نصوص أدبية

حاتم جعفر: أهي خفقة قلب؟

ﻷمر طارئ إضطر صاحب البيت أن يترك زائره وحيدا وبشكل مؤقت. الضيف وفي مثل هكذا حالة، عادة ما كان يزجي الوقت ويقضيه بمتابعته وعبر نافذة البيت لحركات وألعاب وصراخ أطفال البيت المجاور، وعدوهم وتسارعهم في باحة الدار الواسعة وما سيرافقها من شعور بالنشوة والفرح وبلا حدود، سينعكس تأثيرها على الضيف لينتابه إحساس، بسعادة لا تدانيها سعادة. كذلك عادة ما يستهويه التطلع الى كيس اللبن المعلَّق وبشكل ثابت على ساق إحدى الشجيرات ومع كل زيارة يقوم بها لصديقه، والذي عادة ما كان يستغرقه ويأخذ منه بضعة دقائق تغزلا، حيث يعيده ويذكره بذلك البيت الذي قضى فيه طفولته، يوم كان شقيقه اﻷصغر ينافسه على تذوق خلاصته اﻷولى.

 الاّ ان الضيف هذه المرة وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه لا سيما وان صاحب الدار وعلى غير عادته قد تأخر كثيرا. فبينما هو مستغرق في نظره الى البيت المجاور وإذا به يشعر بأنَّ في حركته ما يعيقها، فوقع المفاجئة كما يبدو كانت كبيرة عليه. فعلى مدى سنوات عمره التي انقضت والتي عبرت العقد الثالث ببضعة منها، وعلى الرغم من وقوفه وإطلاعه على العديد من التجارب، وقراءاته للكثير من القصص المشابهة لما يحدث له الآن، وعلى الرغم كذلك من التنظيرات والنصائح التي كان يسجيها مجاناً لهذا وذاك من أصدقائه بفخر وزهو، وخاصة فيما يتعلق بهفهفة القلب وأوجاعه، والتي عادة ما يصاب بها العاشقون، الاّ انه اﻵن يبدو عاجزاً عن القيام بأي فعل أو حركة، تنجيه من الحالة التي وجد نفسه وقد وقع فيها. أمّا رجاحة العقل وحكمة التصرف عند الشدائد والتي كثيرا ما يرددها ويباهي بها، فقد فلتت من بين يديه وقلبه.

نحرها أبيض بض، لا يفصله عنه وعن نهديها الاّ بعض خطى. وما دام الحال كذلك فما عليكم الاّ أن تعذروه، إذ هو في حالة إنفصال وانفصام كامل، غائب عن البعدين، زمانا ومكانا وربما هناك بعدا آخر أيضا. فالرجل ولعلها للمرة الأولى في حياته التي يحسُّ فيها بطعمَ الهيام والتي أفضت ومن حيث لا يدري الى قطع الصلة بما يحيط به، ليكون بذلك قد سقط في جُبٍ عميق وعلى نحو غير متوقع، جانحاً ومبتعدا عن سياق شخصيته، متمردا عليها دونما دراية بل باتت مفروضة عليه.

دونما تخطيط مسبق وإذ به يشرع بفتح النافذة الفاصلة بينه وبين مَنْ هامَ بها، متجاوزا كل اﻷعراف التي كثيرا ما كان يدعو اليها ويبشر بها. ثم أخذ يدندن وهو العارف بأغاني سيدة الطرب أم كلثوم ورائعتها اﻷطلال. وما كادت تقترب أكثر منه وفي لقطة بدت كأنها في شوق لمن يطري قلبها النابض والرابظ على خط العشق، حتى راح مزيدا من وتيرة صوته، منغما ذلك المقطع اﻷثير على قلبه: ومن الشوق رسول بيننا ونديم قدم الكاس لنا. وعند وصولها الى هذا المقطع راحت الفتاة تُكمل بقية اﻷغنية و بأداء رائع وصوت شجي، تطرب له القلوب قبل النفوس، مما دفع الضيف الذي يزعم معرفته بأصول الغناء ومقامته، الى أن يصغي اليها بكل جوارحه. وما كان له أن يخرج من حالة الهيام هذه لولا نداء أحدهم وهو يدعو سرب طيوره الى التحليق بعيدا بعيدا. إثر ذلك ومخافة أن يحدث لها وله ما ليس في الحسبان، ما كان على الضيف أو الزائر الاّ أن يعود الى أدراجه والى وعيه، مغلقا النافذة المطلة على الجيران، ملوحا لتلك الفتاة بيديه الحانيتين، على أمل اللقاء فيما بعد.

 أمّا نحن فسنصرف النظر ونغض الطرف عن بعض الإعتبارات، ونشرع بقراءة ما حصل معه وعلى نحو لا يخلو من إجتهاد في القراءة وفي التفسير وما يمكن أن يتبعها من تصورات وأحكام. فالرجل وبسبب تلك الصورة التي شاغلته وإستقرت في ذهنه وأتعبته كثيرا بل وأقضت مضجعه، والمقصود هنا صورة النحر والنهدين وموقع القلادة من الصدر، (للعلم فالفتاة لم تكن تعلق قلادة كماصورها الضيف) أدَّت فيما أدت الى إختراق مخيلته ومن غير إستئذان وإحداث بعض الإرباك، حتى تعذّر عليه معرفة ما يدور من حوله.

 ولولا بعض المؤشرات التي بانت على وجه الفتاة التي تقابله في الطرف اﻵخر من النافذة وما صدر عنها من ردات فعل مفاجئة، تنم بمجملها عن حالة قلق وإرتباك وخوف، لتثير بدورها إنتباهه ولتعيده نسبياً الى حالته الطبيعية، لما كان الضيف قد تنبَّه الى ما يجري من حوله. ففي حركة عينيها ووجلها وإحمرار وجنتيها، ما ينبئ بوقوع شيئا ما لم يكن في الحسبان ولا بالمطمئن. انه صوت جلبة داخل الغرفة، لم يستطع التأكد منه الاّ بعد أن صدرت من مضيفه  بضعة كلمات،إستبقها بنحنحة، كاد صداها وبسبب من قوتها أن تخترق زجاج النافذة الفاصلة بين بيته وبيت الجيران، في مؤشر واضح، يُنبئ بدخوله الغرفة، والى تحذيره كذلك وفي حركة تنم عن تواطئ مكشوف مع صديقه، علَّها تصله ومن دون أن تسبب له حرجا.

حتى الآن يبدو الأمر طبيعياً أو لنقل نصف مصيبة، ولكن المصيبة الأعظم هي دخول صاحبة البيت بعيد لحظات من دخول ولدها، وبيدها شيئا ما لم يستطع تبينه من شدة وقع الصدمة عليه. في هذه الأثناء لم يكن امام الضيف من حل لتجاوز الإحراج الذي وقع فيه الاّ قيامه وعلى عجل بلملمة وضعه المضطرب ما استطاع وعلامات الإرباك بادية عليه، وسط دهشة وتعجب أهل البيت، ليغادر الغرفة والدار معاً، وحتى من غير أن ينطق بأي حرف، تاركاً ورائه ذيول مشكلة، يظنها كبيرة، لا يعرف درجة تفاعلها وما سيترتب عليها من نتائج، ولا كيفية تجاوزها مستقبلاً، لا يعرف كيف سيجد لها من التبريرات والمخارج، ما سيسعفه وينقذه لتجاوز الحرج والمأزق الذي وقع فيه.

لم يتوقف عن التفكير فيما حصل معه، فطيلة طريق عودته الى البيت راح يستعيد تلك الواقعة، واضعا العديد من السناريوهات التي يمكن أن تترتب عليها: لقد إنقلبت الطاولة على رأسك يا فلان وأصبحت في حالة لا تُحسد عليها، فربما تداعيات ما وقع ستصل أبعد بكثير مما تعتقده. كان اﻷجدى بك أن تترك أمرا كهذا لشقيقك، فهو اﻷجدر منك واﻷقدر على محاكاة ومجاراة هكذا وقائع، وَلكانَ قد خطفها وطار بها حيث يشاء، وﻷجتاز كل الحدود، بما فيها الممنوعة والمحرمة. ثم راح مسائلا نفسه: ولكن ما بك يا رجل، فها هي الفرصة قد أتتك وعلى طبق من نور ومحبة، فما كان عليك الاّ أن تستجيب لنداء العشق وتطوي تلك الصفحة المعتمة من حياتك، والتي لم توصلك وحتى اللحظة الى ما تبتغيه رغم ما تمتلكه من رصيد فكري ومعرفي، بل حتى لم تساعدك على عبور الضفة اﻷخرى من النهر الذي يخترق المدينة رغم صغره.

في هذه اﻷثناء وبينما هو منهمك في حساباته، لفت إنتباهه صوت جلبة واضحة، مصدرها ما يحدث من مشادة كلامية، أحد طرفيها رجل ستيني، تبدو جلية عليه ملامح الوقار والهيبة، وهو يحاول التدخل لدى رجلي أمن، محاولا منع إقتياد أحد الصبية وإدخاله عنوة في الجانب الخلفي لسيارة الفوكس فاغن الرمادية اللون، السيئة الصيت والسمعة، والمعروفة من قبل اﻷهالي بعائديتها الى دائرة أمن المدينة، ففي اﻵونة اﻷخيرة لوحظ تزايد نشاطها وتحركاتها المريبة، مستهدفة كل مَنْ يعارض سياسة الدولة وحزبها الحاكم وتحت مختلف الحجج والذرائع. أراد أثرها صاحبنا التدخل لصالح الصبي غير انه تراجع عن ذلك، خشية أن يقتاد هو اﻵخر الى دائرة اﻷمن، فالأجواء السياسية في البلد لا تبشر بالخير، ومَنْ يدري فقد يكون هو اﻵخر مطلوبا لهذه الدائرة أسوة بأصدقائه الذين سبقوه.

 ***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

 

في نصوص اليوم