نصوص أدبية

محمد آيت علو: بــوح وانـتعـاش

محمد ايت علورجلان لا أعرفهما، وصاحب اللحية الكثيفة لم أره من قبل، والرجل المهيب ملامحه توجعني، أما الأقرع فوجهه ليس بغريب عني... وأنامل صبية تداعب سيجارة مرتاعة فيما يبدو من الرجال، ملسوعة، مبعثرة الكيان، من العزلة وغدر الرجال، ومن الضياع تدخن غليونها، ترتاد بداية ليلة مقمرة...، وسط الدم والذبائح والزغاريد، والشعرالمدلى، وإيقاع الطبول، و"قريقبة"، وصوت "الهجهوج" ممزوجا بتراتيل "العياطات"...، هي التي رأيتها ترقص على النار دون أن تحترق أقدامها المخضبة الحافية، تشرب الماء المغلي، والدخان كان يتسرب من قلبها...، ونحن جلوس على الأرض قرب نار متراصة اللهب، الأقرع عيناه تشعران بأعماقي، أحس بالزمن يتخطفني منهما وأفقي الواسع يشيخ، أعرف الآن كم قاسى، وكم ضيع من الأيام ليصلح أخطاءه، وهو الذي يفتح دكانا وسط السوق المزدحم بالباعة، وصاغة الذهب والفضة، وليس بالدكان سوى هاتف يدخل لاستعماله بضع دقائق، ويضيء المصباح ثم يغلق الباب الزجاجي وينصرف، ولا أحد يدري الحاجة التي سرها في نفسه، ولا حديث الناس إلاالأقرع، المتأزمون، الفضوليون في كل مكان، هوالذي يزيد من تأزمهم و حيرتهم في كل حين، فلا يزال يحرص على أن يشترى كل مرة عمارة، يغلقها ويرحل، ترى من أين تأتيه هذه الأموال الطائلة؟ وهذا المال الذي يصب عليه صبا، زوجته، ابنه، صهره، والناس أجمعين عقولهم في حيرة، يزيغون، يؤلفون الحجايا، يجن جنونهم، والأقرع كل يوم هو في شأن، إما مع الجن والعفاريت وربما مارد أو خاتم سحري أو كنز، تعددت الأقوال، ولا أحد يدري! لكن الرجلان اللذان أعرفهما كانا يتحدثان عن الليلة السابعة والقمر، وعن الذين ينهشون الأعراض ويفوزون...، وعن الذين يأكلون لحوم البشر، وصاحب اللحية الكثيفة يجذب الإنتباه بثرثرته العمومية المتواصلة، وبصوت عال، وكأنه يتكلم مع كل الحاضرين في هذه الحضرة عرفت أن اسمه" علال" و صديقه"سلام"، صارا من الأغنياء في رمشة عين، لكن عين بني آدم لا ترحم، وها هما هنا لمعالجة ذاتيهما، الرجل المهيب، بياض في بياض، اللباس كما الوجه واللحية، تجاعيد بارزة ونظرات عميقة،كان يديم النظر في كل شيء ولا شيء؛ وجه رأيته في يوم، في سنة،كان ينزوي في حانة، يلعن الأصدقاء والزمن المتعهر، وكان مغتما وحزينا، وقيل بأنه صمم أن يمتلك قطعة في القمر، وكان الحزن قد خيم طويلا، وحين أتيت أحمل له البشرى والجريدة، لم أر غيركرسي مهشم مبثور القوائم، وقتئذ سألت عنه رب الحانة البدين، فقال بأنه لم يعرف له أثر، لربما مات أو انتحر...!

-2-

قمرية الآن، تحاصرني بقوامها المرمي، البض والمكتنز، ذات شعر فاحم و عينين زرقاوين، وجهها أشبه بتفاحة ناضجة، يدفعك مرآها إلى أن تقضمها بأسنانك، كانت قبيل هذا قد أحضرت الشاي، وأطباق مليئة باللوز والجوز، ثم أخذت تأكل كما تنقر الطيور الحب، وأنا من فرط"الجذبة" أرى الأشياء" مقلوبة"، هو" الحال"، والكل يدور، ندور، ندور، في حلقة بلا نهاية ولا بداية، وأصوات تعلو ثم تنخفض، ويحضرني همس ترنيمة: ارحموا من ذاق الهوى

و حاله كحالي

سهر الليالي....

"قمرية"حين تبتسم، تلألئ في القلب شمس الصفاء، قلت لها يوما: اجعلي الحب بيني وبينك مبتدءا؛ ولا تطيلي التساؤل عن سفري في ليالي الشتاء، أيقظي الآن عينيك، فظلي لدي! اجعلي الحب بيني و بينك، أيقظي الآن قلبك، واذكري العهد! فقد عاهدت عيناك ذات صباح، قبل أن أهاجر، ليس لي الآن غير ملامح وجهك، لكم هو آثم قلبك، لماذا يقترف كل هذا النسيان والجفاء.

