تذكّرك بعيون المرأة الفرعونية..شعر أسودٌ فاحم شديدُ اللّمعان يغطي كتفيها، وغرّة منسدلة على جبينها العريض كخيوط من حرير تجعلها تبدو طفلةً ضخمة الحجم .

حدّثتني سمر عن عائلتها وبلدها وميولها وظروف مجيئها إلى قسنطينة لتتخصّص في جراحة الأسنان وحدّثتها بدوري عنّي ثم ساعدتها في ترتيب ملابسها في الخزانة وخرجنا معا نستكشف الحيّ وكأنه مرّ على تعارفنا دهر.

 في وقت قصير تآلفت روحانا وآخت مشاعر الحب والمودة بين قلبينا .

كانت سمر حنونة، طيبة، وديعة، متسامحة، شغوفة بالدنيا، محبة للحياة، خفيفة الروح، مشرّعة القلب على الدنيا وعلى الناس ... ومن حسن حظّنا ورأفة الأقدار بنا أن زميلة الغرفة الثالثة التي التحقت بنا بعد يومين، وهي من أم تونسية وأب جزائري، كانت صورة طبق الأصل لنا فصرنا  ثلاثتنا  رمزا للصداقة والرباط الإنساني الوثيق .

كنا نفترق صباحا، فوزية إلى كلية علم النفس وسمر إلى كلية الطب وأنا إلى كليتي ونلتقي مساء لنسرد أحداث يومنا ونراجع محاضراتنا، تغني لنا سمر أحيانا مواويل شامية أو ندردش عن الدراسة والحب والزواج والموضة .. وفي عطلة نهاية الأسبوع نخرج للتجوال في قسنطينة، نجوب أزقتها الشعبية لنقتني بعض الحاجات أو نستمتع بالتسكّع في شوارعها والسير فوق جسورها المعلّقة المذهلة .

في عيد ميلاد فوزية أقمنا حفلا صغيرا في الغرفة وحضّرت سمر سلطة ' التبّولة ' اللذيذة وكانت اكتشافا لكل الفتيات .

و  أذكر أنه بعد أن أنهينا الأكل نظرت سمر نحوي بعينيها الجميلتين وقالت :

-   تعرفي آسيا شو أحلى شيء بالدنيي ..؟

أجبتها وأنا أقلّد لهجتها الحلوة :

-   شو سمر .. احكي ..

-   لما الواحد يكون جوعان وياكل ..

و في الواقع  هي عبارة تردّدها سمر دائما، مع أنه في كل مرّة يتغيّر عندها مفهوم  الـ " أحلى شيء بالدنيي " حسب الظروف والأحوال ، فمرّة ، " لما الواحد يكون جوعان وياكل "، ومرّة  " لما يكون نعسان وينام "، وأخرى   "لما الواحد يروح ع الحمّام ".. وهكذا ،لتصبح فلسفة سمر أنّ أحلى ما في الدنيا، في النهاية، هو كلّ أمر تحتاجه وترغب فيه، وتصل إليه .

و هي فلسفة منطقية ومعقولة إلى حدّ كبير.

مرّت أشهر على حياتنا معا .. مراجعة وضحك وألفة أنستنا متاعب الجامعة وظروف الإقامة والبعد عن الأهل، وكنت بدأتُ  ألاحظ أن سمر، في فترات متباعدة، وقبل أن تخلد إلى النوم تخرج من خزانتها كتابا صغيرا وتقرأ فيه بخشوع واهتمام .

و دفعني الفضول يوما إلى سؤالها :

 سمر .. ممكن أعرف ماذا تقرئين ؟

رفعت رأسها وقالت :

-   الكتاب المقدس .

ثم تردّدت قليلا قبل أن تضيف :

-   أنا مسيحية .

لا أذكر أنه كان لي أو لفوزية حينها ردّة فعل محدّدة، أذكر فقط  أننا فتحنا حوارا في الدين ثم احتدم النقاش بيننا ودخلنا في متاهات رفعت من مستوى العصبية فينا، فقرّرنا غلق الموضوع، واتفقنا أن لا نخوض في العقيدة مرّة أخرى إذا كان ذلك يؤثر على صداقتنا أو يوتّر علاقتنا...

و قالت لنا سمر ضاحكة :

-بصراحة..أنا أنوي بعد  الجامعة أن أتفرغ لدراسة كل دين على حده بعمقٍ وتأنٍ.. ثم أختار.

و لم نفتح موضوع الدين من ليلتها .

 وظلّت صداقتنا نقية، جميلة، صادقة لا تشوبها شائبة إلى أن افترقنا بعد نهاية الدراسة الجامعية ورَمت بنا الدنيا كلٌّ في طريق .

غير أني لم أنس سَمَرْ أبدا، أبتسم كلما تذكرتها وأتساءل ترى ما أخبارها وأين هي اليوم ؟ وهل تزوجت وأنجبت أم أنها تمسّكت بمبدئها الذي طالما حاولت إقناعنا به فوزية وأنا . كانت تقول  " حتى لو تزوجت يوما فلن أنجب أطفالا، أتدرين لماذا ؟ لأني أحب الأطفال لدرجة أني لا أتصور أن يصيبهم أي مكروه , أخشى عليهم من الألم والموت وأعجب كيف يغامر الناس بأن يلقوا  بأرواحٍ بريئة إلى هذا العالم البشع الذي يسير نحو الحروب والمجاعة والكوارث والمآسي ؟"

بقي لي من عالم سمر صورة فوتوغرافية وسطور للذكرى كتبتها على دفتري بأناملها الطويلة وخطّها المميّز وأيضا اسمها الجميل الذي لم تفلح رياح الزمان العاتية في اقتلاعه من حقول ذاكرتي .

 

آسيا رحاحليه  / من المجموعة القصصية الثانية / سكوت..إنّي أحترق

 

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2080الاربعاء 04 / 04 / 2012)

 

في نصوص اليوم