نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: سمك بأصداف (1)

رواية مهجرية قصيرة

(يلحق ماسبق)

***

كنت أراجع الحسابات في الساعة الرابعة، وأتهيّأ للمغادرة حين رن جرس الباب، فإذا هي أمامي:

دهشة

انفعال أكاد لا أخفيه علامة فأل أخرى.بدأت يومي بعينين تخيلتهما مرعبتين وختمته بابتسامة شفافة:

- مساء الخير؟

- أهلا مساء الخير.

- أتغادر الآن؟

- أراجع الحسابات ..وقلت ضاحكا:خمنت أنك لا تأتين فقد ظننت السمك لم يعجبك.

- كان رائعا المرة الأولى نجربه..لم ننتبه له من قبل كنا نفضل الكارب وسمك ابراهيم..

- لا مشكلة سأوفِّره لك

- قل لي هل مرت أمّي عليك في الصباح لتسألك عن الكارب؟

ذُهِلْتُ

سمعت شيئا بين المعقول واللامعقول:

السيدة ذات العينين الماكرتين أو الساطعتين أَمِ القويَّتين أمّها...السيدة الطويلة النحيفة ذات الخمسين عاما بوجه عاديّ لا أعني قبيحا غير أني واجهت جمالا آخر فتاة في منتهى الرقّة:

- مرّت من هنا سيدة رشيقة في الخمسين من عمرها ذات شعر أسود ترتدي بدلة رمادية وتلفّ شعرها بشبكة ذات أصداف وطلبت الكارب باسم يانسن:

- هي أمّي مرت بك في طريقها إلى البيت خلال مشيتها اليومية .

- سأوفر لها الكارب.

- اعتادت أن تطعمنا السمك كلّ يوم أربعاء

- تستطيعين الاتصال بها الهاتف تحت أمرك.

دفعتُ باب العارضة الجانبي فدلفتْ إلى الداخل وقصدت دكَّة الهاتف، تحدثت بالعبرية بضع كلمات، والتفتت إليّ، سبقتها قبل أن تشكرني:

- عندكم بطاقة المحل اسمي وليد على فكرة لم أعرف اسمك.

- سوزي

- على فكرة سوزي وجدت محلا آخر في Nørrebro هناك الزبائن أكثر والمحل ملك البلديّة أيجاره أرخص لكن لاتقلقي سآتي لكم بالسمك إلى البيت.

- أين في Nørrebro؟

- هناك محل للسمك في المفرق عند jagt vej محلي سيكون باتجاه البحيرة نهاية المقبرة.أتعرفين محل الأسماك هناك؟

- الحقيقة نحن جدد هنا انتقلنا من الشمال...آرغوس أنا وأمي وأبي وبقي أخوان يديران تجارتهما هناك.

- طيب يبدو أن الحديث يشغلنا هل تصعدين لشرب كأس شاي.

- أنا الآن متعبة كان لدينا درس عملي في طبيعة الأرض شمال كوبنهاغن حفر وتحليل التربة، وعلي ّأن أذهب وأستحم لأراقب الليلة الساعة التاسعة شريطا في التلفاز؟

- أي شريط؟

Lad mig kysse din sommer fugl[i] (وأردفت) :رومانسيّ!

اليوم نفسه وضعني بين امرأتين أمّ وبنت:واحدة تسعدني بابتسامتها وأريحيتها ، وأخرى أخاف من عينيها.ليس هو الرعب.شئ ما لا أميزه، لا أعرفه ولا أستبطن سرّه، وكان اليوم نفسه يفصلني عن شارع fredrekssund ويبعدني عنه.. استقبلته أول يوم بحماس.كتبت لافتات على الواجهة الزجاجية.سمك.نحن ننفذ طلبكDu ringer vi bringer رسمت ثلاثة سمكات على الواجهة، أنظر إلى عنوان المحل بزهو:fisk الزُخْرُف ذاته والكتابة سوف تتحول إلى شارع آخر أشعر أني أرتبط به أكثر من أي مكان على الرغم من الرتابة التي يبعثها فيّ، وحين حلّ يوم الأربعاء، قدت شاحنتي إلى بيتها.لم يكن uglevej بعيدا عن محلي، تابعت باتجاه التقاطع وانحرفت نحو اليسار كانت هناك مجموعة من البيوت التي تمتدّ في حارة ضيقة.توقفت عند الباب، كان معي السمك وعلبة remoulade.قابلتني سوزي بوجهها الطلق ويدها تقبض على حفنة أوراق:

- شكرا لك.

- ليكن هذا هدية مني بمناسبة سكنكم الجديد.

- أووه هذا كثير.شكرا ألف شكر

Det var så lidt[ii]

- مادام الأمر كذلك فلا يصحّ أن تذهب هكذا يمكنك أن تأتي وتشرب شيئا.

- أنا متعب ولا أرغب أن أزعجكم برائحتي ثمّ هناك بيتان آخران ينتظران..

وقتها رغبت في أن أرى الشريط.لم تطلّ عليّ السيدة ذات العينين الجارحين.استقبلني وجهها الآخر الصبوح ذو الابتسامة الرقيقة، وزعت السمك على بيتين في Nørrebro، وانتعشت لحمام دافئ، ثم استرخيت على الفراش حتى خشيت أن يغالبني النعاس فيفلت مني الشريط.

أخبار روتينية تبعث الضجر

باولة شلوته يتحدث عن السوق الأوروبية المشتركة

القمح والحصاد

اسرائيل ...لبنان

العراق...إيران..الخمير الحمر ..التاميل..

المجاهدون في إفغانستان..روسيا تنهزم.

التاميل والملف الطويل يتساءل مذيع النشرة:كم كيلومترا يصل ملف التاميل؟

خشيت أن أغفو فيفوتني الشريط، نعمت بكأس شاي، وفي الساعة التاسعة بدأت معه، أيضا عن اليهود، الشريط يتحدث بالإنكليزية، وعيناي مشدودتان إلى الترجمة الدنمركية...الدنماركية صعبة.من حسن حظي أني فلتُّ من بلدي في سن العشرين.ذاكرتي ساطعة ، فتعلمت اللغة بيسر، وكم رغبت أن يدبلج التلفاز الدنماركي الأفلام الإنكليزية مثلما يفعل الألمان.تابعت معظم الكلمات، البطل يقيم علاقة مع شابة يهودية.يبدو متردّدا.تقول له قبلني .ضمّني.خذ شفتيّ.يعجب بوشم فراشة على فخذها، وتكاد البطلة تيأس منه، وتحاول أن تسقيه شرابا سحريا يقضي على عقدته.

ليس هناك من موت

ولا قتل

ولا معسكرات اعتقال..

لم أبتعد عن التأويلات التي قادتني لأن أغفو، هي العفوية التي دفعت سوزي أن تخبرني عن الشريط، لا أظنّها تضمر شيئا.رأيت أكثر من شريط على قناة كوبنهاغن أغلبها يخصّ اليهود ومعظمها تنتهي بالموت.هناك من ماتوا في معسكرات الاعتقال، ورأت شريطا عن يهود يهربون عبر البحر ويموتون.

كنت أحسب أن سوزي ستتصل بي أو أمها وتيقنت أن العائلة توصي على سمك الكارب كلّ أربعاء.هذا ماحدث فعلا.لا أزعم أن الأمور كانت تأتي مفتعلة أو خُطِطَ لها من قبل، أما ما أواجهه، فهو وقائع عادية لحياة يوميّة لا دخل فيها للمصادفة أو الافتعال.

قد أكون ساذجا حين أشغل نفسي بمثل هذه الأفكار فبعد بضعة أيامٍ انعطفت ثانية على محلي .كنت أقف على الرصيف أمسح الواجهة حين رأيتها تهبط من الحافلة وتعبر الشارع.

كانت تأتي إليّ..

ارتياحٌ ما يراودُني:

- تفضلي هذه المرة سأعمل لك شايا.

ودخلت، فأزحت لها العارضة، ارتقت الدرجات الخمس برشاقة:

- شكرا

- رأيت الشريط؟

- سهرت معه فقد اعتدت أن أستيقظ مبكرا.

- هل أعجبك ؟

- رومانسي كوميدي وأعجبتُ جدّ بالفراشة إنها نقش رائع على رجل الممثلة.

كان نقش الفراشة على فخذ الممثلة غير أني تعمدت أن أتحدث بالعموميات خشية من أن أثير شكوكها.

فواجهتني بابتسامة خفيفة تدلّ على الرضا:

- نحن بحاجة إلى أفلام تشيع الراحة والمرح فينا في هذه الظروف.

- ما تقولينه صحيح حياتنا اليومية متعبة فأنا أذهبُ كلَّ يومٍ إلى البيت بعد تعب وإرهاق ولا مجال عندي للتسلية سوى التلفاز وكلّ مانسمع وما نرى يثير فينا الإزعاج على مافينا من تعب وإرهاق(انتبهت إلى حشرجة الماء في الوعاء وتصاعد البخار)حلو؟

- ملعقتين فقط.

عدت بالكأسين وأنا أواصل مبديا بعض التذمّر:

- كلّ مساء إما أخبار الحرب أو السيد باوله شلوته يناقش مسألة التاميل.

ضحكت، وعقبت:

- ستأتينا تجربة الفضائيات والصحون التي تغزو الأسطح في بعض الدول بأشكال أخرى متفاوتة بين الرقص والغناء والعنف أو الطبيعة ولنا أن نختار.

- أظنّ سعرها في البداية يكون غاليا مثل الهاتف النقال.

صوت الجرس، يتلوه صرير الباب..زبون دنماركي يسأل عن فيليه السلمون ثمّ أصعد إليها:

ارتشفت رشفة خفيفة:

- سنرى إذن!

- كل اختراع في البداية يكون غاليا ويبدو كماليا مثل المذياع و التلفاز والثلاجة ثمّ يصبح لا يفارقنا.

- أمس سألت عن النقال سعره لايقل عن 3500 كرونة كم كان يوفِّر عليّ الوقت .

- في المستقبل يصبح أرخص بكثير ولندع ذلك للأّيّام.

أعود إلى الشريط بعد صمت قصير:

- لكن قولي لي ماذا تعني الفراشة على رجل االبطلة؟

فهزّت رأسها تتأمّل لحظة وقالت:

- لا أظنّ تحمل معنى أبدا سوى أنها مجرّد وشم جماليّ.

فترة صمت ورشفة أخرى، عيناي تحومان عند الدرجات والعارضة أتحاشى إحراجها.

عالم من الخفاء يسري في داخلي.

تختلف عن أمها، وعن بطلة القفز بالزانة ذات العينين الزرقاوين التي حصدت الميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية.هو الماضي البعيد يأبى إلا أن يقتحم اللحظة..جنبها بالضبط على المنصة لاعبة صينية رفضت أن تمدّ يدها إليها.ارتحت..وهتف أبي عاشت.قالت أمي الصين عظيمة، وصفّق أخي في هذه اللحظة أجد سوزي تختلف هي الوجه الآخر الذي يخلو من أية حدة وقسوة:

وديعة

ناعمة

مثلي تهرب من العنف:

- هل أعجب والدتك السمك؟

- جدا ...كان لذيدا جدا..

- يبدو أنكم لم تجرِّبوه من قبل.

- الحقيقة سمكنا المفضل دائما الكارب وسمك إبراهيم والسلمون أحيانا ولا أظن جربنا الأنواع الأخرى.

- يعني ترغبون أن أجلبه لكم فهو أرخص الأنواع؟

- هذه الأربعاء نحتاج إلى كارب وسمك إبراهيم.

- عن السعر سأجعل لكم تسعيرة خاصة لن أسجل ما أبيعه لكم في الحصالة .

وخرجت ممتنّة وفي عينيها شكر وغبطة..انتظرت لحظة تبتعد خطوات ووقفت عند الباب كأنّي أمسح الواجهة..تابعتها وهي تسير باتجاه المنعطف حتى انحرفت عند الشارع الفرعي وغابت عن بصري.. ، هل بدأت أغالط نفسي:

الأسبوع نفسه...

الشارع الرتيب

الضجر

لم تتغيّر مجريات الأحداث..كلّ ليلة أرى العنف..أو اتعمّد أن أراه وعلى أقلّ تقدير أسمعه بملاحقتي المذياع..في الفجر مع السمك..خلال النهار أقطّع السلمون وأسلخ الجري الأملس، أصفّ الأخطبوط جنب الحبّار..من قبل لم أكن لأشعر بالوقت ولا الضجر فرحة جارفة غمرتني وأنا أفتتح المحل.كنت أعدّ الشارع الرتيب خصما أهزمه ذات يوم، وقد هزمته بشارع بديل بهي حيّ على شفا مقبرة، فأيّ فراغ يدفعني للعزلة حين تتأخّر سوزي؟وكان أثقل الأيام يوم الأحد، أقضيه في تنظيف البيت إلى الظهيرة ثمّ أتمشى على ضفاف البحيرات ، وبعد ساعة أعود إلى البيت.

أحس أن العالم يموت هذا اليوم.

كنت داخل الثلاجة الكبيرة أنزح بقايا الماء حين رنّ جرس الهاتف.كانت سوزي:

- هل أنت متفرّغ غدا الأحد؟

- ليس هناك من شغل لدي.

- أتحب أن نلتقي في مركز المدينة أدعوك على فنجان قهوة.

- يسرني ذلك.

سأخرج معها مثلما خرجت مع عبير.لا أخدع بصري ولا حواسي هناك واقع جديد أعيشه وأنسجم معه.مابيني وبين الماضي انقطع وقد لا يعود.

كنت أستقبل بعد هاتفها يوم الأحد ببعض التفاؤل.انتظرته بفارغ الصبر، المرأة التي بعثت فيّ بعض الخوف أوّل مرة تجعلني أرتاح للقائها وتخرجني من يوم كئيب.انتظرتها عند مبنى البلدية.هبطتْ من الحافلة فاتجهتُ إليها.هذه المرة عانقتها وطبعت قبلتين على خديها شأن الدنماركيين والدنماركيات حين يلتقون.أحسست أننا أصبحنا صديقين في وقت قياسي.أصداف السمك جمعتنا فنسينا رائحته.كان ممكن أن ألتقي فتاة أخرى بشكل آخر: الديسكو..المدرسة.كافتريا.. غير أن هناك رهبة وبعض التردد جعلتني أحسب ألف حساب لأية علاقة أقيمها مع الدنماركين أو العرب.

- أتحبين أن نجلس في سكالا

- هناك مكان أهدأ

- مثلما تحبين.

ونحن نعبر الموقف باتجاه شارع المشي:

- سكالا أول مقهى ارتدته بعد وصولي الدنمارك.

وانحرفنا إلى شارع فرعيّ ضيق .قادتني ألى مقهى تزدان بوابته القديمة بزخرف لأمواج وسفينة تتصارع، فوقها، على العارضة العلويّة لافتة تتلألأ بعبارة Skibscafé.

- شاي أم تحبّ شيئا آخر؟

هل تكون دعوتها لي ردا لهدية السمك التي قدمتها لهم؟:

- دعيني اليوم أكسر عادة كل يوم ليكن قهوة بدلا من الشاي.

طلبت كوبي قهوة وقطعتي sneglekage[iii]. قالت:

- تقضي يوم الأحد وحدك في البيت؟

- هو يوم راحتي الوحيد.

- أليس عندك أصدقاء هنا؟

قالت ذلك وهي ترتشف بعض القهوة، فرفعت الكوب أجاريها:

- لا أبدا معظم الذين أعرفهم زبائن من العرب أو العراقيين ، ولا أذهب إلا يوم الجمعة إلى المركز الإسلامي الذي معظم الذين يرتادونه من المغاربة والباكستانيين أعرض هناك بضاعتي لاأكثر.

ورفعتُ الكوب ثانية فلفحت أنفي رائحة البخار وتحسست لذّة المرارة بطرف لساني وأسفل لهاتي، قالت:

- وكيف كانت رحلتك من بلدك إلى هنا؟

هذه هي السنة الثانية تمرّ..فضول أم شفقة أم إعجاب؟أنا نفسي لا أعرف كيف فاجأتني الحرب حين كنت خارج بلدي.جبن أم خوف..موقف سياسي.لاعداء لي مع الحكومة. لا أنفي أيّ احتمال..أعطوني اللجوء الإنساني:

- أنا طالب معهد نفط في السنة الأولى.كنت أرغب في البيطرة غير أن الكومبيوتر وضعني في النفط على وفق المعدّل، وخلال سفرة لنا نحن الطلاب في الأردن اندلعت الحرب ربما من دون تفكير أو تخطيط التقطت أنفاسي فهربت إلى هنا.

فكرت

صفنتْ قليلا

ابتسمت:حسنا فعلت. (أضافت) لديك إخوة وأخوات؟

- ثلاثة وأخت أنا الأوسط (وأضفت)

- من حسن حظي أني اخترت الدنمارك لألتقي شابة رقيقة لطيفة مثلك!

- شكرا جزيلا يسرّني أن أسمع هذا الإطراء منك.

لم أخطئ إذن مجاملة في محلها، وجاء دوري لأسألها:

- أنت في الأساس من آرغوس؟

- وُلِدْتُ هناك .أخواي روبي و يواكيم أكبر منّي بقيا يتابعان تجارتهما في آرغوس أنا جئت مع أبي وأمي.والدي يعمل في تجارة القمح والشعير.. في الأساس لدينا فرع في كوبنهاغن ومكتب في آرغوس وقد ارتآى والدي أن يصبح فرع كوبنهاغن هو الرئيس.

ومرت فترة صمت قضمنا خلالها بعضا من قطعتي ال Sneglekage.كان الشارع الضيق القديم هادئا والوقت مايزال مبكِّرا ..أتجاهل ساعة يدي وأبحث في الحائط عن شئ ما يشير إلى غير الزمن الذي وجدته رتيبا في أيام الأحاد قبل هذا الأحد:الحائط مسكون بلوحات لسفن قديمة:واحدة تصارع الموج كما في الواجهة الخارجية لكنها أصغر منها ولوحة كبيرة لسفينة ترسو على ساحل تؤذن حركة الناس فيه أنّ السفينة على وشك الإقلاع، وأسفل المصباح المستطيل الخافت لوحة صغيرة لسفينة من غير شراع.. يتلوها في زاوية الجدار تمثال لحورية البحر التي تنظر إلى البعيد..كان موعدنا الساعة العاشرة، فتناهت إليّ دقّات ساعة مبنى البلدية وهي تعلن الحادية عشرة، فابتسمت، واتسعت ابتسامتي.قلت:

- مادام يوم الأحد طويلا ومملا مارأيك أن نمارس فيه خلال الصباح رياضة المشي ؟

- إن كان الأمر كذلك فيمكن ألا يكون الأحد القادم؟

- كما تشائين براحتك.

- على فكرة أمي تبلغك تحياتها وتشكرك على الهدية في الوقت نفسه تدعوك على غداء الأحد القادم أهذا يناسبك؟

هل هو هاجس أقرب إلى الشكّ حين أراها وجدتْ فيّ واحتها الشرقيّة الدافئة من دون أن تكّلف نفسها فتسافر أو تهاجر..مثلما تسافر أيّة دنماركيّة إلى أعماق أفريقيا وأقصى آسيا لترى أشياء غريبة وتلتقي الشمس بشكل آخر.. لا أقول تطمئن حين تلتقي شخصا من هناك ..لايحمل السلاح بوجهها بعدئذٍ أستبعد أيّ احتمال يخدش صفاء اللحظة التي أنا فيها.لا أحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل ولا أتهمُ المصادفة...لست جنرالا تتجسَّس عليّ ولا بالسياسي الذي تختلس منه الأخبار وتقتنص الأحاديث الضالة، وزلّة اللسان، سمّاك ورث المهنة عن أبيه وعرف وهو صبي قيادة السيارة، كنت أسوق في العراق من دون رخصة، هي المخالفة الوحيدة التي اقترفتها هناك، وحين رأت الباحثة الاجتماعية رغبتي في المهنة دفعت لي أجور دورة السياقة، ، هذا كلّ ما في جعبتي عن نفسي..فلا أرسم هالة كبيرة حول نفسي تنغصّ عليّ ما يمكن أن يبعث فيّ راحة لا حدود لها:

- أنا ممتن لها.

- والدتي امرأة قليلة الكلام متديّنة لا تكره أحدا ولها رؤيا خاصة حول اليهود ترى أن تجمّعهم في فلسطين يقرِّب نهايتهم ويقودهم إلى الإبادة .الأوروبيون خدعوهم وكان عليهم أن ينتظروا المهدي المنتظر[iv] قبل أن يهاجروا إلى أرض الميعاد.

- هذا رأي والدتك فقط؟

- بل رأي العائلة كلها نحن من تكتل كبير في أوروبا والأمريكيتين نؤمن بهذه الفكرة أخي روبي هاجر إلى إسرائيل ورجع ..بعد ستة أشهر إعترف أنّه كان على خطأ.

العينان الزرقاوان والنظرة الثاقبة.انبهاري إلى حد الفزع منهما، لا أقدر خلال لقاء أن أغيّره.السيدة التي دخلت عليّ المحلّ لم أكن أعرف دينها ومذهبها لكني ارتعدت رعدة خفيفة من عينيها.كدت أتحجر من الذهول وعندما عرفت أنها يهودية ارتسمت في فكري من حيث لا أشعر صورة بطلة الأولمبياد الأسيوي التي تنظر إليّ بعينيعا الزرقاوين الحادّتين، كنت أنظر العلم ذا النجمة السداسيّة الزرقاء فأرسم في المدرسة مثله مثلثين متداخلين أحدهما قاعدته للأسفل والآخر للأعلى ثمّ أقطع رأسه العلوي، أما ما أسمعه من سوزي فهو مختلف تماما:

ناعم

لطيف..أنيق

خفيف كظل شجرة

لا أنفي أنّها قد تكون توجستريبة مني في اللقاء الأول ..تحسَّسَت..شَكّت ..ولم أندم لأنني – بعد هذا المشوار- كشفت عن نفسي لها مصادفة أو عن غير وعي مسلم شيعي لا آكل إلا سمكا بأصداف، وهناك دولة تهتف كلّ يوم: الموت لإسرائيل ..الموت لأمريكا.بعد هذا المشوار أصبحت أتحرر من توجسي القديم..خلال الأسبوع ، أتصلت بي السيدة يانسن كانت تسألني بصوتها الجاد الرزين ذي الملامح الخشنة عن الكارب ، وذهبت بالشاحنة يوم الأربعاء، فاستقبلتني عند الباب بابتسامة باهتة حاولت أن أتحاشى عينيها مع ذلك لم أرهما حادتين..زرقاوين من غير حدّة ولا صرامة ، وأكاد أجزم أن تكاد تكون تمثالا بعينين زرقاوتين يطالع القريب والبعيد بتأمل عميق كالروبوت.أشعر أنّي نجحت لم أعد أتحسس وأتساءل مع نفسي قبل أن أسلمها السمك وأعود للشاحنة إذا كان الأمر كذلك فمن أين جاءت سوزي باللون البني .أمامي يوم الأحد واللقاء الذي يطول:

هل مازالت سوزي في الجامعة.

اليوم تأتي متأخرة عندها تطبيق في يولاند.

السمكة جاهزة .

كم ؟

- سأتحاسب مع سوزي.

- فقط أريد أن أعرف.

50-  المفروض 80 لكن

قالت كأنّها تختلس شيئا فتداريه بابتسامة خفيفة:

- شكرا

وفي عصر الجمعة مرت بي سوزي قادمة من الجامعة كانت تشكو من إرهاق أسبوع قضت أيّامه مع الاستاذ وزملائها في يولاند، يدرسون الصخور.تقلهم حافلة الجامعة مبكرا وتعود بهم نهاية النهار، كنت أصغي لها باهتمام وتتحدث إلي كأنّ شأنها يهمّني.وحين انتهت من الحديث وحاسبتني على سمك الأربعاء التقطت قصاصة ورق من محفظتها وقدمتها لي:

- هذا رقم البيت.

- شكرا لك آمل أن يكون في منزلي هاتف آخر غير هاتف المحل (أكدت باهتمام وجِدّ) أحاول بعد انتقالي إلى المحل الجديد أن يكون اثنان أو انتظر الهاتف النقال!

وإذ حل يوم الأحد بدوت أنيقا.سرّحت شعري الذي لم أهتم بتسريحه، ومعالجته بالجلّ.هي علاقة من نوع خاص، وظروف العمل لا تسمح لي أن أقضي وقتا في أناقتي.

يوم له طعم مختلف.

بعض الغيوم انتشرت عند الصباح ثم تشتت وتلاشت.

كنت أدخل منزل العائلة اليهودية من دون أن أشعر بعقدة ما.

رهبة..

ذنب...

لم أنس أن اصحب معي طاقة ورد ملونة.اضطررت أن أحضرها قبل يوم، ولم أنس أن أجلب معي سمكة سلمون..وجدت سوزي عند الباب فقادتني إلى الردهة وغرفة الضيافة.فلفت انتباهي ترتيب البيت وأناقته، ومسحة الفخامة التي لا تكاد تخلو من بساطة، أما الجدران الزيتية الألوان فلم تضمّ إلا لوحة للسيدة يانسن وهي العشرينيات من العمر بجانب زوجها. بدا أقصر منها، عيناه واسعتان صافيتان لم تثيرا فيّ أيّ انطباع.

أكثر طيبة

سهل ..متسامح

حاد الذكاء

هكذا رأيته

وكانت صورة .سوزي وصورتان أخريان لأخويها منتصف الجدار الآخر المفضي إلى غرفة الطعام، ثمّة على يمين تلك التشكيلة من الصور إيقونة لشمعدان ونجمة كنت قد رسمتها وقطعت رأسها ذات يوم .لم أسرح إلى الماضي البعيد بحماس مفرط بعد، فتجاوزت شرودي على وقع صوتها :

- إذن ستغلق هذا المحل القريب منّا؟

- أجل ياسيدتي

- وأين محلك في شارع Nørrebro عند محطة القطار؟

تستطلع وأنا مازلت أتحاشى النظر إلى عينيها إلا ماندر خشية من أن تقرأ أفكاري أو تدرك حرجي.، فتخمّن أنّي تلاعبت بنجمتها ذات يوم وأنا في سنّ الثانية عشرة من عمري..مررت بهذه التجربة مع شرطيّ أول ما وصلت الدنمارك إذ راح يوجه لي الأسئلة ولا ينظر، وشيئا فشيئا تعوَّدت أن أطيل النظر إليها:

- لا بداية الشارع من جهة مركز المدينة.

- آ ليس بعيدا عن المعبد

عادت سوزي بصينيّة عليها وعاء، وعلبة قهوة، وأخرى فيها أكياس شاي، وقالت تلاطفني:

- الذي أعرفه أنك في المحل تشرب الشاي وربما شربت القهوة في الكافتريا مجاملة هاهو الماء المغلي واختر ماتشاء.

قلت بشئ من الارتياح:

- في العراق اعتدنا مثل الإنكليز على شرب الشاي بل ندمنه ولا نشرب القهوة إلا في حالات خاصة وقد الفت القهوة هنا في المدرسة وكورس العمل وأفضّلها في غير العمل والبيت.

وسألتني:

- سكر حليب؟

سادة

خيل إليّ أن سوزي بدأت ترفع الكلفة بيني وبينها، والأم أصبحت أكثر ليونة، فشعرت ببعض الألفة:

- قلت إنك من العراق؟

نعم.

+من أيّة مدينة من العراق؟

+من الجنوب ..البصرة !

- كان عند زوجي في آرغوس بالوكالة عامل عراقي أظنّ اسمه كاظم شاب وصل إلى الدنمارك عام 1963 بعمرك حينذاك أخلص في عمله، في ذلك الوقت كانت هناك مجزرة بحق اليسار والشيوعيين.

- الآن سيدتي الحروب تدفع الكثيرين للهرب والمجئ إلى اسكندنافيا عن غير وعي. وقد لايكون اللاجئ ينتمي لأيّ تنظيم أو حزب سياسي.

- جئت مباشرة؟

كانت هناك رغبة تلحّ عليّ الا أذكر تفاصيل الرحلة:

- لا من عمّان.

تدخلت سوزي كأنها ترغب في تغيير الحديث:

الإنسان دائما بطبيعته يبحث عن الأمان وراحة البال.

وعادت السيدة يانسن إلى الحديث:

- من قبل كان اللاجؤون الى الدنمارك من اليسار واليمين الهاربون من شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي يمينيون ومن آسيا وأفريقيا يساريون.الآن إسلام ومسيحية وسنة وشيعة هذه أمور غريبة على المجتمع هنا.

سوزي بتأفف:

- عالم مجنون حقّا..

انتبهت إلى أنها ثبتت عينيها بعينيّ كمنوم مغناطيسي:

- وهل نويت العودة إلى بلدك حال انتهاء الحرب.

- لا أظن

فنهضت وقالت:

- أحسن ابحث عن مستقبلك هنا. (والتفتت إلى سوزي):سأذهب إلى المطبخ، وتوقفت عند الباب لتضيف شيئا خطر ببالها:

- لاتنسي أن تتحدثي عن العمل مادمت لاترغبين في الوكالة وأضافت بالعبرية بعض الكلمات..

اغتنمت فرصة غيابها فقلت أحاول أن أمحو بعض مارسمته من صورة قديمة ولا أظنّني أغالط نفسي :

- أمك لطيفة..

- لكن ّالسيدة أوريت حديّة إلى درجة مزاجيّة إن رضيت عن أحد رضيت عنه إلى الأبد.

التفتُّ إلى أنّها اختارت اللحظة المناسبة لتعرّفني باسم أمّها:

- ماذا عنّي..

جدا...اقتنعت بك إلى درجة أنها قبلت فكرتي بالعمل معك.

- لم أفهم ماذا تعنين.؟

 - اشتغلت منذ الثانوية أيام العطل والصيف في مكتب أبي، والسكة الحديد.وفي مخبز..

Praktisk?

نعم أووه عدة أعمال في التنظيف أيضا، والفكرة

 ***

د. قصي الشيخ عسكر

 ...............

[i] فلم أمريكي عنوانه I love you بطولة Peter Sellers,

[ii] تقابلها بالعربية لا شكر على واجب أو هذا قليل جدا أو بالإنكليزية:don’t mention

[iii] نوع من المعجنات الدنماركيّة.

[iv] في الدنماركيةvejleder مركّبة من كلمتين vej=طريق وleder =قائد أي رائد أو قائد الطريق وهو المخلص عند ايهود والمسيحيين والمهدي عند المسلمين.

في نصوص اليوم