نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: رضوض..

محمد الدرقاويقبل أن يعي علي بعضا من حقائق الناس، وتمحو سلوكات الكبارعبق البراءة من ذاته، قبل أن يميز بين أصناف الناس وسلوكاتهم ومعاييرهم، كان يكره أن يكون معلمه في المدرسة رجلا، فأن يكون معلمه رجلا، فذاك في نفسه إثارة اشمئزاز.. ضيق صدر، وتلبس خوف من أن يداهمه من المعلم شر..

كذلك كان قبل أن ينمو، فتمكنه الحياة وخبراتها من التمييز بين ما هو"مألوف وسائد بين الناس، وبين ما هو مختلف وغريب الأطوار.. حتى انه في سنته الأولى بالمدرسة، لما عاد الى البيت زوالا، وفي اليوم الأول من السنة الدراسية، تمارض، وتعمد أن يدخل ، ويضع اصبعه في فمه حتى يتقيأ،.لما سمعته أمه، هرولت اليه خائفة ان يكون قد اصابه مكروه، او تناول شيئا من أحد الباعة المتجولين..

هكذا تحجج بعدم العودة مساء الى المدرسة، وحين استفسره ابوه، لماذا؟ رد وعيونه تمسح الأرض: "أكره رائحة الدخان في معلمي".. ونسيي ان يكون المعلم ربما لم يدخن سيجارة واحدة في حياته.. وحيث أنه كان ابن اسرة عريقة نسبا وشرفا وتاريخا، فكان من السهل ان تغير الإدارة قِسمه استجابة لرغبة الشريف ـ والده ـ الذي لا يرد له طلب..

كان علي يفضل أن تعلمه أنثى، لان المرأة عنده قدوة، أناقة ومبعث رحمة، وفيض إحساس وذوق ؛كان يرى في كل أنثى تعلمه، أمه التي يحمل لها سرا من أسرار ما يعي ويفهم ، كان يردد في نفسه عبارة كانت تتغنى بها عمته اعتزازا بنفسها:

"لولا الأنثى، ما جرى نهر، ولا غرد طائر، ولا نبت بستان، حتى وهي تخطئ فلن يجرها أو يغريها أو يحرضها على الخطأ الا رجل استغل فيها ثقة، أو خوفا، أو اغتصب طيبتها المتأصلة فيها"..

كل معلم كان عند علي مبعث غثيان ومثاراشمئزاز وكراهية، استغلال وقدرة على دوس كل الشرائع من اجل رغبات شريرة وأنانية فادحة؛ كل معلم عنده كان شيطانا يرتدي زي الصالحين ويتخفى وراء الدين..

بعد فعلة القيء المتعمد بأيام كان علي عند والده في دكانه، سأله عن دروسه، عن قسمه الجديد، عن معلمته، وعن كثير مما يحدث في مدرسته..

صَمت الاب َقليلا ثم سأله: علي !!.. لماذا لا تحب أن يعلمك رجل في المدرسة؟..

طأطا علي رأسه، وترك عيونه تمسح الأرض من تحته، اعتلى وجيب صدره، وخاف أن يبوح لأبيه بالحقيقة كما يعرفها ويخفيها عن جميع الناس..

بتجربته وخبرته، أدرك والده أن ابنه يخفي شيئا، قال:

ــ لن تكون ابني اذا لم تخبرني بالحقيقة..

تدمع عينا علي وقد صار يرتجف، ومن سذاجته يومئذ فكر:

"ومن يصير لي أبا اذا تركني أبي" ؟..

ارتد في سمعه الصدى، وتملكه الخوف من جديد، أحس كأن يدا تعاود مسكه من قفاه، وصوتا بغيضا يقول:

ـ "والله يابوك واخبرت شي واحد بما رأيت حتى نقتلك.".

عيون الأب سهام تخترق ذات علي، تقرؤه، تكشف سره..

"ليت عيون أبي ترى اليد التي مسكتني من قفاي، وتصغى أذناه لألفاظ التهديد التي اخترقت طبلة أذنيّ، وصدى الصوت وقد تجلجل وعيدا مرعبا في اسماعي.. "

صار علي يعايش اللحظة كأنها تعيد نفسها بكل صور رعبها وقسوتها.. وفي نفس الآن يتمنى لو يعفيه أبوه من الرد، لأن قلبه الصغير لايتحمل هذا الهدير الذي يدوي بين اضلعه، فيعيده الى لحظة يكره أن يعود اليها بإلتفاتة أو تلوح بذكرى.

سنة مرت على الحدث، بعد أن غادر الكتاب، وبدأت تتلاشى مع الأيام صورة الفقيه في عقله وصدره، لا تتداعى على البال الا حين كان يشاهد حمالا بين أزقة المدينة القديمة يضرب بهيمة، يستحثها على المشي، فيهتزعلي فرقا وألما نفسيا..

وحين صار تلميذا في مدرسة تعود رؤية المعلمين حوله باطمئنان حذر، يراقب عن بعد أحاديثهم البريئة مع المعلمات، ويتسقط اخباراعن هذا المعلم أوذاك من تلميذاته وتلاميذه، وكلها تمحوالصورة القاسية التي طبعها فقيه الكتاب في نفسه.

ها هو أبوه يثير الحدث من جديد، فيعيده الى الإحساس الاول بكل فظاعته وقسوته ورعبه، وما غابت او تغيرت له صورة، محفورة كرسوم الشياطين على أثر صخري، كم يلزمها من عوامل التعرية حتى تتلاشى وتغيب، فكم اقضت نومه، بأحلام مزعجة مرعبة، كان يصحوعلى اثرها خافق الصدر دامع العينين..

كان علي صبيا صغيرا أو "محضري" كما يقولون في كتاب قرآني يقع قريبا من بيته، وكان الفقيه رجلا أربعينيا اسمر اللون، فاره الطول، عريض المنكبين، لا تفارق راسه عمامة في فصل الشتاء، وطاقية بيضاء في الصيف، وكان حين يعري رأسه يبدو الرأس كبيدر عتت فيه حوافر الحمير أثناء الدرس!!.. بنظرة واحدة كان يحرك زوبعات الخوف في نفوس الصبيان، فيرفعون عقيرتهم باجترار المكتوب على ألواحهم من آيات، يرددونها ولا يفهمون لها معنى، أو يصحون من غفلة إغماضة جراء تعب أو عياء أو رتابة ترديدات ببغائية متراخية حين انشغال المدرر عنهم مع احدى زائراته من النساء..

ذات اصيل من يوم جمعة، وقد كان يوم عطلة، كان الأطفال يلعبون لعبة غميضة قريبا من بيوتهم ؛ركض علي ليختفي وراء باب أحد منازل الحي، اثارته باب الكتاب نصف مفتوحة.. دفعها فانفرجت، صعد الادراج.. مدَّ راسه الى الداخل.. لا أحد.. ربما نسي الفقيه ان يقفل باب الكتاب..

وهو يستدير للعودة سمع أنفاسا قوية تتلاحق، اعاد الاطلالة؛كانت في الكتاب سدة خشبية عالية، هي مرقد الفقيه وشبه مسكنه.. حين رفع علي راسه، رأى الفقيه على السدة في وضع مخجل مع أم أحد المحضرية الصغار ؛ كانت تزوره يوميا ليكتب لها أحجبة، او تحمل له أكلا، او تهديه صحونا صغيرة من حلويات منزلية، وأحيانا كانت تأتيه بملابسه بعد غسلها، دون أن يخلو حضورها من همسات وغمزات وضحكات.. كانت بالنسبة له كزوجة لا تنقصها الا الإقامة الدائمة معه؛ لم تكن المرأة كغيرها ممن يأتينه من النساء، يخط لهن جداول على ورق أبيض، يكتب عليه بصماغ أو زعفران وماء الزهر، فيقدمن له نقودا أو صرات من ثوب كان الصبيان لا يعلمون مافيها، كانت هذه المرأة عنده حظية تطيل الجلوس الى أن يشير عليها بغمزة من عينه اليسرى فتنصرف، ثم يترك الصبيان تحت حراسة أكبرهم من المحضرية ويلحق بها الى بيتها القريب، ام يكتفيان بالوقوف على أدراج سلم الكتاب..

تفاجأ على بما رأى ، وتخيل علي لو أن ابنها هو من شاهد الوضع المخزي !!.. ربما لن يفعل شيئا، فقد ألف أمه، وتعودها وهي تزورالفقيه يوميا في الكتاب، بل كثيرا ماكان يفتخر بزيارة الفقيه لبيتهم كلما عاد أبوه من بلاد الغربة فيكرم الفقيه بالهدايا..

كل المحضرية كانوا ينادون الفقيه "أَسِّي" إلا هو فقد كان يناديه "عمي"

بين ذهول وارتباك، زلت قدم علي وهو يهم بنزول الأدراج.. سقط، ثم وقف، وقبل أن يعاود النزول، كانت يد الفقيه تمسكه من قفاه، ترفعه الى أعلى كمن يمسك أرنبا مذبوحة من رأسها:

ـ والله يابوك وأخبرت شي واحد بما رأيت حتى نقتلك..

ترك الفقيه قفا علي فتدحرج الصبي على السلم، بعد أن رماه كما يرمي أي شيء كان في يده..

بحث علي عن قطرة ريق في فمه فلم يجدها، فصار يبتلع جفاف حلقه وكانه يمرر حصرم التمر عبر حنجرته، رفع راسه ليتوسل الفقيه، فأرهبته عين الفقيه اليسرى كورم أحمر يغطي سوادها، وعينه اليمنى كجمرة ملتهبة على وشك أن تحرقه من قلب محجرها..

قاوم علي الرعب الذي داخله بقدر مقاومته لألمه، من رضوض راسه الذي ارتطم بجدار السلم، ومن ركبته اليمنى التي تورمت وغطتها حمرة مشوبة بزرقة غامقة.. عاود الصبي الوقوف نصف راكض الى بيته.. وصورة واحدة هي ما يكتسح ذاته وكيانه، صورة شيطان أسود، يرسل شررا من عيون دموية حمراء تلاحقه..

كان الحاح أم علي كبيرا أن تعرف ما وقع لابنها.. لكن علي أصر على ان الامر لا يتعدى سقطة بسيطة وهو يلعب في الدرب..

عرضته الأم لحمام ساخن، جست فيه جسمه مكانا بعد آخر، ثم ضمدت جروح رأسه وركبتيه وتأكدت أن الامر لا يتعدى رضوضا بسيطة وان كان بعضها بليغا ..

من يومها لم يعد علي الى الكتاب الا قليلا، يتمارض، أو يخرج ثم يعود بعد وقت قصير بحجة غياب الفقيه.. وحتى يتجنب ولوج الكتاب دون أن يثير شكوك أبيه أو أمه، كان يدخل ضريح سيدي أحمد التيجاني يصلي الضحى، ويستمع الى ترتيلات القراء، أو يتهجى أحاديث رياض الصالحين من كتب الضريح الى أن يحين الزوال، وكثيرا ما كان يقصد ضريح المولى ادريس، يندس تحت سترة قبة الضريح، يدعو متوسلا باكيا على الفقيه، أو يتوجه الى مسجد القرويين، يقضي فيه الساعات، مستمعا الى دروس العلماء وفي رأسه ألف سؤال وسؤال عن كل ذي عمامة، وحقيقة ما يمكن أن يخفيه تحتها وما لا يعرفه عنه السامعون..

فقبل أن يكبر علي ويعي مقدار العلماء بتمييز، كانوا عنده اشبه بالفقيه، الكل نسخة من نفس الأصل.. يخفون مالا يبدون، وغلالة التقوى على الوجه ماهي الا رداء مكذوب سيتمزق ذات يوم حين يفضحهم الله ويلبسهم رداء حقيقتهم.

ان الساعات التي قضاها علي في هذه الفضاءات كان لها اثر كبير، في تشكيل بنيته النفسية، وتكوينه المعرفي، وقناعاته التعبدية، ورايه في الحياة والناس بين الظاهر الذي نراه على وجوههم، والمتخفي الذي يتسترون عليه بمختلف التلوينات والمساحيق.. وصار يؤمن أن مظهر الانسان لا يدل أبدا على حقيقته..

إن ما سكن أعماق علي كان أبلغ من السقطة، ومن عيون نارية تملكت كل حواسه، بل وابلغ من أثر لوح مكتوب كان الصبيان يحفظونه عن ظهر قلب بلا معنى او شرح، ما وقر في نفسه، كان صورة مقرونة بسوط وقهر من فقيه سفيه حقير، جبار، كان بكاء وتوسلات، يترقب لها استجابة الله مذل الجبابرة وهازم الطغاة ان ينصفه مما لحقه..

كبرعلي، وتغيرت رؤاه وافكاره، وصار يميز بين أصناف الفقهاء في الكتاتيب القرآنية، وبين علماء يحدثون في مسجد، وآخرون يمتهنون التدريس.. لكن كبرمعه الشك في كل ذي لحية وعمامة يرتدي جلبابا ابيض، عيونه من نار السعير اذا غضب، وتحته يتحرك شيطان في الصدر، ومعول به يهدم القيم والدين والأخلاق..

مازال يذكر أنه بعد أن استمع اليه والده ضمه الى صدره، قبَّل يده وقال:

كنت أظن الامر أكبر من ذلك.. لاعليك الناس معادن يابني !!..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

من ذكريات الكتاب

 

في نصوص اليوم