نصوص أدبية

راضي المترفي: واجب

راضي المترفيلا يعرف لماذا تم اختياره ضمن مجموعة حزبية لا ينتمي لها او لغيرها وحاول الاستفسار وهو في حوض سيارة عسكرية كبيرة لكنه تردد خوفا من اثارة الحساسية ضده وعند دخولهم صالة المطار العسكري طلب منهم التخلي عن ملابسهم العسكرية وتسليمها لأحد المسؤولين بعد كتابة الاسم عليها.

. كان صوت المضيفة حادا رغم الانوثة التي فيه وهي تطلب من المسافرين ربط الأحزمة والطائرة على وشك الإقلاع وترك المدرج وبعد ربط حزامه عاد بذاكرته إلى الأيام الأولى من خدمته العسكرية حيث تم سوقه مع الخريجين والمزالة اعذارهم في منتصف تشرين الأول إلى مركز التدريب وبعد أيام وقع عليه الاختيار ليكون ضمن دورة الضباط الاحتياط لكن الضابط المسؤول اعاده إلى مكانه بعد السؤال عن درجته الحزبية فأخبره أنه (مستقل) بعدها جاء فريق آخر لانتقاء عدد آخر لدورة القوات الخاصة فتم اختياره لما له من جسم رياضي متناسق ووسامة ولم يسأله الضابط المختص عن درجته الحزبية وتوقف عند أيام الدورة الطويلة وما فيها من تعب وجوع وعطش وعقوبات ثم حرك رأسه موافقا على انها كانت مفيدة وصنعت منه رجلا صبورا على تحمل المشاق وتعلم فيها الكثير من الأمور ربما أهمها كان كيفية التعامل مع السلاح واستخدامه في المعركة وابتسم لنفسه متفاخرا يوم حصل على المركز الأول في الدورة بين أقرانه

. قطع سلسلة ذاكرته أمره المباشر بزي مدني وهو يسلمه جواز سفر باسمه وصورته مؤشرا عليه تاريخ مغادرته البلد ، هنا عرف ان الرحلة ليس داخلية وانه مسافر نحو المجهول ضمن مجموعة كلفت بواجب حزبي أكثر منه عسكري مما يجعل الخطر مضاعف وفي حالة تعرضه لمكروه فإن الجهة التي أرسلته تتنصل من مسؤولية ارساله وفضل الموت على الوقوع في الأسر في حالة وقوع الاشتباك مع عدو يجهل كل شيء عنه وكلما حاول الاستفسار عن الواجب ومكانه تردد خوفا من اثارة الشبهات في نواياه وعند توزيع وجبة الطعام في الطائرة جلس بجانبه أمر المجموعة وهو رجل في نهاية الثلاثينات من عمره مكتنز معافى ذا بشرة بيضاء مشربة بحمرة وكلمه بلكنة أهل الموصل ثم أخبره أن الاختيار كان للحزبيين فقط لكن كونك عسكري جيد وخلوق وتجيد استخدام أكثر من سلاح وقع عليك الاختيار ونحن ماضون إلى لبنان لتنفيذ واجب قومي هناك.

. في مطار بيروت سارت الأمور بشكل اعتيادي وكان في استقبال المجموعة قياديين من أهل البلد ثم خرجت المجموعة من المطار بباصات صغيرة إلى إحدى الضواحي البعيدة نسبيا عن مركز المدينة وفي بعض منحنيات الطريق سمع أصوات تراشق بالنيران مما جعل الصورة المرسومة في مخيلته لجمال بيروت ودلع صباياها وإمكانية إقامة العلاقات معهن تتبخر مع صوت الرصاص المتطاير من عدة اتجاهات.

. بعد استراحة قصيرة في السكن جمعهم أمر المجموعة واعيدت لهم ملابسهم العسكرية وسلم كل فرد سلاح شخصي (مسدس) وبندقية (كلاشنكوف) وأربعة مخازن ذخيرة ومبلغ (١٥٠) دينار لكل فرد لشراء ملابس ولوازم واحتياجات وتم تقسيمهم إلى مجموعات صغيرة وكانت مجموعته تتكون من عباس القادم من أطراف (بيجي) وثامر القادم من منطقة المحاويل في بابل وسالم من المحمودية بعدها بلغ الأمر بعدم ارتداء الملابس العسكرية الا بأمر وعند تنفيذ واجب معين وشدد على الحرص في التعامل مع السلاح وحذرهم من ان ليس بيروت وحدها إنما كل لبنان هي ساحة تزدحم بالاضداد ولا يعرف فيها العدو من الصديق ثم تركهم لرفيق من أهل البلد يعلمهم كيفية التعامل مع الوضع القائم وتقاسيم المنطقة وأماكن التواجد لكل الفرقاء وتحديد المناطق الأكثر خطورة. بعد انتهاء اللبناني من كلامه ابلغهم الأمر انهم هنا لمدة لا يعرفونها وعليهم انتظار الأوامر من بغداد وطوال فترة البقاء تصرفوا كسياح عراقيين في لبنان لكن مع توخي الحذر مع ملاحظة أن الكثير من النساء يعملن لحساب جهات مختلفة.

