نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: لو يمهلني عمري!!..

غدا لن أكون هنا،الليلة سأغادر وكرا بلا فواصل،عشا بلا خصوصية، غدا قد تكون نهايتي أو خلاصي من ليالي الأرق، والإحساس الداخلي بعريي أمام نظرات الجيران...، فقدان الرعاية وكتم الأنفاس، وماض من سنوات عمري فوق لحاف من تبن مهترئ، خانق برطوبة، تزاحمني فيه أختي الصغيرة..

دمعات أمي الزائفة وخوفها الكاذب من الغد يذكرني بيوم نعى فيه أهل الحي موت أبي، كانت أمي تهتز بشهقات وأنا أحملق فيها بهدوء نفس لا أجد سببا لعويلها ولا أثق في دموعها؟ ألم يكن في رحيلة راحة مما عانيته بعلمها وأمام عيونها من انكسار قاهر مذل: آلام نفسية وحروقات أشد من طعنات السكاكين؟.. ربما كانت تشهق لفقدان رجل كان بادئ الليل يؤنس سريرها، ثم لا يلبث أن يتركها مدمدما أو زافرا، وأحيانا لاعنا غاضبا قبل أن يندس الى جانبي!!.. ألم تكن تعلم اني كنت أسمع وأرى؟.. بلا.. كانت تعلم لكنها كانت تتناسى وجودي ككيان من لحم ودم واحساس!! ربما بنت الخامسة التي كنتها في عرف أنانيتها سريعة النسيان، لا إدراك لها ولا وعي بما حولها، فأحرى أن تمتلكه أختها الصغرى في عامها الثالث الوجلة بين أحضانها.. صاحيتين كنا، تتسربل دموعنا،لسان أخرس و قلب يتصدع فرقا، حين يرتمي أبونا الى جانبنا حيث لامكان غير هذا قد يأوي اليه في كوخنا القصديري.. ربما كانت أمي تستلذ بفعله، وبه تطمئن،راضية، لأننا كنا لها قربانا هو أهون عليها من أن يتحول زوجها الى امرأة أخرى غيرها تشاركها نذالته ووساخته أو قد تستأثر به عندها..

لم تخبرني أمي شيئا عما قد يحدث لي غدا،رغم تساؤلات الرعب التي كانت تقرأها في عيوني، لقد تركتني لنفسي وكأنها لا تدري مصيري المنتظر اذا ما صرت وجها لوجه مع رجل بلا حماية، كما كانت لا تدري أثر استغلال أبي لجسدي بعد غضبه حين ترفض له رغبات سريره..

صديقة عاشت تجربتي هي من تكفلت بحالي،لازمتني لتشجعني، وتذيب مخاوفي،محاولة وأد الفزع بين أضلعي:

ـ لا تخافي، مصطفى لم يخترك زوجة الا انبهارا بجمالك وتعلقا بك مذ كان يسكن قريبا من حينا، واحمدي ربك انه مقطوع من شجرة ؛ الكبسولة التي معك ستبعد ه عن كل سوء ظن أو ارتياب،تشجعي، أغلب بنات حينا مررن بنفس اللحظة واستطعن الخروج بسلام.. منهن من اكتفت بكبد دجاجة، ثم لا تنسي قوة التميمة التي سأعطيها

لك، يكفي ان ترددي في نفسك وهو يخلع عنك ثيابك: "بزولة أمو تلقم فمو".. ثم تظاهري ببعض الألم اذا ما حاول أن يعاود مسك...

كنت اسائل نفسي:اين تعلمت صديقتي كل ما تريدني أن أتلبس به من خداع ومكر، أوهام، ودسائس؟

مرت الليلة بسلام، فقد كان زوجي لطيفا لبقا،خفف عني الكثير من التوترالذي انتابني من جراء ما استبد بي من رعب، فقد كنت مستعدة للانتحار اذا ما كشف زلتي.. فما ذنبه إن كان رجلا لازال يؤمن بالبكارة كعلامة للشرف والعفة ثم يجد نفسه ضحية بلا سفك دم؟ وما ذنبي وقد تم سفك دمي اغتصابا بلا إرادتي لكن برضى من كان عليها أن تقاوم نذالة أبي؟

لم تحاول أمي أن تسأل كيف مرت ليلتي؟أشك أن يكون الخجل هو ما منعها!!.. فمثلها لا يعرف الخجل، ربما تعمدت الا تثير ماض عانته مع أختي الصغيرة وهي من فضحت سلوكات أبي وخالي من بعده بين أترابها، او ربما هي الثقة التي وضعتها في خبرة صديقتي وقد مرت بنفس التجربة وهي اليوم أم بتوأمين..

مع الأيام شرعت تنتابني آلام حادة أسفل بطني كلما جامعني زوجي، احتفظت بالسر في نفسي لأني خشيت ان أنا أخبرت أمي ان تتنمر علي كما فعلت ذات صباح حين أخبرتها بأن أبي قد أذلني و اسال دمي بلارحمة ولاكرامة، شدت بخناقي وقالت:

سر يجب ان يظل في صدرك والا قتلتك اذا خرج لغيرك،أن تكوني انت خير من أن يهجرني أبوك الى غيري..

هكذا خافت أمي على رجل أن يتركها لغيرها ولم تأبه لحرمة وشرف ومستقبل ابنتها، ربما هي نفسها قد أتته بلا شرف وقد التقطها متسولة تطرق الأبواب..

تفاصيل كثيرة شرعت ألاحظها على مصطفى ، لا انفلت من رقابته، يمنعني من زيارة أمي الا إذا كان معي، ولفترة قصيرة محدودة، يكره زيارتها لي خصوصا في غيابه، كما أنه يقلق من وجود أختي عندي ؛ كنت أحاول ان اتجاهل سلوكه حتى لا افاجأ بما قد يكون يعرفه عن أختي وأمي، وما صارتاه بعد مغادرتي الوكر،فألسنة النميمة لا تنخرس أبدا فهي كبخور الأضرحة اذا لم يكتسحها دخان تنشر روائحها..

توقفت آلام أسفل بطني بعد زيارة لطبيب خاص والذي زف لزوجي خصوبة رحمي بعد شهرين من زواجي، ثم زودني الطبيب إثر زيارة ثانية بأدوية تخفف من تعبي الشديد وإرهاق منعني من القيام بواجباتي نحو زوجي،خصوصا وقد تلبسني خوف مما كان يستحوذ على أمي ويثيرهواجسها:هل يتركني زوجي الى غيري مبكرا؟.. ما يحيطني به مصطفى من عناية يكذب ذلك، وانصافا له فقد شرع يحاول ان يحسسني بالأمان والرعاية، كف عن الجلوس في مقهي الحي أسفل سكنانا بعد نهاية عمله حتى يساعدني في اعمال البيت، يمدح كل مجهود أبذله لارضائه.. وبصراحة فقد تعلقت به كإنسان ثم كزوج شرع يمحو بسلوكه معي كل أثر سيء عن بعض الرجال..

صرت أعاني بعضا من مضاعفات الحمل، ارتفاع الضغط وتراكم السكر في دمي مع آلام حادة في القدمين.. ربما كنت السبب في تفاقم ذلك، فقد أفرطت في الأكل وقد تفتحت شهيتي لخير زوجي وما يجلبه من حلويات أحبها..

تَم نقلي ذات مساء على وجه السرعة الى المستعجلات، ثم لزمت سرير المستشفى أياما في شبه غيبوبة حتى أظل تحت المراقبة.. لم يزدد أمري الا استفحالا بعد عودتي الى البيت، وفي احدى الليالي ايقنت موتي لا محالة..

كان زوجي لا يفارقني، افقد الوعي ساعات وحين أصحو لا أجد غيره بجانبي.. كنت أحس قلقه علي وأتابع رغم وهني مزيجا من نظرات الحب و الشفقة والعطف في عينيه..

بدأت الوساوس تأكلني، لماذا يمتنع عن الاستعانة بأمي؟ حتى أختي يرفض ان تظل بجانبي؟ لا شك أنه يخفي سرا يؤخر البوح به حتى لا يضاعف به آلامي خوفا على ما في بطني منه.. مسكت بيده في إحدى لحظات صحوي وتوسلته أن يستدعي أمي، وضع يدي بين راحتيه ثم رفعها الى شفتيه ؛ انفتقت صرة غيم في عينيه.. كانت أول مرة أرى دمعة تتدحرج على خد زوجي.. قال:

ـ أنا أحببتك كوثرلجمالك وقلبك الطيب العطوف رغم الحزن الساكن في عيونك والألم الذي يعصرك مما مورس عليك من ظلم وتطاول

ولا اريد أن أتعبك أكثر خوفا على جنينك، لكن اصرارك على استدعاء أمك يلزمني بالصراحة.. هي ليست أمك، فلا أم تغض الطرف عما فعله بك ابوك الندل الوضيع الى ان مات مقتولا في معركة لم يكن في مستواها،أما أختك فلا داعي لتعرفي ماصارته وحتى أختصر لك الطريق فلك الخيار بعد الوضع، بيتك أو بيت أمك؟

أكملت في سري: أو مأواي الأخير..

لم أكن في حاجة الى ان اصارحه بواقعي، فقد كان يعرف كل التفاصيل، أدركت الآن انه منذ أن تعرف علي والى اليوم قد مارس معي بلا تبجح ولا تعالي أوفرض سيطرة فضيلة الستر بدل مذلة الفضيحة وهذا لا يقوم به الارجل شهم يريد المرأة لذاتها وما يثيره فيها من صفات، وأنه لا يأبه بما يمارسه غيره من سلوكات وكما عبر عن ذلك مرة:"كل شاة برجلها معلقة "..

تم نقلي قبل الفجر الى المستشفى:كنت موقنة من نهايتي.. لو يمهلني عمري فاشكر يدا اصطفتني باختيار ونفسا رفعت قدري بعد انحطاط، وعقلا قرأ دواخلي بوعي وتقديرومراعاة..

بعد أسبوع من غيبوبة و الكل من حولي متأكد بمن فيهم الطبيب والممرضات اني لن اصحو منها.. فتحت عيني لاجد بنتي تبكي قريبة مني وأجد زوجي يمسح عرق جبهتي وهو يحمد الله على ان وهبني الحياة من جديد..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم