نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: فحّوم المكَرود

بعد إن انتهى الغداء في بيت العائلة الكبير، جلس الأبناء والبنات والأحفاد لشرب الشاي. الجد كان يختار دائماً مكانه المخصص في طرف الأريكة، مستمعاً إلى أحاديثهم عند كل زيارة أسبوعية لمنزله. دنا أحد الأحفاد صوب جده ليجلس قربه، ثم انفرد به الجد بعيداً عن أحاديث أسرته الكبيرة، سائلاً إياه عن دراسته واحواله، فأجاب الصبي أنه بخير وأنه يتمنى بان يكون في المستقبل صيدلانياً. سرح الجد بعد سماع هذه الكلمة بعيداً، حتى أنه لم ينتبه إلى هتاف الجدة - زوجته - التي طلبت منه الانضمام إلى حديث كان يشغلها ويشغل أبناءها. فزَّ الجد معتذراً عن عدم انتباهه لهم، وحين سألته زوجته: ها..؟! أين كنت سارحاً؟ أجاب الجد مع نهدة خرجت من صدره: لقد ارجعني هذا الصبي أربعين سنة إلى الوراء. وحين سألته زوجته عن النقطة التي عاد إليها في الماضي أجابها وأجاب أحداق أبنائه المتلهفة لسماع الجواب: أعادني إلى قصة حدثت في سوق مدينتنا حين كان أبي يملك دكّاناً فيه. إلى صبي عاش معنا كنّا نطلق عليه اسم "فحّوم". ولاحقاً صرنا نسميه "فحّوم الصيدلاني". هتف الصبي الحفيد في فضول عنيف: أرجوك يا جدي أي قصة هذه؟. احكها لنا أرجوك.. هنا اعتدل الجد في جلسته بعد أن وضع قدح الشاي، وصار يحكي للعائلة بأجمعها والتي انتبهت له:

- فحّوم هو شخص في محلّتنا مقطوع من شجرة كما يُقال، ولا تربطني به رابطة. فلم يكن قريباً ولا صديقاً، بل كان شاباً بسيطاً جداً. لقد كان ساذجاً إلى درجة أنه يصدق كل شيء. وكنّا نخشى أن نؤذيه لأنه كما يُقال من أهل الله، وشارته لا تخيب ولا تتأخر. لقبه اطلقناه عليه حين كان يعمل صبياً عاملاً بسيطاً في محل لبيع الفحم. ثم صار لقبه لاحقاً "فحّوم الصيدلاني" حين تحوّل إلى صيدلاني المحلّة.

تساءل الحفيد مقاطعاً جده:

- هل درس الصيدلة؟!!

ضحك الجد بعد ان وضع كفه على رأس حفيدة قائلاً:

- لا لا بالطبع.. الأمر يبدو برمّته غريباً أو مضحكاً أو ربما مبكياً. فهو لم يتعلم الصيدلة عن طريق الدراسة، لأنه قد تركها وهو لم يكمل السادس الابتدائي. أمثال فحّوم "المكَرود" لا يكملون الدراسة. فهم إما يعيشون كسبة في السوق، أو يموتون في الجبهات دفاعاً عنّا. إلا أنه صار من الثقات في أنواع الأدوية وأسعارها وشركاتها، هذا الأمر الذي لم نكن نتقنه نحن الذين كنّا بعمره، حتى بعد أن تخرّج أغلبنا من الجامعات المرموقة. والأمر كله له سبب غريب وما حدث لاحقاً لهو أغرب.

لوّحت إحدى بناته قائلة في فضول:

- نعم يا أبي اكمل ماهو الشيء الذي حدث؟!

هزّ الجدُ رأسه واخذ نفساً عميقاً ثم عاد للحديث:

- منذ سنوات طويلة عرفتُ فحوّم وهو يقبع أمام دكّان مملوك لأحدهم، وكانت أكياس الفحم الملوثة تحيط به من كل جانب. ولم نكن نميّز لون ملابس فحوّم لكثرة السواد المنتشر عليها من الفحم وأكياسه. تلك التي كان يحملها على ظهره تارة وعلى صدره تارة أخرى، ليبيع للزبائن والمطاعم والمقاهي ما يحتاجونه من مئونة لعملهم. كنّا أنا وبعض الصبية من الذين يملك آباؤهم الدكاكين المتفرقة، نقضي أوقات العُطل في دكاكين آبائنا. وحين يطول بنا الوقت والملل، نقصقص أظفار الرتابة بمقص التسلية مع فحّوم القابع خلف أكياس الفحم. فنجلس أمام الدكاكين، ونرمي بصنارات النكات والأحاديث التي يلتقطها فحوّم الواحدة تلو الأخرى. ومع مرور الزمن تغيّر الحال وتبدل السوق إلى دكاكين أكثر تمدّناً. لتتحول أغلبها إلى معارض للألبسة والأزياء والحلاقة وبيع الأجهزة الإلكترونية وحتى بيع المجوهرات وصياغتها. ماعدا المحل الذي كان يعمل فيه فحوّم، ظل مالكه عنيداً ولم يبعه أو يبدل مهنته. فظل هذه المحل الملوث بسواد الفحم كالنقطة السوداء في ثوب السوق الذي صار أكثر ترفاً ونظافة. ومن ضمن المحلات التي فُتحت كانت صيدلية تجلس فيها فتاة تعمل فيها، وكانت بعمر فحوّم الذي بلغ العشرين من عمره. كانت الفتاة الجميلة متدربة في الصيدلية التي كانت مملوكة لأحدهم. عندها انتبهنا أنا والشباب من جيرانه في المحلات إلى شغفه بالصيدلانية الجميلة، والتي لم تكن تنتبه له مطلقاً، بل كانت طوال الوقت لا شغل لها سوى تلبية طلبات زبائن الصيدلية، أو قضاء أوقات فراغها بمطالعة الكتب أو جهاز الهاتف.

تعالت أصوات العائلة مع ضحكات متفرقة، مع عبارات مشاكسة مثل (فحّوم الرومانسي.. صاحبنا عاشق.. ياملعون يافحّوم) ثم هدأهم الجد مبتسماً قبل أن يرد على سؤال زوجته التي قالت له: وكيف عرفتم أن فحّوم المكَرود كان يعشق الصيدلانية؟! فأجابها:

- من البدء عرفنا هذا حين صار فحوّم يأتي لدكّان بيع الفحم، وهو يرتدي الدشداشة البيضاء ذاتها والتي لم يكن يملك غيرها. وكنّا نضحك كثيراً من صراخ استاذه في وجهه، وأنه لم يعد مركزاً في العمل كالسابق ويخشى التلوث برذاذ الفحم وملامسته. إلا أن صاحبنا لم يكترث لعراك استاذه العجوز، وظل يمكث بالساعات أمام الصيدلية وهو ينظر طويلاً إلى الفتاة وهي كالعادة لم تشعر به، أو كانت تشعر به لكنها لم تكترث لحاله. هنا جاء دوري أنا وعصابتنا من شباب السوق. بعد جلسة استجواب سريعة جداً، انشق كيس الأسرار الذي يحمله فحوّم، لتسقط منه آهات واشتياق ولوعة منه اتجاه تلك الفتاة. في الحال نصحناه أن يقترب منها فهو على حاله هذه لن يحصل على شيء مادام بعيداً. وعليه المبادرة، وحين سألنا كيف يبادر قلنا له تظاهر بالمرض واشتر منها دواءً. وحين سألنا عن الدواء الذي يمكن شراءه، أجبته أنني سأكتب له بعض الأدوية المشهورة لخفض الحرارة والالتهابات والحموضة والدوار والإمساك والإسهال. وبالفعل صار فحّوم زبوناً عند الصيدلانية. فقد كان يقسم أجرته اليومية إلى قسمين، قسم يشتري به دواءً لم يكن يتناوله، بل يخزنه في أحد أكياس الفحم الفارغة، والقسم الآخر لمعيشته. وبعد مدة شعر كما يبدو أن هذه الفكرة قد اضرت به، حين صار يصرف كل يوم نصف أجرته على الأدوية التي لا طائل منها. فصار يدور على المحلات والدكاكين وحتى المنازل القريبة من السوق، ممن كانوا يعرفونه وحتى الذين لا يعرفونه. ولا سيما كبار السن الذين يشترون الأدوية كالمعتاد. فقد تبرع للذهاب إلى الصيدلية وشراء الأدوية نيابة عنهم. حتى اشتُهر عنه بهذا الشأن، ولم يكل أو يمل من عمله هذا، حتى بعد أن توفي صاحب دكّان الفحم وجاء أبناؤه وغيّروا الدكّان إلى وظيفة جديدة، وطردوا فحوّم الذي لم يكن نافعاً في العمل الجديد. ومن هنا بدأ لقبه الجديد "فحوّم الصيدلاني" الذي صار عارفاً وخبيراً بأنواع الأدوية وأصنافها وأشكالها وشركاتها. وبعد كلّ مرة ينهي فيها فحوّم شراء وجبة من الأدوية من الفتاة الجميلة الصيدلانية، يظل جالساً على دكّة أمامها وينتظر الفرج. حتى جاء اليوم الذي سألته فيه عن جدوى ما يفعل، فقال لي أنه يحاول كسب ودّها حين تعلم أنه يجمع لها الزبائن. فقلتُ له أن هذا لايكفي، والخطوة المقبلة هي أن يعترف لها بحبه، فأجابني بلهفة وضحكة اندلقت من فمه، أنه صارحها بالفعل ولم يقل لنا. وأن الصيدلانية الجميلة وعدته بالزواج إن كان يرغب على شرط أن يستمر في عمله هذا، مؤدياً خدمة للصيدلة في جلب الزبائن من هنا وهناك. وإنه لم يكتف بهذا وحسب، بل صار يجلس أمام عيادات الأطباء، ويتلقف الوصفات الطبية منهم لكي يحضر لهم الأدوية بأسرع وقت وأقل كلفة. هنا شعرتُ بالألم على حال فحوّم المسكين، حيث لم أكن أتوقع أن المزاح الذي كان قد صدر منّي ومن الشباب سيؤدي بفحوّم إلى هذه الاستغلال!!. فلا ريب أن هذه الفتاة تحاول استغلال سذاجته الفادحة إلى أقصى حد، وعليَّ أن أوقف هذا الاستغلال بأية صورة. لكن الشيء الذي لم أكن أتوقعه هو وقوف الآخرين إلى جنبه!.

تفرقت أصوات من العائلة باحثة عن السبب الذي جعل الناس يقفون إلى جنب فحّوم على الرغم من استغلاله، فأجابهم الجد مع ابتسامة اشاحت عن تجاعيد أسفل خديه:

- الناس في السوق والمحلة صاروا يتبرّكون بشراء فحّوم للأدوية لهم. يظنون أن الدواء الذي يشتريه فحّوم يشفي المريض أسرع بإضعاف من الدواء الذي يشترونه بأنفسهم، حتى لو كان من النوع نفسه والشركة ذاتها. فينادون فحوّم المسكين لكي يأتي مهرولاً ملبياً طلباتهم. حتى أن سيدة أو سيدتين من المنطقة المجاورة للسوق، وبختاني توبيخاً مريعاً في أنني أقف حجر عثرة في تسهيل أمور الناس المرضى، حين أعلنها صراحة أنهم يستغلون فحوّم في هذا العمل الذي كنتُ أظنُّ أنه شائن. فلم يكن أمامي في ليلة إلا أن أعزم النيّة على الذهاب إلى الصيدلانية ذاتها، وحتى لو وصل الأمر أن أكلم صاحب الصيدلية في هذا الأمر، وأخبرهما أنهما يرتكبان خطأ فضيعاً في استغلال فحوّم وسذاجته. وبالفعل في اليوم التالي ذهبتُ إلى دكّاننا وأنا أحمل ما يكفي من الغيظ والحنق للعتب مع أصحاب الصيدلية. فوجدتها مقفلة على غير عادتها في ذلك اليوم وعدتُ أدراجي نحو دكّاننا وسحبتُ كرسياً وجلست أمام الدكّان منتظراً أن تفتح الفتاة الصيدلية. لم أكن وحدي من ينتظر، فقد كان فحوّم هو الآخر منتظراً على الدكّة المقابلة للصيدلية، يطالع بشغف وقلق الطريق المؤدي للصيدلية، منتظراً بلا شك تلك الفتاة التي لعبت برأسه. ومرت عدّة أيام ولم تفتح الصيدلية بابها!!. وعرفنا لاحقاً أن الصيدلانية قد تزوجت من طبيب شاب قد انتقل مؤخراً إلى مدينتنا. وتركت الصيدلية لصاحبها وفتحت صيدلية أكبر تحت عيادة الطبيب زوجها. وحتى بعد معرفة فحوّم بالأمر استمر جالساً لمدة طويلة على تلك الدكّة المقابلة للصيدلية. وهو ينظر نظرات طويلة إلى بابها المقفل. حتى فُتح الباب من جديد وصار يعمل في الصيدلية رجل غريب لا نعرفه.

- (هنا عاد فحّوم إلى رشده) قالت الزوجة مخاطبة الجميع، فأشار زوجها بكفه مستدركاً ثم قال:

- لم يتقاعس فحوّم عن تلبية طلبات أهل السوق والمحّلة في احضار الأدوية لهم كالسابق. بالعكس لقد صار الأمر بالنسبة إليه مصدراً للعيش، لأن كل مريض يحضر فحّوم الدواء له يعطيه مكرمة من المال. لقد كان المرضى يتبركون به كما قلت، وفعلاً كان كل مريض يشفى بسرعة. إلا فحّوم الذي لم يفلح في النجاة من الموت.

هتف الأبناء، والصبي الحفيد وضع كفيه على رأسه قائلين مع آهات: هل مات؟ فأجابهم الجد:

- نعم.. نال منه مرض ولم ينفع معه العلاج، حتى لاقى ربه وحيداً في المستشفى. لم يكن وحيداً وحيداً، لأنني كنتُ أراعيه نوعاً ما لأنه كان بلا أهل، وأنا الذي استلمت جثمانه ليشارك في دفنه بعض الناس. لقد عاش ومات فحّوم وهو لم يبتعد كثيراً عن لقبه. توقّد لمرة واحدة في حياته وانتهى. لقد كنّا نخشى أن يلوّثنا على الرغم من حاجتنا إليه. لقد توقد وانطفأ بهدوء بعد أن نضجت على ناره حكايات وضحكات ونكات، كنّا نشربها في أوقات التسلية والمنفعة. مات فحّوم ومنذ ذلك الوقت كانت حتى الأدوية الغالية بلا تأثير، والصّدق بلا طعم. لا نعلم ربما الشركات التي تصنعها صارت تغشُّ في موادها، أو أنها هي نفسها التي كان الناس يتناولنها منذ القدم، لكن بركة فحّوم المكَرود وصدقه لم يكونا مغشوشين.

***

أنمار رحمة الله

 

 

في نصوص اليوم