نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: ليس أبي

وضعت يدها في يده، وسارا معا كما تعودا أن يسيرا الى مدرستهماكل يوم، .وكما يلتقيان عند الذهاب كذلك يلتقيان عند الإياب، الى ان يصلا الى الحي حيث يدخل كل منهما الى منزله..

طفلة وطفل تِربان من حي واحد، ، منذ أن تسجلا في المدرسة وهمالايفترقان.. كان يستلذ يدها قلب يده، معجب بظفيرتها يتابعها وهي تتحرك يمينا ويسارا.. وكانت تشعر بأنسه، وبقوة حرصه عليها، وحمايته لها وهما يخترقان

الزقاق الطويل الى المدرسة....

من يومين لاحظ سعد أن كوثر تتعمد الخروج قبله، وتأخذ طريقا غير الطريق التي ألفا أن يسلكاها معا، استغرب من سلوكها، وحين سألها صباحا عن السبب اتى ردها مفاجئا:

ـ احب ان أتعود الذهاب وحدي الى المدرسة...

اغتم قلب الصغير، وقد تعود ان يرافق صديقته، كما كانت هي دوما حريصة على أن تنتظره، لم يقتنع بكلامها، أوشك ان يسألها عن السبب لكنه فضل الصمت، فليست كوثر وهي من كانت تلتصق به كلما رأت غريبا في الزقاق من تستطيع قطع الطريق لوحدها بحجة التعود على الانفراد بنفسها..

كانت أم كوثر تطل من نافذة البيت تترقب عودة الطفلين، رات سعد وقد عاد وحيدا، سألته: أين كوثر ياسعد؟ قال: لا ادري من يومين وهي تتعمد ألا تنتظرني وتعود لوحدها من طريق غير طريقنا....

لم يغب عن الام حزن الصغير تترجمه ذبذبات صوته، وبقدر الأثر الذي تبدى في عينيه اهتز قلبها، وساورها شعور غريب، رمى على عقلها جبلا من ركام التخيلات وسوء الظن، أحست كان الدنيا تضيق بها قلقا على البنت التي ما تعودت ان تعود بغير صحبة سعد.. بسرعة دخلت في جلبابها وخرجت كالمجنونة وعقلها كشلال هواجس، كان سعد لازال بباب بيتهم يترقب ظهور كوثر، ما أن أرى ام كوثر حتى بادرها:

ـ هل اصاحبك خالتي !!..؟..

وكأن الام لم تسمعه، فلا يستحوذ على سمعها غير قوله:"انها تسير من طريق غير طريقنا " هرولت وهي تتلفت يمنة ويسرة، يقمطها ارتباك مخيف، وما ان توسطت الطريق حتى بانت كوثر آتية وخداها مبللتان دمعا، جثت الام في وسط الطريق على ركبتيها هلعا، مسكت بيدي طفلتها وقالت:

مابك قولي؟

من بين دموعها ردت كوثر: لا شيء، فقط رأيت ابي هناك، لكن بعد ان كلمته: قال:هو ليس أبي !!..

وقفت الام والفزع لازال يأكل قلبها، من يكون هذا الذي سالته كوثر؟ وأين؟..

مسكت بذراع البنت وعادت بها الى حيث رات من توهمته أباها:

كان بباب الدائرة شرطي يجلس على كرسي، ما ان رأى الام حتى بادرها بالنداء: هل انت أم هذه الصبية؟

ردت ووسواس الشرريتطايرمن عيونها: نعم أنا، ماذا وقع لابنتي أخبرني..

رسم الشرطي على وجهه بسمة وهو يترك الكرسي مشيرا للام بالجلوس..

ـ اهدئي ــ سيدتي ــ لم يقع أي شيء، ارتاحي أولا، وانا سأحكي لك كل شيء

قالت الام وهي تستعجل الشرطي على الكلام: لاعليك احك..

قال الشرطي وقد أدرك بخبرته أن أكثر من وسواس خناس ينبش في عقل الام:

منذ يومين وهذه الصبية تمر كل مساء وحدها، فتظل واقفة تحدق في وجهي، ثم تنصرف..منذ قليل مرت بي، تقدمت مني وقالت: انت بابا.. ربت على كتفها ومسحت على شعرها ثم أخبرتها أني لست بابا، وطلبت منها أن تسالك عن بابا..

أحست الام ببعض الراحة ونوع من السكينة تعود الى صدرها، حدقت في الشرطي، فوجدت ان كوثر دقيقة الملاحظة، فالشرطي فعلا شبيه بالصورة المعلقة في بهو المنزل ؛اعتذرت الام عن قلقها، شكرت الرجل بكلمات، وعادت مع كوثر الى البيت دون ان تقدم أي شرح للشرطي الذي ظل يشيعها بأكثر من تأويل، وقد رفع كتفيه حيرة هي مزيج من شك وسوء ظن..

لم تصل الام الى البيت الا وكوثر تكاد تنهار من غصات بكائها، لم يكن على لسانها غير هذه العبارة: أريد بابا، اشتقت لبابا، احب أن أرى بابا..

أحست الام أنها تائهة، لا تدري ماذا تقول لكوثر، هل تخبرها الحقيقة، لن تجرؤ على ذلك، فالحقيقة بعيدة عن فهم الصبية وادراكها....

رفعت بصرها الى الصورة في البهو..ليتها لم تطاوع أباها يوم أتاها بها وقال لها: علقي هذه الصورة في البهو حتى تتعودها الصبية وكلما سألت: قولي لها "ذا بابا وقد مات في حادثة "

كيف تعالج الامر الآن؟هاهي تبكي جرحها العميق كما تبكي الطفلة جهلها لأبيها، يلزمها سبب واضح ومقنع يريح نفسية طفلتها..

لم يؤثر في الام موت والدها ولا أمها من قبل كما اثرت فيها حالة بنتها اليوم، كم مرة نزلت عليها الذكرى بأثقال من أحزان فأكلت كل أثر لنسيان فرضته على نفسها لتعيش لابنتها..غيرت المدينة التي ولدت ونشأت فيها حتى تقي ابنتها ألسنة القوالين ومن يقتاتون من أسرار الناس..

كانت تتصور ان نهر حياتها قد أخذ طريقه وأنها تعودت صغائر الامل تستأنس بها وهي تنبث يوما بعد يوم في أعماقها كلما رأت كوثر تكبر أمامها..

ـ غيري يعيش ذكريات الشوق والحنين ونفحات الهوى، وانا أعيش غصة غلطة ارتكبها حقير في حقي..

سيل من الصور تتدفق على خاطرها، ارتجاف يهز ساقيها وكأن الأرض في زلزال تحت قدميها، الحدث يتبدى وكأنه وقع اللحظة، لم تعد تستطيع الوقوف، بركت على ركبتيها كما يبرك البعير على الأرض، هيمنة الحزن تخرب كل اثر للقوة فيها..لا تدري كم مر من الوقت وهي تدفن وجهها بين راحتيها حتى تطرد صورا تعيدها الى لحظة كبوتها..

تحاملت على نفسها فوقفت، ثم جرت قدميها الى المطبخ لتعد أكلا للطفلة، فقد انستها الواقعة الوجبة الخفيفة التي تعودت أن تقدمها للصغيرة كلما عادت من مدرستها ؛سمعت نسيج كوثر يتعالى، من غرفة مجاورة، أسرعت اليها، ضمتها الى صدرها:

ـ ياصغيرتي العزيزة، كفاك بكاء، ابوك مات كما مات جدك وكما سيموت جميع خلق الله..

أحت رغد وقد خنقتها عبراتها وقالت بصوت مخنوق: لكن لم تقولي لي ابدا كيف مات، وحين رأيت الشرطي ظننته ابي..صديقتي ندى أخبرتها أمها ان أباها قد مات في حادثة لكنها وجدته يوم زواج أختها، فقد كان هو أب الرجل الذي كانت ستتزوجه أختها، ولم تكن أمها الا طليقته..

ضمت البنت الى صدرها، تنفست بقوة ثم قالت بعد تنهيدة عميقة:

حقا ان الشرطي بأبيك شبيه، لكن أباك كان اصغر وأجمل وأقوى منه بكثير، ولم أكن أبدا طليقة لأي رجل وانا اعتز بدقة ملاحظة كوثرابنتي حبيبتي، اسمعيني سأخبرك الحقيقة، اهدئي واستكيني:

من عمق اعماقها بدأت تستمطر عونا وقدرة على تلفيق ما ستقول، ومن عيونها كانت تغسل بدموعها الحقيقة التي لن تجرؤ على الاعتراف بها امام الصغيرة، التي صارت لاتراقب الا شفاه الام وعماذا ستنفرج..

ــ كنا من أبناء القرية نعيش على ما تهبنا الأرض وتدره الابقار، كنت وابوك نحلم بأننا سنعيش بما وفره الله لنا من كد تعبنا، ذات ليلة ممطرة اتانا خبر وفاة جدتك ــ أم أبيك ـ كانت نزيلة احدى مستشفيات المدينة، أصر والدك أن نسافر الى المدينة في تلك اللحظة، وحيث اني كنت حاملا بك فقد حاولت إقناعه ان نؤخر السفر الى الصباح، لان الوقت كان شتاء عاصفا، لكنه امتنع.فهو كان يخشى تقولات الناس وألسنتهم الطويلة، كيف يتأخر ابن عن حضور جنازة أمه؟ كانت الطريق ظلاما تغيب عنه الرؤية، خرجت لنا كلابا ضالة نابحة حاول السائق ان يتجنبها فانقلبت السيارة، مات السائق ومات ابوك بعده ونجوت انا وانت في بطني.. منذ أن خرجتِ الى الحياة وأنا قريرة العين بك، وبعد أن مات جدك لم أجد غيرك عزاء ومؤنسا...

كانت الام تسائل نفسها هل توفقت في اقناع الصغيرة فالحقيقة هي ماغاب عن لسانها، وهل تجرؤ أن تقول: أنا ضحية خالك وانك بنتي وأبوك هو أخي، أشاحت بوجهها عن كوثر..

الذكرى تفتتها ذرات، تستعيدها وكأنها طازجة فتحس سكاكين الظلم واللؤم وضعف الايمان تذبحها من الوريد الى الوريد.. تذكر كف دخل اخوها ذات ليلة ووجدها تشكو صداعا حادا، وكيف بادرها بحبة ادعى أنها خاصة بالصداع النصفي، تناولتها وقد انساها ارقها وصداع راسها أن اخاها ليس الا سكيرا عربيدا قد أعطاها ما افقدها سيطرتها على نفسها لم تفتح عينيها صباحا الا وهي امرأة بلا بكارة دمها بين فخديها والم في حوضها ؛كيف تشرح للصبية أنها عانت من أهانته وجبروته وهو من كان السبب في موت جدتها.. وما استكان بيتهم تحت رداء الراحة الا بعد ان مات مقتولا في عراك ذات ليلة خمرية مع الصعاليك من رفاقه..

بدأت الصغيرة تستكين، ثم مدت يدها تمسح دمعات تدحرجت على خد أمها..

كل منهما تعيش اسى متباينا، ام عازبة مغتصبة حرمها أخوها أبسط أحلامها وتجاهد على أن تنسى، وطفلة محرومة من حنان الابوة قد يغيب عن حياتها الكثير مما يدعم شخصيتها ويحقق لها توازنها الذاتي والنفسي..

من بين دموعها قالت الصغيرة:

هل يخاصمني سعد لأَنِّي تركته وكذبت عليه؟

ضمتها الام الى صدرها، مسحت عبراتها ثم قالت:

لا عليك من سعد، طفل مؤدب يحبك ويتفانى في الذود عنك، سأشرح له مالا يعرف وسيسامحك..

تربعت بسمة عريضة على وجه الصغيرة وقالت:

انا كذلك احبه، وندمت على ما بدر مني نحوه

متى ستكلمينه؟

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

في نصوص اليوم