نصوص أدبية

فرات المحسن: صرخة مفجوعة

النهر يكتم أسراره / المشهد الثاني /ج الأخير

ذلك اليوم خرجت من الدار، أجاور في سيري جدران البيوت في حي الكسرة. كانت الشمس توشم بخطوطها الحمراء  الحافات العلوية للبيوت مبشّرة بظلال مغيب قادم. وضعت البندقية الرشاش نصف أخمص في صندوق كارتوني صغير للعبة صبيان. جلست في المقهى القريب لسوق الكسرة حيث كان موعدي مع وهاب والزبون الجديد. جلست أطالع الوجوه بحذر. قدم وهاب ومعه شاب صغير ضئيل الجسد نحيله. جلسا عند الطرف الداخلي القصي للمقهى. انتظرت أن يكملا شرب ما طلباه. بعدها تحركت خارج المقهى فتبعني الزبون الذي عافه وهاب وذهب في الاتجاه الأخر.

أغلب المرات كنت أختار لعملياتي الجانب الأيمن من الشاطئ تحت جسر الصرافية الحديدي،حيث هناك مكان قريب ومناسب لفحص السلاح واستعماله.

أسفل الجسر مجموعة من الحفر والتلال الرملية الصغيرة. ومع شحّ الماء في النهر امتدّ لسان رملي طويل يسهل المشي عليه للوصول إلى ما يقارب منتصف النهر. المنطقة القريبة تحيط بها مؤسسات حكومية خالية من الموظفين تماماً. حتى البيوت خلت من ساكنيها، خوفاً من المعارك الطائفية التي تندلع بين وقت وآخر في المنطقة. كل ما في المكان يبدو مناسباً وبعيداً عن أعين المارة. ليس هناك مشاة ولا تخطر السيارات بالقرب منه وبالذات عند غروب الشمس، حتى الشرطة والجيش ماعاد لهما وجود قريب من تلك المنطقة. أصوات الإطلاقات النارية تلعلع بين الحين والآخر على جانبي الجسر. الساعة قاربت الخامسة مساءً وثمة ضوء ينسحب إلى خلف البيوت المغلقة والهامدة في جانب الكرخ من الجسر. دخلت المكان بحذر، عاينته جيداً،  ثم لوحت لزبوني أن يتقدم. رأيت غراباً  أسودا نحيلاً حط على سياج الجسر وصاح بفزع ثم طار. شعرت بشيء من الضيق وخطر في بالي أن هذا نذير شؤم. كانت والدتي تقلق وتتبرم عندما ترى مثل هذا الطائر الأسود يحط فوق سور بيتنا، وتبقى اليوم بطوله وهي في حالة تبرم وتأوه، وبمزاج عكر وخصومة معي ومع غيري. أظنني ورثت عنها هذا الهاجس المرضي. تداركت الأمر لا بل حاولت إهماله كي لا يسبب ليَ قلقاً واضطراباً في هذا الوقت بالذات.

حدق الشاب بوجهي وكانت أساريره تنفرج عن ابتسامة مرتبكة خجولة. ران الصمت بيننا بادئ الأمر ثم راح الصبي يتمعن قطعة السلاح.  كان يبدو صبياً في كل ما تحمله تقاطيع وجهه، ويوحي به جسده الناحل. راح يطلق حديثاً غريباً عن حاجته للسلاح، ومع الحديث كان جسده يتلوّى ويداه تتحركان بسرعة وكأنهما ذراعا آلة. مع استرساله في الحديث أبدى بعض النزق والتعابير التي توحي بطفولة غير سوية، وليس فيها الشيء الكثير من الدعة والسلام. كان يرتدي قميصا لماعاً مهلهلاً مبعثر النقوش، ولكن ألوانه تبدو مريحة ومبهجة، ويرتدي فوقه سترة خفيفة بلون أخضر غامق. تركته يتحدث دون أن أقاطعه، فأنا أعرف أن الاسترسال في الحديث سوف يبعد عنه الخوف الذي شعرت بوطأته عليه، والذي تفسره حركة الأصابع  والجسد غير المستقرة. ورغم نحوله كان يبدو بصحة جيدة، متوسط القامة وجهه طفولي يتسم بالرقة. مع كلامه المتقطع المتوتر، كان يدفع ضحكة متكررة خفيفة، لها رنة طفولية محببة. فجأة شعرت بالحنو عليه، وودت أن أبعده عن هذه اللعبة القذرة والخبيثة. ولكنني عزفت عن هذا وأنا أوجه له استفساراً مباشراً.

ـ زين ... أنته تعرف بالأسلحة؟

لم يتردد وأجاب بسرعة:

ـ أي ..أي...جان أبويه عنده مسدس وجان ينطينياه من نروح للمزرعة.

ـ بس اليوم راح تشوف سلاح جديد.

ـ ميخالف..كلشي حلو..أجربه ..

ـ شنو شغل ابوك ..؟

ـ صاحب معمل حلويات..هو مو هنا.. 

ـ لعد وين أبوك..؟

ـ خطفوه..

سهمت وأنا أطالع وجه الشاب حيث كبت عيناه واختفت الابتسامة عن محياه، واستكانت أصابعه متشابكة تعصر بعضها بعض. لعلّ البعض لم يواجه مثل تلك الحالة، ولا يدرك كنهها ولكني كنت أشعر بما يجول في خاطر هذا الفتى. شاهدت في عينيه مقدار الألم الكامن، رغم حركتهما الفزعة المرتبكة. تلك الالتماعة المعبرة عن مغزى أن تكون لوحدك تواجه كل تلك الآثام والرعب المبثوث من حولك. شعرت برغبة عارمة أن أنجز العمل بسرعة وأترك المكان ليذهب الشاب بعيداً عني.

