نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: تحرش ...

كثيرا ما كان يصادفها في طريقه،صباحا وهو يقصد متجره، أو مساء عند الرواح،عيونها الكحيلة الناعسة من وراء نقاب شفاف هي ما كان يثيره بسحر جذاب. انثى فارعة الطول، جلابيبها المغربية مزدانة بأصداف أمامية والتي كانت تغيرها كل يوم تقريبا، بذوق وحس فني تدل على أنها ميسورة الحال.. عنها حكى بعض من فضولي الحي:"مطلقة، أتت من مدينة شمالية لتدير مؤسسة تعليمية خاصة".

حاول كثيرون التقرب منها طمعا في مالها و سعيا اليها بهوى مفتونين بقدها وأناقتها، لكنها كانت صارمة في صد كل من يحاول التحرش بها، أو محاولة التقرب منها ولو بتعارف وصداقة، ايمانا منها أن لكل رجل قبضة هدفها السيطرة أولا وأخيرا، لهذا فهي تفرض على نفسها عزلة تامة، لاتكلم أحدا غير تلميذات مؤسستها ان صادفتهن في الطريق..

حين دخل مكتب متجره هذا الصباح، أخبرته كاتبته أن أنثى محجبة صاحبة مؤسسة حرة قد توسلتها أن تحجز لها موعدا معه،وحبذت لو يكون الموعد بعد السادسة مساء..

استغرب أن تسال عنه متحجبة، فهو عادة لا يربط علاقات مع هذا النوع من النساء، ولا سبق له التعامل مع زبونة يقمطها السواد، فهذا عنده مبالغة، وكل مبالغة نقصان، وقد ازدادت حيرته حين وصفت كاتبته المرأة، فعرف أنها المطلقة التي يصادفها في طريقه، وتحرم على نفسها أن تتعرف على رجل أو يتعرف عليها رجل..فما الذي حملها على طلب موعد معه ؟ !!..

بعد السادسة بخمس دقائق اقبلت، دخلت المكتب يتقدمها عطرأنثوي هادئ؛ انزلت لثامها ودفعت قب جلبابها الى الخلف،ثم مدت يدها بسلام بعد أن خلعت قفازها الأسود عن يدها اليمنى، أشار لها بالجلوس على كنبة من وراء مكتبه "غريب محجبة تمد يدها لرجل بسلام وتعري شعرها ".. قبل ان تستقر على الكنبة فتحت جلبابها من قُدام،فظهر صدرها الناهد وقدها الممشوق كاشفا عن ساقين طويلين مرمرين مفتولين، تتحرش بهما فوق الركبتين تنورة داخلية بنفسجية بزهور، اعادت نقابها ثم رفعته فوق شعر أسود فاحم تنسدل خصلاته على جانبي جيدها،.".جمال مبهر يتخفى !!..تحجبه جلابية وعنه يتكتم نقاب، كيف تحرم أنثى مثلها أن يتقرب منها رجل ؟.." بخبرة أنثوية ادركت دهشته من سلوكها، وخمنت ما يمور في راسه من استفهام !!.. لا شك ان أكثر من سؤال يغلي في مخه، فكيف تتصرف محجبة صارمة في تعاملاتها بهذه التلقائية ومن أول لقاء برجل لم يسبق لها التعرف عليه ؟ بادرته بعيون ضاحكة:

ـ لو رزقني الله ذرية لكنت أنت في عمر اصغر ابنائي، فانا جاوزت الخمسين.

دهشة أخرى تراكم ماقبلها في مبالغة لاتخفى عليه..أنثى تعلن عن عمرها، تخرسه بتبرير واه بلا حجة ولا سؤال، فهو لم يبحث عن عمرها أو يفكر في سبب يجعلها تكشف عن كل ما يفتن عيون رجل في أنثى، فالظاهر منها طاغ يثير، والمخزون قد يكون أشد فتكا !! هل حقا تصدق فيما تقول ؟ فالتي أمامه لن تتجاوز الأربعين على ابعد تقدير، حتما تريد أن تصرفه عن عمرها الحقيقي، ربما خوفا من أن يغريه جمالها فيتحرش بها، أو يركبه جنون الشباب فيرتمي عليها، خصوصا وهي تراه أمامها شابا طويل القامة،أنيقا، بهندام متناسق، ووجه مليح قد يستهوي أية أنثى.. وحتى لو كانت في الخمسين كما تدعي فجمالها الأخاذ يستطيع أن يحرك أي رجل برغبة..

استدار الى خزانة حديدية خلفه، وأخرج علبة شوكولاطة، قدمها اليها وهو يسال: هل اطلب لك قهوة أم شايا،أم تفضلين كوكطيلا ؟

انهرقت عيونها قلب عيونه "مصيدة شرسة وخطيرة " اشاح بوجهه عنها وهي تقول: لا شيء، دعه لفرصة أخرى، وأتمنى أن تكون قريبة.. أنا قصدتك من اجل هذه،وأشارت الى علبة الشوكولاطة..

بلع ريقه وقال: تفضلي ما المطلوب ؟

تنهدت وقد اطمأنت ان الذي أمامها لايحاول أن يتجاوز حدوده مما قد يتهور فيه غيره من بعض من تعاملوا معها في مدرستها أو خارجها، حتى كلماته تأتي على قدر السؤال بلا مبالغة أو تهور في حركة..

تراجعت مسندة ظهرها على الاريكة ؛ "هل تتعمد ان يبرز صدرها الناهد الشامخ؟ أم أنها تريد افشال مقاومتي ؟" قالت:

من سنة تقريبا، غادرت مدينتي التي شهدت طفولتي وشبابي بعد طلاقي من رجل أراد ان يتزوج بأخرى عساها تهبه مايتوهم اني عاجزة عنه، في حين أنه هو من كان عاجزا ان يهب لنفسه ما يريد، فقد كان عنينا يفشل قبل أن يبدأ..

أثارته العبارة، وقد شدت أنتباهه، جرأة حضور بتعبير يكسر كل جدار كان يلزم أن يكون بينهما في أول لقاء بلاسابق معرفة، انطلاق في عفوية وطلاقة لسان، تدمر كل حجاب،و تلغي كل صلابة مما يقال عنها، تلقائية حديث بلا تصنع أو اجهاد نفسها في كلام، تناقض ادعاءها كونها قد تجاوزت الخمسين، فكيف تكون قد بلغتها وهي على يقين انها قادرة أن تمنح زوجها مالا يستطيع أن يمنحه لنفسه لعجز فيه.. ظل ينظر اليها بامعان موح بثقة تشجعها على أن تتابع حديثها بحماس وسعادة هما ما تعكسهما عيناها الضاحكتان.. تابعت:

ـ وحيث اني تربيت في ملجأ فلا أهل لي، رحلت الى هنا حتى ابتعد عن القال والقيل وتحرشات الرجال في مدينتي السياحية التي غيرت الدعارة وجه سكانها المحافظ، فامرأة جميلة ومطلقة مثلي تصير فريسة الأغراض والشهوات من قبل الرجال.. هنا في هذه المدينة سبق أن أقمت أربع سنوات مع زوجي،وهو من بنى المدرسة التي تنازل لي عنها كصك الرضا بعد أن توهم ان الطلاق حل لما يعانيه..كما أنها ثمن صمتي وقبولي الطلاق بلا توابع.. رضيت بعطيته، ولماذا أرفض وقد مللت رجلا جليديا لايهش ولا ينش.. فعطيته قد تكفيني زيغ الرجال، أو التطلع لاغرءاتهم وتحرشاتهم...

كان أمامها كمنخل يفسخ ويفتت ثم يغربل كل عبارة تتفوه بها، وقد اثارته كلمة تحرش ترددها كلما تحدثت عن الرجال ؛ ربما عانت من ذلك، ربما تبالغ،ربما هو مرض الأنثى حين تريد أن تبررمواقف ترسخت في عقلها بلا استئذان!!..

لكن وهي تتعرى من جلبابها،تغريه بساقيها المفتولين، وترفع نقابها عن وجهها الفاتن، وتسمح لصدرها أن يبرز أمامه، أليس هذا هو نفسه اغراء عن قصد منها،وتحرش به عن إصرار ؟ ربما خططت له قبل مجيئها اليه !!.. فهو فعلا شاب وسيم يغري بأناقته وعفويته ولعلها أدركت بخبرتها تمتعه بكاريزما ساحرة تشده اليها ما حسسها بالأمان والطمأنينة. كيفما كان احساسها نحوه فعليه أن يقاومها ويحذرها حتى لا يصير ضمن الرتل الذي تحكي عنه..

هل ياترى تمارس نفس السلوكات مع كل رجل تستفرد به، فيثيرها بشباب وأناقة حضور ؟ أم هو تخطيط مسبق ؟ام أن ما يقع هو من مطحونات الرحى العقلية التي لا تتحكم فيها بعض النساء ؟

تصمت قليلا ثم تتابع وكأنها تحدث أليفا تعودت أن تجالسه وتبثه كل مشاعرها وأسرارها، فقد صارت تتكلم بكل حاسة فيها، تنيم عيونها تارة او تغمز أخرى، تزم على شفتيها او تمدد السفلى منهما، جذلى كمراهقة لاتسعها فرحة، الطريقة التي تمرر بها لسانها على شفاهها لا تعكس غير محاولة لتفتيت صلابته ومقاومة لم تستطع دحرها باثارة جنسية تكاد تكون مفضوحة..

ـ بعد غد سنشرع في عطلة الربيع، وسيبدأ كل اليف يحن لأليفه، فالدفء يثير كل كائن حي، والربيع هنا يضيف سحرا للمدينة، أليس كذلك ؟

كان يتابعها وهي ترسل كلماتها وكأنها تتعمد أن تكون موحية تبلغ رسالة خاصة ؛تتنهد وكأنها تعبر عن رغبة كامنة ثم تتابع:

وحيث أني فضلت عدم السفر، و رغبت في صديقات كن معي في الملجأ هن من يزرنني، قلت لماذا لا أكرمهن بمكسرات وفواكه جافة وشكولاطة رفيعة، مما في متجرك وهو أشهر من نار على علم..

رغم حذره واحتراسه فقد ابهرته طلاقتها والتعبير عما تريده بقدرة منقطعة النظير، حتى أنه نسي نفسه وهو مشدود الى غمازة على خدها الأيمن، وخال مثير اسفل أذنها اليسرى اضافا الى لونها القمحي وسحر العينين جمالا مغريا ؛فبين تناقضات القول وجمال الطلعة سحر يحتاج الى فك غموضه ؛ انثى فريدة تسكنها الحياة بقدر ما يسكنها التناقض... تبسم في وجهها وقال: رغم ان متجري لا يبيع بالتقسيط فسأزودك بكل ما تحتاجين، كضيفة وزائرة لمتجري..طيب كم عدد زائراتك ؟

قالت وكأن كلامه قد اراح صدرها مما أبلغته لها الكاتبة في أول زيارة كون المتجر لا يبيع بالتقسيط:

ـ هن ثلاثة فقط، لكن أحب أن اهديهن من ألذ وأمتع مما عندك..

قالت العبارة الأخيرة بايحاء وكانها تدعوه اليها، أو تتمنى حضوره مع صديقاتها، لكنه تجاهل حركاتها.. و قد رفع نظره الى الحاجز الزجاجي بينه وبين كاتبته وكأنه يقول لها احذري !!..

ـ لا عليك اتركي عنوانك عند الكاتبة وسيصلك كل ما يكفيك

تحركت كمن لسعتها نحلة:

ــ لا ارجوك !..اكره أن يطرق باب بيتي رجل.

قطب جبينه وان ظلت عيناه تتبسمان لقولها:

ـ طيب مري على المتجر بنفسك غدا في أي وقت شئت وستجدين الطلبية جاهزة.. فتحت فمها وصبت عيونها في عيونه بنظرة عميقة كانها تريد أن تقول: لماذا لا يكون الحامل أنت ؟ لكنها تراجعت، مررت لسانها على شفتيها بنفس الاغراء السابق ثم مسحت الأرض بعيونها وكأنها تفكر في شيء معين، قالت: لن أخفي عليك انا لا أكره كل الرجال كما قد يتبادر الى ذهنك حقدا على زوجي الذي طلقني، فانا ما أحسست يوما بوجوده في حياتي، أكره بعض الرجال لان أحدهم كان قد أغتصبني و عمري 6سنوات، ولم يكن المغتصب غير ابي الذي استفرد بي بعد موت أمي.. حاولت أن اتناسى، لكن في الملجأ ما كنت لديهم غير سمكة،كل رجل يرمي لها بسنارة و طعم، لهذا لم أنس اغتصابي من ابي فظلت الحادثة تؤرقني ليلا ونهارا، وقد صرت أخشى ظل الرجل اذا مر بجانبي، لهذا بادرت بقبول طلب مدير الملجأ فتزوجته رغم أن اثنتين قبلي قد سبقاني اليه، مع الأسف لم يكن غير رجل عاجز، كان يشتري صمتي بماله مما ولد عندي ميولات أخرى اعوض بها حرماني وجوعي الجنسي.. لكن الحق يقال فقد أستطاع ان يذيب خوفي من الرجال، فقد علمني كيف اتحدى واتجاوز كل مشاعر الاشمئزاز التي كانت تتملكني كلما مسني رجل،وها انا اللحظة معك، وقد خلعت كل كلفة بيننا بل تركتك تراني كما أنا بلا خلفيات دينية أو اجتماعية، أنثى حرة لا تخشى الرجال او تتجرد من رغباتها..وثقتي فيك قد تجعلني اتعرى امامك بلا حرج..

بسرعة رفع يده وكأنه يصدها ان تغامر بماقالت !..

اطلقت تنهيدة عميقة، في لحظة مدت يدها وأخذت حبة شوكولاطة، تذوقتها باستمتاع وتلذذ شهواني ثم تابعت:

الأنثى منا تتحجب ولكن في عمقها ألف وسواس خناس يحرك فيها كل ما وهبها الله من رغبة وتوق وجوع جنسي، وكل من تدعي غير ذلك فهي تنافق أو تنتحر عن إصرار... لقد أخضعت نفسي لحجاب ليس لرغبة أو رهبة وانما اتقاء ما صرنا نعانيه كنساء بين الرجال، خصوصا اذا كانت المرأة مثلي لها ميولات أخرى تعودتها لسد جوعها وما عاد لها بالرجال رغبة لما عانته منهم.

توقفت قليلا ثم استدركت..مع استثناءات طبعا عند تحرك شوق ورغبة وأناقة حضور..

أحس بان التي أمامه تريد أن تجره الى حياتها الخاصة، تتعمد اثارته ؛ تململ في مكانه وهو يقارن بين زيها وسلوكها وبين تناقضات حياتها وكأنه يعلن انتهاء المقابلة، وقفت، و قد تعمدت ان تترك فتحة فستانها السفلى تكشف عن فخدها الأيسرالمرمري ثم قالت: لم تخبرني عن الثمن ؟

"أنثى منذورة للفتنة والحياة، و لو بقيت في مكتبي دقائق أخرى لوقعت تحت سياط أغرائها وذاك غالبا ما تسعى اليه ".. بادرها بالقول:

لايهم ستجدين كل شيء عند الكاتبة..

اعادت جلبابها وشرعت تقفل صدفاته، تراجعت قليلا الى الوراء فظهر نهدها البض، وهي تركز النظر فيه كانها تتمنى أن يرتمي عليها ويطوقها بيديه، فقد رأت فيه رجلا يستحق ان تتعرى له انثى..

انزلت نقابها على وجهها،رتبت قبها بعناية وعيونها تلتهم الرجل، ثم مدت يدها تودعه وقد تعمدت أن تضغط بقوة على يده.. انتبه الى أنها تسرق النظر الى علبة الشوكولاطة وكأنها تتوسل اخذها.. حملها ثم قدمها لها: " ذي هدية من المتجر "

ضحكت وقالت: الشكر لمالك المتجر على لطفه وذوقه..ثق أنني قد ارتحت اليك، و سأزورك مرات أخرى اذا كان وقتك يسمح بذلك طبعا.

ادرك أن السيدة لها ميولات قد كشفت عنها، كما كشفت عن تناقضات في سلوكها، وهو نفس التناقض الذي جعل ماحكته ينحل شكا في ذهنه ؛أطلق زفرة عميقة بعد انصرافها ثم أخذ ورقة ودون عليها كل ما يلزم الزائرة ؛ دعا كاتبته،سلمها البطاقة ثم قال: اجمعي المطلوب في صندوقة كبيرة وضعي داخلها فاتورة صغيرة بلا اثمنة، لا تنسي أن تكتبي عليها هدية من المتجر، لكن اياك ان تسمحي لها بالدخول عندي مرة أخرى...

***

محمد الدرقاوي

في نصوص اليوم