نصوص أدبية

علي فضيل العربي: مجرّد حلم معسول

كان مجرّد حلم معسول بعد منتصف الليل. لا يمتّ للحقيقة والواقع بأيّ صلة أو قرابة. الحمد لله أن وهبنا الله تعالى فسحة يأخذنا فيها النوم تارة إغفاء وتارة اخرى سباتا، لكي نغتسل من درن اليقظة ونحلم أحلاما معسولة وأخرى كوابيس مرعبة.

في ليلة من ليالي الخريف، بينا كان قادة جامعة الدول العربيّة، ونوابهم يمارسون هواياتهم (السياسويّة) في القمّة الواحدة والثلاثين في أحضان الجزائر البيضاء وكعبة الثوار. وما أكثر قمم العرب، قمم.. قمم.. قمم، على قول مظفّر النواب رحمه الله وطيّب ثراه.

رأيت، فيما رأيت، نفسي سائحا في بلاد العرب من البحرين إلى مراكش، على دراجة هوائيّة من صنع محليّ شرقا وغربا، كما يرتحل بعض المغامرين الهوّاة - من قارة إلى أخرى - على دراجاتهم الهوائيّة، لإثبات شجاعتهم وقوّة تحمّلهم ولفت رأي الرأي العام. كانت دراجتي سريعة، كأنّها بساط على كاهل الريح الذي، كالذي امتطاه فريد الأطرش ووصفه في أغنيته الشهيرة.

و كم كانت سعادتي – معذرة إذا قصّرت في وصفها – عظيمة، ودهشتي لا حدود لها، وأنا أجوب بلادي العربيّة، حرّا، طليقا كالطائر المهاجر، دون جواز سفر، ودون تأشيرة. لم تعترضني أسلاك شائكة، قديمة أو جديدة، ولا حراس حدود، في عيونهم شكوك وريّب في نواياي، ولا رجال جمارك في قلوبهم طمع.

وجدت أنّ الحدود قد زالت، والأسلاك والبوابات قد أزيلت عن بكرة أبيها. وعندما سألت أحد الرعاة، وهو سارح بقطيعه في أرض كانت مشطورة بين دولتين زمن الحدود:

أين الحدود التي كانت هنا؟

أجابني مبتسما:

ولم الحدود يا أخي؟ - وكم زلزلتني كلمة أخي، وكدت أن أبتلع لساني - نحن أمّة واحدة ؛ سلالتنا واحدة، وديننا واحد، وقبلتنا واحدة، ولغتنا واحدة وآلامنا واحدة، وآمالنا واحدة. وكل شيء فينا واحد أحد وعدوّنا واحد. لقد توحدنا، بعد فرقة استمرّت عدّة قرون.

واستمرّ حلمي المعسول، وكان شبيها بفسحة ربيعيّة بين الخمائل الجداول في فردوس الأندلس.

ورأيت في طريقي العجب العجاب. لافتات، كُتب عليها ( الجمهوريّة العربيّة المتّحدة). فسألت عن عاصمتها: فقيل لي: مكّة المكرّمة. وكان كلّما سألت عن اسم المكان الذي نزلت فيه، قيل لي: لا تقلق، أنت في الجمهوريّة العربيّة المتحدة، وعاصمتها مكة المكرّمة.

واستهللت رحلتي من طنجة الساحرة، وأزجت رياح الشوق دراجتي الهوائيّة، فبلغت مراكش الحمراء، كقصر غرناطة، ثم توجّهت إلى بلد المليون شاعر، في شنقيط (نواكشط)، تناولت ألذ السمك، وأعذب سمعت قصائد الشعر الأصيل..

واصلت رحلتي نحو الشرق الفسيح، الساحر، شرق الأنبياء والرسل والكتب المنزلة. فعبرت حاضرة القيروان، وسلكت الطريق التي وفد خلالها عقبة بن نافع وأصحابه، وصليت صلاة وسطى في الزيتونة، ثم يممت جهة الجبل الأخضر، موطن البطولة والشهامة، وقلعة المجاهد الشهيد عمر المختار ورفاقه، ووجدت في أهله المكارم والعزائم، ولمّا اجتزت صحراء أم الدنيا، فتحت لي القاهرة ذراعيها دخلتها آمنا، مطمئنا، كما دخلها المعز لدين الله الفاطمي والقائد جوهر الصقلّي وابن هانيء الأندلسي وابن خلدون. وبعد قاهرة المعز ومحمد علي باشا والعز بن عبد السلام، وجّهت دراجتي جهة الشام، عبر سيناء، ولم أجد للمعابر أثرا ولا ذكرا، وصلت غزة الأبيّة، ووجدت أهلها في أحسن حال، وقد زال عنهم الحصار الجائر، وعاد إليهم بحرهم وفضاؤهم. ولمّا عرفوا أنّني قادم شماليّ إفريقيّ من بني جلدتهم، ابتهجوا واحتضنوني، كأنّني ابنهم العائد من غربة طويلة، وسندبادهم.

