نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: الثرثارة

قصي الشيخ عسكرالفصل الثالث من رواية:

صفرة ما على الجدران

***

3- استفاق جمال شعيب صباح ذات يوم على صوت يقدم من بعيد أو هكذا خاله لم يكن الوقت مبكرا فقد كانت ساعة الجدار تشير إلى السابعة.لقد نام نوما عميقا بعيدا عن أن ينغصه حلم مزعج أو كابوس بغيض وأرهف السمع  مرة أخرى فتبين أنه من البانسيون الملاصق لسكنه وأنها تلاوة قرآن بصوت عبد الباسط.السورة التي يحبها .. التكوير إذا الشمس كوّرت..ونداءات الله التي تلهب المستمع نشوة وخفّة خشوع.إذن عادت السيدة جارته من سفرها ..

أسرع ...

فرك شعره ونهض للحمام غسل وجهه وعمل على عجل صحن فطور من جبن وزيتون وبيض ازدرد بعض اللقم وخطا بالصحن إلى شقتها،ضغط على زرر الجرس فسكت صوت المسجل،وانفرج الباب بعد لحظات عن سيدة عريضة الجبين متوسطة الطول يزيدها شعرها الداكن الطويل فتنة تبدو أصغر من عمرها الحقيقي بكثير.

فاتنة.

مثيرة.

قد تكون أكثر فتنة من ابتهال طليقته لكنّها أقل فتنة من سالمة...

اشراقة وجهها تسابق ابتسامتها مع كلّ ذلك النقاء هناك مسحة من القلق والغمام على جبينها وفي عينيها بعض من فتور:

صباح الخير

أهلا صباحك بخير

أنا جارك سكنت هنا في الشقة الملاصقة لشقتك في أثناء سفرك وقد صحوت على صوت القرآن فسألت نفسي أن أعمل فطورا لك لأوفر عليك الوقت.

شكرا لك  تناولت فطوري قبل دقائق تفضل

واجهته في الممر الضيق صورة كبيرة لطفل في الثانيىة من عمره ولمح هدية غلفها ورق جميل وضع على الطاولة الصحن:

آمل الا أكون أزعجتك

أبدا أنا سعيدة بمعرفتك اسمي 

جمال شعيب من لبنان

اسمي زاهية أمّ داليا واردفت اعذرني لم أجد سماعة الأذن نسيت أين وضعتها قبل أن أسافر وظننت الشقة فارغة  كما عهدتها قبل أن أسافر فلم أتعمد تشغيل المسجل.

أبدا القرآن بركة.

مسيحية تسمع القرآن..في الأربعين متقاعدة..

مثله..

لابد أن يكون وراء هذا الجمال الهادئ بحر هائج ينبيء عنه قتام يرتسم على الجبين وعينان مفعمتان بالقلق وعلى احتمال شئ ما أرسلوها إلى مجمّع شقق المتقاعدين..وأنت وإن لم تكمل دراستك تعرف مخلوقات الله من العيون في سرحانها وحدتها خبرة اكتسبتها من عملك في المطاعم وورشة السيارات وها هي تتحدث معك كأنهّا تعرفك من زمن بعيد:

الكاسيت جلبه لي رياض فنجان ألم يخبرك عني؟

كل ما قاله لي أنك في سفر

الحقيقة كنت في القدس حج 

يا ابنة الذين إسرائيل ذلك البعبع الذي نخشاه  اجتزت كلّ المسافات إليه جاءنا إلى بيروت ورحلت أنت نحوه نحن في حرب معه منذ قالو ا بلا كنتِ هناك:

حج مبرور

الحقيقة ازداد عليّ الصداع فاردت أن أحج أتبرك بمهد المسيح فأعرف سببه لا تؤاخذني كنت في الأرض الفلسطينية ولم أزر دولتهم الوسخة وهناك زرت قسّا جليلا يفك السحر.

معقول يا أمّ داليا؟

صدقني

نعم نعم السحر موجود عندنا في القرآن!

فاجأته بصراحة  واندفاع صادق.يبدو أنها لا تتحفّظ مع الآخرين ولا تعرف الزوغان وليقل إنّها بريئة قطعا ليست ساذجة ولا غبية لا ترى في قولها حرجا ولا تتردد في أن تسهب في الحديث وإن كان هو اللقاء الأول لها:

قطعت شوطا لا أجمل منه في كلّ عمري الذي مضى ونعمت بلقاء قس جليل ذي هيبة ووجه نوراني أخبرني أن شخصا ما من أقاربي الأقربين سرق قطعة لي ..لباسا داخليا من خزانتي وعمل فيها سحرا ليرجمني به!

معقول ؟أبعد الله عنك كلّ سوء.

تساءلت وهي تشبك يديها على صدرها وتتطلّع في الجدران بعينين لا تتحركان:

من يدخل بيتي غيرها ابنتي داليا لا أحد سواها عنده مفتاح شقتي..اللعينة تصوّر أحبت مسلما فلسطينيا فوافقتً بكل رحابة صدر ..نظر صورة حفيدي ولدها ..

الله يحفظه..جميل يشبهك!

فقالت بانكسار:

هو أكثر شبها بي من أمّه أحسّ أنه قطعة مني وهذه هديّته هل تصدّق حين أخبرتني أنها تحب مسلما لم يثر الموضوع أيّة عقدة لي .

فردّ مجاملا:

عندنا في لبنان مسلمون يتزوّجون مسيحيات ومسيحيون مسلمات ودروز يتداخلون مع طوائف أخرى في لبنان الطوائف أكثر من العراق ماشاء الله.

لكنكم تتحاربون

فحكّ شعره كأنه يبحث عن جواب:

قد تبدو الحرب حسب الظاهر بين مسلمين ومسيحيين والحق هناك مسلمون تحالفوا مع المسيحيين ومسيحيون يقفون مع المسلمين فيروز التي تحبين سماعها كلّ صباح مع المسلمين.

فنظرت إليه بتأمل واستدركت:

آسفة جدا علي أن أخرج الآن لا بد أن آتي بقطعة القماش منها اليوم قبل الغد إنها ابنتي لكن روحها شريرة

فقاطعها وهو يهم بالخروج أعتذر كوني أخرتك أين تسكن ابنتك.

ليس بعيدا في Tagensvej قرب مقابل مشفى بسبه بياو

 هل تمانعين أن أرافقك ومن هناك أنعطف على محطة نيرو برو

بل تستطيع أن تقف تنتظرني عند باب العمارة ثم أنزل من عندها ونرجع معا!

حملت الهديّة وهبطا إلى الشارع العام وحالما فاجأتهما المقبرة بان الامتعاض على وجهها فأوحى له شكلها أن أمرا سيئا يدور في ذهنها ولم تطل هواجسه:

تصوّر سألت عن قبر فيها أعرف السعر 8000 كرونة غير أنها كلها ممتلئة!

فأخفى ابتسامة تتراوح بين السخرية والضيق ابتسامة تحوَّلت إلى ثقل على شفتيه:

كلنا سنقبر ذات يوم لكن اين؟ الله أعلم.

لكني اشتريت بأرخص في توسترب 5000 كرونة سىآخذك معي ذات يوم  كل ّيوم أحد أذهب هناك أضع بعض الورود هل تذهب معي؟

بلا شك وحاول أن يخرجها عن الموضوع، فقال وهما ينعطفان مع درب ياكت فاي:

أخشى أن تدخلي في شجار مع صهرك.

هو في الشغل الآن لاذنب له كل الخباثة منها هي.

هل يعي مايسمع..أمّ تتهم ابنتها بالسحر، الحديث يطول  ...

لا تسكت

 يبقى حديث السحر أفضل من الموت والقبور لا يعرف لم يفكران بهذه الطريقة هي تشتري قبرا ورياض فنجان يصلّي عند قبر مجرد أن قرأ عبارة بالعربية فوقه. ربما أنا العاقل الوحيد بينهما وإن عدتني المشرفة الاجتماعية أحد المرضى النفسيين.. أنا حقا مثلهما أو مثلهم لا أختلف عن السكان الآخرين في المجمّع الملاصق لنا ،متقاعدون.. مرضى ..محبطون... مرة ضربت زوجتي وأخرى حاولت تهريب طفليّ وثالثة وضعت سكينا على رقبة إرهابي.. وأظنّ كلّ من اشترك في الحرب الأهلية الدائرة هناك مجنون . وأنا اشتركت وأتظاهر بالجنون لئلا يحسدني الناس، لا أضحك من نفسي ولا منها.. انعطفا بمحاذاة محلات نيتو نحو طريق داو مارس كيذه، فتساءل بابتسامة:

هل حصلت على الفيزا من سفارة إسرائيل بيسر؟

استغرق الوقت شهرا وطلبت من الإخصائية الاجتماعيّة مساعدتي سألوني. قلت مسيحية وأروم حج القدس كان معي كتاب التقاعد لأسباب صحية!

فزاده ذلك فضولا:

يقال إن إسرائيل جميلة.

لم أذهب إلى مدن اليهود والعياذ  بالله كنت في القدس ورام الله وبيت لحم  قرفت من بعض الجنود اليهود .هيأتهم مثل السحرة والله تصوّر سحرة في بيت المسيح يكادون يأكلون أيّ عابر بعيونهم حججت ثمّ سألت عن شخص روحاني فدلّوني على قس طاعن في السن "واسترسلت فأصغى لها باهتمام "قادوني هناك في زقاق ضيق مثل أزقّة الدنمارك  القديمة ققابلت الرجل المهيب يبدو في الثمانين من عمره بحيوية شاب إذا ابتسم تلألأ وجهه فتراه في  العشرين من عمره تأمل طويلا أحرق شيئا ما ذكي الرائحة كعبير الجنة:

قاطع بشغف:

بخور بالتأكيد

لا ليس بخورا البخور أعرفه عطر لم تعرفه رئتاي من قبل بقيت صامتة أنظر إلى النار الهادئة وأتابع العطر الذي يتلوى أمامي مثل راقصة الباليه وبعد مايقرب عشر دقائق نطق خلاص الرب كشف كيد الشيطان أقرب إنسان لك سرق لباسك الداخلي وعمل لك سحرا يحطم رأسك بصداع شيطاني رهيب.

عندئذ دلفا في ممر فرعي أمام ساحة صغيرة تتوسط أربع عمارات تزينت بمربع من الرمل ومراجيح للأطفال فتوقفت تلتقط أنفاسها.

وصلنا؟

ابق أنت هنا أصعد إليها الفاجرة!

توارت عن بصره داخل إحدى العمارات فتشاغل بالوقت عن المكان.. ثرثارة لكنها ممتلئة حيويىة ونشاطا في الأربعين من عمرها تكبره بعشر سنوات..

مثيرة..

جميلة الملامح مازالت تحتفظ برقبة متلألأة وجسم تغافلت عنه السنين خطا مثل طفل إلى أحدى المراجح ودفع بقدميه الرمل فاهتزت به الأرجوحة هزات خفيفة نكش بحذائه الرمل وانتقل إلى إحدى المساطب.

فكّر بها على مهله

يمكن أن تكون له في بضعة أيام

رائعة على الرغم من كونها ثرثارة

لكن هل يسافرن مغا ذات فجر مبكر بالحافلة إلى شمال ألمانية

هذه إحدى الفرص التي تخطر بياله في مثل هذه الساعة!

ولابدّ أن يجد حلا آخر يتصل بابن عمه فيخبره أنّه يرغب في العودة للشغل ولو..ياجمال تهريب الجوازات عمل مربح. هناك أيضا الحشيش سيدبّر أمره...طريق Lubeck بالحافلة آمن لايثير الشبهات آخر مرة أوقفت شرطة الجمارك السيارة وأجبروا بعض مهربي الويسكي والسجائر على دفع  ضريبة.. كلّهم أوروبيون..يفكرون بالكحول والويسكي..تعرفنا نقاط التفتيش نحن الشرقيين نأتي بمسجل أو ساعات ولا أحد يلتفت لجواز سفر مدسوس في لباس داخلي وقطعة حشيش داخل طيات معطف ثخين .

ثقب من أسفل الجيب إلى قعر المعطف..

 أمّا الآن فعنده السيدة...

طيبتها 

صدقها

وهواسها أيضا جميل..انصرمت دقائق. ربع ساعة وهبطت من العمارة تمسك قطعة قماش بيدها وكأنّها تمسك الدنيا بدا على وجهها انشراح أصيل وغبطة غير متناهية:

فتشتُ خزانتها قطعة قطعة ها هو اللباس  فتحته أمامه فبدا أبيض ذا نجوم زرقاء هنا السحر ياله من عظيم ذلك القسّ الجليل.

فسأل بتحفظ:

ألم تقل شيئا

فهزّت كتفيها ساخرة:

الحقيرة بقيت صامتة لكنها لم تمنعني من معانقة حفيدي

فقال يجاريها :

أتركيها وشأنها 

لم ينته الأمر بعد (وتساءلت كأنّها تستنجده:) هل تساعدني في العثور على قطّة سوداء أو فأرة ولا يهمّ عندئذ اللون!

سوداء؟

طوت اللباس ثم دسّته في جيبها: نعم سوداء هي وحدها تقضي على السحر أو فأرة بيضاء!

فهز رأسه بالإيجاب، وكان يكبت ضحكة ساخرة.

***

قصي الشيخ عسكر

في نصوص اليوم