نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: انغماس في لحظة عسيرة

محمد الدرقاوي(التمفصل الثاني من قصة: انغماس)

متمددة على فراشها، لفيف هواجس، تعتمل في دواخلها بين طيات السَّحَر، اعتمال حفيف الشجر من حول البيت القروي بين رياح متقلبة في ليلة من ليالي الخريف، عيونها تحفرسقف الغرفة، تغزل أفلاما، صورا وأحداثا،  تنبش عن آمال، رجاء وتوسلات، لاتغيب مسامعها عن مؤذن الفجرالذي يزرع فيها نوعا من الأمن والشجاعة. خطوات تكسر صوت الآذان، تقطع الطريق الى المسجد الصغير المقابل لبيتها.تنهض من فراشها،  اطلالة على الطريق كأنها تتأكد من أن كل من تعود السعي الى الفجر قد دخل المسجد؛اهتزازات اضواء الشموع تؤكد لها أن الامام قد وقف للصلاة مع صدى الاقامة يردده أحد المأمومين؛ تتراجع، تحمل حقيبة صغيرة، تسير على رؤوس اصابعها الى الباب، فترفعها قليلا الى اعلى حتى تمنعها من صريرمعهود وهي تحتك بالأرض ثم تنسل بلا حس، ترافقها دموعها وغير قليل من خوف تتعثربه بين كل خطوة وأخرى.

فجر مبلل بالندى، تغشاه أصوات الديكة وثغاء الغنم في الحوش، وبعض من نباح الكلاب ترد الصدى.. أمامها أزيد من ساعة قبل ان تشرع الشمس في التعري من سوادها، هو وقت كاف للوصول الى موقف الحافلة التي تجتاز القرية الى المدينة.. تلحفت بإزار أبيض، وعلى وجهها رمت شالا صوفيا مخططا، لا تظهر منه غير عين واحدة،  تتحاشى أن يعرفها أحد، إذ عليها أن تحتاط من كل صدفة قد تهدم ما خططت..

تشيع سكنى توأم روحها بنظرة عميقة من أسى

وبحرقة تلهب صدرها، ودمعات وهي تقطع الطريق الى مكان وقوف الحافلة :

"لحظة عسيرة أودعك فيها آيمنو(حبيبي)، وأنا مدثرة بالخوف من الهزيمة، تمنيتك معي قوة تحميني، نرحل معا، ومن قنديل وجعنا معا نستمد القوة و الضياء، ليتني ألملم جسدك بالقبلات، أشفي ذاتي من سطوة التحكمات وأبوية التأمرات.. أودعك وأنا بك واثقة، ، وسأظل أني في صدرك سأعيش محمولة كما أنت الآن والى الأبد، لم يكن في مقدوري أن أفرض عليك مرافقتي في مغامرة، أنانية مني، ذاك ما تأباه تربيتك، وظيفتك، ومسؤولياتك نحو والديك وتقاليدك، لأكن الضحية، المهم أن تظل أنت في أمان من أبي، وممن زوجوني اليه بالقوة من بداية طفولتي بلا ارادتي ولا اختياري. بك واثقة، ثقتي بحبي الذي ملا كل ذرة في نفسي،  و من أجل هذا الحب، وما يتحرك في أحشائي منك، يلزم أن أغادر، متحدية كل الضغوط، أن أفك كل الخيوط بعيون مفتحة،  حتى أحررك من أن تصير مضغة سائغة في أفواه الأغبياء من أهلي "..

تسع ساعات والحافلة تدك متون الارض لم تقف غير مرتين للراحة والصلاة ، كان الجوع يحرك معدة يطو بغرغرات تقاومها بشرب الماء فهي تخشى أن تنفق درهما مما تملك، وما تملكه قليل بالنسبة لبنت تغامر بسفرة لأول مرة في حياتها من شمال المغرب الى جنوبه بقليل خبرة وزهيد مال..

