نصوص أدبية

تماضر كريم: (فيتر)

لطالما أخبرني صديقي أن أرتدي الكفوف السميكة وأنا أشتغل على تلك المكائن، حيث كانت مشبعة بدهون المحركات الكثيفة. وقتها لم أعر نصيحته انتباها، أما الآن فأنا بحاجة لأن تصبح يديّ بيضاوين ناعمتين. غدا سألتقي بها، ولا أعرف الآن ماذا أفعل بهذا السواد الداكن المختبيء تحت أظافري. إنها حتى لا تعرف أني (فيتر) هي تظن أني صحفي وشاعر وأدير جريدة. والآن ستتساءل كيف لهذا الشاعر أن يملك مثل هذين الكفين الخشنتين السوداوين!

لقد جربت بعض نصائح اليوتيوب، دلكت كفي وأصابعي بفرشان الأسنان، وضعت مسحوق الغسيل وبعض الكلور، ثم الأسيتون، وأخيرا نقعتهما لساعة كاملة في الماء والملح. حتى أن شريكي في السكن تكفّل بعمل العشاء وغسل الأواني والتنظيف. لقد كان متعاطفا وطيبا.

اخر الليل كنت أنظر لكفيّ المتعبين بشيء من الخيبة، فتحت الأظافر هناك، ظل جاثما ذلك اللون الداكن المثير للإشمئزاز. ستظن بالتأكيد أني رجل قذر وكثير الأهمال، لن تصدق أبدا أني كثير الإستحمام، وإني اعتني بقص أظافري وحلاقة شعري وترتيب اشيائي في السكن، هنا بهذه المدينة الكبيرة بعيدا عن الأهل. الأمر وما فيه أن تلك الدهون تتغلغل بعيدا كأنها وصمة وجَع.

إقترح عليّ رفيقي أن ألفّ كفيّ بقطع الشاش وأدعي أمامها أني تعرضت لحادث. بدت فكرةً جيدة، في الحقيقة لم يكن هنالك حل آخر.

قام هو بتضميد كفيّ. ثم أخبرني وهو يتصنع الخبرة الكافية بطريقة تفكير النساء أنها ستستغرب حضوري وأنا على هذه الحال. قال لي أنه عليّ إخبارها أني لم أرد تضييع موعدنا الأول.

هكذا ببساطة ذهبت إليها، مع حفنة النصائح تلك وقطع الشاش في كفيّ، وبضعة أحلام تداعب مخيلتي المفعمة بكثير من الحب واللهفة. إنها طالبة في قسم اللغة الفرنسية، هي مثقفة جدا وتحب طريقتي في الكتابة والحوار، تقول أنها تحبني. سنتحدث اليوم عن فولتير وأراگون ورامبو وجورج صاند ويان كفيليك، وعندما تثق بي كثيرا سأصارحها أني لست صحفيا، ولم أذهب للجامعة يوما، أنا محض قارئ نهِم  وكادح يعمل في تصليح السيارات. هذا ما أجيدهُ بعيدا عن عائلتي في إحدى القرى المنسية.

ملأ فمي عطرها قبل أن تقترب، كانت أجمل من الصور بكثير، عرفتها من شعرها الأصفر القصير وعينيها الخضراوين، اللتين كانتا تشعان من صورها وتلهمان خيالي الجامح، مع تلك الإبتسامة الصغيرة قليلا، كأنها ابتسامة شاحبة أو مخطوفة من الزمن عنوة. ربما لأنها كانت تسهب في قراءة الفلسفة كانت ثمة مسحة من الحزن وهالة من الغموض تحيط بملامحها العميقة الهادئة. بعد أن صافحتها شعرت بدهشتها وهي تنظر لكفيّ الملفوفتين (ماذا حدث لك)؟

-(لاشيء .. حادث صغير) كدت اتلعثم. كان تفكيري مشوشا، الأسوء من السواد تحت الأظافر والجلد هو أن تكتشف كل هذا الكذب.  يااه كم سأكون أمامها سخيفا مضحِكا.

لم تستغرب حضوري رغم تعرضي لحادث، كان ذلك رائعا. إذ كنت أدرك أني كلما تحدثت عن الموضوع خرج الأمر عن سيطرتي.

فيما بعد أخذتنا لذة الحديث المدهشة، وكان عطرها يغشى حواسي، فأشعر كما لو أني أحلق معها في عوالم الأدب الفرنسي. حتى ابتسامتها صارت أكبر وأشد إذهالا. كنت أتحدث بحماس عن رواية العرس الوحشي، و أستعرض أمامها أحداث الرواية، لقد كانت اللحظة التي رأيت فيها الضماد يرتخي أكثر وحشية من عرس الرواية، حدث ذلك عندما كنت اؤشر بيديّ أثناء حديثي، خفضتهما فورا واستدرت قليلا لأثبت الضماد من جديد.

-( أرجوك دعني أساعدك).

قامت فجأة من مكانها ومدت يديها نحوي، أمسكت الضماد بأصابعها الناعمة، وراحت تعيد لفّ الضماد، لم يبد عليها أنها انتبهت لشيء، لوهلة ربما! لكن ضماد الكف الثانية وقع في يدها تماما، بدت يدي فارغة من أثر الحوادث التي اخترعتها. كنت قد نسيت كفي بين يديها عندما راحت  عيناها المذهلتان تنظران لي بدهشة. ببساطة بدأت  تلفّها بحرص، كأنها تلف هديةّ بشرائط من حرير، وابتسامتها الصغيرة المعهودة تطوف على وجهها  الجميل. لا انس أبدا أنها بعد أن أحكمت لفّ يدي ضغطت عليها بطريقة ما، كأنها أرادت أن تقول لي( لقد افتضح أمرك).

*** 

تماضر كريم

 

في نصوص اليوم