نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: المُريدة

ذكرى لعيبيلابدَ أن أزّكي نفسي من دنس ذلك الشيطان..

أن أخرج من سجن وجودي إلى فضاء أرحب.

انتظرتُ حتى نامت أختي الكبرى، فتسللتُ إلى خزانتها لأفتح الدرج الذي تخبأ فيه دفتر يومياتها، لعلي أجد ما أبحث عنه، أو لعلها تكتب شيئًا يهمنّي!

" الخطوة الأهم اكتساب الألفة مع الغيب"

قرأتُ هذه العبارة على الصفحة الأولى من الدفتر، فشعرتُ بقشعريرة وشيء من الخوف، ثمة نسمة عليلة داعبت وجهي، رغم أن باب الغرفة كان موصدًا  وشباكها أيضًا.

أغلقت الدفتر واعدّته إلى مكانه.

ورجعتُ إلى سريري بغير قلب، كأني تركته بين دفتّي ذلك الدفتر.

ركزت تفكيري مع النسمة العليلة التي داعبت وجهي، من أي وجهة جاءت؟

من الرب..

هكذا أخبرني حدسي.

أغمضتُ عينيّي؛ وبين اليقظة والحلم تراءى لي وجه الشيخ الذي صادفته في زيارتي الأولى إلى "مرقدّي الإمامين " وجهًا سمحًا ذا هيبة ونور، أوقفني وأشار إلى قدميّ:

ـ لا يجوز

عرفتُ حينها أنه لا يجوز أن أترك قدمي ظاهرة هكذا.. أومأت برأسي خجلًا واعتذرت وهممت بالبحث عما يسترهما

  لكن عندما أخبرت والدتي وأختي وأنا متذمرة:

ـ هل سمعتن ما قاله هذا الشيخ لي بسبب قدميّ؟

قالت والدتي:

ـ أيُ شيخ؟ لم نسمع ولم نرَ شيئًا

وأختي كالعادة لم تأبه للأمر، رغم أنه مازال واقفًا قربي!

ولم يغادر حتى ظللتني ذات النسمة.

نعم هو بعينه، الشيخ الذي صادفته ذلك اليوم، لم يهرم، لم يتغير شكله، وحتى صوته:

ـ أراقبكِ وأنتِ تُنقيّن داخلكِ، وتثبتين وجود قلبكِ من خلال معرفة صفات الخالق بعقلكِ، لتسافري بفكركِ إلى دواخلكِ ومن حولكِ.

ـ أنا الآن أشعر بفراغ في جوفي الأيسر!

ـ بل ممتلئ، ممتلئ بالنور الذي سيعلمكِ إبادة الأنا، وهذا النور سيشعُ حولكِ وسيشعر به من كان قلبهُ مُطهّر، غدًا اسألي أمكِ عن رؤيا رأتها عندما كانت حاملاً بكِ.

واختفى..

لم أخف بقدر ما استسلمت لنومٍ عميق.

في اليوم التالي سألتُ أمي عما أشار إليه الشيخ:

ـ بسم الله الرحمن الرحيم، هل أنتِ جنّية؟ كيف عرفت؟

ـ حلمت..

ـ سأخبركِ، لكن تعدينني بأنكِ لن تخبري أحدًا بجزء من الرؤيا

ـ أعدكِ، فقط سأتحدث بما تسمحين لي به إن وجب الحديث

ـ اسمعي: ذات ليلة كان والدكِ مسافرًا، كنتُ حاملاً بالشهر الثالث، ولم أعرف حينها الجنين الذي في بطني ذكرًا أم أنثى، وكنت أتمنى الولد، وكعادتي بعد العشاء اغتسلت وصليت ونمت، زارتني في المنام امرأة لا أرى من وجهها غير نور، ضوء، صارت تُقبل عليّ وقد هبّت رائحة لم اتنسّم مثلها حتى هذه الساعة، غَشَيتني السكينة، فلم أفتح فمي بكلمة، وضعتْ يدها على بطني، فشعرتُ بدفء دغدغ جسدي بأكمله، خيط من نور تعانق والحبل السرّي الذي يربط جنيني، ثم سمعت صوتها وهي توصيني: في بطنكِ فتاة جميلة، قُرّي بها عينا، فرفعتْ يدها واستدارت لتمضي وأنا ما زلتُ في ذهول، حتى استجمعت نفسي لأسألها من تكون؟

ـ وهل أخبرتك؟

ـ نعم.. التفتت وقالت اسمها.....

وكانت الفتاة التي في رحم أمي هي أنا..

 إذ لا غرابة من أني أريد أن أزكّي نفسي من هذا العبث، ولا غرابة من شدّة شوقي إلى النظر للوجه الآخر من الوجود، ولا غرابة من هالة الضوء التي تحرسني، ولا غرابة من أن جوفي الأيسر يتسع كلما ضاقت الدنيا، وجذعي يقوى كلما زاد عدد الفؤوس، ومحبتي سترسخ كالفجر في قلبٍ مُطهّر يتّقي حزني وخداعي..

هكذا حدثتُ نفسي..

وما زلتُ أحدّثها.. 

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

في نصوص اليوم