نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: لغز الهاتف الأرضي

نظر الضابط إلى هويّة الرجل الجالس أمام مكتبه، بعد أن قلبها وعرف ما فيها من معلومات، ثم نظر للرجل قائلاً:

- نعم يا سيد وحيد.. على رسلك وخذ وقتك واحك لي قصتك لكي نستطيع مساعدتك

أخذ وحيد شهيقاً طويلاً، ومسح قطرات العرق المتناثرة على جبينه العريض بمنديله ثم قال:

- عذراً جناب الضابط.. ينادونني في المحلّة "وحّودي"

- لا يهم.. نحن نتعامل مع اسمك في الهويّة الرسمية.. نعم أخي.. احك لي ماذا عندك؟

 تنهّد وحيد بحسرة خرجت مع زفير:

- إنها أحداث قد تبدو غريبة ولكنها حدثت معي.

ابتسم الضابط وقال بنبرة تشجيع:

- لا عليك فأنا لن أدعك تغادر حتى نتعرف على ما حدث معك، ونضع حداً لما يريبك. فقط تكلم ولا تهتم يا صديقي

انشرح صدرُ وحيد حين استمع لكلام الضابط، ودلق ابتسامة عريضة من فمه قبل أن يبدأ بالكلام قائلاً:

- حدث هذا قبل ثلاثة أو أربعة أسابيع لا أذكر بالتحديد. حين رفعت سماعة الهاتف وأنا في شقتي،  وخاطبني رجل قائلاً أن ابني سيخطفونه من المدرسة.

- هل تعرف أو سمعت من قبل صوت الذي اتصل بك؟

- لا يا جناب الضابط.. لقد كان صوته مجهولاً بالنسبة لي..

أومأ الضابط لوحيد في أن يكمل كلامه فاستدرك قائلاً:

- كنت أظن ان هذا الاتصال من شخص يريد مضايقتي أو ابتزازي. ولكن ما حدث قد كسر قلبي حيث لم أأخذ بالكلام وأحمله على محمل الجد. بعد أن فقدتُ زوجتي التي ماتت ولم يرها ابني، إذ توفيت وهو بعمر أشهر تقريباً. ها أنا ذا أعاني من مرارة الفقد مرة أخرى ولكن هذه المرة مع ولدي المسكين.

انزل وحيد رأسه واضعاً كفيه على وجهه وبدأ بالبكاء. لكن الضابط شجّعه على اكمال حديثه والتحلي بالقوة والصبر. مسح وحيد دموعه وبعد دقيقة استدرك قائلاً:

- لم أكن أملك سوى هذه الأسرة، وأمي التي تعيش في قريتنا السابقة التي تبعد بضعة كيلومترات عن مدينتي الحالية، وأتواصل معها بين الحين والحين. وكذلك صديق الطفولة الذي كان زميلاً لي وصديقاً في قريتنا. والصدفة الجميلة أنه كان يحمل اسمي نفسه. وتواصلي معهم كان من خلال الهاتف الأرضي.

تساءل الضابط مقاطعاً وحيد:

- تتصل بالهاتف الأرضي ذاته؟ ألا تملك يا سيد وحيد هاتفاً نقّالاً لكي نحفظ رقمك؟!

لوهلة نسي وحيد حزنه مع ابتسامة متبادلة بينه وبين الضابط ثم قال في حماسة:

- لا بالطبع لا أملك هاتفاً نقّالاً.. أنا أعتمد على هاتفي الأرضي لأنه من إرث العائلة. لقد أشتراه أبي رحمه الله منذ ثلاثين سنة ولم أفرط به. ولا يتصل بي سوى أمي وصديقي وصاحب الصوت الملعون الذي عاد مرة أخرى ليبلغني أن أمي قد ماتت

- كيف أبلغك وماذا قال لك.  تساءل الضابط فأجاب وحيد:

- لقد أتصل بي في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ليخبرني أن أمي ماتت، وأن أقاربي في مغتسل الأموات ينتظرونني في قريتنا

- ربما يكون أحد أقاربك اتصل بك ليبلغك بوفاة والدتك؟

- لا يا جناب الضابط.. أنا أعرف صوته جيداً.. فهو لم يبلغني بهذا وحسب، بل قال لي بصوته الذي لا يغادر أذني ورأسي، أنه كان جالساً عند رأسها حين توفيت. وأنها تمتمت باسمي قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

هزَّ الضابط رأسه ثم سأل:

- حسناً وماذا حدث بعد وفاة والدتك.. هل اتصل بك مرة أخرى؟!