تذكر يطو خالتها، صورة واضحة عن أنثى كانت تياهة بجمالها الأمازيغي، ترفض أن يتحكم فيها أي كان بأبوية وتسلط ، وكونها كانت يتيمة تعيش في كنف زوج أختها بخير من أبيها فليس معناه أن ترضخ لأوامر لا تلبي طموحاتها، وحين فرض عليها أبو يطو ابن عمه العسكري كزوج رفضت باصرار،  متحدية أن تصير رمادا يتطاير بأوامره، من يومها بنت بينها وبينه جدارا اسمنتيا من الكراهية من شدة ما ضايقها، وفضلت أن تغادر بيت أم يطو متنازلة عن كل ما تركه أبوها،  متعلقة بأستاذ أحبته ما أن تم تعيينه في الدشيرة الجهادية حتى رحلت معه بلا اذن ولا اخبار، حينها كانت يطو في الخامسة من عمرها، تلتقط الأحداث بصمت حبة حبة..

تعرفت يطو من حديث عابر مع أمها أن الخالة لازالت في الجنوب الا أنها قد غيرت سكناها ، كما استطاعت بذكاء ان تعرف اسم زوج الخالة..

لم تكلف يطو نفسها كثير بحث ولا دوران، فقد قصدت احدى المدارس وسألت عن اسم زوج الخالة ، من حسن الصدف أن مدير المدرسة دلها على حارس عام إحدى الثانويات يمكن أن يكون المقصود بالسؤال.. وهي تنزل من سيارة الأجرة رات خالتها مقبلة تمسك بيد طفلة صغيرة..

استغربت الخالة من وجود ابنة أختها أمامها، لم تلتبس عليها صورة الطفلة التي تركتها وهي تترك القرية، عشر سنوات مرت، تفتحت فيها أنوثة يطو وصارت صنما للفتنة ينتصب أمامها، يعيدها بالذكرى الى يوم الهروب ،  فأن تترك يطو القرية وتسافر وحدها  فمعناه أن أبا يطو يكرر نفس تحكمه مع بنته كما حاول معها، إذ ليس ليطو أي سبب يجعلها تغادر القرية وحدها وهي التي لم يسبق لها الخروج ابعد من مدينة صفرو أيام السوق ..

ظلت يطو في حيرة ، هل تخبر خالتها بحملها ؟ كيف ستكون ردة فعل الخالة ؟ وزوجها هل يقبل ان تقيم عنده ويتحمل هذه المسؤولية ؟ "كيفما كان الامر فلخالتي تجربتها التي قد تنفعني، ويلزم أن تكون على علم لتتصرف قبل أن تكبر بطني"..

لم تستغرب الخالة من أمر بنت أختها، فقد لاحظت منذ حلولها ضيفة عليها، تثاقلها الصباحي، وميلها للنوم، وحالة من الاكتئاب تهيمن عليها بين حين وآخر ؛ لكن ما أقلقها هو كيف تسوق الخبر لزوجها الذي لاتنكر تعلقه بها،  وعيه وتفهمه، ومن الصعب أن يقيم ضجة قد تأتي على سمعته المهنية في منطقة كل ما فيها يخضع لطقوس الأعراف والتقاليد، لكن هل يصمت على صاحب الفعلة؟

وفاجأها : لن أنسى سلوك أبيها معي فهو من النوع الذي يمهد للخطيئة، يصر عليها ولا يحاول أن يتجنبها، استعدي لنرحل يومين الى تارودانت وتقيم يطو مع زهوة أختي الى أن تضع حملها..

عاشت يطو مع زهوة، أنثى مقعدة، لكن بقلب من رحمة ونفس من طيب الجنان ، عوضت يطو حنان الام التي كلما اشتاقت اليها بكت بين أحضان المرأة الطيبة..هما معا كانت تساعدهما طالبة يتيمة تتابع دراستها بالثانوي فكانت ليطو كأخت قريبة من نفسها، ساعدتها منذ الوضع الذي أتى قبل الأوان بطفلة على تربية الصغيرة تيليلي حتى استقامت حالها..

