نصوص أدبية

ياسر هادي: هكذا تحدثت حورية

نحن اليوم في القرن الثمانين، بالضبط في العام 74000 بعد الكارثة، بحسب التوقيت السمكي "المد والجزر" الموافق للسنة الميلادية 2223. كان أمراً متوقعاً أن ينتهي حكم الإنسان لهذا العالم الغريب، بعد أن ارتفعت حرارة الأرض 4 درجات مئوية بسبب السموم التي تبثها المصانع والمعامل. انقرض البشر، وأكثر الحيوانات والنباتات إثر سلسلة من الكوارث الطبيعية.

اندفعت سمكة الجريث قاطعة أمواج البركة التي تبقت في أعالي شط العرب. خففت من سرعتها لتلحق بها رفيقاتها:

-يا للخيبة، هذا كل ما تبقى من دجلة والفرات!

لم يكن من السهل أن تعثر على ما تأكله. أضافت وهي تتنقل بين أعواد القصب:

- لعنتي أن أكون سمكة خالدة. هذا جزائي منك يا صالح.

قالت إحدى رفيقاتها: أما آن الأوان لتخبرينا من هو صالح؟ هيا يا عزيزتي، لقد انتهينا من وضع بيوضنا، ولم يعد أمامنا شيء.

كانت تؤجل الجواب على ذلك السؤال المتكرر باستمرار، لكنها الآن بحاجة لأن تتحدث. قالت:

- ذات يوم، في زمن حياة البشر كنت أنعم بهناء وعيشة هادئة في دجلة، متنقلة بين نباتات مياهه العذبة، غير مدركة لمصيري، وإذا بي أقع في شباك أحد الصيادين، ثم استقر بي الحال في عربة تضم عدة أسماك نافقة من جنسي. يبدو أن البائع كان متعباً. لم يشعر للوهلة الأولى بأنني لا زلت على قيد الحياة فتقمصت دور السمكة النافقة لأنجو، فعلى عكس بقيه الأسماك في السوق كانت أسماك القرموط تباع هكذا، ميتة، وبسعر زهيد.

اقتربت امرأة عجوز، قلبتني، لكني لم أعجبها. بعد فترة قرر البائع أن يغير مكانه داخل السوق عسى أن يجد فرصة أفضل للبيع. لم ينتبه الى أن المرأة وضعتني قريباً من حافة العربة، وبينما كان يدفع عربته الخشبية باتجاه إحدى الأزقة الضيقة، الغنية بالروائح العبقة كالخبز المشوي، وروائح الأطعمة المعروضة، ولا أنسى رائحتي أنا سمكة الجري كما يطلق عليَّ في بغداد أخذت العربة تتمايل بعد أن زاحمت عجلاتها بعض الأحجار. وجدت نفسي وقد وقعت على حافة الطريق، بالقرب من فتحة لتصريف مياه الأمطار. يا ترى هل هو قدري، أم كانت مجرد مصادفة؟

قادني المجرى المطري إلى آخر أكبر حجماً. قاومت تيار المياه بما تبقى لدي من قوة لأصل إلى إحدى الفتحات الجانبية واذا بي في مغطس داخل بيت عتيق مهجور. قضيت في الحوض أياماً وأنا أندب حظي، وأقتات على بعض الحشرات، والحشائش. كان البيت لعائلة عراقية هاجرت إلى خارج العراق. وكانت تستخدم المغطس لطقوس دينية قديمة. هذا ما قاله سمسار العقارات للرجل الذي جاء لشراء المنزل وهو يمر بجانبي دون أن يلتفت لوجودي.

بعد عدة أيام قررت أن أنهي حياتي، فالمياه الآسنة داخل المغطس كادت أن تتلاشى، فخطرت لي فكرة التهام بعض الأحجار لأنهي معاناتي. لمعت إحداهن بلون اخضر فيروزي التهمتها على عجل، فاجتاحني ألم فظيع تفوق شدته عضة أنياب أقوى سمكة قرش. وإذا بي أتحول إلى امرأة جميلة بشعر أسود، وعيون زرقاء، جاثية داخل مغطس قديم!

- يا ترى ما حال بائع السمك صالح؟

قالت الأسماك:

- لا تستعجلن، فهو ليس بائع السمك، ولم يحن دوره بعد.

أجابت السمكة حورية. ثم استرسلت قائلة: كانت ساعتي الأولى قاسية ومؤلمة لأني لم أتقن المشي برجلين، فرحت أرمي بقدميَّ يميناً ويساراً، كما هو التجذيف، إلى أن اهتديت الى الوقوف، وبعدها خطوت أولى خطواتي، وأنا مستندة إلى جدار الحوض. قضيت أيامي الأولى وحيدة في البيت المهجور، عارية جائعة، أنام على أريكة مهملة في إحدى الغرف، يبدو أنها وضعت لغرض ما، إلى إن فاجأتني حركة غريبة داخل المنزل. كان سمسار العقارات قد عاد وهو بصحبة امرأة. تبين لي بعدها أنه يستغل خلو المنزل لأغراض شخصية دون علم مالك البيت.