أجاب وحيد:

- نعم.. اتصل بي لاحقاً ليخبرني أن صديقي، صديق الطفولة، يرقد في المستشفى بعد أن تعرض إلى طعنة بسكين، وهو عائد من عمله الليلي في شارع من شوارع القرية الخالية.

- هل ذهبت للمستشفى للتأكد؟. تساءل الضابط فأتاه الجواب:

- نعم بلا شك.. كيف لا أذهب؟. فأنا أعرف جيداً أنه بلا أهل، ويعيش يتيماً، لهذا لم يكن له أحد يسأل عليه سواي. وقد راعني ما رأيت من منظر حين طالعت صديقي ممدداً على سرير وقد وضعوا على وجهه شرشفاً. وحين سألت الممرضين والطبيب عزّوني به بعد أن فارق الحياة نتيجة الطعنة. ولا أشك أن صاحب الصوت الذي يتصل بي هو من وراء هذه الجريمة. وهو الذي خنق أمي المسكينة على سريرها، واختطف ابني الوحيد منّي، وربما قد رماه في النهر أو دفنه تحت الأرض وهو حي.

عاد وحيد إلى نوبة البكاء مرة أخرى. نهض الضابط من مكانه وقدّم له كأساً من الماء وربّت على كتفه طالباً منه أن يتحلى بالصبر متسائلاً:

- دعنا يا سيد وحيد نرتب هذه الأحداث.. هناك من يتصل بك كل مرة، ليبلغك عن مصيبة ستقع أو وقعت لأشخاص من عائلتك وأصدقائك. اتصال هدّدك بخطف ابنك، واتصال آخر ابلغك بوفاة والدتك والاتصال الأخير أخبرك بمقتل صديقك.. هل لديك عداوة مع شخص أو تعرضت للتهديد أو لديك مشكلة ما؟؟.

أجاب وحيد وهو يهزّ رأسه نافياً:

- لا يا جناب الضابط.. لم تكن لدي أية عداوة مع أي شخص. وحتى لو كانت لدي عداوة مع أحدهم، لماذا لم يستهدفني صاحب الصوت بشكل مباشر. لماذا يذهب ليقتل أحبابي؟!.

عاد الضابط إلى كرسيه وسأل وحيداً هل قدّم شكوى سابقة عن اختطاف ابنه فأجاب:

- نعم بلا شك.. قدّمت شكوى لكنها لم تُعامل بشكل جدّي. فقد طلب مني الشرطي المسؤول عن تلقّي الشكاوى صورة لابني. ولأنني لا أملك له صورة قابلني بتجاهل عجيب. ثم أن الشرطة حين ذهبوا إلى المدرسة التي كان ابني تلميذاً فيها، اخبروني أن مديرة المدرسة نفت وجود تلميذ لديهم بهذا الاسم. وقد أُقفل التحقيق لعدم وجود أدلة على شخصية ابني العزيز المسكين الذي صار مصيره مجهولاً.

نفخ الضابط على راحتي كفيه ثم دعكهما قائلاً:

- حسناً يا سيد وحيد.. سنجري بعض الإجراءات ومنها مراقبة هاتفك لكي نتعرف على مصدر الصوت. وأريد متمسكات رسمية عن عائلتك. ولكن قبل هذا، أريد منكَ الآن أن تذهب معي إلى شقتك، لكي ألقي نظرة إن لم يكن لديك مانع. وبالمرة نحاول العثور على صورة لولدك لكي ننشرها فيتم التعرف عليه.

هزَّ وحيد رأسه موافقاً وبالفعل نهضا الضابط ووحيد ومعهما شرطي سائق لسيارة الشرطة. وحين وصلوا إلى الشقة اعتذر عن الفوضى، وأخبر الضابط أن الشقة حالها كما يرى، بسبب أنه بلا عائلة بعد أن توفيت زوجته ولم يتزوج احتراماً لمشاعر ابنه المفقود. ثم أن الضابط سأل وحيداً باحثاً عن صورة لابنه ولعائلته وصديقه فقال وحيد هاتفاً:

- أه.. يا لخيبتي.. لستُ من هواة التصوير وجمع الصور. ولكن الصورة الوحيدة التي أملكها هي صورة لأمي، تلك التي تراها أمامك معلقة على الجدار.. سأذهب إلى غرفتي لعلي أعثر على صورة تخص زوجتي وابني المسكين أو صديقي الذي قتله المجرم صاحب الصوت اللعين.

وحين دلف وحيد إلى غرفته طالع الضابط صورة والدة وحيد، والتي كُتب تحتها عبارة ترحم على روحها، والسنة التي ماتت فيها، وقد كانت قبل ثلاثين سنة. وحين عاد وحيد من الغرفة خائباً ومعتذراً أنه لم يعثر على صورة واحدة لعائلته سأله الضابط:

- لم تقل لي يا سيد وحيد.. كم عمرك؟

- عمري ثلاثون سنة.. سأدخل في السنة الواحدة والثلاثين بعد شهرين ربما

نظر الضابط إلى وحيد طويلاً ثم سأله:

- ألم تقل أن أمك كانت تعيش في القرية وأنها توفيت خلال الأسابيع الماضية؟! فكيف قد توفيت قبل ثلاثين سنة كما هو مكتوب في تاريخ الصورة؟! هذا يعني أنها ماتت وعمرك مازال صغيراً ربما كنت بعمر شهور!!.

ترك وحيد الضابطَ ولم يجبه، وتوجّه فاغراً فاه إلى صورة أمه المعلقة، ونظر إليها طويلاً وصدره يتحرك كما يتحرك صدر حيوان صغير بعد الولادة. ثم أن الضابط سأله مرة أخرى عن مكان الهاتف الأرضي الذي يتصل به، لكن وحيداً لم يحرك عينيه عن صورة امه المعلقة. هذا ما دفع بالضابط إلى التوجه للبحث عن الهاتف. ثم عثر عليه بسهولة فقد كان موضوعاً على طاولة، وإلى جنبها مرآة قديمة لم تمر عليها فوطة تنظيف منذ مدة. بدأ الضابط بتقليب الهاتف والنظر إليه، فانتبه إلى أن سلك الهاتف كان مقطوعاً وليس فيه رأس، ذلك الذي يدخل في مفتاح الهاتف. فتش الضابط عن مفتاح في الجدار فلم يجد. حينها أدار وجهه لوحيد وسأله أن كان هذا الهاتف صالحاً ولديه خط من خطوط التوصيل. لكنه ظل واقفاً وصامتاً لبرهة ثم أرجع الهاتف ووضعه على الطاولة.

خاطب الضابط وحيداً وهو يطالع الهاتف العتيق:

- إذن يا وحّودي.. سنتأكد من هوية صاحب الصوت، بعد أن نجري مراقبة لهاتفك فلا تخف على نفسك. وربما سنعثر على ابنك المخطوف سالماً ونعيده إليك. إنه هاتف قديم!!. لعل أباك قد اشتراه بثمن غال في ذلك الوقت!!.

أنتبه الضابط إلى طول مدة الصمت. نفض كفيه ثم سار بهدوء صوب باب الشقة، بعد أن ألقى على المكان نظرة أخيرة، ثم خرج واقفل الباب على مهل. تاركاً صاحب الشقة وحيداً،  الذي ظل يطالعُ متسمراً كالتمثال صورةَ امه المُعلقة على الجدار..

***

أنمار رحمة الله

في نصوص اليوم