نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: الغياب

لم يخلُ شارعنا من مناحة على مدى عقود. فها أنا ذا تخرجتُ من الجامعة منذ مدة طويلة، ومازال النواح يتردد ويتكرر بين حين وحين في الشارع والحي بل المدينة كلها. وذلك بسبب الحروب التي كلما أطفأ الزمان نار واحدة، جاء أحدهم ونبش رمادها وصب الزيت عليها. لتتوهج وتشتعل حارقة اليابس واليابس. ولكن مع كل هذا الألم عشتُ طفولة عامرة برفقة صديقي وجاري الذي هو بعمري الآن. صديق الطفولة هذا استشهد أبوه في الحرب ذاتها التي فُقِدَ فيها أبي. وكنّا على صغر سننا، نتبارى في أيّنا أشد ألماً من الآخر. الذي مات أبوه أم المفقود ولا يعلم أهله مصيره؟!. كنتُ الوحيد لأمي حين خرج أبي من المنزل ذات فجر، وركب في السيارة التي تقلّ الجنود الذاهبين للمعركة. السيارة ذاتها الذي ركب فيها أبو صديقي الذي توفى في تلك المعركة. الفرق أن جثة أبي صديقي أحضروها ذات يوم إلى دارهم، فاشتعل الدار نواحاً وصراخاً. أمي التي هرعت لتعزية جارتنا والدة صديقي، كانت ترتدي ملابسها السود وكانت تبكي. وحين سألتها لماذا تبكين؟ أجابت لا شيء. لكنني عرفت وقتها أنها لم تكن تبكي على جارنا المقتول في الحرب، بل سبب بكاؤها أنها سألت الذين جاءوا بجثة والد صديقي عن أبي، لكنهم أجابوا أنهم لا يعرفون مصيره حتى هذه اللحظة، وربما قد فُقِد في المعركة. لكنه سيرجع إن كان على قيد الحياة بلا شك. ومن ذلك الحين وأنا أعاني من مرارة الخوف من الفقد. وكم شرحت لصديقي خلال المدة التي عشنا فيها سوية كأصدقاء وجيران، أنني أعاني أكثر منه من الألم والحزن. وذلك لأنني تأثرت كثيراً بأمي وألمها وحزنها. فقد أشترت ملابس سود خشية أن يحضروا ذات يوم جثة أبي. وفي الوقت ذاته كنتُ أراقبها حين كانت تخرج الملابس الملونة من دولاب الملابس، لتنظر إليها طويلاً ثم تتأكد من نظافتها وتعيدها إلى الدولاب. وحين كان يقول لي صديقي دائماً عبارته المتكررة (لا مرارة أشد من مرارة اليتم)، لا أجيبه بل أظل مُطرقاً برأسي وتخرج من صدري حسرة مخلوطة بأنفاس زفيري. فيظل يشرح لي الليالي الطويلة التي قضتها أمه وهي تبكي على فراق أبيه. وفي المقابل كنت عاجزاً من إفهامه أننا أنا وأمي اللذين فقدنا ولم نفقد أبي، كنّا نعاني ربما أكثر من معاناته وأمه. فحين يموت شخص عزيز عندك ستحزن بلا شك، ولكن حزنك سيكون على دفعة مركزة واحدة، كغيمة تهطل أمطارها بغزارة ثم تنكشف الشمس. أما الذي يعاني من غيْبة من يحبه، ستكون سماؤه ملبدة بالغيوم التي لا ترتاح من ثقل أمطارها الحبيسة فيها، ولا يُرى من الشمس سوى النور المحجوب وراءها. إنه صراع شديد بين الحزن والأمل لم يفهمه صديق طفولتي الذي نسى أباه. فبعد مرور سنتين تزوجت أمه، وعاش في كنف زوج أمه الذي كان يرعاه رعاية جيدة. أما أنا وأمي فلم نكن نعرف هل أنا يتيم وأمي أرملة أم ماذا ؟!. وظلت أمي تنتظر كلَّ يوم مجيء أبي الذي ظل مصيره مجهولاً. وأنا رضعت حزنها على فقده وأملها في رجوعه حتى أشتد عودي. فلم أتزوج ولم أفكر في الأطفال بتاتاً، حتى بعد وفاة أمي بمرضها الأخير، والتي كانت توصيني في لحظاتها الأخيرة بانتظار أبي، حرصاً منها عليَّ حتى بعد أن أصبحت شاباً. ولكم فشلت كل المحاولات في تغيير رأيي في مسألة الزواج. لأن فلسفتي هي أن لا أتعلّق بإنسان بتاتاً، إن كان زوجة أو أطفالاً، خوفاً من فقدهم وتحمل مرارات العيش من دونهم. لكن هذا لم يمنع من تربيتي لقط أبيض أليف ذي عينين زرقاوين، وفرو ناصع كالثلج. قلت في نفسي أن مسألة تربية القط لا تكلفة فيها، حتى لو فقدته ذات يوم لن يكون الأمر بتلك الصعوبة فهو مجرد حيوان. وليقضي معي الأيام والليالي ويسليني في وحدتي، خصوصاً أنه كان مرحاً ولعوباً. وحين أفتح باب الشقة يأتيني مهرولاً، ويموء بمحاذاة ساقي ويمسح رأسه بها. وفي كثير من الأحيان كان يستلقي إلى جنبي على سريري فنغط بالنوم سوية في ليالي الشتاء الباردة. وذات مرة حين كنّا أنا وصديقي - صديق الطفولة اليتيم- نسير في شارع ليلاً عائدين إلى مساكننا. كان يحدثني وينصحني بالزواج، ويراه ضرورة قصوى فقد تزوج هو وأنجب طفلين، ويسكن بالقرب من شقتي. لكن محاولاته كلها كانت عبثاً لأنني لم أغيّر رأيي. وإذا كان الأمر بخصوص التسلية في ليالي الوحدة الرتيبة، فأنا أنعم بقط جميل صار صديقي. وبدّد الوحشة عن نفسي وهو الآن ينتظرني. في تلك اللحظة حدث مالم يكن في الحسبان. فحين دخلنا في شارع ذي نور خافت، رأينا شبحي رجلين متشبثين بفتاة. عرفنا هذا من صوتها حين طلبت النجدة. وكما يبدو أنهما مجرد متحرشين يتسكعان في هذه الأنحاء. وحين هرعنا لنجدتها جرى شجار بيننا، فأخرج أحدهما سكين وطعن صديقي في بطنه عدة طعنات أردته قتيلاً على الأرض. وحين هربا ركضت وراءهما، لكن سيارة داهمتني عند الشارع فصدمتني صدمة عنيفة. سقطت على إثرها ولم أفق إلا في المستشفى. ثم علمت لاحقاً أن صديقي قد توفي، وأن المتحرشيْن المجهولين قد لاذا بالفرار. وسألت عن المدة التي كنت فيها فاقداً للوعي، فعرفت أنها كانت لأكثر من يومين. وأنني مكبّل بالجبس الذي وضعوه على ذراعي اليمنى وساقي. وأن الفحوصات الدماغية مازالت مستمرة. في تلك اللحظة تذكرت قطي الأبيض الذي في شقتي. فأنا لم أترك له ما يكفي من الطعام والماء. والأطباء قالوا أن وقت العلاج لن يكون سريعاً. لا أدري لماذا حين سمعت بخبر وفاة صديقي، لم أتأثر بقدر تأثري على مصير القط. وصرتُ أسترجع تفاصيل الشقة والسبيل لهروبه منها إذا ما التف على رقبته حبل الجوع والعطش. ولكن الشقة محكمة الغلق بأبوابها ونوافذها، ولا سبيل لهروبه سوى أن يفتح له أحدهم الباب ويحضر له طعاماً وماء. وحين تحدثت مع الطبيب المختص قال لي هل تريد أن نوصي أحدهم بفتح شقتك. وبصراحة لم أجد أحداً فكل الذين أعرفهم وأثق بهم هو صديقي الراحل. وبعد أيام كنتُ أتقلب فيها على فراش المرض والقلق على مصير قطي المسكين، خرجت في النهاية من المستشفى أجر بدني كما يجر الثور محراثاً. باذراً في كل خطوة اتركها ورائي بذرة من أمل وأخرى من قلق. وحين مررت بمسكن صديق طفولتي المسكين رأيت لوحة تعزية معلقة، فخرجت من جوفي حسرة، ورحت أشجع ساقيّ على مواصلة المسير بمعونة عكّازي إلى شقتي. وفي تلك اللحظة التي فتحت فيها باب الشقة كنت أتخيل منظر القط المسكين ملقى على الأريكة، وقد فاضت روحه من شدة الجوع والعطش. لكنني حين درت في المنزل باحثاً عنه لم أعثر عليه، وتفاجأت بحال الشقة مقلوباً رأساً على عقب، وكنت أشك أن القط هو من فعل هذا تحت دافع الوحدة والخوف والجوع. لكنني عرفت أن القط غير موجود في الشقة، لأنه فرَّ من خلال النافذة المهشمة. والتي لم يهشمها هو بالطبع، لأن الشقة بعد أن دقّقت النظر فيها وجدتها مسروقة. وأن اللص الذي دخل إليها عن طريق النافذة فتح ثغرة للقط لكي يهرب وينجو بسببه. في حينها قلت لنفسي أن القط سيعود، ولم أهتم حتى لشقتي المسروقة. لكنه تأخر ولم يعد!. ثم أجريت مسحاً للمنطقة ولم أر سوى قطط الشارع تموء وتأكل من الأزبال، ولم أعثر على قطي الجميل معها. قالوا لي أصحاب محال القطط أنه سيعود.. سيعود بلا شك فالقط لا ينسى صاحبه. وها قد مرَّ زمان طويل ولم يعد. زوجة صديقي غادرت منزلها برفقة أطفالها وزوجها الجديد، والشوارع رمموا أرصفتها، وجيراني أغلبهم غادروا وجاء جيران جدد، ولم يعد قطي الأليف. لو كنت قد رأيته ممداً على الأريكة ميتاً لكان أفضل. سأدفنه بلا شك في مكان قريب وينتهي كل شيء. وكم استغرب أصحاب محلات بيع الحيوانات من إلحاحي في السؤال عنه، وظنوا أنني مخبول. فمن هذا الذي يبحث عن قطّه مثلي، وهل يستحق حيوان كل هذا التعب والتفتيش والبحث؟!. لا أجيبهم عادة كعادتي مع صديقي الراحل، بل أظل مُطرقاً برأسي أمامهم وتخرج من صدري حسرة مخلوطة بأنفاس زفيري.

***

أنمار رحمة الله

 

 

في نصوص اليوم