نصوص أدبية

في حضرة الموت ../ آسيا رحاحليه

- لا . شكرا .

صوتها ضعيف..غريب ، كأنه آتِ من عالم آخر..من مكان سحيق ...

أحكمتُ الغطاء عليها برفق وحذر ..أبسط ضغط على أيّ مكان في جسدها يجعلها تتلوّى من الألم ..جسدٌ كان ذات يومٍ آية في الجمال ..كنت أسمع أهل زوجها يردّدون " كم هو محظوظ. إبننا.. تزوّج امرأة فاتنة ."

أكثر ما كان يلفت فيها شدّة بياض بشرتها.. بشرة وجهها بالذات..نقية ومشدودة كأنما نُحتت نحتا ..و نهداها آية أخرى...حتى بعد ولادة طفلها الخامس ظلا متربعين على عرش الجمال .

غير معقول ما يفعله بنا المرض !
وجهها في غشاء من صُفرة مشوبة باخضرار باهت... شفتاها متشققتان ومزرقّتان ، تمرّر عليهما من حين لآخر لسانها أو تطلب رشفة من ماء ..ذراعها الأيسر ممدود إلى جانبها كغصن شجيرة ميتة ، تظهر فيه دوائر شديدة الزرقة من أثر الإبر ...
- أحس بأنني أموت ببطء...كنت أعتقد أن الموت سهل . نمرض ونموت..و فقط .

- ما هذا الكلام .. وهل كل من يمرض يموت؟ سوف تشفين ..سترين .
تبتسم إبتسامة كأنها البكاء:

-تحاولين رفع معنوياتي .أعرف ولكن..ليس مع هذا المرض . أتعرفين لماذا سمي بالخبيث ؟ لأنه لا ينتهي بنا إلى الموت فقط وإنما يأخذ كل وقته ويتلذّذ بذلك.
تضحك بوهن شديد :

- أتخيّله مخلوقا كريها..بشعا- يشبه زوجي قليلا- يفرك يديه إبتهاجا كلما أسقط ضحيته .
تململتْ..حملقت بعينين ذابلتين يحيط بهما السواد .
- حذار..إرفعي تلك الزجاجة من على الأرض حتى لا يكسرها الأطفال .
نظرتُ حيث أشارتْ . لا شيء . لم تكن هناك أية زجاجة ..عاودها الهذيان ..مفعول' المورفين' ..آخر ما وصفه لها الطبيب ..آخر محطة في المسار المشؤوم .

أحسستُ بفرح غريب من أجلها يوم أخبرنا الطبيب أنها بداية النهاية ..أخيرا سوف ترتاح ..لمتُ نفسي كثيرا بعد ذلك .أيعقل أن أفرح وأنا أراها تنطفئ ؟
- لا تهتمي . نامي الآن .

خيّم الصمت على الغرفة ..منذ ستة أشهر ونحن نتناوب على الإهتمام بها ..أمي وأختي الصغرى وأنا..

صمت هذه الأمسية مرعب..يشبه صمت المقابر.. أنظر إلى صدرها من حين لآخر لأتأكد من أنه يعلو ويهبط ..
أولادها في المدرسة ، وزوجها لا يعود من العمل إلا ليلا ..وافقت على الزواج منه بعد قصة حب فاشلة ..كانت تقول لي : " إذا لم تتزوج المرأة من الرجل الذي أحبّته , فلا يهم من تتزوج بعد ذلك ".
لم تمض سنتان حتى اكتشفت الوجه الآخر – الحقيقي – للذي تزوّجته .. لا يشبهها أبدا ..رجل متسلط ٌو بذيء اللسان ..أناني وكسول . ذاقت منه الأمرّين : " ثلاثة أشياء فقط يقدّسها زوجي : الأكل والنوم و........."

و... يمنعها الحياء فتطرق وتصمت.

اتّصل بي زوجها ذات مساء من مستشفى المدينة المجاورة استغربت ..

- ألو..نعم .. التحاليل معي الآن.. إنّه هو...هو...و في مرحلة متقدّمة جدا

. لم يكن في صوته أثر لأي حزن أو خوف ..هل كان سعيدا ؟

يومها تذكّرت قولها لي : " هذا ليس زوجا..إنّه سرطان ".

كان يوما ماطرا باردا حين عدنا بها من المستشفى أين تركتْ في أحد أكياس القمامة ثديها الأيسر كاملا ، وجزءاً من منطقة ما تحت الإبط " .
لم تكن فزعة ولا يائسة .. احترت في تفسير شعورها وحيّرني تعبيرها :

" أشعر كأنني عصفور قصّوا له جناحه ..عصفورٌ بجناح واحد ".كانت تقول لي .
ترى كيف يكون شعوره ..عصفور مقطوع الجناح ؟ هل كانت تعني أنها لم تعد حرّة ؟ ربما تقصد أنها صارت مشوّهة وبشعة ..هل الحرية هي الجمال ؟

لا أدري ..و لكن من المؤكد أن ألم السرطان يهون أمام الألم الذي يتركه فينا الآخر..الأقرب..ذاك الذي من المفترض أن يحتوينا ..يؤازرنا ..يحمينا : " أكثر ما يؤلمني أنه يمنّ علي ..يقول لي أنه أنفق على دوائي وعلى العملية ما كان يستطيع به أن يتزوّج امرأة أخرى .." .
و تترقرق الدموع في عينيها .
نظرتُ إليها..صدرها لا يزال يعلو ويهبط ولكن..هذه المرة..ببطء أشد..أشد .

 

 

جوان 2009 / آىسيا رحاحليه

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2148الأثنين  11/ 06 / 2012)

في نصوص اليوم