نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: النفق

قصي الشيخ عسكرالفصل الخامس من "صفرة ما على الجدران"

بعد بضعة أيّام راودت رياض فنجان موجة حادة من المنجلي، ساعتها كان جمال شعيب في شارع النورو برو يتبضع من مخرن البطة بعض لوازم البيت، وقد مرّ بالمحل المغربي الذي يبيع البضائع الشرقية فتعمّد التوقف عند الباب والتمعّن في الحادث. مازال السخام واالزجاج المكسور ربّما استفاد من خبرته في الحرب الأهلية اللبنانية فأدرك أن صاحب المحل هو الذي قام بالحرق.

لامجرّد اتهام.

.كم جاب الشوارع في بيروت وكسر محلات واقتحم بيوتا من باب التسلية الجميع يفعلون يسرقون ويقتلون فهل يبقى شكّ في نفسه حول المحل وحرقه الذي لو لم يكن بهذه الصورة لابتاع منه بعض أقداح الشاي وإبريقا للغسل وهدية قرآن للبركة وحالما غادر الدرب Allersgade مواصلا سيره نحو محطة نوروبرو وجد على الرصيف اثنين يرتديان الزي ّالأفغاني يتطلعان في الوجوه فيقتنصان أصحاب الملامح الشرقيّة، في لبنان نفسها حيث أدرك الحرب لم يكن ليعنى بالسياسة وهاجر إلى أوروبا مع من هاجروا.قال لها هناك ستكون حالتنا أفضل مستقبل الأسرة وولدانا والأبناء الذين يولدون أما ابنة الكلب التي نسيت كل ّشئ باعته وباعت مذهبها واقترنت بسلفي..

هل أسلمت على يديه من جديد؟

أم يلعنها بل يلعن الحظ.. يبتسمان في وجهه فيظنهما لاجئان جديدان هربا من إفغانستان.يسمع أن روسيا انسحبت والمجاهدين عادوا إلى كابل.مسألة لاتعنيه وهذان الأفغانيان يوقفانه:

الأخ عربي؟

اللعنة!!!

نعم هل من أمر!

نحن من السعودية جئنا في زيارة قصيرة يوم الجمعة لدينا محاضرة في المسجد الكبير قبل صلاة الجمعة.. لو تكرمت بالحضور..

واصل سيره من دون أن يعلق.. جامع أبي اللبن السلفي مرة أخرى ولداه وزوج طليقته ثم جاء دوره هو.. ياللسخرية.. لم يرق له أن يذهب إلى شقته بل مال نحو شقّة رياض.. ضغط على الجرس وبعد لحظات سمع وقع أقدام وصراخ..

صراخ حاد

صيحات

أنين حاد يصدر من الشقّة أصابه بالذهول..

انفرج الباب فقابله وجه رياض الشاحب.. أصفر كالزعفران.كان يمسك ذراعيه.. ويصرخ.أو يضغط على كتفيه.. جلس وواصل الصراخ فانحنى جمال يرفعه.. فاستند إليه:

مابك؟

نوبة.إنها نوبة..

هل اتصلت بالمشفى..

لا فائدة لن يعطوني دواء عندهم هنا الأمر عادي حتى تأخذ الكريات التي تتكسر دورتها

لم يتوقف الصياح الذي يعقبه دائما أنين.. وتشنّج

طيب نقل دم أنا مستعد أن أتبرع لك إن كانت فصيلة دمي تناسبك

محال في أثناء النوبة.لاشئ غير إبر السيسيكون.. أو أرجوك..