انتابني الخوف، فوجدت من الأفضل لي أن أختبئ. وبينما كانت أصوات الضحكات تتعالى في الغرفة المجاورة، أسقطت قدحاً دون أن أدري، فأثار الصوت انتباه بائعة الهوى، كانت تحتفظ بوعيها عكس رفيقها المخمور. دخلتْ علي الغرفة وهي متهجمة، واقتادتني من شعري صارخة بوجه السمسار. كانت تظن أنني إحدى عشيقاته. رحت أتوسل ليتركاني في حال سبيلي، رويت لهما ما حصل معي فاطلقا ضحكات هستيرية عالية .

-اشگد شفت كلاوات بس مثل هاي ما سامعة! قالت بائعة الهوى المسماة عفاف.

تركاني وحدي في الغرفة. وأخذا يتداولان في أمري. كانا يحسبان أنني هاربة من أهلي. وقد وجدت فيَّ عفاف العوبة -وهذا ما كانت تعرف به- فرصة ذهبية، فاستغلت جمالي في جذب الزبائن لدار البغاء الذي كانت تقيم فيه. ازدادت أموالها بسرعة، إذ خصصتني في البدء للتجار، والميسورين، ثم لبعض الشباب الصغار في الحيِّ. قدري أن أُستبدل. أن لا أكون سمكة مقلية على صحن رز أحمر في مطعم نعمان أبو الجري القريب من بيت عفاف، وأن أكون غانية تتقلب فوق سرير لذَّة عابرة.

في إحدى الليالي دخل علي شاب وسيم، ملاك بهيئة إنسان يدعى صالح. كان شاباً خجولاً أراد أصدقاؤه أن يكسروا انطوائه فدفعوه لزيارتي. وبينما كنت مستلقية على السرير بثوب نوم رخيص الثمن، وبما أنني سمكة جريث تغوص قريباً من القاع تمكنت من النفاذ لشخصيته، لكني تفاجأت بردة فعله، فقد ذهل صارخاً:

-حتى أنت! يا للخيبة! بنات جنسك بقين طبيعيات، إلا أنت. ما الذي اقترفتِ لتكوني هكذا؟

- ما الذي تقصده؟ قلت له، بعد أن اعتدلت في جلستي.

- أنت سمكة جريث. أجابني صالح ضاحكاً.

ذهلت تماماً! هو الوحيد الذي عرف حقيقتي، فرحت أخبره بتفاصيل حكايتي من البدء، حتى لحظة لقائي به. وبعد لقاءات عدة، حكى لي صالح معاناته منذ أن كان طفلاً، فهو يرى بعض الناس على هيئة حيوانات. وقد ثبت له أن هؤلاء هم السيئون منهم. كانت أشكالهم الحيوانية تظهر تبعاً لأفعالهم الشائنة، فالساسة الفاسدون كانوا يظهرون على شاشات التلفاز كطيور العقاب النهمة، ورجال الدين المخادعون الذين يقطعون الطريق بين العبد وربه تظهر أشكالهم بهيئة حيوان القندس. حتى أنه راح يشاهد مؤخراً الكثير من الكلاب أينما توجه. أخبرني أن حياته أصبحت جحيماً فتعاطفت معه. مرة قلت له إنه ربما يكون تحت تأثير قوة خارقة نتيجة تناوله لشيء ما، كما هو حالي أنا. قفز صالح من مكانة فجأة، تذكر قصة قديمة كانت أمه ترويها له، وكيف أنه حين كان صغيراً تأخر في النطق، فقررت هي ووالده اصطحابه الى المزار ذي البئر السحري، حيث تتلى بعض الصلوات على حافة البئر، ثم يسقى الطفل من مائه، لينطلق لسانه. يبدو أن لجرعة الماء تلك آثاراً أخرى.

حبي لصالح بدأ منذ اللحظة الأولى، أما هو فكان يبادلني المشاعر لكوني سمكة مسحورة صدقت به، وأعطته مخرجاً وتفسيراً لما حصل له. وفي أحد الأيام، كنا نتنزه معاً على ضفاف نهر دجلة، وكانت الدقائق تمر مسرعة كأنها شباك الصياد التي التقطتني، لكنها كانت جميلة هذه المرة، أمسك صالح بذراعي وقرب شفتيه من أذني هامساً:

- هل تعرفين ماذا أحضرت معي يا حورية؟

أخرج من جيب معطفه قارورة ماء، جلبها من البئر السحري ذاته، وقال مازحاً:

- اشربي. لقد جعلتني هذه المياه اتمتع بقوه البصيرة. اشربي واخبريني ما هي هيئتي .

تناولت القارورة، وما أن دخلت جوفي بضع قطرات منها حتى زالت عني اللعنة، ورجعت لهيأتي الأولى، سمكة جريث طبيعية. سقطت على الحافة الحجرية للنهر. هوى صالح فوقي ودموعه تنهمر كحبات المطر. أمسك بي بكلتا يديه وأطلقني في مياه النهر برفق. نعم. هذه هي نهاية قصتي مع صالح يا رفيقاتي. لازلت احفظ كلماته، وهو يركض على حافه النهر مودعاً:

-نعم. إنها مياه البئر. كلامك صحيح يا سمكتي! إنها من تمنح القوة، والحرية أيضاً. وقبل أن أغوص في أعماق النهر سمعت آخر ما قاله صالح: تذكريني يا حورية دائماً، تذكري هذه اللحظات، ولا تنسي هذا المكان: جسر الجمهورية.

***

قصة قصيرة

ياسر هادي - كاتب من العراق

في نصوص اليوم