قال لي أحدهم: أنت يا أخ من بلاد المغرب الكبير، أليس كذلك؟ قلت: أجل. أنا ممن قالوا، نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة. وساروا بي إلى مدينة القدس، ودلتها رفقتهم من باب المغاربة. وصليت الجمعة في المسجد الأقصى مع خلق كثير. وخلال مقامي في القدس لم أر جنديا إسرائيليا أو جندية إسرائيليّة. ما عدا جماعة من اليهود المسالمين يمارسون شعائرهم التلموديّة في ديرهم، جماعة من النصارى المسالمين، يحيون طقوسهم الإنجيليّة في كنائسهم. لقد كانت حمائم السلام في مدينة الأديان والعيش في كنف السلام والوئام والتسامح. ولمّا فرغت زيارتي إلى الشام، ومسجدها الأموي العظيم، وجّهت دراجتي الهوائيّة ناحية العراق، وأخذني الحنين دار السلام، بغداد هارون الرشيد والمعتصم بالله، وإلى دجلة والفرات وكربلاء والبصرة والكوفة، وتذكّرت قصيدة ابن الرومي في رثاء البصرة، حين خرّبها الزنج ( العبيد) فوجدتها كما لو يمسسها أحد بسوء. ثم واصلت رحلتي، فعبرت الخليج العربي كلّه، الذي أراده الفرس فارسيّا، لكن هيهات. ومن اليمن السعيد، عدت بحذاء المحيط، فالبحر الأحمر، فالبحر الأبيض المتوسط، إلى أن رست بي دراجتي الهوائيّة أمام بيتي المعلّق في أعالي القصبة العتيقة.

قال لي أحدهم:

لقد انتهى عصر التفرّق والتشرذم والخصام بين العرب. لم نعد أمّة واحدة باللسان والتنظير فقط، بل بالفعل والتطبيق. ها قد عدنا إلى سواء السبيل. أمّة واحدة، لا تفرّقها الأهواء والشهوات والأطماع والكراسي وووو. حدودنا، فقط، مع العجم والإفرنج، لا بيننا. طهّرنا أرضنا ـ التي قصمت ظهرها الحدود من الأسلاك الشائكة ومن الحراس الغلاظ الشداد ـ من تمائم الشياطين. وها نحن - وأعجبني حديثه بصيغة الجماعة – نسافر ونرتحل ونتواصل دون قيود أو عقبات أو تفتيش الجيوب والحقائب والنوايا..

و عندما استيقظت من حلمي المعسول..

رأيت أمة، قد جزأتها وفرقتها الأهواء والشيع، وضحكت من جهلها الأمم، على قول المتنبي. أمّة تحوّلت إلى شعوب وقبائل، بينها عداوات وحدود ونمائم وتنابز بالألقاب ودسائس، مجهولها أعظم من معلومها. أمّة لا تنقحها غير النوايا الحسنة والإرادات والعزائم، التي تأتي على قدر أهل العزم، على قول المتنبي. أمّة تملك ثروات طائلة من المال وكنوزا من العقول النيّرة والمعادن السائلة والصلبة، وسواعد الشباب وملايين من هكتارات الأراضي الشاسعة، الخصبة، والتي بمقدرها إطعام الكرة الأرضية. بالمختصر المفيد، أمّة غنيّة إلى درجة الترف والبذخ.

و أنظر إلى أوربا، التي توحدت في منظومة ( الاتحاد الأوربي )، فيأخذني العجب، ويغمرني الأسى، ويستولي عليّ الهمّ. قارة توحدت دولها المختلفة في شيء، لا تتمتّع بمقوّمات الوحدة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة والدينيّة، رغم تعدّد لغاتها وعملاتها وأصولها وكنائسها، وبينها أحقاد قديمة، وحروب طاحنة، ابتداء من حروب أثينا وروما وحروب القرون الوسطى، وصولا إلى الحربين العالميتين والحرب الروسية الأوكرانيّة الحالية.

إنّه لأمر عجيب، يدمي القلب، ويحيّر النفس الأمّارة بالوحدة. أن تنجح أوربا في تحقيق اتّحاد بين دولها وشعوبها، حتى أضحت، كما جاء في الحديث النبوي الشريف (كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).

بينا أمّة الحق والتوحيد، غارقة حتى النخاع، في عوالم الفرقة والشتات والنميمة والتباغض والتنابز بالألقاب. وتمزّق الجسد الواحد إلى أشلاء متناثرة، متنافرة، إذا اشتكى منه عضو، لم تأبه له بقيّة الأعضاء، أو ضحكت منه، أو كادت له المكائد بليل. كلّ حاكم من حكام شعوبها النائمة، يغرد خارج سرب الوحدة والوفاق. وكأنّ أمتنا العربيّة، تحوّلت إلى نسخة لآل داحس والغبراء ؛ عبس وذبيان.

لقد نجح الغرب في توسيع الهوّة بين الأنظمة العربيّة، وذلك بخلق أزمات وهميّة بين سياسييها، وإحياء النعرات الجهويّة الخامدة. وإثارة النزعات الطائفيّة والعرقيّة ودعم الحركات الانفصالية المسلّحة في بعض البلاد العربيّة مثل، السودان واليمن، وتشجيع الحركات العلمانيّة الراديكالية والتطرّف الديني، من أجل خلق حزمة من " الفوبيّات " في المجتمعات العربيّة. فوبيا دينيّة إسلامويّة، فوبيا إيديولوجيّة، فوبيا عرقيّة، انطلاقا من بوابة الديمقراطيّة الليبراليّة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل وحريّة العقيدة والجنس والمثليّة. وكلّ هذا وغيره، هو جزء من المؤامرة الدنيئة، التي حبكت منذ اتفاقية سايكس بيكو المصادق عليها في 16 مايو (أيار) 1916 م. والقاضية بتقسيم البلاد العربيّة بين فرنسا وبريطانيا، وبمباركة روسيا وإيطاليا.

أه، ليت ذلك الحلم، كان حقيقة، ولم يكن حلما، لكن لا بأس قد يتحوّل الحلم المعسول، يوما ما، إلى بلسم شافٍ.

***

خاطرة بقلم الناقد والروائي:

علي فضيل العربي – الجزائر

 

في نصوص اليوم