نصوص أدبية

فرات المحسن: يوم آخر في حفر الباطن (1)

فرات المحسنالقمر ينير الساتر الترابي بالتماع حاد مختلج، تبدو معه مواضع الفوج بقعاً قاتمة تتدرج مجاورة قوس الساتر المديد. مركز الفوج عند موضع القيادة وفصيل المخابرة ثم الطبابة. ثلاثة تلال صغيرة داكنة ترقد كالقبور. لا أثر للحياة فوق الرمال سوى عوسجات تتناثر بين طيات كثبان الرمل وملاجئ الفوج. أشواك يابسة كأنهن عجائز متشحات بالسواد يرقدن متبلدات وسط تلك الدكنة الموحشة . الملجآن الشقيان الطويلان يخترقان الفوج من المركز باتجاه سفح الساتر فيبدوان كعقربي ساعة. يسفر ضوء القمر في تلك الوهدة عن خارطة مبهمة لطرق ميسمية خطـّتها الأقدام، تتشابك بفوضى في جميع الاتجاهات.

للمساء معالمه المميزة في حفر الباطن. تبدو السماء الصحراوية أشد وضوحاً حيث تتلألأ نجومها بارتعاش لذيذ، ويبدو الأفق البعيد مثل كوّة هائلة فسيحة سوداء تتناثر الألتماعات داخلها بين الحين والآخر.نسائم الهواء الرطبة الباردة تحمل رائحة ثمار متعفنة تخالطها روائح بارود ومواد أخرى محترقة.

الرمل الأملس يتراصّ مع اشتداد الرطوبة الباردة، فيشكل طبقة منـّداة متماسكة، تتيح لي تكوين خطوط مبعثرة مبهمة بإصبعي اليابسة فوق سطحه، أكتشف دائما أنها ملامح متشابكة لوجوه فزعة وأطراف نافرة. ليس مستغرباً أن يتدبر المرء في تلك الوحشة والمجهول شيئاً يلهو به. طنين الموت يضج في الجوار طوال الوقت فيدفعنا للتوطن معه بدعابات وألعاب ساذجة. لعب تمجّد ضعفنا وقدرتنا للتكيف في آن واحد. فالخوف واليأس خليق بالمرء تجرّعهما دون غضاضة حين تبدو النهايات مؤكدة وقريبة.

بعد نهار طويل لا معالم واضحة لـه سوى السراب الرجراج في الأفق البعيد، ورجع أزيز الطائرات المحلقة في كبد السماء، دوي انفجار القنابل المتساقطة دون سابق إنذار، وصفير الريح المشبعة بروائح البارود، تنفخ في الرمل. كان ذلك هو نهارنا الطويل، نتجرعه بحرقة انتظار أمل. بعد ذاك اليباس يأتي المساء البليل شديد البرودة. ومع هبوط الظلمة يتبدل إيقاع الأرض وكذلك الفوج. الظلام يشي بالمتناقضات. الخوف من أن يكون غطاء لهجوم قادم، ولكن في الوقت نفسه يوحي بالطمأنينة، فتدب الحركة عند الطرق الميسمية والملجأين الشقيين، وتبدأ الزيارات بين أفراد الفوج. تسمع بين الحين والآخر أصوات صراخ عابث وقهقهات منفلتة تجلجل عند أطراف الملاجئ، تختلط بضجة آليات تتحرك في الجوار دون أنوار. الظلام يحفز للتجرؤ وتملـّي الجهة الأخرى المقابلة للساتر، حيث يتحفز المجهول بملامح غائمة، ولكن الأكيد أن هنالك في ذاك الغور الخامد عيوناً ترصدنا وتنتظر مثلنا جزعاً أو خوفاً.

لا قرى، لا مدن، لا ضوء غير ما يجود به الرب وتنيره القنابل. خلفي في الأفق البعيد تنبلج السماء عن كتلة ضوء كابٍ لمدينة تتراءى لي مثل تل سحري. أي مدينة تلك ..؟ البصرة، عبادان أم أنها الكويت ما برحت تضج بأنوارها المبهرة مثلما دخلناها أول مرة. ولكن الأفق يبدو فارغاً موحشاً يخالطه لهاث سائل دبق عتيق يشفط رمل الصحراء الهامد حبة إثر حبة.

أرحت جسدي المتشنج فوق الرمل البارد جوار باب الملجأ. فتحت أزرار البذلة، شممت رائحة عطنة أردت إبعادها بتعريض جسدي للهواء ففتحت أزرار القميص الداخلي. شعرت كما لو أن كائناً أخر يشاطرني ملابسي.كائن صحراوي تختلط رائحة عرقه النازّ بروائح براز بهائمه .

تيبست جلودنا في هذه المفازة مع تغير المناخ اليومي. الانتظار الطويل في جوف حفرة رطبة باردة ينثال الرمل من سقفها وجوانبها عند أقل اهتزاز. صهاريج الماء تأتي أسبوعياً عند المساء دون موعد ثابت. فصيل المخابرة يهاتفنا بذلك فنذهب عبر الملجأ الشقي لنملأ الحاويات الحديدية ونستعمل الماء بتقنين مفرط، متناسين الاغتسال خوفاً من العطش، وبانتظار محالفة الحظ للحصول على إجازة والجلوس تحت صنبور ماء دافئ للاستمتاع بصوت خريره السحري منساباً فوق الجسد المسترخي.

كان بيتنا قريباً من حّمام (الأميـر) بمائتي خطوة لا أكثر. أبي عامل الصيانة في مرآب "الأمانة"، مغرم بالذهاب إليه كل يوم، حتى أصبح الحّمام وكأنه جزء ملحق للبيت. كنت وأمي نرقب يومياً قدومه لأحمل فوق رأسي صّرة الملابس وأسير خلفه بتثاقل. كنت أتهيب المكان ويتعبني مجرد التفكير فيه. جدرانه العتيقة، ظلمة الممر الضيق، الأنابيب القديمة المنداة، البخار الذي يغطي جميع الملامح، قطرات الماء المتساقطة برتابة من جوف القبة، الرجال العراة وصدى الأحاديث، كأنها صادرة عن جبّ عميق.

كان يتركني بسنواتي الثماني أغتسل وحدي ويرقد هو مسترخياً فوق الدكة المرمرية الساخنة وسط الحّمام. يشبك يديه خلف رأسه ويروح يطالع جوف القبة. أتفرس وجوه الرجال وسط الضباب. تنفجر أصوات غليظة بين الحين والآخر تنادي أسماءً أو أرقاماً لا أفقه كنهها. يغريني سحر المكان وفضول الطفولة أن أكتشف مجاهل الحمام، فأدب حذراً نحو الممر المعتم حيث الغرف الصغيرة بضوء مصابيحها الكابية، مرصوفة على جانبي الممر مثل دكاكين. كانت أرض الغرف مغطاة بطبقة سميكة من كلس أبيض مصفر، تخالطه زرقة فيروزية باهتة. لم أخطُ أبعد من ذاك الممر خوفاً من أن يبتلعني دهليز آخر، وفي كل مرة أجدني راجعاً مرتعباً فأجد أبي عند مكانه. ينهض ليفرك جسده بقوة ثم يعود للاسترخاء ثانية. فجأة ينهض بخفة ويستحم، ثم يأتي دوري فيدعك جسدي بيديه الخشنتين الثقيلتين، ثم يلفني بالمئزر، بعدها نرتدي ملابسنا ونخرج. تلك كانتا ساعتيه الطقوسيتين. أصبح الدرب وطقوس الاستحمام مألوفين عندي بكل تفاصيلهما، ولكني بقيت دائماً أحمل ضغينة ما نحو ذاك المكان.

 كان يوماً شتائياً حين خرجنا. وكون جسدي ما زال يحمل دفء الحمّام، شعرت بالضيق من الملابس الثقيلة. وددت التخلص منها، ولكن أبي كان يسحبني بسرعة للوصول إلى البيت.

عند المنعطف نادوا على أبي باسمه وبصوت حاد كأنه قادم من جوف قبّة الحمّام، توقفنا. ثلاثة رجال ينتظرون في العتمة. التزم أبي الصمت ثم مد يديه ورفعني ضاماً جسدي إلى صدره. شعرت بارتعاش جسده عندما تحركوا نحونا. توقفوا على بعد خطوات، كانوا بملابس غير معتنى بها، يحملون بنادق مصوبة نحونا. بادرنا صاحب النظارة الطبية السميكة.

ـ حمّام العافية .. دع الصبي يذهب إلى البيت .

تشبثت يداي برقبته، ولكني شعرت أن يديه تحاولان إعادتي إلى الأرض. طالعت بفزع وجهه المتحجر. نظرت عميقا في عينيه الكلسيتين. قبـّلني وأنزلني ثم دفعني من كتفي ففهمت.

هرولت خائفاً أتـلفت..أجهشت أمي بنحيب رافقها لليال طوال دون عودة لأبي، بعد أيام جهزت أمي حقيبة وضعت فيها ملابسا وطعاماً، وغادرت الدار بعد أن أوصت أختنا سمية بي وبأخي الصغير كريم. لم يطل غياب أمي، وحين عادت بعد يومين، بكت بحرقة مع نسوة من أقاربنا وكانت تلهج طيلة الوقت بعبارة واحدة، رمضان الأسود عليكم.لم أكن لأفهم كنه عبارتها تلك ولكن بعد حين عرفت أن لا عودة لأبي.

بعدها لم أقارب حمّام الأمير أبداً، ولكن صورة المكان كانت تراودني بإلحاح . الباب العريض العالي ذو الخشب المتهرئ، الممر الداخلي عديم اللون، صوت قرقعة الطسوت ورائحة المناشف الدبقة وجسد أبي المسترخي فوق الدكة الساخنة. ذاك الخوف والعواطف الحادة بقيا يسكناني أبدا. رنين أهوج يبسط سطوته وينمو في صدري، يغلّ وحشته في تلافيف ذاكرتي دون شفقة ليشظيها إلى قطع مبتورة حادة ومتنافرة.

***

فرات المحسن

في نصوص اليوم