. في أول ليلة له في بيروت تجول بين ساحة الحمراء والروشة وشارع المصارف وتمنى لو انه وجد مارسيل خليفة واستمع له وهو يغني في ساحة الحمراء وشغل كثيرا بالمزاوجة الصعبة بين الحرب التي يدمر قبحها كل جمال وبين الحياة التي تحاول عدم التوقف بسبب الحرب في مدينة تشبه سوق الغزل في بغداد حيث تتجمع فيه كل أنواع الطيور مع فارق أن طيور سوق الغزل جاء بها صائدوها رغما عنها في حين تأتي طيور بيروت برغبتها وكم كان يستمتع بالنظر إلى مجموعات الصبايا وهن بين شقر وسمر وخمريات وحنطيات وسوداوات ويقطعن الشوارع او يتجولن في الأسواق مؤطرات بخوف ويتقافزن مثل الظباء عندما يئز الرصاص بين حين وآخر.

. مرت أربعة أيام دون أن يظهر في الأفق ما يشير إلى انهم يرحلون قريبا عن بيروت او يقيمون طويلا فيها وفي اليوم الخامس دخل أحد المقاهي فوجد فيها ثامر ومعه فتاة خمرية البشرة فعرفه عليها وأخبره انها صديقته منذ يومان وأنها دعته للذهاب معها إلى شقتها والمبيت عندها ولم يبدي رفضا او قبول ثم استاذنهم وخرج ليكمل تجواله في الشوارع بعد أن تعرف من خلالها على كثير من العراقيين والذين أصبحوا يشكلون علامة فارقة في المدينة وأغلبهم ينتمون لليسار فيهم الشاعر والفنان والكاتب والمنتمي واللامنتمي وأصبح اقربهم اليه شاعر من البصرة وتمكن هذا الشاعر من رسم طوبغرافيا شاملة للمدينة وتواجد الآخرين فيها لكنه لم يطلع الشاعر على شيء لأنه لا يعرف شيئا بالمطلق عدا انه وجد نفسه في بيروت من خلال شطحة زمنية.

. بعد تسعة ايام أصبح على معرفة تامة بالمدينة وأخبارها وأماكن تمركز الجهات المتحاربة وميولهم واسماء بعض القادة والعناصر المؤثرة في كل جبهة ثم رسم لنفسه مسارا ان لايبني علاقة مع طرف وان لا يكون قريبا من أحد ولا يتدخل حتى في نقاش مع طرف في مقهى وان يظهر بمظهر رجل غني جاء إلى لبنان من أجل الاستمتاع وقضاء الليالي مع النساء الحسان.

. صدر الأمر بالتحرك إلى الجنوب وتمركزت القوة في مرجعيون واختاره الأمر مديرا لمكتبه واطلع من خلال هذا الموقع على مالم يخطر له ببال فأمر المجموعة الذي كلف من قبل حزبه بواجب حزبي قومي كان يتاجر بالمخدرات والنساء والسلاح ويمد علاقاته مع كل الفرقاء ويمارس القمار والمغامرة ويثري على حساب الواجب ثراء كبير وعندما يمنتطق تجده حريصا على الأمة والمباديء والتحرير وحماية الأرض والعرض..

وعندما سأله في جلسة خاصة بينهما عن التناقض الذي يمارسه؟

. ضحك الأمر وسأله: اتعرف كيف أتيت بك معي ولماذا؟

. فأجاب بالنفي

. فقال الأمر: بما انك ليس حزبيا لم تسجل في سجلات الحزب ضمن القائمين بالواجب القومي وبما اني امر وحدتك فإنك مسجل ضمن الواجب خارج الوحدة فقط وان مت هنا او اختفيت فلن يسائلني أحد عنك لأنك اساسا غير موجود

. طيب وهذه الوثائق وجواز السفر والسلاح والمصروفات؟

. كلها بعلاقات حزبية وشخصية

. وعلاقاتك هنا؟

. اقوى ان لم تكن بقوة ماهناك لكن قل لي انت هل تريد ثمنا لسكوتك؟

. نعم بالتأكيد

. ماهو؟

. الحصول على الجنسية اللبنانية

. ساشتريها لك خلال يومين لكن بشرط

. ماهو؟

. ان لا يعرف أحد مهما كانت علاقتك به الا بعد انتهاء الواجب بسنة.

. موافق

. مساء الخير خيو.

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

 

في نصوص اليوم