نصوص أدبية

أمين صباح كبة: أقنعة (مقامة)

أجمّع نفسي عارضًا وجهي للضوء، ثمّة وجهٌ رأيته ينزف في السحب. كم من قائل روى حكايته ولم تُسمع، وأنا أهذي بانتظار أن تتركني الموجة على شاطئ مجهول، مقيّدًا إلى حجر مثل همسة بعيدة لا يسمعها أحد، كنت أصعد درجًا في نهايته فتحة كفم البئر تطفو بداخله غيمة من وجوه تسيح وتغلي ولا تستقرّ، أفتح كتاب الزمن بأصابع مرتجفة وأقرأ:

دعه يشرب ما شاء من دمك، ودعه يسيح ويهذي ويرتجف، ولا يستتب، هناك على حلبة الحياة حيث تتصارعُ الوحوش. خذ أحزانك وأفراحك ثم ادعكها، وحالما يتصاعد منها الدخان.. ضع عليها قشّ العائلة الجاف، وأغصان الأصدقاء الصغيرة، وورود الحب الذابلة، وقرّب وجهك من هذه الكومة نافخًا عليها كلّ الحسرات السريّة والآهات التي لم تغيّر شيئًا، أنفخ عليها بهدوء.. مرارًا ومرارًا ثم دعها تشتعل. ولا تخبر أحدًا عن أيّ شيءٍ يجعله يشكّ بقدرتك على جرّ عربة الحاجة، يجب أن تجرّها بسعادة، ولا تخبرهم أنّ الطريق مسمومٌ وشائك، فقط جد لك أيّ جرحٍ ونظّف دم الرحلة بهدوء.

٢

لم يكن الزمن الذي جاء منه، ولا المدينة التي عاش فيها، صالحين لقرض الشعر وحياكة القصص أو اللعلعة بالغناء، أو حتّى المساهمة في أن تنمو له قصة حب خيالية حتّى نهايتها الممكنة.. كان دخان المفخخات ورصاص العصابات يكتّف الأصوات في الحناجر ويقيّد الخيال. لم يكن ثمة شاعر، ولا طبّال.. ولا مغنٍ ذو صوت شجي، ولا حتّى حلقة للذكر يتأرجح فيها الذاكرون.كان يناجي نفسه كثيرًا، ويتواصل مع الآخرين قليلًا.. يتوقّف عن عمل أي شيء بين يديه حين ينغزه لحن، فتتلبّسه أشباح الشعر وتحرّكه وتتلاعب به حتى ينتهي هذا اللحن.

(كان يتلحّف البحر مبتلعًا الملح دون الماء

استيقظت رئتاه

وأصداء بحارة غرقى ينشدون الموت

كأن أصواتهم تودّع أحلامهم

هناك هناك..

في الضفّة الأخرى..

لم يكن سوى قمرٍ وحيدٍ يسحب الموج على خاصرته

ليستعير نوره الذابل)

هذا الرمل الذي كان موقدًا لرقصات الجثث وهي تتطاير من على البنايات وترتطم بالأسفلت. في الطفولة التي طارد فيها حكايات النوم ولم يقبض منها غير الكوابيس والليالي المفزعة.

هذا الرمل لم يتبقّى هنا ولا في الضفة الأخرى، ما تبقّى آثار أقدام وعويل.هذا الرمل لم يعد هنا، هذا الطفل يبقى وحيدًا، مثل آثار قدم مثل أصداء أغنية.

حجبت الشِباك عن زورقه الهواء، حدّق فيه وعيناه مغمضتان صرخ في سره دون صوت.واقفًا على الجانب المعتم من الظّل، ضوءًا نحيلًا يبحث عمّا وراء الجدران، لا شيء غير الشحوب يسكن غرفته، لا الستائر مستيقظة، ولا جفنه المسدول استراح من غفوة الترحال، ولا يجد الكلمات التي يصف فيها قلبه خلف جدران رطبة لا يعلم إلى أي باب ستفضي..

٣

العلم بالإله من غير المألوه لا يصح فلا يعوَّل عليه، ولهذا قال الشارع: من عرف نفسه فقد عرف ربه.

 رسالة الذي لا يعوّل عليه

محيي الدين بن عربي

٤

أطلق الحلم سراحي، وتركني بالظلام في طريقٍ مهجور. أتى ليل الضفادع والأفاعي والعقارب، إذا ما طرت هاربًا منها بلا أجنحة وطاردت أشباح الملائكة، عبرت بي كتائب مقهورة تسحب راياتها.ما كنت أقيم على الجمر، وما كنت أنام وحيدًا من أجل أي شيء وأحيا في عالمين بينهما كتاب، أفتحه كأن في قدرتي أن أستعيد ما فقدته مرّة أخرى، أفتحه فأخلع هذه الأقنعة وأستعيد الشاطئ مرّة أخرى، وأسبح ثانية في ذلك التيار.ألتفّ إلى نفسي وليس لي أن أبدأ أو أنتهي، أرتقي درجًا لا أعرف أين يؤدي، عارفًا أن كلّ ساعة هي الأولى والأخيرة.. أرتقي درجًا وأسمع الأصوات ورائي:

اسمعنا، اسمعنا آخر مرّة

وحرّر وجهك منّا.

٥

أقنعته ارتجلت خطابًا من فمه، فاندفع مثل بخارٍ من مرجل، عيناه خائفتان مثل وجه كلب مرتعب، كانتا تريان الأقنعة وهي تكتب نفسها وتقول:

تأكل طعامك في الأماكن المعتادة، تألف نفس الوجوه، تسلك الشارع ذاته، تنام على نفس السرير، تظنّ أنّك تحلم، مستيقظٌ أنت يا صاحب المقامات تجفل وتفزع فيهتزّ الليل من قميصه. قُم وانهض، وحدّثنا.الليل يومئ لك.هذا ليس وقتك.

أيها الغريب في كلّ بيت، أيّها الشريد من نفسه، يا رصيف الموانئ، وابن قاعات الانتظار، يا احتمالات الغياب في مقاهي الهاربين، يا صدأ المقاعد المهجورة، يا وحيد يا غريق يا مؤانس، يا ليلًا طويل الهموم كثير الوساوس، يا من كانت وحدته شجرة أعارت ظلّها لليل، أيّها المشجب الذي يعلّق الراحلون عليه بيوتهم.اخلعنا.. كن شجاعًا ولو لمرّة في حياتك وودّع هذه الأقنعة، اخلعنا اليوم هنا، في حياتك وحتّى بعد موتك. فمن يدري إن كنت ترتدينا أم نرتديك؟

أقنعته ارتجلت خطابًا من فمه، ما عادت تدرك ما تقول، عيناه كانتا تريان الأقنعة تكتب نفسها.صاحب المقامات يخاف الحب ويكره الضعف الذي يصاحبه، عمومًا هو يكره الخوف والضعف مع أنّه يتقن الاثنين، يختبئ خلف أقنعته مع عاشقات متخيّلات ويدّعي أنّه أعرف بالحبّ من غيره.لكنّه لا يفصح أبدًا بل يكذب، حتّى على قلبه.

٦

يحاول الغزاة أن يأخذونني أسيرًا عندهم فيفشلون. يحاولون من جديد بالضحايا والأنوار، والحروب الطويلة، وأنياب الملوك الجدد والخلفاء القدماء، يستعينون بقرّادين وشحّاذين بلا عدد، فقراء بعدد نجوم الكون، فقهاء وعلماء أهملهم الناس فصاروا يتسوّلون، وشعراء ومتصوّفة فقدوا رؤوسهم من المحبّة. تحاول الموسيقى أن تجرف الصمت بشفتيها.والديانات أن تسلخ جلدها الليليّ بعيون مغمضة.وعندما لا ينظر إليها أحد. يترجّل الملوك وينهضون من عروشهم. آنذاك ينتصب ثعبان وحيد في وسط الصحراء وقد جاء الليل. ويرى العالم إطار النافذة يحلّق وحده في متاهة يديه. تستيقظ الحياة على ضفاف دجلة وقد نسيت أن تصلي. وتقرّر الأرض أن تهاجم قلبها حيث أختبأ مرتديًا كلّ أقنعتي.

يتثاقل الزمن تدريجيًا حتى ينهار، وتستيقظ في داخلي ذكريات مجدّفين عميان يبحرون بلا خارطة إلى المجهول والسماء بأفقها المطعون تتضاءل، يتّسع الجرح باستمرار، ويسخر من الضماد مقدمًا، أقع فريسة الارتعاش والهلع، وأعرف أنّ الشمس ستأتي غدًا مسحورة بالنوافذ، وتعيد إليّ حصّتي من الخيبة.أتطلّع إليها مربوطًا بالسلاسل، والعالم من حولي يرقص كالدمية على نغم خفي، مؤشرًا لي ويقول بلغة الإشارات التي يفهمها الصم:

لماذا تتأخّر دائمًا؟

 ٧

خرجت بعيدًا عن البيت، ماشيًا في موكب، الموسيقى تأتي من مقدّمة بعيدة لا أحد يدري إلى أيّة مسافة تمتد.ينحرف الموكب مع جوقة الطبّالين والعازفين، وأرى البنايات تنتظر بتوتّر، وأسمع الموسيقى الشجيّة تفيض من أبوابها، مع سيل طويل وحيّ من الأنفاس المؤرقة، تتصاعد الموسيقى وتنتقع بدعاء كميل وزيارة أمين الله، يتنفّس الصبح بالصلاة على محمّد وآله، ثم تظهر جدّتي من الجمع وحولها أولادها، تحرّك مسبحتها وتولّي شطرها نحو ضريح الأمير، تمتزج الموسيقى مع أذان الفجر وتدخل مرحلة الإيجاز، ويطوي السلّم الموسيقي نفسه، ثم يخرج الأمير من ضريحه مع سيفه المفلوق ويبارك الجمع، يضع عباءته عليّ ثم يتسلّل بخفّة عائدًا إلى ضريحه.

٨

أمام جدارٍ من الوجوه الغريقة في الدخان، مغمض العينين، بانتظار فرجٍ لهذه المحنة. أصغي إلى نغم لا يسمعه غيري، آتيًا من قرارٍ ليس بوسعي أن أخمّنه، آتيًا من حجرات مهجولة في القلب حيث أعرف كيف أحلّق وحدي، حتّى إذا أخذتني الرعدة، ورمتني بعد التحليق هناك مرارًا. رأيت كيف تعبر غارات الآلام كظلّ سحابة في الظهيرة، من وجهي الشاحب المتوتّر إلى صدري المستعد لطعنة أخرى.تقول أقنعني أنّها رأت كيف أستقبل السكّين في صدري، فالطعنة لي، فأنا الحيّ الوحيد هنا، لي وحدي يفتح هذا الكتاب بعد أن اشتعل. أقلّب صفحات مقاماته من اللهيب، وأسبح أمام أقنعتي في ناري الأنيسة، أمدّ صوتي الجريح جسرًا يربطني بالعالم، في مقاماتي إعلان مخاضات، والبشرى تجري في الساقية، والشظايا تتقلّب بين الأحشاء. حيث تولد من دمائي تلك الأغنيات. خبيرٌ بتفصيل الجراح، لا أعرف من أيّ مدرسة للمواجع أتيت، لا أعرف على من أبكي وأرثي وأدين؟ ربّما لمن مات، ولمن لم يولد ولا يستطيع أن يموت. أنا الهلام المجبول بالخرق المتبقيّة من تضميد الجراح، أنا التنين الذي ينفث نيرانه ويرتجف محنيّ الرّقبة بانتظار نظرة حانية تذبحه من لحظين، أنا المتلعثم بالكلام، أنا هيكل الآلام، أنا الملاك الطائش الذي ضلّ طريقه إلى فردوسه النائي، وشيّدوا حوله الأسوار، أنا الذي يستطيع أن يجعل التاريخ يكفّ عن الدوران حول نفسه، أنا المتّكأ على الخرائب، أنا الذي قيل عنه أنّه بلا صاحب، كلماتي كهجر حبيب غائب، أنا الذي في النوائب، أنا الذي يسمع ولا يطيع، أنا الذي يخاف أن يتركه الجميع، أنا صاحب المقامات، وراوي سير الأحياء والأموات.أنا وارث فن بديع الزمان، أنا صاحب السجع الرنّان.أنا المتّقد من الصبابة والحنين، أنا المتأرجح بين الصلابة واللين، أنا الذي يقسو ويلين، واسمي أمين.

٩

تطارده الدروب وهو وحده، يستجدي معانقة أخيرة من العالم.يخيّل إليه أنّ هذه الأقنعة تحاول قول شيء ما، غير أن الجدار عالٍ، غير أن الصراخ مكتوم، والصوت لا يصل.تحاول الأقنعة تذكيره بكلّ شيء.بالطفل المدلّل للأمهات الثلاث، بالنبيه الذي حاول أن يتعلّم كلّ شيء، بالوحيد المرتعد الذي يتمنّى أن يعرفه الجميع، بالتلميذ المجتهد الصامت الذي لا يعرفه أحد، الفتى الذي نشأ وترعرع في بيت كلّه بنات، بالذي أخفى عن أهله شكوكه وأسئلته ومعرفته حتّى يظلّ صغيرًا بأعينهم، بالطفل الذي قرأ المصحف وحفظ معظم آياته قبل أن يبلغ، ذلك المهووس بكتب الأدعية وزيارات الائمة ونصوص التراث ودواوين الشعر وكتب التاريخ والتفسير والسلالم الموسيقية وهو ابن ثلاثة عشر سنة، بالمراهق الذي غار عندما سمع شاعرين لا يتقنان الشعر يتباريان فعرّف نفسه بأنّه كاتب قصص وهو يعلم أنّه لا يفقه بالكتابة أصلًا. بذلك المهووس بفن الحريري وبديع الزمان والذي كتب مقامته الأولى وهو لا يزال طالبًا في السادس الإعدادي، والمتلعثم الذي رأى بنتًا لا يعرفها تشبه بنت عمّه فقرّر أن يحبّها في خياله ويكتبها ويعرّف بها الناس من غير أن تعرفه هي أصلًا.قارئ الطالع والمهووس بالقصص المصوّرة وأفلام الأبطال الخارقين، صديق الجميع الذي لا يفهمه أحد، شيخ طائفة العشّاق المتألمين وصاحب هذه الأقنعة التي تحاول أن تروي نفسها في هذه المقامة.تقول له الأقنعة التي لبسها ليخفي هذا الألم وقد تداعت وتهرّأت:

اشحذ سيفًا تشرح فيه قسمات الليل، نصله البارد لا يطفئ تنهّد الحمامة وهي تطير. تنفخ السنوات نارك الموقدة في عينيك. رئتاك هيكلان من زجاج يحملان إرث اللهب والرماد. أنت لا تعلم أي عشبٍ ينبت فيك، وأي دغلٍ يعشعش بين الحجر المتراكم في صدرك. صوتك يشبه الحشرجة. يدك القابضة على الدم في عروقك تشتهي التوهّج والنفير. تحوم حول قبس شمس تهبط نحوك. وأنين الطير الذي يشتاق للسرب سيفك الذي تشحذ فيه ليلًا واضح المعالم، نصلًا يزحف نحو الغمد الذي يدعونه قلبك، قلبك الذي يدعونه قنبلة موقوتةً توشك أن تنفجر.

١٠

أصل إلى الساحة بعد أن عبرت نهرًا يهبط فيه المنجّمون بآلات فلكية صدئة، مفتّشين عن النجوم،   أعود ساهيًا نحيلًا كظلّ إبرة، من رحلات مجهولة، ألتقي بالموت وجهًا لوجه، كأنّني تركت نفقًا ورائي قبل لحظة، يتصاعد الدخان من رأسي، وأسير كالأعمى الذي يغزو الهواء بيديه نحو عدوّي الذي يختبأ خلف قناعه الأسود، أسير ويداي مقيدتان بالحريًة، تنغرز فيهما أسنان عدوّي، فيجعلني الألم أتطوّح سكيرًا في أزقّة غريبة، يفشل من فيها بمواساتي.

واثبًا في الهواء بحركات المعذّبين الخرقاء، كأنّ طيور الأرض قد تجمّعت في صدري، تبدأ الطيور انتفاضها الموسميّ من الأعماق، وتختبئ في سراديب سريّة وتشعل نفسها من حين لحين، بكبريت الوقائع اليوميّة.

أسير في طريق مجهولة لا يعرفها أحد، وأرى فيها قلوب أجدادي تخفق، رأيت خيولهم تركض وهم يتأمّلون الحجارة، يخفي الماضي ضياءه عنّي، وراء ستائر لا تحصى، أسير في مدينتي المنسيّة بين تواريخ تسكن هامش التاريخ، أمشي نائمًا في بخار مليئ بأجساد المحتجين والراقصين على إيقاع الطبول، وأتعثّر بالجماجم والجثث، يمدّ الوقت مبضعه كجرّاح مخبول، ويعلّمني أن لا أنخدع بوهم البقاء.ثم أرجع للساحة لمرّةٍ أخيرة، وأعرف بعد عودتي إلى البيت مختبئًا من رصاص السلطة وقنابلها الدخانيّة أنّها خسارة أخرى سيعتاد عليها القلب مع الوقت.

١١

كنت أنحت الصّخر بحروف قديمة، وأعرف أنّ الوقت مفترس، وأنا طريدة كسلى، لكنّني رغم كسح أطرافي وعند الفجر سبقت الشمس بالشروق لأكتشف حزن العالم الذائب. وجاءني بعد الغروب خبرٌ تغيب عن دلالته الشمس، شاحب كوجهي الذي أخفيته، مثل الحياة وخيوط الانتظار مبذولٌ لأسمّن كتب التاريخ بسيرة الوجع، وأقبر أقنعتي كي تتوالد السير. قيامي بعد سقوطي قيامة، وأعرف أنّ اسمي يرادف الضياع وفنّي يرادف الألم والفقدان (اذكروني لو حرّكت الرّياح غصنًا وصاح عصفور بريءٌ

سأكون محتاجًا لأن تذكروني).

رغم بصيرته لم ير القارئ أنني كشفت عن قناعي الأخير ذلك الذي عندما أزيله أستطيع أن أتنفّس مع الصبح الذي لا يشبه سواه ذلك الذي أُزهر فيه مرّة أخرى.

ماء اسمي الذائب في جمرة النسيان، أشربه قبل نومي كلّ ليلة، أمدّ من خيالي الجامح أبوابًا خفيّة بين الأكوان، ومن صوتي ضياعًا يولد منه العالم من جديد.

***

أمين صباح كُبّة

 

 

في نصوص اليوم