استطاعت يطو بمساعدة زوج خالتها أن تجد عملا في دار دولية للمسنين، وقد وجدت راحتها في هذا العمل تقضي فيه ايامها بأداء الأنشطة اليومية والاهتمام برعاية عجزة من مختلف الديانات والأجناس، تسهر عليهم منظمة دولية بنظام نصف تطوعي..

كثيرون من انبهروا بجمال يطو فتقربوا منها طالبين يدها، لكنها كانت ترفض بإصرار فهي لا تتصور ان تحب او تسرح عيونها في عالم غير من يقيم في كيانها، يحفر صدرها وعقلها بالليل والنهار، قانعة بثمرة حبها تيليلي حياة تطوي نفسها في ثناياها ولو من خلال دموعها وغربتها، لكنه حب لذتها الملتهبة ورجاء لن يموت في صدرها...

قصة يطو صارت موضع تساؤلات وتندرأحيانا،  لماذا أنثى جميلة مثل يطو ترفض الزواج ؟ وفوق هذا فهي ليست من النوع الذي يتحدث عن نفسه فتفصح عن مكنون شغل الكثيرين بفضول..تعيش يطو هائمة مع إحساساتها تملأ كيانها، منشغلة عن كل ما تلتقطه أسماعها  باثر لحبيبها مكين يحميها ممن سواه..

كانت يطو تسافر من وقت لآخر و خلال أيام العطل المدرسية ترافقها تيليلي في رحلات قصيرة عند خالتها، أو لورشات تدريب تنظمها المنظمة الدولية في بلاد أخرى، وقد تعودت أن تفرض وجودها كعاملة نشيطة تقرأ وتبحث، تستوعب بسرعة وتنتج أفكارا جديدة.. درست يطو بالليل وتعلمت فصارت في ميدان عملها اطارا بحنكة وحيوية وروح ابداع وقد واتتها فرصة فقبلت عملا تحت اشراف الأمم المتحدة في كندا وجدته مناسبا لطموحها فغادرت تارودانت الى كندا..

تنمو تيليلي، تشب وتصير صورة من أبيها لا تحمل من أمها غير لونها القمحي، لكن بنيتها ضعيفة، فولادتها قبل الأوان قد اثرت في نموها وصحتها ؛ لم تستطع إتمام دراستها،  فدفعتها يطو الى التدريب على مهنة التمريض بإحدى المؤسسات الخاصة..وقد تعرفت على شاب من أصول جزائرية تزوجها، لكن سرعان ما انقلب سلوكه نحوها ربما ضيقا بصحتها وطمعا في مال جدتها وراتبها الذي كان يفرض أن يمر الى حسابه البنكي خصوصا لما أعلنت تيليلي عن حملها،  فشرع يستعمل معها غير قليل من العنف اللفظي الذي ناهضته يطو، رفضته بقوة لأنه مسلط على أحب الناس اليها، ذكرى عمرها الوحيدة وما خرجت به من دنياها،  قاومته يطو الى ان اندحر الزوج مدموما محكوما بسجن اثر عنف يدوي مارسه على تيليلي ذات ليلة..

أياما صعبة عاشتها يطو مع تيليلي قبل ان تضع حملها ومن حسن حظها أن المزدادة كانت بوزن جيد لكن ما أن لفظها رحم الام حتى لفظت الأم أنفاسها..

قدر يطو أن تهب الحياة ولا تحياها وأن تعتني بالمواليد اعتناءها بالعجزة ، ذائبة في خدمة غيرها لا ترى حياتها الا سرابا تفنى بين الذكرى والأمل، قدرها أن تحيا بقلب يتصدع بلاصوت وينفطر بصمت، خانها الحظ في اكتمال سعادتها بحبيب عمرها وها هو يخونها في موت اعز ما انجبت منه وبه فازت.. لم تحس بانسحاق قلبها يوم سمعت بموت أبيها ثم أمها من بعده  مثل ما أحسته حين أبلغوها موت تيليلي بعد وضعها، فتيليلي كانت حبلها السري بين قلبها وطيف حبيبها..هذا الطيف الذي يأبى أن يسأل أو ربما يسأل ولا يجد من يومض له بقنديل، فهي تعمدت ألا تترك خلفها أثرا يدل عليها. أبوها كان قلبا من صخر لا يلين الا لرغباته، نارا لاتترك غير الرماد.. أما أمها فكانت أضعف من الضعف روضها الزوج منذ بنى عليها وهي بنت الثالثة عشرة..

