نصوص أدبية

هيام مصطفى قبلان: نقرات الكعب العالي

قطرات من النّدى تنزلق على حافة النّافذة، كعادته كلّ صباح، يختلس النظرالى العمارة العالية مقابل شقته .

يرمقها وهي تمشّط شعرها الليلي الطويل، تسترخي على الكنبة بقميص نومها الشّفاف الذي يكشف عن جسد بضّ ومشاغب .

يحبس أنفاسه يتكىء على جانب السّرير محدّقا بسقف غرفته، يمتصّ بتلذّذ ريقه الأول المائع على معدة خاوية، يمسح عرقه ...

-يا لها من ليلة قاسية، أشعر بدوار " دوّختني هذه الأنثى"..!

دخل الحمام بخطوات مترنّحة، رشّ جسده بالماء البارد مستعيدا نشاطه، تأبّط حقيبته الجلديّة وخرج الى الشارع الطويل الذي خذله وصفعه الآف المرات، وهو يعود خائبا باحثا في غربة الليالي عن وطن انطفأت مصابيحه، عرّش على جنحه الخوف وباعه المنحرفون والأنذال، كان يعود بقلبه المصفّر ليريق دموعه على وسادة خالية يحتضنها منتحبا على مناديل الذاكرة .

رائحة القهوة تناديه، عرّج على المقهى القريب ارتشف قهوته السادة، عطر امرأة يفوح بالمكان ...وكأنّه ظلّ يسير على الماء، تتراشق اللحظات، يحدّق.

- هي بجسدها الرشيق، صاحبة قميص النّوم الشّفاف.. أميرة أحلامي ...

خفقات قلبه تزداد، سار وراءها، كلّما ابتعدت نقرات كعبها العالي ينفكّ رباط حذائه، يتحلحل، يتطاير، وأصوات الباعة والحافلات المكتظة بعمّال الصباح تحتفي بقدومها راقصة على ايقاع وتر مشحون بهمس مجنون.

أقراص الزعتر الساخنة من مخبز الحي تتدحرج ككرات ملتهبة تعبق بنار مقدّسة تحرق جسده تغويه بطقس من طقوس العبادة .

- لو يتوقّف الزّمن، يصمت الكون لأتنفّس ليلها، ألامس شعرها، أغرق بعينيها ....!

تذكّر بنت الجيران في حيّهم القديم وهو يلاحقها بين البيوت المتراصّة.

فجأة تتوقّف أمام كشك لبيع الصحف والمجلات، تبتسم للبائع، يحاصر مساحتها ومن خلفها تسقط من يده علبة سجائره، تلتفت، يلتقي اللّحظ باللحظ..

ينحني ليلتقط العلبة، فتسبقه يدها، وقلبه يسبقه اليها.

-شكرا سيدتي ...

وهو يتأمّل وجهها الذي طالما صاحبه في مساءاته حتى مطلع الفجر، احتوى جمالها، ارتبك كطفل بتول يتلعثم أمام قامتها.

تهمّ بالمغادرة وهي تشقّ طريقها بثقة وكبرياء

-لو سمحت يا أستاذ ينتظرني عمل

تبتعد ونقرات كعبها العالي كطنين نحل في قفير، عطرها يعلق مثل فراشة على علبة سجائره وأصابعه التي لامست أثر لمساتها تتخدّر.

في قريته التي ولد فيها لا يستسلم الرّجل من المرة الأولى، ولا تعصاه امرأة، كسحابة مشوشة تمرّ بباله زوجته " زهرة" بجلبابها الذي يكنس مصطبة البيت.

"زهرة" الزّوجة المطيعة، الخدوم الصامتة، حتى حين رمى عليها يمين الطلاق وتركها، لم ترفع نظرها، خنقته رائحة الرّطوبة التي تفوح من تحت جلبابها، وقدميها المتشققتين وهي تهرول حافية على الطريق الترابي المؤدي للحقل.

ذات الكعب العالي تتمايل، شعرها ينهمر سيولة مع نسمات الصبح الباردة، يتراقص خصرها كغزالة بريّة، تنهمر من تحت ثوبها زهرة رمان يلعقها بريقه الناشف المتعطّش للون ورائحة ومذاق.

في زاوية الشارع يستقبلها رجل بسيارته السوداء الفاخرة، تصعد وتنطلق في الفضاء ضحكات مزغردة، يتشظّى فؤاده تجحظ عيناه، يدسّ علبة سجائره في جيبه ويراقب طرف السيارة التي تقلّها، لحظات ويختفي ظلّها، خطوتان يمتلىء المكان بدويّ وضجيج، وأصوات جمهرة المارين الذين أحاطوا بسيارة الاسعاف بأضوائها اللولبية اللامعة، يركض لاهثا للجهة الأخرى يتعثّر بثقل رجليه، كعبها العالي السابح بدمها على الاسفلت تخترق نقراته أذنيه فينزف احتراقا.

تنفلت من علبة سجائره فراشة بلونها الأحمر، شفافة كلزوجة اللمسة البكر..يبكي بين راحتيه، يهوي حلمه المدنّس من ثقوب السراب .

***

هيام مصطفى قبلان

في نصوص اليوم