طيب سأخرج وأعود إليك سأدبّر لك.لاتقلق

دقائق وتوقفت سيارة الأجرة في كريستيانيا.. الوجوه الشاحبة المحلة القاتمة ذات البيوت القديمة، الشوارع المفتوحة، مهرجان التجمع الأسبوعي.. وشجرة التوت الضخمة التي قد تكون الوحيدة في كوبنهاغن.. أهي المرة الأولى التي صحبتهم فيها لجنة اللاجئين إلى هذا المكان كانت الدهشة تعلو وجوه الجميع من أفغاني شاب صاح هذه في بلدي ثمّ نطّ مثل القرد بين الأغصان وأخذ يلتهم التوت بلذة غريبة.. ليست الوجوه بغريبة عنه، وفي كريستيانيا الحشيش ليس غريبا قطّ.. قصد المقهى وتطلع بين الوجوه لم يجد بينهم عربيا لا أحد من الجزائر أو المغرب هؤلاء الذين ولدوا في اسكندنافيا أو جاءوا مع عوائلهم وهم أطفال يبيعونك الحشيش ويتبجح أحدهم إذا سألته مصادفة عن الحلال والحرام أنّه أقسم أن يبيع السمّ لهؤلاء الكفرة وعثر في بحثه على شاب أفريقي الأصل في العشرين من عمره يبدو أنه نصف نائمٍ أو نصف صاح، غمزه بحاجبه، وكان يعود يستقلّ سيّارة أجرة وفي جيبه قطعة تختفي معها الآلام:

هل أخبر زاهية؟

قد تقلق

غدا إذ ألتقيها

لكن أسرع الآن؟

أرجوك أسرع

جلس على الأريكة وترك رياضا في الفراش يصرخ، بسط قطعة الحشيش على المنضدة وجعل يمررها على لهيب شمعة فرش التبغ والورق.. مطّ قطعة الحشيش واقترب من السرير، سحب نفسا عميقا وقال:

جلبت لك كمية تكفيك يومين

حين أغادر السرير أذهب إلى المصرف فاسحب نقودا لأسددك

الآن اترك الموضوع انس التفكير في النقود إنها في المصرف لن تهرب.إسحب نفسا عميقا ولا تنفض الرماد

كانا يتناوبان على السجارة راحت الآلام تخفت مع الأنفاس المتلاحقة والصراخ يتلاشى..

العالم بعيني جمال يصبح أليفا

وجسد رياض ينفض عنه الألم:

 أنت بالضبط أخي.. هكذا كان أخي يفعل يأخذني إلى المشفى فيعطوني السيسيكون.زآه في الحرب لا أحد يهتم بك.. طظ بها طظ بكل شئ

سأبيت عندك

نعم لكن أين زاهيه قد تعرف بعد شهرين

قلت أخوك هل هو بالرضاعة؟

لا أدري غير أني سعيد ليس هناك من كريات حمراء تستفزني (ملأ رأيته من نفس طويل) الله ما أجمل أن تكون من دون ألم.

أخوك سعيد

أخي عبد الجبار هو الذي يجلب الإبر

فكّرت أن أشتري فيديو فأوجّر كاسيتات من المحل العربي لكنْ أخو الشرموطة أحرق المحل!

تأمين أنا عندي فيديو وزاهية عندها.

حسنا سنراه عند الجميع

فقال رياض وقد بدأت عيناه تثقلان وشفتاه تسترخيان:

لكن لا تسلّم زاهية وإن احترق المحلّ شريطا فيه محمود المليجي هي وحدها في الشّقة وتخاف أن يقفز إليها من الشاشة فيذبحها؟

حقّها والله

تظنّ وجهه مثل الثعبان

أخو الشرموطة! محمود المليجي مجرم!

وقد استفاق مبكرا في الساعة الرابعة صباحا.ليجد نفسه على الأريكة في الصالة وكأنّ تيارا لهواء ساخن يلفح خاصرته. ليست هي المرة الأولى التي يدخن فيها.. ومن حسنات هذا المخلوق العجيب الشبيه بالطين الصناعي أنه لا يجعلك تدمن مثل المورفين والمخدرات.

يقنع نفسه أنّه على حقّ فيما يقول وأنّ لرياض الحق في أن ينسى الألم بالحشيش ويصلّي عند القبر الذي يعلوه التاج العربي وأن لمحمود المليجي الحق كلّ الحق أن يخيف زاهية بعينين غاضبتين ووجه أفعى، وقد وضع في السجارة قطعة لو دسّها لفيل لنام أحلى نومة فكيف بطريح مرض لا يرحم أشدّ فتكا من السرطان وأقل خطرا منه كان يشعر بنهم شديد إلى الحلوى.

رغبة جامحة.

