نصوص أدبية

صبيحة شبر: المحفظة

أرهقها التعب، وأمضها البحث، أياما طويلة قضتها تبحث عن عمل يقيم أودها مع أفراد أسرتها العزيزة، تضخم عدد العاملات في مصنع صناعة الملابس النسائية، وأدخلت عناصر شابة من النساء، بأجور قليلة..

- لا نملك أجرتك سيدتي، يمكننا ان نجعل سيدتين تعملان بدلا عنك ونعطيهما نفس ما نعطيك كل شهر ..

- وأنا؟ وأولادي؟ وسنين العمل والكفاءة التي بذلتها معكم؟

- لا ننكر جهدك، وإخلاصك، ولكل أمريء قدرة محددة، والشباب لهم طاقة اكبر..

متاعب كثيرة تتراكم عليها، وهي وحيدة، لا تجد من تلجأ إليه، ليقوم بمساعدتها، أهلها وناسها رحلوا من هذا العالم وبقيت وحيدة، تتذكرهم دائما، وتحن إلى الأيام الجميلة، التي كانت تجمعها وإياهم على الحب والوئام، تغير اليوم كل شيء، وأصبحت الأمور سيئة، لا طاقة لها بتحملها لوحدها، وزادت عليها الأعباء بموت زوجها، تراكمت عليه الأمراض بعد أن استغنوا عن خدماته، لكبر سنه، وتركها مع أولادهما الطلاب وحدها، لا تستطيع أن تتخلى عن واجبها للوقوف بجانبهم، حتى يكملوا دراستهم، ويرزقهم الله بأعمال تتناسب مع طموحاتهم ... تسير كثيرا على غير هدى، علّ المشي الطويل يبدد متاعبها الكثيرة، ويجلب إليها بعض الراحة، فقدت الإحساس بالطمأنينة منذ دهر، تتذكر معاناتها الطويلة، وكيف لفظوها،، وهم يحكمون عليها بالابتعاد عن العمل الذي وهبته سنين حياتها، وأخلصت فيه، وكانت تجد به سعادتها، وتحقق ذاتها في عالم قاس لا يرحم، وتحفظ كرامتها، ولا تحتاج أحدا

- وهل اشتكيت من العمل؟

- أنت مجتهدة، ولكن ماذا نقول لمن يعترض؟ وكيف يعرفون انك بهذا الاجتهاد؟

خطواتها سريعة، تود لو استطاعت أن تهرب إلى مكان بعيد، لتنسى حاضرها المؤلم وماضيها التعس، عمل مضن، وشقاء متواصل، وقد رضيت به،وأبوا لها أن تستمر فيه، سنوات من النضال تذهب أدراج الرياح، وكأنها لم تعمل، ولم تنفق عرقا وعاطفة وتعبا ومثابرة، وأقوالهم القاسية التي اتخذوها حجة لهم، لإخراجها من العمل، تطاردها باستمرار، سهام تبدد راحتها وتغتال أحلامها، بحثت طويلا في المؤسسات عن عمل جديد، يرحبون بها في البداية:

- مرحبا بك سيدتي، يسرنا أن نستعين بك، يحتاج عملنا إلى إنسان مخلص مثابر مثلك، تبدو عليك علامات الطيبة وحب الناس.

- يسرني رأيك

- ولكن، كم عمرك سيدتي؟

- آه آسفين جدا، لا يمكننا الاستعانة بجهودك، أنت بلغت سن التقاعد..

يطول بحثها بلا طائل، و يكثر خروجها من المنزل، لتجد مكانا آخر قد يوافقون فيه على طلبها، ولا يتخذون من العمر عائقا، فكرت أن تهرب إلى مكان بعيد، ولكن وضع أولادها المعتمدين عليها كل الاعتماد، يجعلها تبعد فكرها عن محاولة الهروب، من لها غيرهم في هذا العالم؟

تهيئ طعام الغداء في الصباح الباكر، وتقوم بما يحتاج إليه المنزل من تنظيف وعناية، وتستعد للخروج، ورغم أن محاولاتها كانت تقابل بالفشل، إلا أنها لم تفقد إيمانها الكبير، أن غدها لابد أن يكون أجمل من يومها المتعثر هذا، وان نشاطها الكبير وإخلاصها في العمل،وحبها له يمكن أن يذلل كل الصعوبات والعوائق التي تقف في الطريق ..

تعود منهكة إلى بيتها، تصعد درجات السلم بنشاط وهمة، تريد أن تحضر مائدة الطعام ..

أولادها يعودون بعد قليل من المدارس، يصطدم قدمها بشيء صلب ملقى على الدرجة الأخيرة من السلم:

- ماهذا؟

تنحني لتتفقد الشيء وتعرف طبيعته..

- انه محفظة نقود، ربما رماها صاحبها هنا، لابد انها فارغة، لايعقل ان يكون بداخلها بعض النقود، ولكن من يدري؟ ربما ..آه ..الحمد لله، نقود كثيرة.. وجدت الحل لمشكلتي أخيرا، بعد أن نفدت نقودي، التي كنت قد ادخرتها لحكم الزمن، الحمد لله، بعث لي تعويضا عن أيام السهاد والتعب وفقدان العمل.

تسارع إلى فتح منزلها، تفتح المحفظة، تعد ما بها، مبالغ كبيرة لم تكن تحلم بها، و قطع ذهبية ثمينة، وبطاقة هوية، تقرأ المعلومات بها بتمعن،

من يمكن أن يكون صاحبها المهمل، الذي أضاع محفظته على درجات السلم؟ الحمد لله، إنها من نصيبي، وسوف تفيدني وتؤمن معيشتي شهورا..

تحضر المائدة وتضع عليها الأواني، تسخن الطعام، وتضع الخبز، والماء والملاعق، بعد ثواني يعود أولادها..

إنها فرحة اليوم، فقد حلت مشاكلها لبعض الوقت، وبعد شهور حين تنفد النقود، ستجد حلا، يمكن أن تجد عملا، من يدري، ولكن ما بالها تجد الفرحة ناقصة، وتشعر ببعض الضيق، مابها؟ لماذا تفكر كثيرا؟ وما شأنها ان أضاعت جارتها الكسيحة نقودها، التي جمعتها لتقوم بالصرف على ابنها المسافر، إلى خارج البلاد للدراسة، لماذا لا تفرح، وتأخذ النقود التي بعثها الله لها، هي أولى من غيرها، ولكن ماذا تفعل جارتها؟ إن عرفت بضياع نقودها؟ ...وما شأنها هي؟ لتجرب جارتها حياة الفاقة كما جربتها، قد تكون الجارة أفضل منها حالا، فزوجها حي يرزق، ولكن زوج الجارة عاطل عن العمل، وجارتها المسكينة الكسيحة تعمل للأنفاق عليه، يا الله يا ما في الدنيا من مظلومين، لماذا تكثر من التفكير؟ النقود لها، ولن تعود إلى تنغيص نفسها بما يحدث للآخرين، ولكن هل تعلمت طعن من يحسن إليها؟ جارتها كريمة معها، وتقف بجانبها، وقد جربت أن تجد لها عملا، ولكنها لم تفلح، وخابت محاولاتها، من يدريني إنها حاولت، النقود لي، لتذهب الجارة إلى أي مكان ..

القلق يستبد بها، والحيرة تهيمن على تفكيرها، والأفكار المتعارضة المتصارعة تذهب بها في جميع الجوانب، من قال إن النقود لها؟ هل تعبت في جمعها؟ لقد تعبت كثيرا، في جمع نقود أخرى، وصرفتها على العائلة، ولو جمعتها لكانت أكثر من هذه النقود أضعافا مضاعفة، ولاستطاعت أن تكون من الأثرياء، ولكن شاء طالعها أن تقوم هي بالإنفاق، لتعجز عن جمع النقود..

- صه يا عقلي، إليك عني يا فكري، لماذا تتعاونان على الإيقاع بي، جاءتني الهدية إلى عقر داري، وحل الرزق بعد طول انتظار، ابتعدا عني.

وكيف تبتعد عن عقلها، وهل يمكنها أن تنأى عن فكرها؟ ماذا يتبقى لها، بعد ابتعادهما، لن تظل كما تريد أن تكون، لتذهب نقود الآخرين، سوف تعيدها إلى أصحابها، ولن تعرف الراحة حتى تعود إليها طبيعتها الجميلة

***

صبيحة شبر

31 تموز 2010

في نصوص اليوم