نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: صفرة ما على الجدران (2)

لم تكن السيدة زاهية لطفي في بيتها يوم التحق جمال شعيب بمجمع المتقاعدين.. كان هناك ساكن من العراق في الطابق الثاني سارع للترحيب به.. قال له رياض فنجان إن جارته السيدة زاهية في زيارة خارج البلد،وسوف تعود على أقل تقدير بعد أسبوع. لم يذكر له أنّها ذهبت للحج في القدس.. وقد توطدت علاقته بصديقه الجديد الذي بدت بعض الصفرة على وجهه.كان يصلّي مع ذلك يلجأ كل ثلاثة أشهر أو أربعة إلى الحشيش،

لا يكذب

لا يبالغ..

الحشيش في لبنان يتعاطاه معظم الشباب.المسيحي والمسلم الشئ الجميل الذي يوحد كل الطوائف والقوميات.. وكان رياض فنجان يتعطاه كي يتفادى أوجاع نوبات مرض المنجلي التي لا تطاق.. في العراق يكتب له الطبيب إبر الـ(السيسيكون ) أما هنا فكل شيخ له طريقته.. و في غير نوبات المنجلي وأغرب ما وجده من سلوك عنده أنه يصلّي بعض الأحيان في مقبرة ِ Assistens Kirkegård التي تبعد خطوات عن مجمع المتقاعدين.

استوقفه عند قبر واشار إلى لوحة اعلاه:

انظر إنها كتابة بالعربي.

قرأ باستغراب:

الحق أبلج والباطل لجلج !

لا يهمه القبر ولا من يرقد تحت التراب لا يشغل باله الاسم المكتوب بالدنماركية سوى أن العبارة أثارت فضوله فسال صديقه الجديد:

هل هو مسلم

كلا هو مسيحي

تمعن في الشاخصة أكثر :

عجيب وهل هي حكمة؟

حديث نبوي

الله يرحمه

كأنّه انتبه بعد فترة ولعله أراد أن يأمن لصديقه الذي وجده منفتحا إلى حدّ بعيد:

على فكرة كم مرة تراودك نوبة المنجلي؟

يذكِّره صديقه الجديد بعدد النوبات وبالعراق وروسيا التي هرب إليها قبل أن يلتحق بالدنمارك،في بغداد قبل الحرب كان أخوه يصحبه بسيارته إلى طبيب العائلة الذي لا يكتب له سوى (السيسيكون)،وخلال الحرب لا أحد التفت إليه وإلى صراخه البلد مشغول بأمر آخر أجلّ وأسمى هو الحرب،غير أن الممرض العجوز في حارتهم كان يجلب له تلك الإبر من المركز الصحي فيمدّ إليه يدا بالهداية. ليسمّها مايشاء ولا يظنّ أن عليه ذنبا مادام يوقف وجعه بحسن نيّة.. لايريد لألمه الحاد إلا أن يسكن أما الدنماركيون فهم مثل الروس متفقون أن تتكسر خلاياه حتى تتلاشى آلامه وحدها.

أحيانا كل شهرين مرة وفي بعض الأحيان في الشهر مرتين!

حسنا بكم تشتري قطعة الحشيش.

بخمسين كرونة !

من الكريستيانيا

نعم شخص يعرف

مرّة أجد مغربيا وأخرى إفريقيا أو أصادف بعض الدنماركيين!

تخطر فكرة جديدة في ذهنه:سيعود إلى تجارة الجوازات ويجرب معها بيع الحشيش الذي جربه بضع مرّات من قل فليس هناك من جديد قضاء وقت فقط حتى يحين الموعد لا يريد أن ينتظر أكثر سيحاول أن يغتنمها فرصة فقد اىستقر في ذهنه بعد أن أخفق في تهريب ولديه أن يبقى في الدنمارك ومن حسن حظه أن واقعة الاعتداء على زوجته واعتقاله تمت بعد رحيل جارتهم في العمارة المقابلة أو عشيقته كما تطلق عليها زوجته سالمة أمّ ريتال.. لا يريدها أن تعرف ولعلها تعيش في مكان بعيد الآن حتى لو سمعت بقصة ضربه زوجته فهي في خصام معها غادرت المجمّع ولم تعتذر أية منهما للأخرى..

