نصوص أدبية

علي فضيل العربي: الحــزام

يزداد بطنه ضمورا يوما بعد يوم. كل صباح يكتشف أن حزامه ازداد طولا وأن ثقبه توشك على النهاية. لم يبق منها إلا ثقبة واحدة. وغدا سيضطر إلى اصطناع ثقب أخرى لحزامه، فالبطن مستمر في الامتداد نحو عموده الفقري. وسرواله المتهرئ في اتساع لا يقوى على مقاومته. لو كان يملك ثمن سروال من سراويل الخردة لاستغنى عنه واقتنى غيره. ما أغرب الدنيا. ها قد تحولت في نظره إلى سلسلة من الثقب. كل يوم توشي حزامه بثقبة جديد...

ما زال عثمان يحاول هضم مأساته.. سلموه ورقة ودفعوا له مبلغا من المال، وقالوا له بلفظ عار من أثواب الكناية والاستعارة:

" أنت مسرح من الشركة. لقد باعوا الشركة لمستثمر أجنبي.

" وما ذنبي أنا يا سادتي "

و صرخ، وأزبد، وبكى وضرب بقبضتيه، وناصيته الجدار، ولكن، لا احد هاله أمره. وقعت الواقعة، وباع السادة، وقبضوا ثمن البيع،

قال عثمان:

"كان عليكم أن تبيعوا أجسادنا أيضا في مزاد الشركة.

هناك بين جدرانها وآلاتها،في كل زاوية من زواياها.وفوق كل ممر من ممراتها ما زالت رائحة عرقه تفوح. زفرات الفصول الأربعة. رنين صوته. وقع قدميه.نظراته الممتدة عبر البراغي وضجيج المحركات،كلها تملأ المكان،كان يعمل ليل نهار،أعطى كل جهده ووقته لأجل أن تبقى الشركة واقفة.فالوطن في حاجة إلى إنتاج وفير،من أجل الاكتفاء الذاتي

مازال يغالب الصدمة،ويحاول أن يصمد في وجوه فقدت الحياء والوطنية الصادقة. يقاوم مزاحمة البطون المنتفخة، وقوانين الرفس والسحق.

قال عثمان، والغضب ناره تتلظى:

- ولكن من خول لكم بيع الشركة للأجنبي؟

- قانون المزاد

- أنتم يا سادة تبيعون ما لا تملكون، هذه الشركة ملك لنا

- لقد أفلست، هي لمن يدفع أكثر؟

- أفلستموها من أجل بيعها. ونحن، ألم تفكروا في بيعنا؟ أم أننا لا نصلح للبيع في المزاد يا سادة؟

وازداد الحزام طولا، نفدت الثقوب، دكنت الألوان في عينيه. عليه بشد الحزام استعدادا للإقلاع نحو الجحيم.. باعوا الشركة وقبضوا المقابل، وليذهب عثمان إلى سقر.صار همه الوحيد مراقبة الحزام كلما لفه على خصره كالمشنقة في انتظار بزوغ فجر جديد؟ سينفق كل يوم دقائق معدودات في مهنة شد الحزام، والاعتناء بثقبه مرارا وتكرارا قبل مغادرة  منزله المعلق في صدر المنحدر. فقد تحتم عليه تفحصه جيدا كل صباح ومساء، مرة،مرتان،ثلاث مرات، دون كلل أو ملل أو تماطل.ومن أوجب الواجبات حمل مسمار حاد وحجر صغير في جيبه، فالحزام عرضة للاتساع في كل دقيقة أو ساعة أو يوم.وماذا بمقدوره أن يفعل لو أن سرواله الفضفاض هوى وفر من جذعه وسط زحمة الكتل البشرية ذات الأحجام المتناقضة، الغارقة في وحل المسافات، وهي تمارس لعبة الذهاب والإياب والصعود والنزول بشراهة الاندفاع؟ الاعتناء بالحزام واجب مقدس،والحرص عليه أمر لا يمكن التهاون فيه وإلا تحول في برهة إهمال إلى جثة عارية كيوم ولدته أمه،ويا لها من لحظة قاسية لا يقوى على تحملها جسده النحيف،وقلبه الكليم؟

سيقول عنه المارة أن المخلوق قد جن،أو أنه فقد نعمة الحياء، أو من سلالة دعاة العري؟ فتعتوره أيادي المارة اللينة والخشنة بالضرب على قذاله،والصفع على وجنتيه الذابلتين كأرض شهباء،والركل على مقدمته ومؤخرته؟ فيتحول إلى كرة وقعت فريسة بين أرجل لا تحسن اللعب؟

ازداد حزامه طولا، أمسى سلسلة من الثقب، بالأمس القريب فقط حمل السلاح على كتفيه العريضتين وخاض المعارك الضارية، وجاب الرواسي الشامخة والفلوات والسهول والوديان،وحزامه العريض مرصع بالقنابل والرصاص، طرد المحتل الغاصب وافتك حريته الحمراء.. انتزع أغلى الثروات من مخالب اللصوص والمرتزقة والغزاة وقراصنة القرون الوسطى..

قيل له: هي ملك لك ولأبنائك؟

انزرعت الأمنية في قلب أطربته الكلمات المعسولة، لم يذق طعم الراحة، لا هم له غير العمل ليل نهار من أجل صيانة وطن العزة والكرامة؟ لكن هيهات ما بين أناشيد النهار وأحابيل الليل؟ بعد أربعة عقود من الجد والكد، قرر سادته بيع الشركة في المزاد العلني، ليعود عدو الأمس ممتطيا صهوة المزاد؟

ها قد صيروه عصفورا منزوع الخوافي والقوادم. في البدء قالوا له:

- هي عملية تطهير.

فقال عثمان:

- وما الطهارة يا سادة؟ لقد كبرنا على هذا الأمر يا معشر الحكماء؟

قالوا:

- لا تقلق يا عثمان ما هي إلا عملية لمسح ديون الشركة.

- ما أحلى الطها رة،كم نحن في حاجة إلى تطهير العالم من نجاسة سفك الدماء بغير حق، ما أجمل العالم بدون فقر وتسول ورشوة وحقرة وقائمة طويلة من النجاسات البدنية والعقلية والنفسية؟ لكن يبدو أن الأمر حلم..

ثم قالوا له:

-هي عملية هيكلة.

فقال عثمان:

- فعلا هياكلنا أصابها الوهن والعيب والشيب؟ فلا بد من عملية جراحية تعيد الشرايين والأوردة إلى منابعها ومصباتها الحقيقية؟

ثم قالوا بنبرة ابن آوى:

- لا بد من خصخصة الشركة.

ولم يفقه كنه ذاك المصطلح، فهو يعاني ضعفا وقصورا في فهم المصطلحات الجديدة التي ما انفك السادة يرددونها؟

سأل عثمان أهل اللغة والفهم:

- ما الخصخصة يا سادتي؟

- هي كلمة ضد العمومية؟

وبدأت الشكوك المؤلمة تتسلل إلى هوة النفس فتتوش ما بقي من نوافل الصبر والطمأنينة والقلق يتخطف قرارة العين تحت جنح الدجى،وعاصفة الهم تزعزع عرش الروح البريئة

بعد أيام زعم السادة أن الشركة أفلست،ودبروا الأمر بليل،عزموا على بيع زبدة عرقه ودمه ورائحة جسده المنهك، أيقن المعلق من عرقوبه أن نكهة الخبز قد ضاعت في دواليب حالكة تتيه في غياهب زرقاء اليمامة؟ها هي النار تمتد وتمتد لتلتهم سنابل القمح قبل استوائها وثمار التين والزيتون والبرتقال والعنب والنخل والرمان قبل نضوجها..

لم يعد عثمان يملك سوى حزامه الذي أنهكته الثقوب ووخزات المسمار؟

و تتسع دائرة فزعه من قدوم يوم أغبر، بل هو متوجس خيفة من شهوة البيع، تراءى له أن السادة ة لن يجدوا ما يبيعونه سوى حزامه؟ يومها سيقاوم بكل جوارحه الظاهرة والقاطنة، لن يساوم أبدا مهما كان الثمن. أو ربما فر جسده من دائرة الحزام،ولن يجد خصرا يعانقه، وينتصب عثمان بلا جسد بعدما ابتلعته دودة الفقر.

سيقول له السادة الأفذاذ:

- وما جدوى الحزام يا مخلوق، سر على أربع وكن كما خلقك الله أول مرة؟

يصرخ دون انتظار كمن لدغته عقرب سوداء على حين غرة:

- لا،لن تبيعوا حزامي مهما حاولتم.

- وما جدوى الاحتفاظ به يا مغفل؟

- سأقيد به كومة الأحزان لئلا تحرق حقول العشق الصوفي قبل فطامها؟

- هيء، هيء، ها،ها،ها،

- وأجلد به سوآتكم،وأشد به على قلبي،وأجعله أسورة في معصم الوطن؟

- ها، ها، ها، هيء، هيء، هيء..

مازال الحزام يواصل مسيرته بخطى حثيثة، والثقوب تتناسل وتتدافع دون هوادة وعثمان ينتظر بمرارة وشغف عودة الحزام إلى سيرته الأولى .

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي - الجزائر

 

في نصوص اليوم