نصوص أدبية

علي فضيل العربي: رحلة إلى جنة الجحيم

جرّ نعليه. خطا خطوات مثقلة بالغبن. تلقفته يدا إحدى الموظفات. قادته بتؤدة نحو مكتب التسجيل. قيدوا اسمه وسنه في دفتر الوافدين الجدد. أمر مدير الدار بإعداد سرير في زاوية ما. في غرفة ما. جلس على حافة السرير ونظراته حبلى بألوان الهموم. ردد في سريرته: -الحمد لله على كل حال. قدمت له  الموظفة  كأس ماء. ربتت على كتفيه بحنو وقالت:

- لا عليك يا عمي دار الرحمة أفضل من الشارع.

هز رأسه. لم ينبس ولم يهمس. ود لو يصيح. يبكي كرضيع فقد والدته. ينوح نوح المفجوع في أعز ما يملك لتفيض عيناه نهرا من الدموع الغزار.

- اعتبرنا اهلك يا عم لست وحدك...

كذلك قالت الموظفة وانصرفت إلى شؤونها

لحظتها أحس الشيخ يوسف بمرارة العجز تسحق فؤاده المكدود حتى الصميم.أقسم بأغلظ الأيمان أن المقبرة أرحم له من دار الرحمة، بل دار الشقاء لو كان ذو الألباب يعلمون...ليته قضى قبل ولوجها. كبر أبناؤه. تعلموا. تزوجوا.أنجبوا البنين وجمعوا المال.لكنهم جهلوا معنى الحياة.اجتمعوا ذات ليلة وتداولوا كنه الجزاء....

قال ابنه البكر: نكتري للشيخ بيتا ونوظف له خادمة.

قال أوسط العقد: ومن يدفع ثمن الكراء وأجر الخادمة؟

و قال ثالثهم: أخشى عليه من مكر الخادمات.

و شطت بهم مراكب الجدال في خضم قضية الشيخ (الشيباني) حتى تنازعوا في أمره أياما وأياما.

صار أبوهم أزمة شائكة أرقتهم، وأنغصت عليهم ربيع حياتهم. ولكنهم اتفقوا، وقرروا دون رجعة أن لا دار تسعه إلا دار الرحمة.

جال بنظراته الذابلة. تفحص زوايا الغرفة. سرير. سريران. ثلاثة. أربعة. كلها مأهولة. أصحابها يغطون في سبات عميق إنهم مجرد جثث أنهكها الدهر. في أوصالها بقايا أرواح تستعد لتوديع كهوف اللحم والعظم، والرحيل إلى عالم الخلود...

ردد في سره وهو يلملم جرة الصبر التي انكسرت:

- الحمد لله الذي قدر وفعل... ربما حال هؤلاء أتعس من حالي..

أقبلت إحدى الموظفات تحمل دفترا وقلما بادرته قائلة: لست وحدك يا عمي.. أشارت إلى من حوله، ثم أضافت: انظر إلى هذا المسكين، وجوده مرميا بين الحياة والموت

- ليته مات. الموت راحة يا بنيتي.

- فوض أمرك لله يا عم.. عش أيامك الباقية..

- لم يعد للعمر بقية يا بنيتي

وحال الصمت بينهما، كأن الكلمات جمدت في ثغريهما. تأوه الشيخ   يوسف. تأفف بحسرة وحرقة  شديدتين.أدرك أنه حلقة من سلسلة لا نهاية لها. كل يوم ضحية جديدة. وأسئلة لا تتغير.

قالت الموظفة وهي تحاول زرع بذرة أمل في أعماقه:

- هل لك أبناء أو أقارب تريدهم زيارتك؟

و أسدل الصمت ستائره مرة أخرى.

زفر ثم شهق. برقت عبرات في موفيه. انتشلته الموظفة من سحيق الصمت..

-أريد عناوينهم من فضلك...

ليس لي احد، كل شيء ضاع

ما زالت البركة يا عم...

انسحبت الموظفة بينما بقي المسكين يصارع أمواج  الحسرة، ويسترجع بقايا صور من حلو المعاش ومره، علقت في ذاكرته المنهكة.

قال كبير الأبناء:

دعوا الأمر سرا، احذروا أن يتسامع الجيران والناس الخبر، فيتخذوننا سخرية مضحكة

قال أوسطهم:

هذا أبونا، ونحن أدرى بمصلحته. لا تهتموا.

و قال ثالث الأبناء: نقول هو الذي اختار دار الرحمة. رفض العيش بيننا.ثم لماذا فتحت الدولة ديار الرحمة؟ أليس من اجل أبينا وأمثاله؟ ثم لابد لهذه الديار من نزلاء وأبونا خف عقله. عاد كالولد الصغير زوجاتنا لم يستطعن خدمته.

رموه كسقط المتاع أمام مدخل الدار.

قالوا له بنبرة عارية من الحنان:

- لا تقلق سنزورك  كل يوم، كل أسبوع، لا تظن أننا سننساك

قفلوا عائدين على عجل. لم يلتفتوا أبدا إلى الوراء. لقد تخلصوا منه. أزاحوا عن قلوبهم حملا ثقيلا  استيقظ احد النزلاء.

رمقه بعينين محمرّتين وردد:

- أتانا ضيف جديد يا أهلا.. يا مرحبا.

لم يعر للصوت اهتماما، ولم يرن لصاحبه. هز رأسه المتوج بأشواك الغبن والهموم وقال: -  هه  ليتك قلت ضحية جديدة

هاهو زميله في الغرفة مثله. وهن عظمه. رصعت وجهه  التجاعيد، وذبلت جفناه كأن الخريف اتخذهما مطلعا ومغربا. أفنى زهرة شبابه، وهاهو يتجرع من كأس سنمار

لم تعد فينا فائدة كذلك ردد زميله وهو يحك عينيه.

وقعت تلك الكلمات على رأسه كالصاعقة. أيقظت جحافل الألم.اتسعت جراحه وغارت. كم كان ذا فائدة قبل يوم. طاف المدينة عرضا وطولا. يبني ويطلي ويزين واجهات المدينة.لم يعرف الكلل ولا الملل وما فترت  عضلاته  يوما. بز أترابه  حتى  أضحى اسم يوسف البناء ذائع الصيت، تعرفه أزقة المدينة وساحاتها. بل مازال عرق جبينه معجونا برملها وحصبائها.

هل هذا هو جزاؤنا؟ نسوا وصية الله فينا. أولادي من لحمي ودمي، يرمونني رمي العظم للكلب. واستغرق الشيخ يوسف في دوامة نشيج يذيب الصخر. شعر برغبة جامحة إلى الصراخ والنواح لكن وا أسفاه من أين له بالنبرة. لقد بح صوته، وضاعت منه  رنته النحاسية. ثم... من يسمعه ويقدر مأساته حق قدرها. ربت زميله على كتفيه ومسح من وجنتيه دموعا حارقة

ربما تحن قلوبهم يوما يا حاج. وتعود إليهم عقولهم. لا تفقد الأمل. قد تجد نفسك يوما في أحضانهم.

و تراءى له الأمل كوة صغيرة لا ينفذ منها رأس إبرة.

و أضاف الشيخ: ربما يتفكرون عقوبة عقوق الوالدين

اتسعت الكوة قليلا حتى أصبحت نقبا صغيرا

آه  لو يتفكرون.. آه لو  يفعلون.. سأغفر لهم، وأدعوا لهم بالخير ليل نهار...

ومر يوم.. يومان..  أسبوع.. شهر.. سنة. استوى عنده الليل والنهار. لم ير لهم شبحا كأن الأرض ابتلعتهم. كبرت أحزانه وامتدت سيقانها كأشجار التوت الأسود. التصق جسده ببطن السرير. واندفن النقب واختفى إلى الأبد.

(تمت)

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر

 

في نصوص اليوم