نصوص أدبية

ناجي ظاهر: مليكةُ الالهام

ظل الصديقان شفة الجمل وأُذن الحمار يتمنيان أن تتغيّر الاحوال وتتبدّل الاعمال، في شارعهما الخامل الصامت، إلى أن ظهرت تلك الحورية الفاتنة تتمايل بقدّها الميّاس، وجسدها الحسّاس، فتبهر الحجر قبل البشر، وتمضي في طريقها غير عابئة بما تتركه وراءها من آهات وحسرات.

رفع شفة الجمل رأسه لأول مرة منذ سنوات، ليتساءل:

-ما هذا؟

فتأوه أذن الحمار قائلًا:

-أنا في حلم أم في علم.

ابتسم الاثنان، لأول مرّة بعد لقائهما في شارعهما ذاك، وكادت عينا كل منهما أن ترقص، ناسية ما مرّ عليهما من لحظات صمت لا تنطق ولا تعرف للنطق مسلًكا. وأطلت الاحلام من عيني الصديقين تجذب كلًا منهما إلى ناحيتها وصوبها، وكان لا بدّ لهما من الافتراق وكل منهما يُضمر أكثر مما يصرح، وفي خياله أكثر من أمل.

ركض الاثنان كلٌ صوبَ بيته.. دارا ولفّا في شوارع مدينتهما.. لفّا ولفّا.. إلى أن جرى كلّ منهما في الاتجاه المتمنّى، وكان أن وصل الاثنان في ذروة المطاف، إلى باب واحد.. غابت وراءه تلكم الجميلة الفاتنة.

عندها، في تلك اللحظة الحائرة، أراد شفة الجمل أن يتخلّص من الموقف المحرج قليلًا فتساءل: ما الذي أتى بك إلى هنا، ليجد صديقه يطرح عليه نفس السؤال.

افترق الصديقان يومًا وليلتين، دون أن يسأل أحدهما عن خدينه، وكان أن قرّرا بعد انتهاء تلك الفترة من الغياب والحلم، أن يخرج كلّ منهما من بيته على حدة.. وخرج كل من الصديقين من بيته وهو يتلّفت يَمنة ويَسرة، وعندما يتأكد من خلوّ الشارع، ينطلق ليتوقف في النهاية قُبالة ذلك الباب الساحر الخلّاب. توقّف الاثنان.. كلّ يحدّق في عيني الآخر، ولا يتقدّم، وكان لا بدّ لهما من كلمة فقال كلّ منهما في الآن ذاته: هي لي لن تكون لأي من بني البشر سواي.

ما إن نطق الاثنان بهذه الجملة حتى اشرأب كلٌّ منهما بعنقه تجاه صديقه القديم.. وراح يقترب منه دافعًا صدره بصدر قرينه.. بقي الاثنان يتضاربان بالصدر إلى أن وقع أُذن الحمار على الارض، فما كان منه إلا أن تناول خشبة وقعت قريبة من يده ورمى بها قاذفًا إياها باتجاه خصمه. انحرف شفة الجمل لتخطئه الخشبة وتشقلب في الهواء ضاربًا.. ضارِبَه بقدمه، تلقّى أُذن الحمار الضربة بصلابة ليجد نفسه يتشقلب بقوة أكبر وليوجّه ضربةً أعنف إلى خصمه العنيد. عندها بدا للاثنين أنه لن يكون بإمكان أحدهما أن يهزم الآخر، فتوقفا عن المصادمة.

-لن تكون لك. قال شفة الجمل.

-ستكون لي.. قال أُذن الحمار بتصميم وتابع ..بأي حق تريدها أن تكون لك.

عندها بات واضحًا وقد ادعى كل من الصديقين أنه أحق بتلك الجميلة الفاتنة، وأبدى كل ما أبداه من الشجاعة غير المعهودة، أن كلًا منهما مُصِّر على أن تكون له، فماذا سيفعلان؟ هل سيلجآن لإجراء القُرعة؟ أم سيتنافسان عليها ضمن مسابقة للخيل، كما فعل الاجداد في مواقف تاريخية سابقة؟ ماذا عليهما أن يفعلا؟ مضت الأيام، الاسابيع، الشهور والسنين، إلى أن عثرا على الحل.. لماذا لا يُحاول كلٌّ منهما أن يتقرب منها؟ ومَن ينل حظوتها.. تكون له.

هكذا ابتدأت معركة المنافسة الحقيقية بين الصديقين القديمين، وكان كلّ منهما يتحوّل في لحظة ما إلى خصم يريد الموت لمن قُبالته، وتعقّدت المنافسة أكثر خاصة عندما برع شفة الجمل في التسلّق على الحيطان رغبة منه في الوصول إليها، إلى تلك الجميلة، وفي المقابل عندما أتقن أُذن الحمار العزف على آلة العود، وتمضي السنوات وكلٌّ من المتنافسين يبذل المجهودَ المضاعف ليحظى بمُفجّرة حلمه الجميل، دون أن تظهر تلك الجميلة الفاتنة مرة أخرى.

عندما يئس الاثنان من اللقاء بها، بجميلتيهما، أخذا بممارسة ما تعلّماه للحظوة بمودتها، وراحا يمارسان ما تعلّماه وبرعا فيه.. شفة الجمل أخذ يُمارس العاب الخفّة والقفز، واأُذن الحمار شرع بممارس العزف، خلال فترة قصيرة تدفق إليهما المعجبون من كل حدب وصوب، وتحوّل الشارع الخامل.. تحوّل مع مضي الوقت.. ورويدًا رويدًا.. إلى شارع بالمسرّات حافل، وكان مَن يعرفون ذاك الصديقين الخاملين يسالونهما عن سبب تحوّلهما الايجابي ذاك، فينظر كلٌّ منهما إلى الآخر أولًا إلى مُحدثهما ثانيًا لينطقا بصوت واحد:" لن نكشف لك عن السر". وكانا يُغمضان عيونهما.. ليريا تلك الجميلة الفاتنة قادمةً.. من بعيد.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم