نصوص أدبية

منذر فالح الغزالي: هكذا تكلّم حسن

تزوّجت نوّارة. تقدّم لها رجل ستّينيٌّ ترمّل مؤخّراً فوافقت على الفور.

نوّارة فتاةٌ تجاوزت السابعة والعشرين، ولم يتقدّم لها عريسٌ في القرية التي تتزوّج بناتها منذ الثامنة عشرة، بالرغم من أنها جميلة، ربعة القامة، بوجهٍ مدوّرٍ وحمرةٍ خفيفة على الوجنتين، وعينين سوداوين واسعتين، وبالرغم من طيبتها، وحبّها للناس، واستعدادها لتلبية أيّة خدمة لأخيها وزوجته وأولاده، وللجيران الذين يحتاجون للمساعدة؛ تبدو عليها مسحة مسكنةٍ أو مذلّة: تسكت حين يجب الكلام، وتتكلّم حين يجب أن تسكت، وفي كلتا الحالتين، تسمع التأنيبَ من أخيها وزوجته. ونوّارة هي نوّارة الحارة بالفعل؛ الجميع يحبّها، لكنْ ذلك الحبّ الممزوج بالشفقة.

عاشت معه في بيتٍ صغير، لم تتأخّر يوماً عن خدمته، ولم تشكُ من عجرفة بناته المتزوّجات، وأوامرهنَّ التي لا تنتهي، حين يأتين لزيارة أبيهن. بيتها الصغير صار جنّتَها؛ كان لا ينغّص هناءتها إلا أمرٌ واحد... "لو يرزقني الله بولدٍ يسندني في كبري!"، تقول لجارةٍ من جاراتها اللائي لا تتوانى في مساعدتهن.

بعد ثلاث سنواتٍ من الزواج، أنجبت حسن. قامت قيامة الأولاد، أبناء زوجها الذين تنازل لهم عن أملاكه، ولم يبقِ لحسن سوى البيتِ الصغير الذي يعيش فيه مع زوجته الصغيرة، وحين مات الزوج كان عمر حسن أربعَ سنوات.

حزنت نوّارة لفقد زوجها، بكته أربعين يوماً؛ لكنّ وجودَ حسن في حياتها كان عزاؤها؛ وضعت كلّ عواطفها فيه، وتركّزت حياتها حول "رجل البيت القادم!". أصبح حسن هو شغلها الشاغل، وظلّت تعامله معاملة الرضيع، حتي بعد أن كبر ودخل المدرسة؛ تركض خلف أيّ طفلٍ إذا ضايق ابنها، أو تذهب إلى أهل طفلٍ آخر بثوبها الباهت وحذائها البلاستيكيّ، وآثار العمل لا تزال على يديها، تشكو ابنهم الذي تهجّم على حسن، أو ضربه، أو عيَّرَه... ينكر الأولاد – كالعادة – حديث نوّارة، فتردّ دون خجلٍ من أهله: "أنت تكذب... حسن قال لي!".

قنتْ دجاجاتٍ، وزرعت المساحة الصغيرة حول البيت خُضَراً، وصارت تبيع البيضَ وما يفيض من خُضَر المساكب، وعملت في مهنٍ كثيرة: تشدّ المكانس وتبيعها، وتنجّد اللحف؛ ورغم ذلك، لم يرها أحدٌ تغيّر ثوبها، منذ أن مات زوجها؛ تغسله في الليل لتلبسه في الصباح.

كان عند نوّارة ثوبان اثنان، أحدهما، الأسود الباهت، لا تبدّله طول النهار، والآخر، الأخضر الجديد، مغسولٌ ومعلّقٌ في الخزانة المعدنية، وحذاءان، أحدهما من البلاستيك، تلبسه في أرض الدار مع الثوب الأسود، أو لزيارة الجارات في الحارة، والثاني، الجلديّ، ملمّعٌ بعناية، وموضوعٌ في أرض الخزانة "للمناسبات"، رغم أنها لم تلبسه في أيّة مناسبة. شاهدتها الجاراتُ تلبسه مع الثوب الأخضر، لأول مرة، حين اقتادت ابنها حسن، وذهبت للمصوّر، ثمّ اشترت له حقيبةً صغيرة، وبعدها إلى مدرسة القرية، سجّلته، وأوصت به المدير والمعلّمات جميعهن، حتى آذن المدرسة أوصته بحسن "اليتيم".

حين استلم حسن الكتب الجديدة، جلست بقربه طويلاً تتفرّج معه على الصور الملوّنة... "اجلس في المقعد الأول، حتى تفهم ما تقوله المعلمة"، توصيه، وتضمّه إلى صدرها، وتغرق في حلم يقظةٍ طويل، يتمطّى حسن بدلال، ويقول: "ماما، أنا جوعان"، تقوم على الفور، تقلي بيضتين، وتضع إلى جانبهما حبّة بندورة أو خيارة، وطبقاً فيه لبن، يأكل حسن البيضتين بسرعة، ويترك البندورة واللبن لأمّه التي تأكلها مع رغيفٍ كامل.

صارت تضع رأسها قرب رأس حسن وهو منحنٍ فوق الدفتر، فرِحةً بابنها الذي بدأ يقرأ ويكتب، تربّت على كتفه المدوّرة الصغيرة وتقول: "خطّك حلو!"، يفرح حسن لإطراء أمه، ويبدأ بإخبارها القصص المختلفة عن المدرسة؛ وفي اليوم التالي يكون حديثها للجارات: "حسن –الله يحفظه- هو الأوّل في صفّه، خطّه على المسطرة… الطالب الذي يكون خطُّه أحلى، يأخذ الأوى… هكذا قال لي حسن".

صارت تردّد معه الأناشيد، وتضع أصابعها العشرة تحت تصرّفه، حين يحلّ وظيفة الحساب؛ وحين يتعب من الكتابة، ينحّي الكتب جانباً: "ماما، تعبتُ!"، يقول وهو يتثاءب ويتمطّى؛ تنحني نوّارة فوق الدفتر، وتكمل له وظيفته.

ذات يومٍ، عاد حسن من المدرسة باكياً، انخلع قلبها، سألته: "من ضربك؟".

- الآنسة وضعت لي أربعةً من عشرة في الإملاء… لم أغلط إلا بحروفٍ صغيرة، وغيري غلطاته أكثر من غلطاتي، وأعطته ثمانية! 

يمتقع لونها، وتمسح دموعه بتأثّرٍ، فيزيد بكاءه ويقول: "الآنسة منافقة!"؛ وفي الصباح التالي تذهب إلى المدرسة لمواجهة المعلمة، تعاتبها، وتشاجرها، وتطلب منها أن تضع لحسن علاماتٍ جيدة، ويكون حديثها للجارات عن "المعلمات المنافقات"

يوم نجح حسن في الإعدادية كان عيداً في الحارة؛ وفت نوّارة بوعدها ودعت جاراتها وجارات جاراتها، غنّت وزغردت، رغم أنه نجاحٌ متواضعٌ لم يؤهّلْ حسن إلا لدخول مدرسة المحاسبة؛ ولزمنٍ طويلٍ بعدها، ظلّت نوارة تردّد قول حسن: "المحاسبة مهنة المستقبل، مهنة البنوك والشركات الكبيرة، وهي الطريق الأقصر للغنى... المهمّ أن يكون الإنسان ذكياً"،  وتكمل أمام النساء: "وحسن، ما شاء الله، ولد ذكي... عبقري بالرياضيات!".

دخل حسن المراهقة معتمداً على أمه في كلّ شيء، ليس له شخصيةٌ واضحة، في داخله شعورٌ كبيرٌ بالنقص، يدفعه للمبالغة في الظهور، والرغبة في الاختلاف عن السائد والمألوف، هذا التميّز الذي يخفي به عاراً وهميّاً يحرمه الإحساس بذاته؛ وقد تجلّى حرصه على التميّز بكرهه للمجتمع، الذي يمنعه جبنه من إظهاره، والتقليل من شأن القيم الإيجابية وأصحابها، فتجد كلمة "لا،" أو عبارة: "صحيح ولكن…"، تسبق أيّ إجابة أو اعتراضٍ على قولٍ أو فكرةٍ ذكيّة.

بعد ثلاث سنواتٍ نال حسن شهادة الثانوية في المحاسبة، وكان يوم النجاح أشبه بعرسٍ في بيت نوّارة، علّقت صورةً كبيرة لابنها في صدر الغرفة؛ وجهٌ بارز الصدغين، وذقنٌ عريضة تبرز للأمام، حاجبان متصلان، يحضنان عينين سوداوين تحدّقان بالناظر، شعرٌ أسود كثيف... طالما تباهت نوّارة بشباب ابنها؛ جسمه القويّ المعافى، وكتفيه العريضتين وصدره البارز بمبالغةٍ ومشيته المختالة على الدوام، وطالما اعتزّ حسن بهيبته، وتمعّن في ملامحه طويلاً في المرآة معجَباً بصفاته الجسميّة، وانداح إعجابه هذا إلى كلّ ما فيه، يعوّض، من خلاله، افتقاده للعلاقات الحقيقية مع أقرانه، يكرّر، في ذاكرته، أيّ كلمة مديحٍ سمعها من أحدٍ ما، ومستغرباً، في الوقت نفسه، ألا تحبّه أيٌّ من فتيات قريته أو زميلاته في المدرسة "رغم كلّ الصفات التي تتمناها أيّ فتاة... غبيّات!!" يحدّث نفسه في خلواته؛ والحقّ أنّ حسن لم يشعر بالحبّ تجاه أيّ فتاة، لا يملك مشاعرَ تجاه أيّ إنسان.

شبّ حسن وهو يشعر بخواء في  داخله، إجساسه بذاته يستمدّه من ردود أفعال الآخرين تجاه أيّ قولٍ يقوله، أو أيّ فعل يقوم به؛ والطبيعيّ، في خياله، أن يكون ردّ الفعل هو الإعجاب، بل الانبهار، ذلك الانبهار الذي يلمسه في كلام أمّه عنه، والصفات التي تخلو من الشوائب التي تضفيها على ابنها الوحيد؛ لذلك كانت علاقته بأمّه علاقةً غريبة؛ هي، من ناحية، المصدر الوحيد الذي يمنحه الإحساس بذاته، ويملأ شخصيته بالوجود، ومن ناحيةٍ ثانية هي الإنسان الوحيد الذي يجرؤ أن يفرّغ فيها شحنات غضبه، والثأر لعقدة نقصه العميقة، حتى إنه لا يكتفي بمناكدتها واختراع المواقف الأشدّ تأثيراً، وانتقاء الألفاظ الأكثر قسوة، بل يوصلها إلى درجة البكاء؛ شيء ما في داخله يهدأ ويشعره بالسعادة والامتلاء، حتى إذا ارتاحت نفسه، أغرقها بكلمات الصلح والعناق والقبلات... ودائماً يحمّلها سببَ غضبه، ويعاتبها بكلماتٍ مؤثّرة، والمسكينة تسكت على مضض، خوفاً من فقدان ابنها الوحيد، الذي، ذات نوبة غضب، حمّلها مسؤولية ابتعاد الناس عنه، واتّهمها بأنها السبب في تجنّب زملائه له، وزادت اندفاعته الحاقدة، فعيّرها بأنّ زواجها من "ذلك الرجلٍ العجوز، الذي مات وتركني يتيماً محروماً حتى من الميراث، هو جريمة بحقّي، وعائقاً أبديّاً في طريق حياتي"، فلم تجد ردّاً إلّا البكاء بدموعٍ صامتة، حارّة ومستسلمة.

رفض حسن وظيفة محاسبٍ في مديريّة التربية، التي دبّرها له جارهم أبو كمال، برجاءٍ وتوسّلٍ من نوّارة، ولم يرحم أمّه والخجل الذي سيعتريها من الرجل وزوجته، والأهم: فراق حضنها الذي، وهو على مشارف العشرين، ما زالت تضمّه إليه؛ وكثيراً ما حنّ لثديها حنينَ طفلٍ لم يُفطَم بعد.

لم تتوانَ نوّارة في الذهاب مبكّرةً والاعتذار من جارتها أم كمال: "لأنّ حسن يريد أن يعمل في الشام"،  وتردّد كلامه: "طموحه أكبر من الوظيفة، وفي الشام الفرص أكبر، والحياة أوسع، وهو يريد أن يعمل في إحدى الشركات الكبرى، براتبٍ كبير يتناسب مع قدراته، يعوّضني، الله يوفّقه، عن فقر السنين"، وتتكتّم عن بقيّة حديثه بأنّ "الناس في الشام  متحضّرين يقدّرون الإنسان الذكي، وليسوا مثل الناس في القرية، متخلّفين وحاسدين".

صار غياب حسن يطول عن أمّه شهراً بعد شهر، وصارت نوّارة تطيل الجلوس على باب غرفتها؛ تنظر إلى الشارع باستمرار، ودائماً تجد عندها ضيفةً أو أكثر، تشرب معها القهوة، وتحدّثها؛ ومهما كان الحديث تجد في ذاكرتها كلمةً لحسن، تقولها وتؤكّد أمام سامعتها: "هكذا قال حسن".

وحسن صارت زيارته للقرية حدثاً مهماً في الحارة، أهمّيّته تنبع ليس من سيارة الأجرة التي يدفع لسائقها مبلغاً إضافياً كي يوصله حتى باب البيت، ويطلب منه أن يطلق بوق السيارة عند وصوله إلى مدخل حارته، وليس بسبب ثيابه الثمينة وأحذيته اللامعة، التي تتنافى مع حال القرية الفقيرة، والتراب الذي يملأ أزقّتها، وليس لأنّ تأفّفه  واستغرابه من الغبار أو الذباب، صار مثار تندّرٍ لأهل القرية؛ ليس لكلّ هذا؛ لكن لأنّ نوّارة، بعد كلّ زيارة، تظلّ أسبوعاً كاملاً شاغلةً كلَّ من تلاقيه في الحديث عن حسن، ونجاحه في "غربته"، والمكانة العالية التي وصل إليها بسرعة، على الرغم من أنَّ حسن، في كلّ زيارةٍ، يطلب منها مبلغاً أكبر من المبلغ الذي طلبه في الزيارة السابقة.

أنهت نوّارة كلّ مدّخرات السنين الطويلة، باعت بقرتها، وأخذت أجوراً للحُفٍ لم يتمّ تنجيدها، ومكانسَ لم يتمّ شدّها، لتعطيَ ابنها ما يطلب، دون أن يعرف أحدٌ، فيشمت بحسن.

في الزيارة الأخيرة، أخبرها أنه بحاجةٍ إلى مبلغ ٍكبيرٍ، جعلها تفغر فاها اندهاشاً؛ قال لها: "بيعي الجزء من الأرض المحاذي لجارنا أبو كمال، الأرض غالية وتأتي بسعرٍ جيد". لم توافقه؛ تدلّل وتذلّل، عاند  وصرخ، اتّهمها بالبخل، بالوقوف في طريق سعادته ونجاحه؛ لكنّها لم ترضخ.

منذ ذلك اليوم غادر حسن ولم يَعُد، ونوّارة تبكي، وتحكي عن نجاحه، وعن "الفقر الذي يجعل عبقريّاً مثله أقلّ مكانةً ممّن هم أقلّ ذكاءً منه... أغبياء، لكن أغنياء!" وتنطق الجملة الأخيرة بنفس السجع الذي نطقه به حسن.

مرّت أربع سنواتٌ، لم يزر خلالها حسنٌ القرية ولو زيارةً واحدة؛ كان يكتفي بالرسائل إلى أمّه، يكتبها على ورقٍ رقيقٍ أنيقٍ، تقرؤها نوّارة، وتشمّ رائحتها، ثمّ تعيد قراءتها؛ تتألّم لكلمات العتاب واللوم القاسية، وتفرح كثيراً للمشاعر الشحيحة التي تحتويها كلماتها، وتعيد، كلّ يومٍ، كلمات حسن على من تصادفها من نساء القرية.

منذ سنةٍ تقريباَ، انقطعت رسائل حسن، وانقطعت أخباره، صارت نوّارة، بعد أن تفرغ من حديثها مع نساء الحارة، وتعود لبيتها الفارغ البارد، تتملّى صوره، تتذكّر وحيدها، وتبكي وحيدةً من قسوته ، وتدعو ربّها، من بين الدموع، أن يوفّقه ويأخذ بيده، ويعيدها إليه سالماً معافى؛ نذرت نذوراَ كثيرةً، ووعدت بعطايا لمن يأتيها بخبرٍ عن حسن.

اختلفت الأقاويل عن حسن، فأحد طلاب الجامعة أكّد أنّه رآه في كلية التربية عضواً في هيئتها الطلّابيّة، وآخر قال إنه التقى به في كلّيّة الآداب وجلس معه في الكافتيريا، وأحد رجال القرية، لمحه في المؤسسة الاستثمارية التي يعمل بها؛ أخبارٌ كثيرةٌ سمعتها نوّارة عن حس، وفي كلّ مرّةٍ تسمع عنه خبراً، تهزّ رأسها بابتسامةٍ دامعة، وتؤكّد ما تسمعه: "ممكن يكون بالجامعة... ممكن استلم منصب مهم... ابني حسن عبقري!".

غير أنّ الخبر اليقين جاء به غسّان العبدو، الشرطيَ في السجن المركزيّ، حين سلّم نوّارة رسالةً من حسن: "اخلقي المال بأي طريقة، ووكّلي لي محامياً". لقد قُبِض عليه متلبّساً بجرم  التزوير".

هرعت نوّارة إلى جارها أبي كمال تعرض عليه بيعَ كامل الأرض حول بيتها، تردّد بآليّةٍ، والدموع لا تفارق عينيها: "أولاد الحرام ورّطوه، وواجب الأهل أن يقفوا بجانب أبنائهم في المصائب... كما قال حسن".

***

منذر فالح الغزالي

بون 27/ 2/ 2022

.............................

(*) العنوان مستمدٌّ من عنوان كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.

في نصوص اليوم