ـ خلي بالك ... البندقية سريعة الإطلاق ..تحتاج أن تكون قويا وتسيطر عليها...هاي مو مسدس..راح أراويك شلون تفككه وشلون تشدها، وبعدين أنته تسوي مثلي ..خوش

ـ أي ميخالف.

سحبت البندقية من الصندوق ووضعتها في حضني ثم نزعت مخزن الإطلاقات وبدأت التفكيك. كان الشاب يراقبني بنباهة ودهشة. أعدت تركيب البندقية ثم سلمتها إليه ليفكك أجزاءها. ارتبك بادئ الأمر ولكني لاحظت بإعجاب قوة نباهته وقدرته على حفظ العملية بدقة مناسبة. في عملية إعادة التركيب نسي من أين يبدأ وكيف يعيد الترباس إلى مكانه، فأشرت له ببعض الملاحظات فقام بالعملية على أتم وجه. ثم طلبت منه إعادة عملية التفكيك والتركيب لمرة أخرى فأعاد العملية بجدية ودراية جيدتين.قدمت له النصيحة عن  كيفية المحافظة على السلاح باستعمال النفط والزيت بين فترة وأخرى، لكي لا يصيب  البندقية الإهمال ويدبّ فيها الصدأ من الداخل.

ـ هسه راح أنجرب السلاح قبل ما تستلمه وتروح الله وياك..

ـ أني هم أجربه؟

ـ طبعاً... لعد ليش تشتريه ..

أعدت مخزن الإطلاقات إلى مكانه وسحبت الأقسام بخفة ثم أطلقت رشقة سريعةً ترددّ صداها في المكان وطار إثرها جوق عصافير. ناولت الشاب البندقية بعد أن أغلقت عتلة الأمان. أخذها بين يديه وهو يطالعها بانبهار ظاهر. سحب العتلة ولكنها امتنعت عن التقدم، فرفع عينيه نحوي وكأنه يتوسلني لتفسير ما حدث. ضحكت ونبهته  لضرورة التدقيق بمجمل العملية، وضع المخزن أولاً، ثم وضع عتلة الأمان ومهمتها في البندقية، ووجوب بقاء البندقية في حالة الأمان عند عدم الاستعمال، ودفع العتلة إلى الأسفل حين الاستعمال، بعدها يأتي سحب الأقسام، وفي حالة الرمي الضغط على الزناد، ومن الواجب أن تسند البندقية إلى حوض الكتف ومسكها باليد اليسرى  بإحكام، وإلا سوف تقفز البندقية ولا يستطيع المرء السيطرة عليها، وربما يسبب هذا خطأً قاتلاً، وإن لم يسيطر المرء عليها بشدة، فإن عملية ارتدادها سوف تؤذي عظام الكتف وأنسجته. ونبهته لضرورة أن يبدأ بتجربة الرمي المفرد، وشرحت له الفرق بين هذا والرمي بالرشقات السريعة.

لم أشأ أن أسأله عن سبب رغبته بالحصول على السلاح، ولم يكن مثل هذا السؤال ليثقل بالي في المرات السابقة أيضاً، فلكل شخص أسبابه ومبرراته، وإن أردت استجلاء مثل هذا الأمر سيكون من السخف أن أجد ما يبرر اقتناعي من عدمه. الأحداث في الغالب تسير ليس بما يظن المرء وبما يطمئنه، ولكن في كل الأحوال ومثلما يقال فإن للضرورة أحكاماً، ولا جدوى في البحث عن الدوافع أو سبب الاقتناع، ومثل هذا الأمر إن بادرت في البحث عنه، سوف يضعني في دوامة الهموم والمشاكل الشخصية للزبائن. وقناعتي أن الجميع تعرضوا لحوادث خلقتها حالة الانفلات الأمني، وهذا بالذات ما يغني عن السؤال.المهم أن المرء لا يستطيع العمل وهو يفكر بهموم الآخرين ومشاكلهم في وقت واحد.

إنجاز المهمة بوقت قصير يعني الكثير، وفي المقدمة من ذلك أن تخرج وزبونك من هذا المكان سالمين معافيين، ودون أن يكون جسدك ممزقاً ومرمياً عند طرف اللسان الرملي تحت حافة الجسر الحديدي.

وضع الشاب البندقية في حفرة الكتف فطلبت منه تثبيتها بقوة وإمساكها جيداً قبل الضغط على الزناد. اندفعت الإطلاقة، واخترقت الهواء بصفير مسموع متجهة نحو الضفة الأخرى للنهر. علت وجه الفتى ابتسامة فخر، وومض بريق غريب في عينيه. لم ينبس بكلمة ولكنه كمن كان يقول ليَ.

ها شلوني ...مو كَدها..

وضع البندقية مرة أخرى في حجرة كتفه بعد أن سحب عتلة الأمان ووضعها في موضع الرشق وضغط على الزناد بعجالة فانطلقت الرصاصات بحدة. تحرك جسده وتمايل بعنف، ولم تستطع يداه السيطرة على حركة البندقية واتجاه الرمي. قفزت وسحبت البندقية بقوة ووضعت الفوهة باتجاه الأرض.

سمعت الصرخة المفجوعة التي اخترقت السكون وتردد صداها بين ضفتي النهر.نظرت نحو النهر، شاهدت القارب المنساب وئيداً. ترنح جسد الرجل ثم سقط في حوض القارب. تأكدت من أن الرصاصات أصابت صاحب القارب الذي كان يتهادى وسط النهر قادماً من الجهة الشمالية نحو الجسر. سحبت مخزن الرصاص وطويت أخمص البندقية ووضعتهما في العلبة وسحبت الشاب من يده وتركنا المكان.

***

فرات المحسن

 

في نصوص اليوم