نصوص أدبية

بليغ حمدي: بِتَوقِيتِ الرِّيحِ فِي مَدَارِه مَقْرُونٌ بِالفِتْنَةِ

آَخِرُ القَوْسِ رَجُلٌ يَسْتَقِيْلُ منْ سَماوَاتِهِ،

لِيُمْطِرَ في جِهَاتٍ أُخْرَى أكْثَر عُزْلَةٍ،

هَكَذا، يُفَتِّشُ الرَّجُلُ عنْ قِرْدٍ وأغْنِيَةٍ،

لِكَيْلا يَقْفِزَ مِنْ شُرْفَتِهِ، أوْ يَدْخُلَ نُعَاسَاً مُهَاجِرَاً من مَخَادِعِ الماَءِ،

إلى عصَافِيْرِ النَّارِ ...

آَخِرُ القَوْسِ رَجُلٌ يَرْسِمُ دَائِرَةً تَجْهَلُ مَرْكَزَها،

آَنَ أَنْ أضْحَكَ قَلِيْلاً، مِنْ رَجُلٍ يأْتِي؛

يَتَرَنَّحُ مِنْ سَطْوَةِ القَصِيْدَةِ النَّاقِصَةِ،

وَيَسْدِلُ أجْفَانَهُ عَنِ النَّهْرِ ...

(2)

إِنَّهَا تَخْتَبِئ لأشْيَائِهَا المُخْتَبِئةِ لَيْلاً،

وأنَا أغْنِيةٌ تمَتدُّ لشِتاءٍ قادِمٍ،

وبينَ أنا والآخرِ صُبْحٌ بغَيرِ مَدَارْ ..

هذا طَقْسٌ يَأبىَ موْتَهُ، وموُته يمتدُّ كأُغْنِيَتِي،

حِين تَرْحَلُ جمِيْلةٌ وهمومُ الملائِكةِ،

وحينَ أسْتحِيل ُ جَسَداً بغيرِ مَزارْ ..

لسْتُ شيخَ القبيلةِ، ولا عرَّافها، ولا سَاحرها الأعْمَى،

أنا شَاعِرُها الرَّافِض ُ منذُ تاريخِ الرَّفضِ والعصْيانِ

جَسَدِي الرِّيحُ، لا تَرْشقني الرماحُ،

ولا العُيُونُ الراصدةُ،

والكلُّ محزونٌ،

إلا مَنْ اسْتَعْبَدَهُ الشوقُ ، فخرَّ ؛

باكِياً عِنْدَ خَرائِطِ الوجَعِ، وأعُودُ؛

بقلبي صُورة لجميلةٍ،

وفي يدي اليُسرىَ عَروسةٌ من خَشبٍ،

وكِتابٌ أوَّلٍ ..

(3)

خارجَ حصارِ الوقتِ ولُغةِ التَّداوليةِ ؛

تأتي مثلما أتَتْ امْرأةٌ من الرفضِ والبرْقِ،

وتدخُل أمِّي الطيِّبةُ غُرفتي؛

المسْكُونَة بالبُخُورِ واللِّبَانِ وبعض عفاريت الشِّعْرِ،

فأخبِّئُ صورةَ جميلةٍ وتَجَاويدَها بمِعْطَفٍ شِتائيٍ،

أُحاوِلُ فعلَ شئٍ يشغلها، ويُسْقِط ذاكرتها ..

وجميلةٌ تأتي كَلَيْلٍ عاشِقٍ، يصْفعُ،

قَلبُها مَدارُ عِشْقٍ بغيرِ سِيَاطٍ،

هذا كبريتٌ بيديها،

ورسائلي بضفائرها تنتظر السياف لتمزيقها، وشَقِّي ...

عَائدٌ إليكم، من أولِ قَرارٍ للعِشْقِ والحُريَّةِ،

لا قَمْحَ معي .. ولا نَظَرِيَّة ..

بلْ بقَايا غرامٍ، وحصَان من يَاسَمِين

عائدٌ إليكُم،

وأوَّلُ من أسْأل عنه جميلة،

وكيْفَ اهْتَدتْ لأشيائها المُخْتَبِئة؛

صُورتي، وبضْع نصوصي، وعملةٍ معدنيةٍ،

كانَ أبي المنتمي قد أعْطاني إيِّاها،

تَسْألُ عن أشْيائي السِّريةِ،

وقَصَائِدي السريةِ،

والبراويز التي أعلقها على الجدرانِ ..

