نصوص أدبية

محمد الورداشي: حياة مكهربة

محمد الورداشياستيقظ على صراخ هز أركان الزقاق هزا، وارتعدت له الفرائص واضطربت النفوس، فما كان منه إلا أن رمى الغطاء جانبا وانتعل صندله، ثم توجه نحو النافذة بتثاقل وعيناه مغمضتان، كان يتثاءب بتتابع ويجهد نفسه في فتح  عينيه: يفركهما فركا فلا يرى شيئا سوى كائنات تبدو كالحشرات، تتعارك عراكا حامي الوطيس، وتتشابك أياديها كما يتشابك العشب على عتبة بيت مهجور، توجه صوب الباب، باب شقته الذي أغلقه بقفلين اثنين محكمين، فتحه ثم انساب في الدرج بخطوات عشواء حتى بلغ باب العمارة الكبير، ثم اتجه بخطى ثابتة نحو الساحة التي تطل عليها نافذته، فرأى الوجوه مكشرة، والأفواه مرغية ومزبدة، والأيادي متشابكة والدماء تنز من مناطق الجسد المختلفة. فجأة، انفرد بصره بشخص لم يستطع معرفته؛ لأنه يعرف ملامحه بيد أن الدم الذي ينز من حجبه الأيسر سال على الوجه كله، فجعله مجهولا بعدما كان مألوفا معهودا. وبعد برهة،  صرخ مبهورا، واندفع بقوة مخترقا الجمع الغفير، ليلفي نفسه أمام الضربات التي لا تخطئ مكانا من جسده، لم يحس وقعها وآلامها المبرح، وإنما كان كل همه هو أن ينتشل جاره المعطي من المعركة، ولأيا أنقذه وأخذه جهة الشارع مسرعا، فأخذا في الركض دون أن تكون لهما وجهة محددة، وما إن مثلا أمام المقهى الذي يترددان عليه حتى وقفا، تسمرا وقتا بطيئا ظلا خلاله ينشفان عرقهما بأشلاء ثوبيهما الممزقين.

الآن فقط يمكنهما أن يجلسا على كرسيين خشبيين، ويطلبا قنينة ماء باردة تنقع ظمآهما، ويشرعا في استرداد نفسيهما.. حتى نطق المحجوب لاهثا:

- أولاد الحرام؛ كانوا سيمزقونك شر ممزق.

توقف لحظة كيما يبتلع الماء بمشقة، ثم أردف:

- هل تشاجرتما مجددا؟

لم يحر المعطي جوابا، لكنه اكتفى بإرسال نظراته إلى الشارع مشدوها، وبعدما ألحف المحجوب في السؤال أجاب:

- إنه سقراط.

تساءل في حيرة:

- ما به سقراط؟ وما شأن الفلسفة هنا؟

- هو سبب خصامنا؛ لأني منذ أن تسلمت الكتاب الذي يضم أفكاره حول النساء، وكيفية مجاراتهن وأنا أعمل بنصائحه، فكان ما كان..

انطلق المحجوب في ضحك هيستيري، ولم يوقفه إلا أنين المعطي، فرد دون أن يتوقف عن الضحك:

- امرأتك ليست فيلسوفة، بل هي خريجة مدرسة الزقاق..

نط حاجبيه متسائلا:

- ما قصدك؟

فأجاب المحجوب دون تأن:

- إن امرأتك تتلقى تعاليمها من حليمة، هذه المرأة التي تفتح رجليها كل مساء، وتتحوم نساء الحي كلهن حولها: ينهلن من غثيان حكمها، وما من واحدة منهن قضت ليلة هنيئة مع زوجها..

فاجأه هذا الكلام الذي لم تستطع نباهته وفطنته الفلسفيتان أن تطلعاه عليه، لذلك عقب في استسلام:

- إذن، تلك العجوز الشعواء هي رأس كل شر وبلاء، هي سبب معاركنا التي لما تنته؟

- نعم. لقد قطعت وعدا ألا تتوقف حتى نأتيها خاضعين متوسلين حدبها وعفوها..

عاد المعطي إلى الشرود، فأخذ يفكر في فلسفة حياتية أخرى تسعفه مع زوجته، فتفتق ذهنه على شوبنهاور، وإن لم يشف غليله فتلميذه نيتشه. بيد أن المحجوب الذي علم بما يفكر فيه صديقه لم يأبه بشيء؛ لأنه يعلم أن حكمة النساء فلسفة محظورة على الرجال؛ إذ موضوعها كسب المعارك الزوجية، ومنطقها الخدعة والحيلة، ومفاهيمها الكيد وعدم النسيان؛ ومن ثم، خاطب صديقه المعطي بحسرة:

- إن معاركك خاسرة منذ بدايتها؛ لأن كيدهن بحر لا ساحل له، فداخله مفقود وخارجه مولود..

احتسا قهوتيهما ثم انصرف جهة الحانة، وأخذا يرددان:

-"درها في الرجال وترجاها، ودرها في النسا ولا تنساها".

***

محمد الورداشي

في نصوص اليوم