كل مايخشاه أن يكون العائق المذهبي مانعا لها منه.

لا يريد أن يعيش وحده

وهي مثيرة حقّا

لقد عثر عليها ذات يوم وهي تعبر إلى بوابة الحوامة الصغيرة التي تغادر إلى مالمو وحدها من دون ابنتها انتقلت إلى السويد وعرف أخيرا أنها سكنت في السويد ت.تبدو أكثر حيوية ونشاطا

مثيرة

يزيدها الحجاب فتنة ورزانة.. فقط قلق أو حزن ما يلقي ظلاله على عينيها ولو خلعت الحجاب لبدت أكثر فتنة من طليقته التي زادتها الراحة والنعمة بعض الشراسة والجمال وقليلا من السِّمنة أيضا..

ظنّ أنها تعتذر وقبلت اللقاء حتى خيل إليه أنها تكاد تطير فرحا..

لا تردد أو اعتذار

هكذا هن في الدنمارك حالما تستقر إحداهن حتى تنتبه إلى أنها يمكن أن تهدم كل ّشئ.. قالت إنها جاءت إلى زيارة صديقة في حارة mjølnerparken،ستقضي الليلة عندها، في صوماليا الصغيرة ثمّ تسافر إلى مالمو مؤقتا تسكن مع أخيها حتى ترتب شقتها الجديدة وتباشر العمل في محل افتتحته للمجوهرات التقليدية.. رجاها أن يلتقيها أيّ وقت تشاء فوعدته إلى الغدّ.. هناك شرارة أو جمرة من بقايا حبّ علقت في عينيها لا تقدر أن تخفيها..

والأمور تسير حسب الظاهر كما يشتهي.

وهو القدر ولا أي معنى آخر جعلهما يلتقيان الساعة الخامسة قبل الفجر عند الباب الخلفي لمحطة القطار في ليلة شتويّة قارسة الملامح لم يغب فيها الصقيع اشتدّ لفح هوائها المسعور وامتدّ ظلامها إلى ساعة متأخرة من الصباح فيستقلان الحافلة إلى lubeck.كان يقف يفرك يديه ويتابع انفاسه التي انبقت كشلال بخار أمام وجهه،كان هناك بضعة ركاب وفجأة رآى سيارة أجرة تتوقف.زهبطت منها فسارع إليها يهتف:أنت ذاهبة معنا ياأم ّريتال؟ودفع كتفها برفق وأردف:هذه هي كوبنهاغن كان يجب أن نطلع على نشرة الأحوال الجوّيّة لنبتاع بطاقات في يوم رائق!

اتركها على الله

ونعم بالله!

في ذلك الوقت بدا الفتور على حبّه لابتهال.. فتور من الطرفين لا يريد أن يخدع نفسه فمنذ أن بدأت سالمة تزورهم فتتحدث لزوجته عن بضاعة رخيصة بدأ يلاحقها بنظرات خفية بعيدة الغورزلا يظنها مغفّلة حارة المخيم في كوبنهاغن وحارة صوماليا تسميها الدلالة الشاطرة.الآن واتته فرصة لا تقدّر بثمن.

هل تسمحين أن نجلس في مقعد واحد؟

بكلّ سرور!

قضى ساعات الطريق يتحدّث معها عن أمور تافهة وأخرى يظنّها تثير الاهتمام.. النساء يعشقن الكلام ويفتنهن الثناء والمديح.. مجرد كلام ولم يتناس أن يطلّ بعينيها بين فترة وأخرى فتلمحه وتبتسم كأنّها تعلن عن رغبة خفيّةٍ في استلطاف حديثه :

اسمحي لي أن اسألك عن ريتال؟

مع خالها جاء أمس من مالمو ليكون معها في غيابي.

سيكون معي حالما أهبط من الحافلة بعض الأصدقاء يعرفون المدينة والأماكن التي تبيع بضاعة رخيصة وإلا لكنت معك خلال الأربع ساعات فترة التسوق.

قال ذلك ليتحرر من صحبتها.زهذا أول لقاء له مع قريبه وهناك ثلاث جوازات يدسّها في لباسه الداخليّ.زيمكن أن يصحبها في أي مكان سوى التسوق لئلا يثير ريبة رجال نقطة التفتيش في الدنمارك:

شكرا لك سيكون معي أخي

تجارة أخرى.. مابين السويد والدنمارك.. هل يخادع نفسه عن نظرتها الذكيّة اللماحة.. كل مافيها يدلّ على رغبة غير لأنها رغبة حذرة لا تتمادى.. وهو لا يحبّ أن تكون علاقته معها عابرة من دون رادع،ومثلما التقاها مصادفة في الحافلة التي قصدت الدنمارك ليلة لم يقرأ من قبل أحوالها العاصفة ،عثر عليها قرب مرفأ الزوارق القادمة من مالمو وبودّه الا يكون ذلك اللقاء الأخير.

هو الآن حرّ طليق.

ترك صديقه رياض فنجان أمام باب المقبرة الفرعي الذي يطل على القبر الموشّح بالزخرفة العربية ربما يدله عقله أن يصلي أمام الشَّاخصة فيظنّه بعض العابرين يؤدي تمارين اليوغا.عاقل أم مجنون،يصلي ولا يترك فرضا،ومع أية نوبة ألم يتعاطى الحشيش، هو واحد من زبائنك في المستقبل.. انحدر إلى المدينة مجتازا سوق إسرائيل بلاص وتهادى نحو شارع المشي،قالت له إنها ستكون في كافتريا النجوم وكان ينهض إليها وعلامات ارتياح تعلو وجهه:

امرأة مشتهاة.

مشتهاة.. مشتهاة

قد يكون الخوف في لبنان دفعه إلى الحب.. الحرب.. القتل.. العمارات التي تتهاوى.ورصاص أطلقه ولا يدري هل قتل أحدا أم لا ثمّ نكتشف أنّه حبّ معجون بالخوف.. اندفعنا إليه مرغمين من دون أن نعي حتّى إذا حللنا دار الأمان وانحسر عنا الخوف عرفنا زيفه فتلقفنا نوع آخر من الأحاسيس:

سألها فطلبت عصيرا :

قبل كلّ شئ يا أم ريتال اعتذر لك عما حدث.

لا داعي لأن تعيد الماضي كل شئ انتهى وأنت رجل جدير بالاحترام زوجتك هي التي اتهمتني من دون دليل ولم تعتذر عن الإهانة.

بل قولي طليقتي

سمعت بذلك والله تستحق أفضل منها.

حلم آخر بالاستقرار..

هرّب الجوازات ففلت من الرقيب وهرّب الحشيش،وأخفق في المغامرة الأخرى وإلا لكان الآن في لبنان.. بعد هذه اللحظة الحاسمة يجد أن حبّا جديدا لم يدفعه إليه الخوف بل البرد والوحدة سيكون أقوى وأكثر ثباتا.. يمكن أن يكون معها ولا يغادر أبدا

خطفت نظرة سريعة وقضوارتشفت بعض العصير:

كيف هي ريتال؟

بخير تتعلم اللغة سريعا.

وجدها فرصة مناسبة للدخول من دون مقدمات:

كيف تغادرين من دون أن أعرف!

فنفثتحسرة خافتة وقالت بصوت هادئ:

ما ذا أفعل،وسمعتي أنت مكبل بزواج.. انا عندي طفلة.

لكننا لم نخرج عن الطريق.

خشيت من كلام الناس وأوّلهم طليقتك.

كنت تعرفينني متزوجا؟

كانت ساعة ضعف لو حدث هذا في لبنان وأعجبت امرأة برجل متزوّج لبدا الأمر عاديا لا أقول اخطأت حين اعجبت بك لكني انتبهت إلى الواقع فذهبت إلى أخي في مالمو وهو شاطر استطاع أن يساعدني في فتح المحل.

لقد زال العائق تماما أنا حرّ الآن،وبودّي لو أصبح أبا لريتال مثلما أنا أب لماهر وجميل؟(قالها وكان ينظر في عينيها مثل المنوّم المغناطيسي) ماذا تقولين ؟

تزوغ عيناها عن عينيه:

لا تقولي نحن أحباش لا نزوج إلا من ملتنا.طيب يا ستّي طليقتي كانت شيعيّة.. وأنتم أقرب إلينا.. كان هناك عائق الزواج وأنا حرّ الآن ارتبطنا بإعجاب والتقينا مرات فهل هناك بعد من عذر؟

قالها بضكة خافتة فغالبت بعض الحياء:

كان بودي ولن أجد أفضل منك لكني الآن مخطوبة قريبي ابن عمّتي في السويد تحدث قبل أشهر مع أخي الاصغر وتمت الخطبة وسيتمّ الزواج بعد شهر على الأكثر.

سوء حظ.

أم هزيمة جديدة.. قد تكون مراوغة منها فكلهنّ بنات.. يغالب سخطه المكبوت بكلام في محله أو غير محله:

مبارك. (نطقها بتكلّف) لم أكن أعلم أن لك أخا في السويد ظننت أخاك الوحيد في ألمانيا

عائلتنا مشتتة بين الدنمارك والسويد ولي أخ ثالث في بيروت!

فاتنة

رائعة

لولا سمارها لما كدت تميزها عن الإسكدنافيات.. أوّل حبّ له في الغربة،ومثلما نعرف متأخرين أنّ الحقيقة تأتي من مكان بعيد لانتوقعه فقد تكون هي ذاتها سرابا في الإثنين: الوطن والغربة.. لقد خمّنت ما في نفسه فأرادت أن تحقق أنوثتها في سماع عَرْضِه. هذا الذي ألحّت عليه يوم كانت تكبده قيود ثقيلة..

مخطوبة

امرأة داهية.أدلّلة ماهرة.. أرمل زوجة شهيد.. أرادت أن تسمع من فحل آخر إعجابا وترى في طلبه أمامها تذللا يشفي أنوثتها في الوقت نفسه تبقي على خيط رفيع يربطها به وإلّا لما قبلت موعدا معه.. فقد تفسخ خطوبتها لأمر ما فيعود لها من جديد نحن في أوروبا ولسنا في بيروت والقاهرة وبغداد.. فماذا يجد بعد كلّ ماسمع غير امرأة طلقته ،كفّ واحد اهتزّت له جدران البيت استجمعت به فحولتك فوضعك في مواجهة بوليس بارد يعاملك كالحشرة.. وأخرى تاجرة عملت منذ أتت إلى الدنمارك ببيع بطاقات الهاتف.. والبضاعة في السويد.. نسيت حارتا المخيّم وصوماليا أنها زوجة شهيد وتذكّروا مهنتها الجديدة.. دلّالة يخسرها الآن ويدرك أنه سواء كان معها أو مع غيرها فلن يغادر إلى لبنان أو أي مكان آخر.. كثيرون مثله يًعَدَّون فاقدي الأهلية معاقون نفسيا وعقليا فليغتنم الفرصة ولتكن الحدود أمامه مفتوحة.جوازات وحشيش والبركة في قريبه.. في بضع سنين يكون ذا ثروة حتى إذا اعْتُقِلَ أم اشْتُبِهَ فيه بالأدلة والبراهين أصبحت السلطات الدنماركية هي المدانة لا هو لأنها أقرت من قبل باعتراف أطبائها وخبرائها وباحثيها الاجتماعيين أنَّه فاقد للأهلية ومريض يستحق الشفقة لا العقوبة.. يخسرها الآن ويربحها غدا.. وهو يرتشف فنجانه وهي تأتي على آخر كسرة من قطعة المعجّنات وتكرع مابقيَ من عصير فنهضت تستأذن ونهض مصافحا وهو يقول:

كان بودي أن يكون أولادك أولادي وأن يكون لي منك أخوة لأبنائنا لكن هي مشيئة الله

فهمست برقة

كلّ شئ قسمة ونصيب

وظنّ أنّه لن يراها بعد هذا اللقاء

***

قصي الشيخ عسكر 

في نصوص اليوم