-3-

هذا هو ليل الشغب، والكلام قبلات، فهل جربت أن تعيش مع أناس لا يفهمون لغتك تقول…؟ وأقول: بل وقد لا تفهم لغتهم !! أما أنا فقد عشت وخبرت ذلك، حتى صار البدر هلالا، فقمرا منيرا...!

والحال يغني عن الشكوى، إليك وقد عرفت حالي، وإن لم أ حكيه بفم.

والليل طال أو لم يطل، فقد شربناه، وتنفسناه، ودسناه، أكلناه ونسيناه، أحرقناه وأزلناه، وصرنا نملك منه أنماطا، لاعد لها ولاحصر، ولن تكون النهاية أو الفاجعة لو مات حينئذ...!

-4-

أنا لا أعرف بأن الربى الحالمة،كانت تقص ليلة حب مع نجم مل طول الوقوف في كونه الرحب، أو أطل من أفقه، وحط عليها ناثرا فوقها سناه !! أبدا! ولم أرها تقص ليلة حب قد طوتها مع الندى المتقاطع، ولم أرها صبية تتوارى في حياء، لم أرها تلقن الروض درسا في صفاء الهوى، ونبل المشاعر....!

-5-

حين ستأتي سنرقص على نغمات "الجاز"، سنلتقي نحن الإثنان في ارتماءة أخيرة! وسأعترف لها، بأنها غيرتني مثلما ولادة جديدة، أدخلها برضى واختيار، وسآتي إلى العالم الذي يصير لي كله، وسأمتطي ظله، فيه أكون مغسولا من صدإ السنين وتعفنانه، وسيطول بي سهري، ويعود بي إشراق فألي، وأنحث الخطط على حجمي و مقاسي، أجل! سنبحر في كلينا، ونغوص نغوص، نغوص...!

-6-

هو ذا الباب المشرع، لكنه مغلف بالسواد، محاط بالريبة والخوف، والأثواب الخضر، قالت لي السكرتيرة بعدما حدقت في وجهي طويلا باستغراب و"عينها ميزانها": لا يمكن للعرافة أن تراك بدون "رانديفو" بإمكانك الانتظار أو المجيء غدا، تمعنت جيدا في كلامها، ثم قسمته إلى قسمين، فاخترت الإنتظار؛ ورميت في وجهها غدا وقلت: هأنذا من المنتظرين...!

جلست في قاعة الانتظار أتفحص عيون المنتظرين والمنتظرات، رأيت الرجلان وصاحب اللحية والأقرع والمهيب، وأخذت مجلة من المجلات المتراكمة، وقد مررت عليها منتبها إلى تقادمها، حتى جاء الدور، "تودا" تعتدل في جلستها، عرافة عجوزسوداء موشحة بوشاح أحمر، موشومة الذقن والجبين، موشاة بلآلئ فضية، مشدودة الأيدي بأربطة بيضاء، حينها رمت بعض البخور في موقدها، وهمهمت بتعاويذ لم أميزشئا منها، اهتز قلبي، جف ريقي، اصفروجهي، وانقبضت، تأملت كفي، فكرت ثم قدرت، فعبست وبصرت، ثم انطلقت تصفف الورق هامسة: أنظرأنت رقيق الإحساس جدا، حين تدس بقدميك ظلال الآخرين، تحس بها للغاية، وتحول كل المسافات التي تقدرها بعينيك، اعلم بأن البحر قد أقسم بأنه سيرسل قوة موجه مرات عديدة، وأقسم أنه سيقتحم يوما ظهرك، سيجعلك وجبة، هناك رجالا يخبئون عيونهم بنظارات سوداء، وأعينهم تضحك وراءها، أنت تقول لهم:

" سادتي، أحاسيسي أورقتي، تتوقف على الظلال، وهم يضحكون وراء نظاراتهم، والذين لايملكونها يبحثون عن شيء، نظراتهم تتراقص، وكلماتهم تتناثر، وأنت يا ولدي من بين كل اللغوتفضل النهاية، وثمة عيون ترمق خيباتك شزرا، وحين ستباغث نظراتهم، ستسقط حتما أعينهم! وحتى أول لحظة التي ستعرف فيها فتاة،لم تكن تحس بأنها تمتلك ظرفا، لم تحس بانجذابها، فكرك كان منصبا فقط على تركها، والتخلي عنها، حاجة مختلفة تعتقد فيها، أنت يا ولدي عبثي للغاية، وجهك يفضحك، يخطئون في تقديراتهم لك، لاأحد يفهمك، لاتبالي بالخطأ، تبادر إلى الضحك على أي شيء، ولا شيء ثم تغرق فيه، انظر سيكون لك المال الوفير وسيكون لك جسد بألف وجه، وأحبة بلا عدد، سيضعون الشمس عن يسارك والقمرعن يمينك، وكل الأرقام حظك، قالت و قالت... ، قلت في نفسي: أرقام حظي أعرفها، الفاصلة بيننا، لكن الصفر صفر...!

***

محمد آيت علو

 

في نصوص اليوم