أنهت يطو عقدتها في كندا، وفضلت العودة الى وطنها والحقيقة أن رغبتها أن تحيا فوق تربة يخطو عليها حبيبها تغنيها عن كل شيء ومعها الحفيدة ناديا بعد أن جمعت ثروة محترمة قادرة على فتح بوابة مشروع امامها ، ثم استطاعت أن تحقق في ناديا حفيدتها مالم تستطع بلوغه مع تيليلي لعللها وضعفها ، دخلت ناديا كلية طب الأسنان وتخرجت طبيبة مولت لها يطو عيادتها في قلب أغادير..

كان الحاج من زبناء عيادة ناديا، المداومين على مراقبة أسنانه عندها، منذ الزيارة الأولى أحست ناديا أن الرجل لبق أليف، وأنيق، معاملته لها بحميمية جعلتها تتعرف على مساهماته في التأليف المدرسي

وميولاته الأدبية الى أن تبادلا حديث الانتماء..

رجعت ناديا من عيادتها في وقت غير ماتعودت عليه، وجدت جدتها مابين دموعها تسيح على خدها وبين عمود الروح يكاد يفجر صدرها، سقتها ماء ومسحت وجهها بقطير الورد، بعد الحاح من ناديا قالت الجدة : أخذتني غفوة فرأيت شخصا عزيزا علي في منامي يتوسلني أن أمسك بيده ، رفضت من قلق وخوف،  فوجدته يهوي في وادي سحيق، يتمزق أشلاء فندمت ندما شديدا..

ضحكت ناديا وقالت : هو فعلا يمد لك يدا لكن اياك أن تمتنعي عن مساعدته..أليس هو الأستاذ الفاسي؟..

تفاجأت يطو اتسعت عيناها من اندهاش قبل ان تعرف سبب رجوع ناديا قبل وقتها..لم تصدق، واستغربت أن يكون القدرقد لوح اليها برضى بعد خمسن عاما.!!..

حين ارتمت بين أحضانه عند اللقاء داخل مكتب طبيبته احست كأن قلبها سيتوقف عن الوجيب، هوت على الكرسي ثم قامت وارتمت عليه وكأنها في لحظة انتشاء من لحظات ليالي القرية..

مرة وهي بين أحضانه تستعيد صباها ملتهبة بعد خمسين عاما بنفس سوط الحب لازال يعصر قلبها بشوق ودمعة عين.

قال لها : زوجيني نفسك

نظرت اليه طويلا، لثمت خده وتركت خدها لدموعها ثم قالت : وهل طلقتني حتى أتزوجك من جديد ؟ أنسيت ليلة الفض !! ؟؟..

قلت لي : فعلتها يايطو وانا لا أدري..

أتى ردي : أحسست وانكتمت، كلي لك حبيبي، اعصر واشرب وسدد رجومك في أحشائي..لا تبالي..

قلت لي : زوجيني نفسك

كان ردي : نفسي لك هبة وسخاء الى أن نلقى الله، أنا زوجتك بلا اعتراض وعلى غيرك حرمت جسدي والله علي شهيد..

استعاد الحدث فشرع يقبل يديها ويعتذر..قالت :

لم تكن المرحومة تيليلي الاثمرة ذلك العهد، وما أخذت مني غير لوني القمحي، أما لك فكانت الشبيه بكل تقاطيعك، لهذا كنت بها متيمة في حين أني وناديا كالتوأم المتطابق.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم