نصوص أدبية

ناجي ظاهر: انتياسة مجهولة

المساء يقترب وسطح البحر الصاخب يظهر للعين المجرّدة كأنما هو يُخبّئ عاصفة تنذر بخراب آت.. ولا بدّ منه. هناك على الشاطئ تبدو نقطتان بعيدتان مثل قفتين وضعهما مجهول مسرع على حافة الماء ومضى ناسيًا اياهما. إذا ما اقتربت أكثر سيسعفك ضوء القمر الشحيح لتراهما وكأنما هما صيادان ماهران يلقي كلٌّ منهما بصنارته إلى الماء بانتظار الرزقة المقبلة. أنفاس كل منهما تتلاحق ارتفاعًا وانخفاضًا، وكأنما هي ارتبطت بسمكة بوري او انتياسة أو.. قردة، تتلقفها صنارة عمياء في غفلة من عين الماء العلوية.

أحد هذين رجل وعد جارته الارملة بأن يأتي لها بفرش يلعب فيه السمك بذيله حُبًّا وفرحًا بالحياة، والآخر فضّل ألا يقول لزوجته إنه ذاهب إلى البحر للصيد وضمر بينه وبين نفسه، أن يفاجئها باسماك طالما حدّثها عنها دون أن يريها إياها. "هذه الليلة سأضع بين يديها مفاجأة من عيار ثقيل". قال في نفسه وهو يرسل نظرة آملة.. رانية إلى رفيقه الذي تعرّف إليه قبل فترة ورأى فيه الرُبّان المخلُص لسفينته من لجج حياته العاتية.

"شوف الصنارة بتهتز بايدي.. شكلها غمزت"، قال أحد الصديقين، فردّ الآخر وهو يرسل ابتسامة من طرف فمه:" وشو بتستنى.. قلتلك لما تغمز صنارتك.. اسحبها واش واش شوي شوي.. انتبه.. إذا تسرّعت بسحبها.. بتفلت حبّة السمك منها".

ما إن استمع الصياد إلى هذه النصيحة من رفيقه، حتى بادر إلى جذب صنارته باتجاه صدره بنوع حافل باللطف الحنون، غير أن عنادًا غريبًا ركب الصنارة فلم تستجب له. رغم أنه كان يتمنّى طوال الطريق من مشارف الناصرة حتى أطلالة البحيرة، يتمنّى أن يتمكّن من اصطياد ولو سمكة واحدة تُثبت لزوجته أنه رجل ومن أهلها من ناحية، وتؤكد لرفيقه أنه جدير وبإمكانه أن يفاجئ العالم بما اذخره من حظّ وحرفية من ناحية ثانية. رغم هذا كله فقد وجد نفسه يطلب المساعدة من رفيقه:" شكلها السمكة كبيرة.. تعال ساعدني في سحبها". خفّ الصديق لنجدة رفيقه المستغيث به، أمسك بقصبة الصنارة، شدّها الاثنان معًا. قال المُغيث لرفيقه إلى جانبه:" فعلًا شكلها انتياسة كبيرة.. الانتياس عنيد وكبير راس.. لازم نتحلّى بالصبر.. الصيّاد الماهر لازم يكون صبور..".

تقدّم الليل إكثر نحو عتمته، ومضى الاثنان يحاولان استخراج الانتياسة المجهولة من أمواهها الصاخبة، وفي خاطر كلٍّ منهما أنها ستصير بعد قليل معروفة. الصياد الهُمام الاول أضمر أن يقدّمها وجبة دسمة إلى جارته الارملة الحبّوبة لتحنَّ عليه، في حين برقت عينا الآخر وهو يفكر في زوجته وفي مفاجأتها المذهلة بانتياسة دسمة تأكل منها عدة أيام وتتذوّق طعم السمك الحقيقي. الاول فكّر في أن يستبق الامور فيشترط على رفيقه أن يتقاسماها، غير أنه عدل عن اقتراحه.. قبل أن يغادر فمه بشعرة. أما الآخر فقد خطر له أن يتقاسمها معه، سوى أنه ما إن تخيّلها وهي تلعب بذيلها حتى عدل عمّا خطر له.

في هذه الاثناء كان وجه كلّ من الصيادين صافيي النية كلٌّ تجاه الآخر، ينشدّ حينًا ويرتخي آخر، غير أنك لو تمعّنت في وجهيهما سترى التوتر الشديد وقد افترش مُحيّاهما.

"شد يا اخوي". قال الصيّاد الاول، فردّ الثاني:" مش قادر اشد أكثر.. بخاف إنها تفلت".

الوقت يمضي والاثنان يشُدّان حينًا ويرخيان آخر، على أمل أن يكون ليلهما طويلًا طويلًا، من منطلق أنّ كثيرَ اللقاء بأسماك البحيرة.. كان قليلًا. إنهما يحرصان على ألا تفلت تلك الانتياسة المباركة من بين فكّي صنارتهما السحرية، لهذا اتفقا على أن يتحلّيا بالصبر الجميل وطولة الروح، في هذه الاثناء خطر لأحدهما أن يتحدّث عن الشيخ سنتياغو، وكيف أن سمكته علّت قلبه قبل أن تغادر بحرها، وعندما تذكّر أن سانتياغو شيخ همنغواي العظيم، وصل بها في النهاية إلى برّ الامان هيكلًا عظميًا، ابتلع القصة ولم يفه بأية كلمة منها، فعل ذلك من قبيل الحيطة المطلوبة في حضرة البحر، والحذر المرغوب به في حضرة أسماكه. أما الصديق الآخر فقد فكّر في أن يروي قصة قديمة عن صيّاد منكود الحظ دارت عنه وحوله، إحدى قصص الف ليلة وليلة. مُفاد هذه القصة أن صيادًا رُزق ذات مشوار بحريّ بسمكة غريبة الشكل واللّون.. قلبت حياته رأسا على عقب. سوى أنه ما إن أحس بكلمة.. قبلت حياته.. هذه، حتى ابتلع ما تبقّى من كلمات القصة.. وعاد إلى صمته الليّلي.

نسي الاثنان أن هناك من ينتظرهما في ناصرتهما الغاطّة في نومها، الأول نسي تلك الأرملة الحبيبة المنتظرة تنفيذ وعده، في حين أن الآخر نسي زوجته وما أراد أن يُنعم به عليها من مُفاجأة سَمكية، تهتزّ لها جدران البيت وربّما سقوف الحارة.. ويتحدّث عنها الحُداة والرُكبان. الكثير من الكلام أراد أن يخرج من فم كلٍّ من الصيادين الحالمين، إلا أنه توقّف قبل أن يغادر بقليل، انتظارًا لانتياسة قلّما حلُم بها صيادو المنطقة. انتياسة قذفها البحر الابيض المتوسّط إلى فم البحيرة الطبَرانية الحالمة.. لتكون هِبة الامطار الغزيرة لصيادَين هاويين.. ومحبّين أيضًا.

"أرجو أن نتمكّن من احتضانها قبل انتهاء الليل". قال الاول، فردّ الثاني "على إيش مستعجل.. الانتياس بستحق.. أكثر من ليلة".

مع هذا.. واصلت الانتياسة الغالية مشاكستها الليلية لصياديها العنيدين، بل قُل المؤمنَين بحاجتهما للصبر من أجل أن يحقّقا حُلمَهما.. ويحظيا بإطلالتها البهيّة، وواصل الليل رحلته نحو نهايته غير عابئ بما يجري بين صيادين هاويين وانتياسة مجهولة تقبع في قلب الغيب، حتى وصل إلى هزيعَه الاخير، فاشتدت الظُلمة واشتد بالمقابل أمل كلٍّ منهما بالفوز.. ورويدًا رويدًا لاحت تباشير الفجر الاولى.. ليتبيّن الصيادان الآملان.. لمفاجأتهما غير المتوقّعة، أن ما علق بصنارة أحدهما ما هو الا شبكة قديمة ملأتها الطحالب البحرية.. وفغرا بالتالي فميهما.. كأنما هُما بُحيرةٌ وبحرٌ من عالم آخر.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

في نصوص اليوم