نصوص أدبية

علي فضيل العربي: رجل من زمن آخر

كم نصحتك مرارا وتكرارا. دع عنك عاداتك القديمة. دع عنك مثلا: حب المصلحة العامة والحرص عليها. دع عنك التضحية والانضباط في أوقات العمل. دع عنك مثاليتك الأفلاطونية التي طالما سببت لك الحسد والكراهية والمكائد. دع عنك الالتزام والترفع عن كل عطاء مشبوه...

ألم أخبرك يا مغفل أنّك تنفخ قربة مهترئة الإهاب ؟  ستنفجر في وجهك  يوما. إنك تصطاد في بحر آسن، قروشه لا تعرف لغة الشبع. تمتص دماء ضحاياها، فلا تدع منها قطرة واحدة.  تلتهمها كالعفاريت....

لكن بدت لك نصائحي الأخوية الباطلة ـ والتي هي فعلا باطلة ـ تحريضا على الانحراف والخيانة. رميتها في سلة الذاكرة المهملة، أو ربما لم تتعد حافة السمع. وهذا حق من حقوقك الديمقراطية.

وكانت نصائحي الباطلة -  ومازالت -  مجرد كلمات رجل فقد جلّ قيّمه، واسودّت دفاتر أيامه. رجل فقد رجولته في زمن النخاسة الذكورية. رجل على أهبة الولوج إلى مملكة المجانين الرحبة.

و كم كنتُ أرمق في مآقيك قرارات الإدانة لي وأنت تردد في صمت بليغ:

- أنت رجل أنانيّ، إنتهازيّ، بلا قلب.

وكنتَ – ومازلتَ صادق الحكم – أنّني رجل من دهر غير دهرك. ومن طين غير طينتك. لكنني لا أكن لك حقدا، ولا حسدا، ولا نكاية.. ولا أخفيك، أنني مشفق عليك من هذا الزمن الذي رأسه  كرأس الأفعى .

أعرف أن مسارك المهني يثير الإعجاب، ونواياك بيضاء، ناصعة كثلج لم تمسسه يد إنس أو جن. وطنيتك لا غبار عليها. آراؤك هي عين الصواب. لكنني،  لطلما رددت في غيابك - وأنا على يقين - أن كلامي سخرية وغيبة ومضغ للحمك وتفتيت لعظمك مع سبق الإصرار:

- هه، يريد أن يصبح ملاكا وسط الشياطين. يتظاهر بالمثالية.كه..كه..كه..

انظر إليّ – مثلا- ودقّق النظر وتأمّل..

أنا موظف، صاحب مركز راق وشهرة ممدودة الأيدي والأرجل بين الناس. يتهافت عليّ  الكبراء من وجهاء الناس. ما كنت لأبلغ ما بلغت لولا اكتشافي لطريقي الحريريّ قبل فوات الأوان. لا وجه للمقارنة بيننا. كذب من قال أن الشهادة سبيل للمجد. هل أدركت ذلك أم طُمس على بصيرتك؟ انظر إلى أصحاب الشهادات. هم على الأرصفة واقفون، مبهوتون، حائرون، عيونهم معلقة في الضفة الأخرى من البحر، حالمون بـ(حرق) أمواجه تحت أجنحة الظلام. إنهم ملتصقون على الحيطان حتى صاروا ديكورا لها. بل قطعة منها. هم (الحيطست) يا صديقي بكل بساطة.

هل أدركت ـ يا صديقي ـ  أن الإكثار من التعلّم مآله نش الذباب، أو بيع السجائر والشمة

أو الكاكاو في أحسن الأحوال.

انظر إليّ  مثلا.  أنا لم أتجاوز المرحلة الإبتدائية.

قيل لأبي:

ـ ابنك تلميذ مشاغب، لايصلح للتعليم. لاينجز واجباته المنزلية. كثير الغياب ووووو

و في نهاية السنة وجدت نفسي خارج جدران المدرسة وقد كُتب لي في الكشف:

ـ   تلميذ مشاغب ومهمل. يُوجَه إلى الحياة العملية.

ملّ المعلمون من شغبي وإهمالي. ولمّا ذهبت أمي إلى الشوافة، قالت لها:

ـ ولدك  له مستقبل مشرق.  سيصبح (حاجة) كبيرة.

وابتسمت أمي وهي تدس في كفّ تلك الشوافة بعض ما ادخرت من الدراهم.

وأدخلني أبي الجامع. كان شيخنا رجلا فظا، أكولا، همه في بطنه، حريصا كل الحرص على حضور مآدب المآتم والأسبوع والأربعين والقراءة في المقابر وكتابة التمائم   ليملأ بطنه وجيبه. كان كلما نُعي أحد ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة، ودعا سرا:

- اللهم كثّر الأموات والمجانين.

ـ2ـ

عندما عرفت أنّك وراء القضبان، في ظلمة زنزانة نتنة لا حظ من دفء الشمس، وتسكنها الرطوبة  في عز الصيف، داهمني وابل مجنون من الغثيان. وقلت بتعجب وحسرة:

- هذا الذي كنت أخشاه عليه. ليته أصغى إلى بعض نصائحي. مسكين ذاك المكان لا يليق بأمثاله. آه من دهر لا يرحم الأوفياء وذوي القلوب الناصعة البياض.

لقد وصلتني حيثيات  تلك المحاكمة المحبوكة بحبال الخزي والعار.

قال لك القاضي:

- أنت متهم بعرقلة المصلحة العامة. ما ردّك؟

- هناك غش في الإنجاز سيدي القاضي.

- لكن معاينة اللجنة التقنية  تنفي ذلك، وتؤكد سلامة المشروع وخلوّه من النقائص.

