نصوص أدبية

سنية عبد عون: صديقة الطفولة

تلك هي حكايتنا.. لدي هوس الكآبة في هذا التأريخ.. اليوم استلمت راتبي ولا أدري لماذا قطعوا عشرين الفا منه وهذه حكاية كل شهر احيانا اكثر وأخرى أقل ربما البعض يعده مبلغا بسيطا لكني اشعر بالغبن والتجاوز ليس على راتبي انما على كرامتي وحين سألت موظفة المصرف أجابتني.. عليك بمراجعة الدائرة المختصة بإصدار بطاقتك.. الدائرة تبعد عني عدة كيلو مترات.. اما جواب الدائرة فكان راجعي بعد اسبوعين.. أعترف اني أشعر بالخجل لما آلت اليه أوضاعنا.. لذلك تناسيت الموضوع تجنبا لإصابتي بصداع شديد..

تذكرت قائمة المشتريات التي سجلتها لي ابنتي.. انشغل تفكيري بأمور عديدة حتى لم انتبه للمكان الذي سرت فية.. أوقفت السيارة للتبضع.. كان دخولي بالجهة المعاكسة للسير.. ربما بسبب الضجيج والحركة الغير طبيعية للسيارات في الشارع وذلك لتغير مسار الطريق فقد كانت هناك تحويلة مؤقتة من أجل ترقيع الحفر الموجودة فيه لذلك أستوقفني شرطي المرور قبل مغادرتي للمكان ولصق ورقة على السيارة لغرامة مالية.. الحمد لله.. ما هذه الاحباطات التي نزلت فوق رأسي.. قلتها بعصبية مفرطة لكن هاجسي يقول.. بان الجميع يعانون مثلي.. وكل منا لديه قصة أغرب من قصص الف ليلة وليلة..

كنت أسير ببطء شديد لأستعيد نشاطي وحيوتي.. لكن شيئا ما استرعى انتباهي فمن بعيد لمحت وجه صديقتي انها مفاجأة غير متوقعة لكنها جعلتني ابدو سعيدة نوعا ما.. آه انها نجاة.. صديقة الطفولة والشباب.. تمتلك روحا طيبة وتتحدث بأريحية محببة وتميل للمزاح دائما.. كانت تقف على الرصيف في انتظار سيارة.. عندها نسيت مسألة غرامة المرور والعشرين الفا وحتى أخبار الفيس بوك (صعد الدولار.. انخفض الدولار) يا لها من لعنة ممقوتة حلت بنا.. على كل حال تفاءلت خيرا برؤيتها.. أوقفت سيارتي حين اقتربت منها.. صعدت بجانبي ووجهها يتهلل فرحا مثلي تماما.. تبادلنا العناق والتحية والسؤال والجواب عن أحوالنا وأبناءنا.. وطالت احاديثنا بشتى المواضيع ثم تذكرنا ايام طفولتنا التي لا تنسى والمواقف المضحكة التي كنا نمر بها وكيف ان جارتنا العجوز التي تسكن وحدها في بيت كبير موحش يحتوي على غرف كثيرة وباحته الوسطية مفتوحة على الفضاء الخارجي.. كنا نزورها دائما ولا ندري ما الذي يشدنا لزيارتها المستمرة ربما تعاطفا مع وحدتها مع انها لم تطلب منا ذلك.. لكنها كانت تحدثنا عن خيانة زوجها الذي لم تنجب منه وكيف كانت تهتم به وترعاه كأنه ابنها ثم غدر بها وتزوج من امرأة أخرى.. تلعنه وتشتمه بأقسى الكلمات ثم تقول بصوت خفيض انه الآن في قبره وبالتأكيد يسمعني..

كانت عجوز شرسة وقاسية وكانت تستهوينا شراستها وقسوتها.. وبفضل معجزة من السماء ان نضع اقدامنا على دكة الباب ونهرب بسرعة البرق ان سمعنا صرختها المدوية في ارجاء المنزل في حالة تبدي انزعاجها منا.. قلوبنا تكاد ان تخرج من صدورنا خوفا وترتجف أبداننا رعبا..

والغريب في الأمر ان نجدها أحيانا أخرى عجوزا وديعة وهادئة ولا ندري انها مثل أبن آوى حين يخطط لأمر لصالحه.. نعم كانت تكلفنا ان نقوم بأعمال شاقة لتنظيف دارها أو غسل ملابسها وأوانيها غير عابئة بطفولتنا وبراءتنا وكنا نساعدها بسخاء مفرط ونقوم بتلك المهمات ونحن نشعر بسعادة غامرة نضحك ونمرح ونغني لها اغنية ست الحبايب.. وهي تبتسم لنا وترفع يديها بدعوات مباركة لنجاحنا في المدرسة.. تسألنا عن أخبار اهلنا ونفرح حين نسمعها تمدح امهاتنا وعوائلنا..

وبعد برهة من الزمن تشعر العجوز بالتعب والنعاس وتبدي لنا رغبتها بالنوم لكننا وبعمرنا الطفولي لا نقدر ذلك ونبقى نلهو ونمرح وضحكاتنا العالية يملأ صداها غرف المنزل.. وهنا تمسك بعصاها وتطردنا شر طردة وتسمعنا كلمات نابية وتلعن جميع أهلنا.. حينها نستخدم أقصى طاقاتنا للهرب.. ولكن بعد مرور عدة أيام ننسى كل شيء ونعيد الكرة ثانية لزيارتها..

ضحكنا انا وصديقتي كثيرا حتى سالت دموعنا فشعرت كأنني طفلة لحد هذه اللحظة ومما اسعدني أكثر ان صديقتي ما زالت تحتفظ بصفة مرحها الدائم وتعليقاتها المثيرة للضحك رغم ما تعانيه من تعب في تربية أولادها الأربعة بعد وفاة زوجها..

كنت اسير وئيدا لإطالة الوقت معها.. توسلتها لضيافتي فبدرت منها ابتسامة مريحة للنفس مع كلمات شكر وامتنان ثم قالت ان أولادها بانتظارها لتحضير وجبة الغداء.. وحين وصلت صديقتي قرب دارها ودعتني بقبلة ونزلت.. تابعت السير الى داري وعند نزولي من السيارة افتقدت محفظتي فلم أجدها بحقيبتي ولا بالسيارة.. بحثت عنها وعدت للسيارة مجددا فلم أجدها.. رانت على روحي كآبة موجعة !! فتح أولادي الباب ثم تسمروا بمكانهم فهم يقرأون ملامحي جيدا

يا الهي.. لا أحد صعد معي سوى صديقتي نجاة.. أيعقل هذا.. لا والف لا انها فكرة مرفوضة ومستحيلة اذ اني أعرف اخلاقها جيدا.. أذن يتوجب البحث مجددا في السيارة وفي الحقيبة وافراغ كل محتوياتهما واحدة بعد الأخرى.. وبعد ان تعبت تماما اتكأت على حائط بجانب باب داري.. وأنا أضرب كفا بكف ولا اعرف كيف اتصرف تاركة باب السيارة الامامي مفتوحا.. حاولت وبشتى الطرق ان استرجع جميع خطواتي من لحظة استلام راتبي وحتى صعودي الى السيارة وكذلك حاولت ان أتذكر تحركات صديقتي هي الاخرى ثم غاصت روحي ندما.. وتعوذت وأستغفرت ربي ( ان بعض الظن أثم ).. لم يبق أمامي سوى دعاء الله ان يخرجني من هذا المأزق..

وفي تلك اللحظة سمعت صراخ ولدي منبها اياي لما فعله اخوه الأصغر منه.. ها هو طفلي الصغير ينثر الدنانير فوق الارض وهو يقول هذه فلوسي ولا اسمح لاحد ان يأخذ شيئا منها.. عندها تنفست نفسا عميقا وانتابني فرح غامر ثم شرعت بالتقاطها واحدة بعد الاخرى.. وسألته اين وجدتها ايها اللعين.. ؟؟ وكيف صعدت للسيارة دون ان اراك.. !!.. فأجابني بهدوء وبصوت خفيض.. هناك.. واشار بيده الصغيرة على مخبأ بين الكرسي وحافظة السيارة..

فشكرت الله كثيرا.. ليس لأني وجدت راتبي.. ولكن الحقيقة اني وجدت صديقتي..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

في نصوص اليوم