نصوص أدبية

ناجي ظاهر: أحلام عمي

فاجأنا عمّي، بعد انتقال زوجته المصون إلى رحمة الله، عن عمر ناهز السبعين عامًا، بأنه ينوى الارتباط بامرأة تستر عليه شيخوخته وتكون سندًا له في ارذل العمر، ولم يكتف بهده المفاجأة وإنما تجاوزها بزيارة ليلية ليطلب مني المساعدة بالعثور على زوجة مناسبة له.. تملأ الفراغ الرهيب الذي تركته زوجته المرحومة، هززت راسي محبذًا ومباركًا، فنحن نعيش في فترة تختلف عن سابقاتها من الفترات، بما فيها فترة تهجيرنا من قريتنا، بقوة السلاح، وأكدت رأيي قائلًا إنها فترة لا يوجد للمرء إلا نفسه، وقلت له بالعبرية "ام اين لي أني مي لي"، فطلب منّي عمّي أن اترجم له ما قلته بالعبرية، إلى العربية فرفضت، وأردفت حتى لا أزعله "بحكّش جسمك غير اظفرك"، ابتسم عمّي ومضى في ليله، لاكتشف في اليوم التالي أنه شرع في إخبار الجميع بما انتوى أن يفعله.. وأن قصة رغبته بالزواج، قد انتشرت على كل شفة ولسان من السنة أبناء الحارة.

سمعت في الايام التالية أنه لجأ إلى أحد متشرّدي الحارة وشذّاذي آفاقها ليساعده بالعثور على زوجة تملأ ما خلّفته زوجته الراحلة من فراغ، وأن هذا أوصله بعد دعوته على ثلاثة أرغفة فلافل، إلى إحدى العوانس، المعروفات بهبلهن، فحملت نفسي وهرعت إليه: هل ما سمعته يا عمي صحيح؟ ماذا سمعت يا ابن اخوي؟ سمعت أنك تفكّر بالزواج من تلك الهبلة. آه.. وشو فيها يا ابن اخوي.. على الاقل بتدير بالها على عمك. بس هاي هبلة يا عمّي. هبلة.. هبلة يا ابن اخوي.. ولك إن شا الله بتشُخ على حالها. بدّي وحدة تونسني بوحدتي.

تركت عمّي وأنا افكر في كلماته الجارحة.. هل أوصلته وفاة زوجته إلى تلك الحالة التي تحدّث عنها؟ هل هو يعيش مثل هكذا وحدة ونحن حوله موجودون؟ ركبني شيطان الاسئلة، لقد بات أمر ارتباط عمّي جديًا، لكن هل يوافق أبناؤه وهم كثر وبينهم الشرس الحاضر طوال الوقت للشجار، هل يوافقون على ارتباطه في سنّه تلك المتقدمة؟ هكذا وجدت نفسي أردد سؤالًا يحتاج إلى إجابة ليست بيدي. اتصلت بعمّي وسألته عمّا إذا كان أبناؤه موافقين على زواجه؟.. فجاءتني إجابته الفورية: شو دخل اولادي.. وين بكونوا لمّا بكون لحالي في الليالي الطويلة.. كلّ واحد منهم ملتهي بتَبع مرته.

أثّرت فيّ كلمات عمّي، وقرّرت من فوري مساعدته.

في اليوم التالي ابتدأت رحلة البحث عن زوجة لعمي، فرحت أسال عمّن ترضى به زوجًا لها في تلك السن المتقدمة، وكان أن قلّلت عقلي واتصلت بمن سبق لعمّي وأن اسأله، فأخبرني أنه توجد في بلدة مجاورة امرأة في الخمسين من عمرها وتريد أن تتزوّج. وراح يعدّد مناقبها الطيّبة، توجّهنا، عمي، أنا وذاك المتشرّد، من فورنا إلى تلك البلدة، عندما أوقفنا سيارتنا بعيدًا عن بيت كبير فاره، أخبرنا مرافقنا المتشرد أن ذاك هو البيت المقصود، طلب منّا أن نبقى في السيارة، وترجّل منها قبل أن يستمع لإجابتنا، وولّى مسرعًا كمن ضربته بعصا على قفاه. لم يطل انتظارنا، لنستمع إلى جلبة وصراخ، وشتم وسباب، تنبعث من البيت قُبالتنا، عندما عاد المتشرّد بثيابه الممزّقة، أدركنا ما حدث معه، فقطّب عمّي ما بين حاجبيه، فيما لاحت ابتسامة على شفتي. ومضينا في طريق عودتنا إلى بلدتنا خائبي الرجاء، على أمل أن نجدّد البحث في اليوم التالي.

في اليوم التالي تكرّر موقف اليوم السابق، لكن بفداحة أكبر، فقد رأينا امرأة ضخمة معافاة تقذف متشرّدنا من بوابة بيتها، وتلحق به، ليدخل إلى سيارتنا وليطلب منّا أن نهرب ناجين بجلدنا، غير أن تلك المرأة تمكّنت من منعنا من الانطلاق، وراحت تتساءل مين هذا الشايب العايب اللي بده يتزوجني؟ انكمش خالي، فيما هتفت بها قائلًا..إانه كان معنا وهرب خوفًا منها. تقبّلت المرأة الضخمة الحانقة الغاضبة روايتي وسط علامات شك بدت على وجهها، وسألتني عمّا إذا كنت متأكدًا مما أقول؟ فأرسلت نظرة استجارة بعمّي، عندها مد لي حبل النجاة وهو يقول، نعم نعم هو هرب. ابتسمت المرأة ومضينا نحن الثلاثة هاربين، وحامدين الله أنه نجّانا من براثنها ومن لكماتها.

بعد يوم من هذه الحادثة وقعت الحادثة الثالثة، فقد انتهت بأن أكل مرافقنا المتشرّد نصيبه من اللكمات والصفعات، ووزّعت العروس العتيدة، هي وأهلها، علينا ما تبقّى من لكمات لا تنسى، بعد أن أكلنا نصيبنا من الضرب، وتوقف مهاجمونا عن توجيه الاهانات رأيناهم يبتعدون عن سيارتنا واحدًا وراء الآخر حتى أنهم بدوا مثل صف عسكريّ أدى مَهمته على وجهها المنشود وعاد غانمًا سالمًا، فما كان منّا إلا أن لجأنا إلى ما تبقّى في سيارتنا من قوة واندفعنا اندفاع عاصفة قاصفة مبتعدين عن تلك الشريرة وأهلها الكرام.. سامحهم الله.

عندما اتخذ كل منّا، نحن الاشقياء الثلاثة، لم أجد أفضل من هذه التسمية، مجلسه في أحد المطاعم الشعبية في حارتنا، لم يسألنا عمّي عمّا ننوي أكله وطلب لكلّ منّا رغيف فلافل كبيرًا، فأتينا عليه.. من غلّنا.. وفتكنا به عن بكرة أبيه، ما دعا عمّي إلى طلب رغيف آخر وبعده آخر.. بعد أن شبعنا، أولًا ضربًا وثانيًا فلافل، تفرّقنا وقد تأكد لنا أننا لن ننجح فيما وطّنا أنفسنا عليه، غير أن ما حدث في الايام التالية جاء مختلفًا، كما تبيّن لي على الاقل فيما بعد، ويبدو أن ذلك المتشرّد، بحث عن طريقة أخرى يلهي بها عمّي، فاقترح عليه أن يجلس في المحطة المركزية للحارة، وهناك تجد ما هبّ ودبّ من النساء، كلّ ما هو مطلوب منك، هو أن تفتعل أي حركة، أن تقول على مسمع من تروق لك، مثلًا، إن الباص قد تأخر، فإذا تجاوبت معك، تابع معها، أما إذا لم تفعل، فانصرف إلى غيرها.

ما إن دخل كلام متشرّدنا عقل عمّي وركب على عقله، كما علمت فيما بعد، حتى سارع من فوره لارتداء كلّ ما على الحبل من ملابسه الجديدة، وأغرق نفسه في بحر من الروائح العطرية، وتوجّه في ساعات الصباح المبكّرة إلى محطة الحارة المركزية. اتخذ هناك مجلسه مثل ملك غير متوّج، وجعص يعج على سيجارته المارلبورو الثمينة، وما إن لاح له طيف بغيته من النساء، حتى شبّ على قدميه وتعمّد الوقوف قريبًا منها، وهو يتمتم بكلمات عن تأخر الباص، افتعلت المرأة حركة، فهم منها أنها غير معنيّة بالتحدث إليه، فعاد إلى مجلسه كسيرًا متهدّل الاذنين. بعد ساعة من الانتظار شاهد امرأة.. تقترب من المحطة فراودته أحاسيس جدّية أن صنّارته قد غمزت، إلا أن نقبه طلع على شونة هذه المرة أيضًا. فعاد إلى مقعد الرئاسة في محطة الحارة المركزية. بعد ساعات من الانتظار، وقع حادث مكّن عمّي من تحقيق بغيته. كان ذلك عندما رأى شابًا يحاول معاكسة إحدى الواقفات فانتابته حمية ونخوة عُرف بهما في أيام الصبّا والشباب الغابر، فدنا من الشاب مشددًا قبضته في محاولة منه للكمه، الامر الذي لفت نظر تلك المرأة. الشاب على ما يبدو فضّل الانسحاب وولّى مختفيًا في الفضاء الرحب. اقترب عمّي من تلك المرأة فابتسمت له، فتجرّأ وهو ينتقد شبيبة هذه الايام: أما شباب. عندها انفكت عُقدة لسان الاثنين، خالي وبعده تلك المرأة التي اكتشف أنها حسب الطلب .. ربلة.. ملانة وملظلظة، وأخذهما الحديث، إلى أن جاء باصها فانصرفت.

هكذا وجد عمّي ضالته.. وبادر في صبيحة اليوم التالي إلى المحطة ليجري محادثة عمره مع تلك المرأة.

دبّ هذا النجاح الحمية في راس متشرّد حارتنا، فتحدّث عنه لآخرين بصورة هامسة.. وبعدها مدوّية.. بلغ خبر علاقة عمّي بتلك المرأة اسماع أبنائه.. واحدًا تلو الآخر، فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليه أشرسهم، ليخبره أن أمر علاقته بامرأة محطّة الحارة، قد انتشر وذاع، وأن اخوتها قرّروا إطلاق النار عليه في أول فرصة يرونه يتحدّث فيها لأختهم. ما إن سمع عمّي هذا التهديد الواضح المكشوف، حتى انكمش وانطوى على نفسه.. وأغلق باب بيته على نفسه.. منذ ذلك اليوم لم يرَ أحد عمّي.. فاعتقد البعض أنه مات.. علمًا أنه حيّ يرزق.. ويتطلّع إلى يوم آمن.. يجمعه فيه رب العالمين بفتاة أحلامه.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم