نصوص أدبية

فرات المحسن: حين شيعت من جديد أحلامها المتبقية

فرات المحسنالحلقة (2) من يوم آخر  في حفر الباطن

تنبهت لصوت خشخشة خافتة مرتبكة، فأدرت نظري صوب مصدرها. كان جرذ متكور مثل كرة صغيرة مصنوعة من خرقة قماش كالحة، يمسك بين يديه الصغيرتين قطعة من بقايا رغيف يابس، يحرك أذنيه وبوزه برشاقة سريعة حذرة. الأصوات البعيدة  للانفجارات  بين الحين والآخر تجفله، فيهرب عن رغيفه نحو جحره عند حافة الملجأ اليسرى تحت أكياس الرمل، ثم يتقدم بتباطؤ حذر متشمماً المكان، مقارباً جدار باب الملجأ حيث ترك قطعة الرغيف، ثم يتوقف رافعاً أذنيه الصغيرتين محاولاً التغلب على الخوف، بيد أن جوعه أنساه وجودي، أو أن وجودنا سوية وتشابه العيش طمأناه، فخرج للبحث عن الطعام، أو ربما كان ذلك نوعاً من التحدي الغريزي.

حركت جسدي، فلم تكن ردة فعله، غير رفع قامته ولحس يديه، وطالعني بعينين واسعتين كانتا تملآن وجهه المدبب الجميل، ثم خطا خطوة مترددة مبتعداً، وعاد يدبّ بحذر مرة أخرى نحو رغيفه دون خشية، مركزاً نظره نحوي طيلة الوقت .

طولـه يقارب العشرة سنتمترات. دقيق الجسد والملامح، ينتهي ذيله بخصلة بيضاء شاحبة تبدو تحت ضوء القمر قطعة صوف منفصلة عن جسده، تلاحقه عند الهروب ثم تجاوره بسكينة. وكما أقدامه الصغيرة تخط وقعها برشاقة، فوق الرمل الرطب، فإن خصلة ذيله تلك، كانت تتحرك خلفه مثل بندول ساعة جدارية. تمحو كل ما خُط ّ أمامها فوق الرمل. كان ذلك يجري وكأنه مسألة معدة سلفاً لإخفاء الآثار عن الآخرين. يتجرأ ويخطو نحو الرغيف بحذر وتوفز شديدين، وبخطوات رشيقة محسوبة، أما الخصلة البيضاء فلا تنسى واجبها.

تـُرى، أي خوف جعله يكتشف فاعلية هذا التمويه؟ أهو الخوف من أن يتعقبه الموت؟ أن يدب أو يسقط الهلاك من زاوية ما مقتفياً أثره ثم يسحقه دون رحمة ؟ ليتنا نمتلك بعضاً من حذره وقدرته تلك. أن نجد العون والقوة على أن نمحو خيبات ثقالاً نجرجرها دائماً وراءنا بإذلال.  نريد نسيانها أو إخفاءها، ولكنها من الحدة والرسوخ تنبثق وتقف أمامنا بضراوة. ومع ذلك ترانا نقاوم كي لا تهرسنا بشيء من الصلافة والمباغتة . فجأة نجدها أمامنا مرة إثر أخرى،  حادة، موجعة، مذلة. لا نملك القدرة على إخفائها أو نسيانها. ولكن أنستطيع فعل ذلك ؟ أنستطيع محو تلك الآثار المريرة ؟ وقبل أن تثار كل تلك الأسئلة، هل نحن على يقين من براءتنا فيما حدث ؟. سؤال صعبٌ جدا كان ذلك بالنسبة لنا جميعاً.

فعلت أمي الشيء عينه. أرادت أن تمحو خطوات الماضي. أن تبعد ذكرى أيام ليست بالطيبة، وأن تجدد حياتها. وّدت فقط، وليس لشيء آخر، نسيان ما فات، وتأكيد كونها ليست من النساء البائرات، بعد أن أحالها القدر عنوة إلى أرملة مع ثلاثة أطفال.

لم أكن وإخوتي قد خطونا بعد بعيداً عن صورة أبي. ولكن، وبشكل قسري رسمت لنا ملامح صبا غريبة. كنا ندرك جميعاً أن محنة أمنا كبيرة . كانت تصارع بضراوة ماضياً مسلطاً تحاول تهشيمه. قدر فـُرض عليها دون خيار. شيء من التجديد، وربما ضربة حظ غير عاثرة، توقظ بقايا النور في الزوايا المعتمة. محاولة لمحو خسائر متكررة رافقتها طويلاً، وتأكيداً لذاتها ووجودها كامرأة . كان حلماً ظنته يستطيع لملمة نثارات الطمأنينة المتشظية، التي حسبت أن الوقت ما عاد يكفي للحصول عليها.

لم يمض وقت طويل حين شيعت من جديد أحلامها المتبقية، صُعقت وخيّم حزن ثقيل فوق روحها.كان انتشاؤها جد قصير، استنزفت معه جل طاقاتها فاختارت في النهاية الصمت. الصمت ولا شيء غيره. صمت راكد ثقيل يفترش زوايا البيت كأنه فطر شيطاني دبق لا فكاك منه. تستوحشها الأمسيات كثكلى، فتنزوي عند التخت متكئة لجدار المطبخ، تجول بنظرة بلهاء فضاء الدار. تجتر الذكريات كلعنات تطأ أيامها دون رحمة لتحيلها رماداً جهنمياً كثيفاً يسد كل المنافذ. خواء لا متناهٍ يشرع الأبواب ويزحف بلزوجته فوق الحيطان.

كنا معها نودع دغدغة أحلام، ونداري ألم الفضيحة بروح صبية تتسارع حولهم الأحداث دون فطنة. وحين أدركنا الأمر اخترنا الصمت أيضاً. بدا لنا مقنعاً جداً دثارنا الكاذب ذاك. ولكن ملامح الأحداث المتعاقبة بدت أكثر تشابكاً وإيلاماً. كانت أقدامنا تنغرز ثم تغور عميقاً في أكذوبة صمتنا، دون أن نستطيع اللحاق ولملمة ما تبقى. كنا فزعين من أن نفقد شيئاً ما، حلماً ما. ظننا دائما أنه قادم وربما يستره الصمت ويحميه لحين.

 من العسير أحياناً اكتشاف الدناءة، ولكنها في النهاية تسفر عن نفسها دون مواربة. فقد بدأ رجل الدار الجديد يختزل الزمن سراعاً،  ليكشف بدفعة واحدة وبصلافة مقيتة عن كامل بذاءاته. كان صمتنا استسلاماً يائساً. وقد أقنعه تيبس التساؤلات في حناجرنا برضانا التام عن كل ما يفعله. أيقن بفطرته الخبيثة أن إرثنا الوحيد هو الصمت، وكان يكفيه ذلك ليفعل ما يشاء.  

لم يحدث أن ناقشنا الأمر. فعلنا ذلك دون أدراك لوجود مبررات مقنعة. كنت متأكداً في اعتقادي  ذلك. وكان الشيء الأكيد بالنسبة لي، أننا جميعا نحمل نفس المشاعر والتبريرات لذاك الصمت. توضّح لي الأمر بشكل أكيد، حين أسرّتني سمية بشيء من الاستحياء أنها لن تقبل الزواج بابن أخته، وبأنها لا تشعر بأدنى عاطفة نحوه أو الأحرى تكرهه. كان صوتها خافتاً متهدجاً. وحين رأت غضبي وسمعت رفضي العلني لهذه الزيجة صمتت بدهشة وفزع، وكانت تنظر نحوي بعيون ضامرة قلقة، وكأنما تتوسلني لأكتم صوتي وسرّها الذي أباحته. كنا سوية نسير وسط السوق المزدحم، متوجهين إلى أستوديو التصوير لالتقاط صورة لسـمية بمناسبة دخولها امتحان البكالوريا. ولجنا باب الأستوديو ثم صعدنا الدرج الحلزوني الضيق، صامتين بحزن منهار. لم ألحظ كم طال صمتنا حين تنبهت لأقدام المصور وهما تصدران ذاك الإيقاع الراكض فوق السلم المتصل بغرفة التصوير. جلست سـمية أمام آلة التصوير، وبخجل ظاهر ألزمت نفسها بابتسامة شاحبة، حين طلب منها المصور ذلك. عندها برزت الغمازتان العميقتان وشعّ وجهها المدور الجميل، وعيناها الواسعتان، ولكنها بقيت تتحاشى النظر نحوي. وصلنا البيت صامتين. طوال الطريق لم نتحدث حول الموضوع أو عن أي شيء آخر، وكأن ستارة حديدية أسدلت بيننا. كنت متأكداً أننا نمارس نفس الحوار الداخلي ، حيث تتقافز الأسئلة في صدرينا متسارعة دون أن نجرؤ الإباحة بها. فتنهمر الحقيقة المفجعة  جوارنا دون أن تهز ركودنا المقيت.

كنت خائفاً أن تصبح سـمية مثل أمي و ندخل طوعاً، واحداً إثر الآخر، قبوراً أسمنتية باستثناء عيوننا. فقط عيون متلصصة تكون دائما لاهثة بالفضول ومصدراً لاستثارة الأسئلة، أما أجسادنا وأرواحنا فتبقى مكبلة خامدة عاجزة ووضيعة.

لم أكن أشعر بأني قادر على إدامة أي حوار معه، وهو بدوره لم يرغب بذلك أبداً. ورغم أني لا أشاهده إلا في المساء، فقد كنت أتحاشى مجالسته وأحاول إيجاد الأعذار لذلك رأفة بأمي.

ولكنه في هذه المرة صعق حين حدثته بصوت مباشر واضح جلي وعال، بأننا جميعاً لا نريد زواج سمـية من ابن أخته. وكمن كان ينتظر تلك اللحظة، طالعني بنظرة وحشية ثم انفجر صارخاً.

ـ لملمتكم من اللاشيء واليوم تجحدونني … أولاد الأرملة.

لم أحتمل جملته تلك فصرخت في وجهه.أطلقت فتوتي من أسرها فصدمت زهوه، سحبته بكلتا يديَّ  نحو الجدار وأطبقت كفي عند حنجرته فكان مستسلماً كلياً وطوع يدي. لم أطالع وجهه سابقاً عن قرب، ولم أنتبه لتلك الأخاديد التي تعج كدراً ولؤماً مثلما هذه المرة. ولكن أخي كريم سارع ليزيحني جانباً.

حين تحررت حنجرته، أختلط صراخه الأجش بعواء مسعور.

ـ اخرج ابن الزانية ،لا مكان لك في هذه الدار.

طالعت وجه أمي فكان صمتها بارداً كئيباً، وعيناها سارحتان معتمتان، تحدقان في السماء كأنهما تريانها للمرة الأولى.كان الصمت يحلـّق فوق الرؤوس مثل الشيطان، صمت كلسي أصفر ثقيل. كل العيون تتفادى نظراته وتطأطئ، تحفر في الأرض لوماً واستغاثة من جرأتي. كذلك سـمية. كان وجهها الشاحب بدون عيون، يبدو وكأنه طلي بالكلس. تائهة تلوذ جوار باب المطبخ وكأن الأمر لا يعنيها. أما كريم فكان يقف بجانبه مرتعداً يتوسله أن يخفف من حدة انفعاله وأن لا يجهد نفسه.

 كان ذلك اليوم آخر عهد لي مع البيت. خرجت صامتاً أجرجر مذلتي مثل حصان هرم. تائهاً تبتلعني الأزقة.  الناس يمعنون النظر بي. لم أشعر بالخجل بالقدر الذي أحسست أن جسدي كان مطلياً بالكامل جبناً ومذلة. عرفت أنهم شموا رائحة ذلي وجبني، فراحوا يتفرسون ذاك الفتى الذليل الخاوي من فتوته والذي هرب عند أول مواجهة. وكنت أسمع همساتهم وكأنها صادرة عن جب عميق.

  كنت مدركاً بأني اتخذت القرار الذي سوف يغير الكثير من الأحداث، ليس بالنسبة لي فقط وإنما للعائلة جميعها. ولكن الشيء الأكيد هو أنني اخترت عدم المواجهة أو لأحددها بمعناها الحقيقي، اخترت الهروب. لم أشعر حينها بأثر من ذلك وتيقنت أن بقائي سيكون مساومة كنت عاجزاً كلياً عن قبولها وممارستها.وفي قرارة  نفسي، ورغم شعوري بتخليهم عني، فقد شعرت بالرضا وبأني استطعت أخيراً أن أزيح غماً ثقيلاً، وددت إزاحته والابتعاد عنه منذ فترة طويلة، كانت أغلب مسبباته مقتي الشخصي لسلوكه، معاملته السيئة لأمي وسمية، آراءه وتبجحاته الخرقاء الكاذبة، مزاجه المجنون المتقلب وكلماته الآمرة المعربدة، ضربات كفه الثقيلة فوق المنضدة أو حافة التخت، صوت شخيره ولهاثه الحاد.

ولكن بعد ساعات من التيه أحسست بالوحدة. وحدة تامة مغلقة، أسير فيها تحت سماء عارية مفتوحة تتدلى منها وجوه سعالٍ مكتنزة بمحاجر وأفواه تعجّ بزحمة من صراخ يصمّ الأذان.

يتبع

***

فرات المحسن

 

في نصوص اليوم