كل حججك كانت باطلة في نظرهم . كانت أوهن من خيوط العنكبوت. كبلتك ـ يا مسكين ـ حبالهم. هزمتك أباطلهم.

كم قلت لك:

- دع عنك أكذوبة المصلحة العامة. ارحم نفسك وأبناءك الذين مازالوا أفراخا، زغب الحواصل.

تأكد يا بن الناس بأنّك ستحيا متعبا منهوك القوى، لن تشفع لك شهادتك، ولا ذكاؤك، ولا دماثة خلقك، ولا مبادراتك الرائعة. لن تنال ترقية. سيرمى ملفك المهني في درج المغضوب عليهم. لأنّك رجل لا مكان لك في هذا الزمن. كأنّ روحا خرافية، قديمة، حلّت بجسدك.آه، متى يستقيم ظلّك؟

كم حدثتك عن مساري المهني. ألم أخبرك بأنّني لا شيء يشغل بالي سوى مركزي. أنا مغرم بنبتة اللبلاب. أعشقها منذ بلغت الفطام. وتعجبني الحرباء لأنّها تتقن فنّ العيش في

شتى الظروف. إذا ضحك مديري تضاحكت. إذا غضب  غضبت له. إذا أغلظ لي الكلام ابتسمت له ولمت نفسي. أنت تعلم أنّه كلما علا مركز المدير، ازداد تأنيبه، وتلونت ألفاظه بشتى أنواع الشتائم. كقوله:

ـ  يا كلب القمامة. يا حمار الدوار. يا واحد الرخيص. يلعن أبوك، يلعن أمّك..  وووووو.

كنت دوما موظفا طائعا. مطأطأ الهامة.أسعى إلى إرضاء مديري بكل جوارحي. لا تهمني نفسي. أزوده بالأخبار. وأعترف له بأنه قدوتي في السر والعلن.

ألم أخبرك بأنّني جهويّ حتى النخاع ؟  إن كان مديري من الشرق  شتمت الثلث الباقي من الوطن. وإن كان من الغرب شتمت ثلث الوطن الآخر.و هكذا دواليك. أوقر وليّ نعمتي. ولا ضير في الكذب والنميمة وخطف الرشاوي. لا أخالف له رأيا. لا أعرف منطق الرفض.أبوح له بأسراري. لا أدعي أمامه بالإيمان والتقوى. لا أضيّع وقت العمل في الوضوء والصلاة.و أحيانا أسعى له عند المومسات الجميلات. وأشتري له من مالي الخاص زجاجات الروج والويسكي. وهاأنا كما ترى أقفز من مركز إلى آخر بكل سلاسة.

آه يا أعزّ الأصدقاء، في زمن تناسل الأعداء كالجرذان في بالوعات المدن المتّسخة. ألم أنصحك ـ قبل سقطتك ـ بالحذر من  أن تواجه التيار وحدك؟  لن تغيّر البلد بمفردك. التيار قويّ. كنت تهرول عكسه حتى جرفك نحو قاعه دونما رحمة أو شفقة.

قال لك القاضي:

- أنت متهم بتهديد النظام العام. ما ردّك؟

- أنا لست سياسيا، أو مجرما. لم أختلس مالا من  بنك. لم آخذ رشوة. لم أتسبب في إفلاس شركة.

- لكن لو ألغت البلدية هذه السكنات بحجة عدم المطابقة والصلاحية، سيخرج المواطنون إلى الشارع محتجين، وتحدث الفوضى.

- وهل يُعقل أن توزع البلدية للمواطنين الأبرياء مساكن مآلها الانهيار العاجل؟

- ومن فوّضك للكلام باسم المواطنين؟

- ضميري.

- لكن المواطنين في حاجة إلى سكنات يا صاحب الضمير.

- هذه السكنات مغشوشة.

- هل يُعقل إلغاؤها  وقد كلفت الخزينة الملايير؟ كيف يمكن حلّ أزمة السكن؟

- حياة المواطن أغلى من الملايير.

ولم تنقذك كل حججك من مصيرك المظلم. رفضوا تقريرك، ثبّنوا تهمتك. صنفوا قضيتك في سلم المؤامرة السياسية التي تهدد النظام العام. ولمّحوا إلى فرضية الأيدي الأجنبية . ومن سوء حظك أنّ قضيتك تزامنت مع اندلاع نيران الربيع العربي.

وللمرة الألف بل المليون، أقول لك بلغتي  الخالية من المجازات والمقدمات، أنك رجل لا تصلح لهذا الزمن الموبوء. أنت في عصر غير عصرك. عشت عفيف النفس واليد

واللسان. لم تقرب حراما بيّنا. ولا أغرتك الشبهات يوما. وكم رأيت بطونا انتفخت من السحت والربا والرشوة والاختلاس والهدايا المسمومة. وكم وكم وكم....

و لا أخفيك سرا إن قلت لك:

ـ  إنك رجل مقهور في زمن صارت فيه الرجولة رعونة وتهورا وغباوة. أنت نكرة بين المعارف والغرباء . أرأيت يا صديقي كيف صار الناس ينعتونك؟  إنك تدعي الطهارة،

وتهوى التميّز طلبا للمدح. رجل ليس له ذكاء دنياويّ.

كلما تذكرت موضعك الذي أنت فيه قلت بألم وحرقة:

ـ أخشى عليك ـ يا صديقي ـ  من النمل والدود. ليتك تتطهر من طهارتك، ومن أدران التعنّت والتحجّر. آه لو تصبح نورانيا وعصرانيا وتتجرد من عاداتك التي سلبتك حريتك. انظر بعين المستقبل والرحمة إلى زوجتك وأبنائك....

(تمت)

***

قصة قصيرة بقلم الناقد والروائي:

علي فضيل العربي – الجزائر

في نصوص اليوم