ذهب إلى الثلاجة فوجد علبة فيها بقايا من مربى خرط أحشاءها بسبّابته فازداد رغبة للحلوى، تذكّر محل رقم 777 المناوب طول اليوم.. يضحك رياض فنجان كلما عبرا الشارع ووقع بصره على 777 يغمز جمال ويقول والله لو طلب المطرب أبو خالد اللجوء لفتح محلا ب ثلاث خمسات 555 واحتاج جمال بعض الوقت ليفهم قضية الأرقام تلك هذه المرة أطلّ من باب الغرفة، وهو ينفض بقايا الحشيش من رأسه، فوقع بصره على رياض.كان يتنفس كملاك هادئ.. لعنة الله عليكم أيها الدنماركيون لو عالجتموه بالمسكن لما احتجنا لكل ّهذا التعب. وكلّ هذه الصرفيات سواء من محل السبعات الثلاث أم من المحل الآخر لكن لن تعاودك ياصديقي الآلام إلّا قبيل الظهر.. لو كانت لبعير.. لا ليس بعيرا.. فيل بالضبط.. فيل لرقد نهارا كاملا.. من حسنات الحشيش أنه لا يجعلك تدمن..

أبدا..

والعياذ باللهّ!

لن يلتصق بك مثل المورفين..

هبط الدرج إلى نيروبرو راح يحثّ خطاه نحو المحلّ المناوب.. اشترى علبة مارس.. وبعض البونتي.. التهم بعضها قبل أن يخرج من المحل.. كان يشعر بخفة وبعض الدوار قتام وشئ من اليباس في مفاصله.. فبعثت في جسده قطع الحلوى حرارة ألهبت نشاطه فاستند وهو واقف إلى الجدار والتهم قطعة أخرى.

لم يحسّ ببرودة الجو.

ولا بقسوة الفجر التي تصبغ زجاج السيارات الواقفة بصقيع شفاف.

وكانت المصابيح لما تزل تغالب العتمة ولفتت نظره فتاة تترنح على الرصيف الآخر، وتهبط الدرج المقابل للمقبرة من جهة بابها الجانبي الخلفي، فانتبه إلى وازع يدفعه لقضاء حاجة نسيها طول الليل وحاصرته الآن.. شدّه فضول إلى المكان إذ لم يفكر أن يهبط إليه يوما ما إذ كان يذهب إذا اضطرّ إلى دورة المياه في كافتريا فوتكس وماكدونالدز، عَبَرَ تقاطع الشارع وهبط السلم، فأطّلت عليه رائحة غريبة وحوامض.. داعبت أنفه حموضة، ومع آخر درجة في الممرّ العريض أبصر حاوية إبر على الحائط لا تبعد عن المغاسل سوى بضعة خطوات وثمّة فتاة تجلس القرفصاء تتطلع في السقف كما لوكانت في فضاء ترصد النّجوم، وعلى بعد منها يضطجع على جبينه شاب ذو ملابس رثّة انحسر كمّ قميصه إلى مرفقه فبانت بعض جروح في ساعده ونتوء.كانت هناك إبرة مرمية أسفل المغسلة التي في الواجهة.. الشاب يرقد في غيبوبة عميقة.الصاحية من بين الثلاثة الفتاة التي أبصرها تهبط ثم تبيّن ملامحها من خلال الأضوية القاتمة الصفراء..

مفتولة..

مدورة الوجه..

ذات تقاسيم حلوة عينان واسعتان وغائبتان في الوقت نفسه.نسي أنه هبط ليتبول فتطلع إليها طويلا.

نصف مخدّرة

تبحث عن شئ ما

اتجهت نحوه، وقتها تلاشت من أنفه الرائحة الحامضة ونتانة المكان.قالت بصوت غائب حاضر:

Kan du lide at kysse min skulder*

لم يفهم.. ابتسم:

What?

Would you like to kiss my shoulders

حسرت عن كتفيها وقالت

Kiss… money twenty kroner

أمام فرصة لا تعوض..

تتعاطى وتروم نقودا لحقنة..

 دست النقود في جيبها واقتادته إلى أول مرحاض فلمح وهو يمرق من الباب صورته وصورتها في المرآة معفرتين بصفرة الضوء القاتمة.. فتحت حزام سروالها الكاوبوي فانحسر إلى الركبتين..

لم يتآكل جسدها بعد من الحقن..

مثيرة حقا

ناعمة..

بنات الكلب الاسكندنافيات.. خارقات في الطول والجمال.. وفيه عطش شديد ورغبة.منذ الطلاق لم يلمس امرأة اللعنة عليكن ثلاثتكن ابتهال.. سالمة وربما معكن زاهية.. اللعنة.. ردّت غطاء المرحاض واستدارت استندت بيديها إلى الحافتين ودفعت بجسدها نحوه، لمس ردفيها:

حرير..

كان يلهث..

ويلهث

ثمّ

يصعد الدرجات إلى الهواء الواسع.

هاهو يكتشف مكانا جديدا يأوي إليه قبل شروق الشمس كلما هاج به ذلك الإحساس الخفي.. ماقيمة من عرفهن من قبل ربمّا يستثني زاهية التي استطاعت أن تتخلص من السحر والسحرة فهل ينهض مبكرا من عزّ نومه ليهبط سلّم دورة المياه حين يحتاج إلى امرأة. أنت أمام معادلة جديدة تصحو خلالها منذ الفجر قبل شروق الشمس بساعات بخاصة في ايام الشتاء:

تنهض قبل الخامسة فتلحق حافلة تقصد الحدود الالمانية للتسوّق

أو

تفيق مبكرا لتضاجع فتاة في دورة المياة القريبة من سكنك مقابل عشرين كرونة.

لا يمكن أن يختار كلا الأمرين في وقت واحد!

جرّب أن تدسّ في يدها عشر كرونات هل تحسّ أم تتجاهل أمّ ترفض؟

كان رياض مايزال نائما يتنفس بهدوء وأمان.لاينكر أنّه شعر بقلق قبل أن يعود إليه من دورة المياه.

ماذا لومات؟

هل يتحمّل الذنب وهو يعرف جيدا أن الحشش أليف لا يقتل كالمورفين ولا يدفع للتسمم كالكحول.. لو في حالة الموت لاشئ يدعو للقلق.. سيرد ّالباب ويذهب إلى شقته كأنّ شيئا لم يكن يسترخي على فراشه قيهرب من شبح الموت الذي في الطابق الأسفل بنوم طويل. وشعر بارتياح أنّ صاحبه مازال حيّا ثمّ انتبه أنّه أتى على كلّ قطع الحلوى وربما يحتاج رياض الذي افترضه ميتا وهو حيّ لبعضها فهزّ رأسه وتمتم : ليصح أولا عندئذ سيتذكّر أنّه نام من دون آلام.. لم يدر ماذا يفعل.. صعد إلى شقته ونعم بحمام دافئ ثمّ نزل إلى شقة رياض.. أبصر من نافذة الممر الفجر يهبط فتتّضِح معالم المدينة تحت ستار من الضباب الخفيف، أمّا رياض فكان مايزال ييئن ويصرخ لكن يبدو أنّه صراخ أخفّ حدّة من زعيق الليلة الماضية.

كأنّه يطرد شبحا كئيبا للموت خامر عقله حين عاد من الشارع قبل ساعات :كنت تغط في نوم عميق مريح طول الليل.. هل أعمل لك فطورا؟

لا أرغب في شئ؟

قال على الرغم من أن وجه رياض مازال شاحبا:ماشاء الله وجهك اليوم يبدو أقل تعبا.

انتهى نصف النوبة وفترت قسوتها.اليوم والليلة فقط وغدا إن شاء الله ينتهي كل ّشئ.

قل إن شاء الله.

بحول الله (صكّ على أسنانه يكبت بعض الآلام وتساءل): هل اشتريت مايكفي؟

عندك حشيش بمائة كرونة.لكن لابد أن تأكل.. هناك بيض في الثلاجة وجبن وإذا احتجت إلى مربى أو حلوى أنزل ابتاع لك حالما يفتح Netto.

لا تتعب نفسك لا داعي هذا يكفي مايهمني هو الدخان السّاحر الذي يجعلني أرقد من دون ألم، ولولاك لكنت اتصلت بالإسعاف لأقضي بضعة أيام في جحيم مع الآلام هناك (كزّ أسنانه مرّة أخرى وغادر إلى دورة المياه وعاد مبلل الوجه واليدين):

ماذا تفعل؟

سأقضي ما فاتني من صلاة!

حقا ؟أهذا وقتها؟

لم يجب لكنه راح يلهث من الألم ويتلو صلاته قبل أن تعبق الشقّة برائحة البيض والدخان من جديد.

***

قصي الشيخ عسكر

...........................

* هل تقبّل كتفيّ

في نصوص اليوم