(4)

أمِّي؛

صاحبةُ العيْنين العَسَليتين، هو ذا ابنكِ

حينما شُفِيَ ماتَ من الذِّكرى،

أيَّتها المحتَضِنةُ كل الأشياءِ،

لن أعلنَ أبداً أنَّ العينين الغائرتينِ متوقدتانِ، مِنَ

الجدلِ وحضورِ النوافذِ المغلقةِ،

هَبِي أنَّكِ مثلي؛ عاشِقٌ يحترف القصيدَةَ،

فهلْ تَطِيقِيْنَ الغِيابَ ؟

فاخرجي كما كنت ِ تفعلين،

كي نكتبَ أصْداءنا على أوردةِ النَّخيل،

ونؤسِّسَ جُغرافيةً جديدةً للعشقِ،

ونُشَكِّلَ رَائحةً للمُسْتَحيلِ ...

اخْرُجِي ولا تَخافي جميلة،

فأبي المنتمي قد علَّمَني أوَّلَ دَرْسٍ للحريةِ،

ومن سَاعتِها .. وجْهيَ للحَائطِ ...

(5)

ويُنادِي رَجُلٌ يرتدي زِيَّهُ المعجونَ بالغبارِ والرَّفْضِ،

لا تَقفُوا هكذا،

أمامَ سِياجٍ من الأمْتِعةِ المدنيَّة؛

مَرايَا، أجهزةِ الراديو، وقَليلٍ من الفطائرِ الريفيَّةِ ..

يُؤلمني أيُّها الآخر المسْكونِ بالدَّهْشةِ

أنني أموتُ يوماً ما بالشِّتاءِ القَادِمِ،

وتسْتَحيل كِيمْيَائِي رَمَاداً وثمَّة غُبَارْ ..

لا توجد في دفترِ العَطَشِ امْرأةٌ؛

باسْتطاعَتها تخفيف وَطْأةِ المَوْتِ المتأخرِ

البرُونزُ يكسُو كُلَّ الوجوهِ المتشققةِ،

لا أحد يحملُ مَوقفاً إنْسَانياً،

أو سَمْتاً

يُعالجني كَمُؤسِّسٍ لنَصِّ البَقاءِ ..

(6)

ها أنا أدْخلُ جَسَدي ثَانيةً،

مثلَ ثَوري يَدخلُ مُقدِّمةَ التَّارِيخِ؛

جَمْعُ صُراخٍ لا ينتهي،

وأوجاعٌ تنقشُ تفاصيلها فوق أوردتي،

بَقايا تُرابٍ بِفَمِي،

هذا احْتِفاءٌ رائعٌ للصَّدَى،

وللحُلْمِ الذي يَنْطَفِئ بانْتِهائي،

أيهذا اللامنتمي الجَالِسُ أمامَ دَهْشَتي

عَلَّكَ حين تُمْسِي إلى نَخِيلكَ، تُعْلِنَ دَوِي أحْزاني،

وتجترُّ ما تَبقَّى بِفَمِي / دَمي ..

أيها القَاصِي،

هذا المسَاءُ إنْ يَفْجُؤنا بِتَميزهِ؛

الضَّارِب في جُذورِ صَخَبِه

نَتلوَّنُ بلون المقَاعِدِ البُنِّيَّةِ الصَّامتةِ،

هذا احْتواءٌ بالمَدَى ..

(7)

عَارٍ،

حتَّى من أبجَديَّتي وهَوْسِي وبَقِيةِ دَهْشةٍ،

إني حَيٌّ حَتَّى آخرِ النَّزفِ،

افتحوا البَابَ ..

افتحوا البابَ ..

إنِّي أسْمع أغنيةً خلفَ البَابِ تُناديني

شَاحِبٌ، وأَزْدَادُ بَشَاعةً،

وأدَّعِي الضَّجةَ حتى النهايةِ ..

بغيرِ مَلامحِ أنبُضُ سِكِّيناً،

تكفي صَفْعةٌ واحِدةٌ كي أصْمُتَ وَحيداً،

وأجْتَرُ أحْزاني التي تُراودُني لحْظةَ الخُروجِ من جَسَدِي ..

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

في نصوص اليوم